قابلت سارتر في «الكافتريا»

سارتر

قاعة «الكونزرت هاوس» في فيينا. مؤتمر وناسٌ قادمون من جميع أنحاء العالم ولجانٌ تجتمع وتتخاصم، وحركةٌ دائبة بأعلام جميع الدول، والشعارات الزرقاء وملابس الرجال والنساء كأنها كَرنفال، والوجوه والملامح مُتحَفٌ حيٌّ مُتحرِّك يعرض صورًا للإنسان في كل مكانٍ من قشرة الأرض.

قرأتُ اسم سارتر ضمن المُشتركِين في المؤتمر، دخلتُ أتفرج، طلبتُ على سبيل المزاح من سِكرتيرية المؤتمر أن أُقابلَه وأعطيت اسمي باعتباري كاتبًا من مصر، محاولة لم أكن جادًّا فيها ولم أعتقد أنها ستنجح، تركتها وظللت أَدُورُ في المدخل والقاعة وأَتفرَّج على الوجوه والأجناس واللغات وأسمع بشغفٍ صوت المُذيعة في إذاعة المؤتَمر الداخلية وهي تقول كلما بدأت الكلام: آختونج آختونج، ومعناها انتِباه. صوتها قويٌّ وعميق ويُحبِّب الأذن في الألمانية. استَغرقَني التفرُّج ومحاولة معرفة ما يدور في المؤتمر حتى نسِيتُ كل شيءٍ عن سارتر والمُقابَلة. فوجِئتُ بصوت المذيعة الألمانية الحُلْو ينطق مرة اسمًا خُيَّل إليَّ أنه اسمي، بل تأكَّدتُ. المذيعة الإنجليزية ما لَبِثَت أن قالت: يوسف إدريس يقابل ج. ب. سارتر في الكافيتريا.

شملني اضطرابٌ عظيم وخِفتُ. كنت في السادسة والعشرين بالكاد نشرتُ قصةً أو قصتَين، مالي أنا ولِسارتر العملاق؟ فكرتُ في التراجع ولكني وجدتُ نفسي أبحث عن الكافيتريا، وطال بحثي ولم أتصور أبدًا أن يكون مكانها تحت خشبة المسرح مباشرةً، سألت الجرسون عن سارتر، أشار إلى مِنضَدةٍ يحتلها رجلان أحدهما ضخمٌ أحمر الوجه فاخر الثياب جميل التقاطيع والثاني قصيرٌ، رَبعٌ، أَحوَل، منظاره من نوعٍ عتيقٍ رخيص. تقدَّمتُ من المنضدة وقلبي يدُق، خفَضتُ رأسي ومَددتُ يدي بعصبيةٍ للرجل المَهيب وقُلتُ: مسييه سارتر. حملق فيَّ الرجل بهدوء ثم أَشارَ بابتسامة إلى الرجل القصير الجالس بجانبه وقال بالفرنسية: هذا هو. الواقع بُهِتُّ وخاب أملي ولم أعتقد أبدًا أن رجلًا هذا شأنه لو رأيته في أي مكانٍ آخرَ لخُيِّل إليَّ أنه مُدرِّس أحياء في مدرسةٍ أهليةٍ مصرية هو العظيم سارتر. ولكني سلَّمتُ وقدَّمتُ نفسي وقال الرجل كلامًا فرنسيًّا كثيرًا لم أفهم منه إلا أنه يقول إنه سارتر، أمَّا الرجل الجالس معه فهو الكاتب الروسي الكبير إليا أهرونبورج. انقلب اضطرابي إلى فزع، يا لي من أحمق: أطلب مقابلةً على سبيل العبَث وإذا بي مرةً واحدةً في حضرة اثنَين من عمالقة الفكر العالمي، وأجلس معهما، وألمَسُ أَيديَهما وأُكلِّمهما ويُعاملانِني كزميل لا يَفرقه عنهما إلا فارق السن؟!

وربما الفزع هو الذي دفعَني للاستهتار بالموقف كله، ودفعني لخوض مُناقشاتٍ لا قِبلَ لي بها، كنت أُطمئِن نفسي وأقول فليكونا عمالقةً في كل شيء ولكنك أنت الآخرُ يا ولدُ تعرف أشياءَ لا يعرفانها، على الأقل تعرف الإنجليزية التي لا يَعرِفها سارتر، وتَعرِف العربية التي لا يعرفها أهرنبورج.

أنا مُضطرٌّ لأن أتخطى أشياءَ كثيرةً جدًّا دارت وكانت جديرةً بالذكر لِأَصِل إلى المناقشة، ويا لها من مناقشةٍ يَحسُدني عليها أنيس منصور. أنا أُناقِش سارتر في الوجودية بينما يقوم إليا أهرنبورج بدور المترجم!

قلتُ: أنا للأسف لم أقرأ من أعمالك إلا مَسرحياتِ الحائط، ولا مفر، والأيدي القذرة، ومجموعة قِصصٍ قصيرة.

قال بدهشةٍ ونوعٍ من الفرحة: قرأتها، قرأتها حقيقة، في القاهرة! بأية لغة؟!

قلتُ: بالعربية والإنجليزية.

قال: جميل جدًّا، هل تهتمون بها لديكم؟ ماذا يقولون عنها؟ وما رأيُك أنت فيها؟

قُلتُ لنفسي: حتى سارتر هو الآخرُ يصنع مثلنا وينتظر بِشغَفٍ آراء الآخرِين في أعماله.

وقُلتُ له: أعمالٌ رائعةٌ كلها، أذهلَتني.

قال: ماذا أعجبك فيها؟

قُلتُ: هل تريد الحقيقة؟ أَعجبَتني لما فيها من فن، وليس لما فيها من رأي. إن فيها فنًّا مُذهلًا رائعًا هو البطل المجهول المُتواضِع الذي يختفي وراء الكواليس لِيترُك الفلسفة والآراء تَقِف وحدها أمام المُتفرِّجِين وتَحظَى بالمجد والتصفيق.

إني لأتساءل: ماذا يُسعِد رجلًا عظيمًا مثلك، أن يقرأك الناس ككاتبٍ أم كفيلسوفٍ؟

ضحِك وقال: أعتقد أن الإنسان يَسعَد لمُجرَّد أن يقرأ الناس إنتاجه، سواءٌ أكان فنًّا أم فلسفة.

قُلتُ: إذن أحيانًا يكون النعيم هو رأي الآخرِين.

وضَحِك أهرنبورج أولًا، وحين ترجمها أغرق سارتر في الضحك؛ إذ إن له رأيًا وجوديًّا مشهورًا يقول إن الجحيم هو الآخرون.

وجرَّأَني الضحِك فقلتُ: الواقع لو كان وجودُ الآخرِين يُخلِّف التعاسة التي صوَّرتَها لقتَلنا بعضَنا البعض من زمنٍ بعيد، لا بُد هناك أشياءُ أخرى لم تَذكُرها هي التي أَبقَتنا أحياءً في مجتمعٍ واحد.

قال: يعجبني أن شابًّا غريبًا مثلك يناقشني بلا حذر أو اصطلاحاتٍ فلسفية، بالتأكيد هناك أشياء لم تُعرف بعدُ.

قلت: وقد تغيَّر إذا عَرفتَ نظرتنا إلى الوجود والإرادة المستقلة؟

قال: وقد تغيَّر، ممكنٌ. ممكنٌ جدًّا.

قُلتُ: لماذا لا نعتبر أي فلسفةٍ إذن مُجردَ نظريةٍ نتركها تتصارع مع غيرها من النظريات والاكتشافات، بلا تعصُّب ودون أن نُحاول أن نُقيم من أنفسنا مُحامِين لهذه النظرية ومُدافعِين عنها؛ فالتعصُّب لهذه الفلسفة أو تلك ممكنٌ أن يعوق وصولنا إلى الحقيقة.

قال: لكن الحقيقة لا يمكن الوصول إليها إلا بصراع، والصراع لا يمكن أن يتم إلا بين مُتعصِّبِين؛ فاعتناق النظريات والدفاع عنها يُقرِّبها من الحقيقة ولا يُبعِدنا عنها.

قلت: الصراع بين الوجودية والاشتراكية مثلًا يُقرِّبنا من الحقيقة؟

قال: طبعًا. على شرط ألَّا يتم الصراع في قلب الشارع. أقصد الصراع بين المُفكِّرِين الواسعِي الأُفق.

قُلتُ: مجرَّد تَساؤل قد يكون سخيفًا، ولكني أرجو أن يسمح لي به أعظم كاتبٍ اشتراكي وأعظم كاتبٍ وجودي. الوجودية تعتبر الفرد مسئولًا عن اختياره وتصرُّفاته ومصيره. والاشتراكية تعتبر المجتمع هو المسئول، أليس من المحتمل إذن أن تنشأ في القريب نظريةٌ ثالثةٌ تجمع الوجودية والاشتراكية وتملأ الفجَوات وتُفسِّر بدرجةٍ أَوضحَ وتُحدِّد بدرجةٍ أَدقَّ حركة الفرد بالنسبة لحركة المجتمع، والعلاقة بين الوجود الفردي والوجود الجماعي؟

تولى أهرنبورج الترجمة على دفعاتٍ كان يعقبها بابتساماتٍ تَخيَّلتُ أنها ابتسامات استخفاف. ودار بينهما نقاشٌ بالفرنسية، خفيفٌ ضاحكٌ أول الأمر، شابَه بعض الجِد والتأمُّل في النهاية. وأخيرًا قال أهرنبورج: صديقي سارتر وأنا مُبتهِجان لرأيك، ولكن لا تنتظر منا أن نفكر فيه جديًّا بإلغاء الوجودية إلغاءً لسارتر، وإلغاء الاشتراكية إلغاءً لي، فهل أنت قادم من القاهرة لتُلغي المعارك الطويلة التي خُضناها وتُلغي وجودها كله بجرة قلم؟!

الحديث دار في أحد أيام يناير من سِنين، لا زِلتُ أذكره، ولازِلتُ كلما أَحسَستُ ببرد يناير تَذكَّرتُ فيينا وأدقَّ تفاصيلِ ذلك اللقاء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤