البلد الذي يحكمه البروفيسيرات

أجمل ما في بولندا ليس المنشآت والمنجزات

أجمل ما في بولدنا ليس «المنجزات» والمنشآت، فأنت إذا ذهَبتَ لزيارة بلد — أي بلد — فسوف يجعلونك تُشاهِد عشراتِ ومئاتِ المصانع والمعاهد والأجهزة، وسوف يمتلئ عقلك بعشراتِ الأرقام عن الخطَّة والتخطيط ومستوى الأجور والأسعار. هذه كلها أشياء تجدها في أي بلدٍ تزوره، ولكن بولندا بالذات تَستوقِفك فيها ظاهرةٌ غريبة هي أن أجمل ما فيها ليس كل هذا، وإنما شيءٌ آخر مختلفٌ تمامًا.

•••

ولقد كان صعبًّا عليَّ أن أكتشف ذلك؛ فقد هبطنا وارسو في الثامنة مساءً. كنتُ قد غادَرتُ القاهرة وقد ارتديتُ ملابسي الشتوية، والناس في طريقي إلى المطار ينظرون إليَّ باستغراب فقد كانوا جميعًا لا يزالون يرتدون الملابس الصيفية. وحين هبطتُ في مطار وارسو كانت درجة الحرارة واحدةً مئوية، ومع هذا سَعِدتُ إذ كنتُ قد جَهَّزتُ نفسي إلى ما تحت الصفر. كان الجو باردًا هذا صحيح، ولكنه ليس البرد الكئيب ثقيل الدم؛ بردٌ مُنعشٌ مُنشِّط تُحِس معه أنك جوعان وظمآن إلى الدف والحياة، وهو بالضبط ما حدث؛ فبعد أقلَّ من ساعة كنا في مطعمٍ بولندي، وكانت هناك موسيقى وأناسٌ يتعشَّون ويَسمُرون. ولم أنتبه إلى الطعام بقَدْر ما رحتُ أُحدِّق في الناس من حولي، في الوجوه أُحاوِل أن أعثر على الوجه البولندي المثالي، وفي اللغة أحاول أن أَعرِف وَقْعها. واللغاتُ لها شخصياتها المختلفة، وإذا كان الناس يعرفون اللغات ويدرسونها بكلماتها وحروفها فأنا شخصيًّا أُفضِّل أن أعرف اللغة بموسيقاها الكلامية، بالحروف التي تتكرَّر فيها، بنهايات كلماتِها، بشكلِ الفم وهو ينطقها، بالوَقْع الغريب لها حين تجد نفسَك فجأةً في وسط مزرعةٍ لغويةٍ مجهولة لك تمامًا، لم تَرَ لِأزهارها ولِنباتها مثيلًا. إن روح الطفل تستيقظ حينئذٍ في الإنسان، روح الشَّغَف بالمعرفة والاكتشاف والتفاجُؤ بالواقع.

بعد العَشاء خرجتُ إلى رَدْهة الفندق ووقفتُ عند الاستقبال، وبابتسامةٍ عذبة قالت لي فتاة رائعة الجمال، عَرفتُ فيما بعد أنها مساعدةُ مديرة الفندق، وقد حسِبَتني بولنديًّا: سوهاي. وأصختُ بأذني أسمع الكلمة من جديد: سوهاي. هكذا بموسيقيةٍ طبيعية جدًّا، رقيقةٍ جدًّا، تَخرُج الكلمة من فم المديرة الجميلة: سوهاي. أَعجبَتني الكلمة إلى درجة أني طلبتُ منها بالإنجليزية طبعًا أن تعيدها، فضحكت وأعادَتها، وسألتُها عن معناها فقالت إنها تعني شيئًا مثل: ماذا تريد؟ أو باللغة العامية: أفندم، نعم، فيه حاجة؟

وفعلًا كنتُ أُريد شيئًا، كنتُ أُريد أن أرى وراسو، وطلبتُ منها خريطةً للمدينة، ولم يكن لديها. أعطتني خريطةً للفندق والشوارعِ المحيطة به. كنتُ منهكًا وفي حاجةٍ ماسةٍ إلى الراحة بعد رحلةٍ بَدأَت في التاسعة صباحًا وانتهت في التاسعة مساءً، ولكني كنتُ أُريد أن أرى وارسو. لقد قرأتُ الكثير عنها وعمَّا حل بها في أثناء الحرب العالمية الثانية، وكيف هَدمَها الألمان وهم يغزون بولندا، وكيف أعادوا هَدمَها وهم ينسحبون منها، حتى إنهم بعد الحرب وحين وجدوا أن أكثر من ٩٠ في المائة من المدينة قد تخرَّب، فكروا بدلًا من رفع الأنقاض وما تُكلِّفه هذه العملية من نفقاتٍ باهظة، أن يُقيموا وارسو جديدةً بعيدةً عن موقع القديمة.

خَرجتُ وظلَلتُ أطوف في الشوارع وقتًا طويلًا. لم أَجِد بالطبع أنقاضًا. كان واضحًا أن كُلَّ ما هَدمَته الحرب قد أُعيد بناؤه، بل تَضاعفَت الأبنية في وارسو عما كانت عليه قبل الحرب، ولكن المشكلة التي حيَّرتني أني وَجدتُ الأبنية عريقةً لا يمكن أن يكون عمرها عشرين عامًا أو ربما أقل. وقد تكفَّل صديقٌ بولندي بشرح هذا اللُّغز فقال: إن وارسو حين أُعيد بناؤها، أُعيد على أساس أن تكون الشوارع والمنازل صورةً طِبقَ الأصل لما كانت عليه قبل هدمها، وقد فعلوا هذا مُستفيدِين بأشياءَ كثيرة، منها في بعض الأحيان صورٌ فوتوغرافية للشوارع القديمة. ولقد صَحِبنا نفس الصديق إلى ما يُسمِّونه المدينة القديمة، هذه كانت قد خَرِبَت تمامًا في أثناء الحرب ولكنها أُعيد بناؤها على النَّسَق الذي كانت عليه من مئات السنين.

ولكن المشكلة كما قلتُ ليست في البناء والمنشآت. المُشكلة في الإنسان الذي يُعيد البناء ويُعمِّر ويخلق ويُبدع، وأجمل ما في بولندا هو الإنسان البولندي. والإنسان البولندي كان إلى ما قبل بضعِ عشراتٍ من الأعوام إنسانًا مزعومًا؛ فقد كانت بولندا نفسها لا وجود لها أو على وجه الدقة ليس لها وجودٌ دولي أو «قانوني» فقد كانت أرضُها محتلةً ومُقسَّمة بين روسيا القيصرية والنمسا وألمانيا. ولقد ظل هذا الاحتلال والتمزيق طوال مرحلةٍ طويلة من مراحل التاريخ، قبلَ شوبان وأيامَه وبعده، وأبدًا لم يقتل هذا الوضعُ رُوحَ المقاومة في الإنسان، لم يقتل «الوطن» أبدًا في قلبه وعقله، وإنما ظل هناك حيًّا نابضًا يُلهِب خيال المُواطنِين المُبعَدِين المُمزَّقِين ويُثير ثائرة الشعراء، وحتى يعتصر روح شوبان في غربته وتشرُّده بفرنسا لِيُخرج أَعذبَ وأَصدقَ ما أَخرجَته تلك الفترة من موسيقى في العالم أجمع. وما كادت بولندا تَتوحَّد أخيرًا وبعد الحرب العالمية الأولى، وتُصبح لها حكومةٌ بولندية واحدة، حتى كانت مشكلة دانزج «أو جدانسك كما ينطقونها هناك» التي تَسبَّبت في الغزو الهتلري لبولندا، ومن ثم قيام الحرب العالمية الثانية. وكما قلتُ مرةً: إذا كنا قد عرفنا نحن الحرب كلمةً وبضع غاراتٍ وتضحيات، فلا بد أن نعرف أن الحرب ليست هكذا أبدًا بالنسبة لبلدٍ مثل بولندا. إنها حقيقةٌ غريبةٌ بشعة مُغوِرة إلى أعمق أعماق الشعب البولندي. يكفي أن نعلم أن بولندا «التي كان تعدادها لا يتجاوز العشرين مليونًا» فَقدَت أربعة ملايين نسمة من أهلها خلال الحرب، وفَقدَت معظم مُدنِها ومنشآتِها ومتاحفها وثرواتها. إن الحرب هناك كانت وكأنما «الآخرة» قد قامت على سطح الدنيا، وبالذات جَهنَّم الآخرة.

والعجيب هو ما حدث بعد الحرب، هو أن يعود هذا الشعب المُمزَّق المطعون الجائع إلى حد المرض ليقف، ليس مُجرَّد وقوف ولكنه انطلاقٌ وكأنما بجماعِ ما تبقَّى لديه من قدرة على الحياة، وليس فقط لِيُعيد بناء بلاده وإصلاح أرضها، وإنما أيضًا ليتكاثر تكاثُرًا مُذهلًا بتَعدادِ سكانِه الآن إلى ما يربو على الثلاثين مليونًا.

ومع هذا فالأمر المُحيِّر أن نجد أن مشكلة جدانسك والحدود الغربية، «تلك الأرض التي أُعيد ضمها لبولندا في مؤتمر بوتسدام»، لا تزال هي النقطةَ الحساسةَ الحرِجة في الموقف بين ألمانيا الغربية بالذات وبين بولندا، بل تُعتبر نقطة الأزمة في الموقف في هذا الجزء من أوروبا. لقد أَحسَستُ وأنا أقرأ ترجماتٍ لما يُكتب في ألمانيا الغربية عن هذه المشكلة، وحتى فيما يُكتب في الصحف والكتب البولندية، أن هناك من لا يزالون يُطالبون بإعادة هذا الجزء إلى ألمانيا باعتبار أنه أرضٌ ألمانية، بل إن الأوساط السياسية في ألمانيا الغربية «أو بعضها على الأقل»، يتهم ألمانيا الشرقية بالتفريط في هذا المَطلَب، وكأنما الحرب لم تقُم أبدًا، وكأن كل هؤلاء الذين راحوا ضحيةَ العدوان الهتلري لم يُفلِحوا في حل المشكلة. ولا بُد للقارئ أن يُدرك أن هذه المشكلة التي نتحدث عنها هنا في سطور، هي مشكلة المشاكل في ذلك الجزء من العالم، وكأنما لكل جزءٍ من العالم مشكلتُه الخاصة المُلِحَّة التي لا يمَلُّ لِلناس الحديث عنها.

لقد آمنتُ بعد الجولة الكبيرة التي قمتُ بها في أنحاء بولندا أن الإنسان كائنٌ خُرافي لا يمكن أبدًا لأية قوةٍ أو كارثةٍ على سطح الأرض أن تقهره. ربما العكس هو الصحيح، إن أيةَ كوارث تلحق بشعبٍ من الشعوب لا تفت في عضده أبدًا، إنما هي تفعل مثلما تفعل الحُقن والهرمونات المُنشِّطة، وتَدفَع الشعب إلى استفزاز كل ذراتٍ المقاومة فيه بحيث لا بد في النهاية ليس فقط أن يعود إلى ما كان عليه، وإنما لأن يقفز في طريق الحياة قفزاتٍ واسعةً جبارة ربما تضعه في المقدمة. وتصوَّروا أن بولندا الآن هي رابع دولةٍ في العالم في صناعة البواخر، ومن العشر الدُّول الأُولى في الصناعة في العالم، بولندا الزراعية المُمزَّقة التي مات منها في أثناء الحرب وقُتل أربعة ملايين كائنٍ حي.

لندع السياسة

ولندع السياسة جانبًا فالحديث عنها دائمًا لا يروق لمعظم الناس، ولنتحدث عن بولندا الإنسان. وأوَّل ما يسترعي الانتباه في بولندا الإنسان هو المُثقَّفون البولنديون. والثقافة في بولندا مسألةٌ شائعة إلى الدرجة التي كانت تدفعنا للضحك في أحيان؛ فقد كان المرافق مثلًا يقول لنا، غدًا صباحًا لديكم موعدٌ مع البروفيسور فلان، ونتصوَّر أننا في طريقنا إلى الجامعة، ولكنا نُفاجأ في الصباح أننا في طريقنا إلى مجلس المدينة، ويتضح لنا أن رئيس مجلس المدينة هو هذا البرفيسير، ونجد أنه في نفس الوقت أستاذ الرياضة أو الميكانيكا في الجامعة، وأنه ليس مُعيَّنًا وإنما منتخبٌ ومحبوبٌ من جماهير شعب المدينة، حتى لقد أَطلَقتُ على بولندا وأنا هناك: البلد الذي يحكُمه البروفيسيرات.

المثقفون في وارسو

والمثقفون البولنديون ليسوا كالمُثقفِين في معظم بلاد العالم، إنهم في الوقت الذي يحكمون فيه تجدهم ينقُدون حكمهم هذا أشد النقد، وتجد الحكومة هناك تتقبل النقدَ بطريقةٍ لم أكن أتصوَّرها. في وارسو رأيت مسرحية لأكبرِ كاتبٍ مسرحي بولندي معاصر «موروجيك» والمسرحية اسمها «تانجو»، ترجمها في أثناء العرض صديقٌ بولندي، ولكني لم أكن في حاجة إلى الترجمة لِأدرك هذه الكمية الهائلة من النقد المُوجَّه إلى كافة أوضاع الحياة. ليس في بولندا وحدها وإنما في أوروبا كلها. والمسرح البولندي بالمناسبة جزءٌ حيٌّ جدًّا وهامٌّ جدًّا من المسرح الأوروبي؛ فلقد نشأ المسرح هناك في نفس الفترة التي نشأ فيها المسرح في معظم بلدان أوروبا الوسطى، نشأةً دينيةً تقليدية في القرن الخامس عشر والسادس عشر على هيئةِ مُحاوَراتٍ باللاتينية بين الشخصياتِ الدينيةِ المسيحية. ومع بدايةِ عصر النهضة وبدايةِ خروج اللغة البولندية إلى الوجود بَدأَت المُحاورات تُكتب بالبولندية، ويُمثِّلها طلبة جامعة كراكوف القديمة «من أقدم جامعات أوروبا» حيث يُقدِّمون مُترجماتٍ لكُتاب القرن السادس عشر مثل لوكاش جورنيكي وبيوتر سيكلنسكي.

ولقد شهِدتُ في وارسو أيضًا مسرحيةً قديمة جدًّا اسمها «حياة يوسف» وهي عن القصة المعروفة لسيدنا يوسف، ولقد كانت مكتوبةً كملحمةٍ شعرية بالغة الطول، ومنذُ كتابتها لم تُمثَّل على مسرحٍ إلى أن أعدها إعدادًا خاصًّا الفنان المعاصر كازيمييرز ديجميك وقُدِّمَت لأول مرة على المسرح عام ١٩٥٨. وأشهد أني كنتُ كمن يُشاهد عملًا فنيًّا معاصرًا عن الإغراء والغواية. ولن أتحدَّث عن الإخراج؛ فالبولنديون في الإخراج قد تفوَّقوا إلى الدرجة التي كنتُ فيها ذات مرة في موسكو وشاهدتُ ازدحامًا شديدًا حول أحد المسارح، وحين سألتُ عرفتُ أنها إحدى مسرحيات برخت، ولما أدهشني الازدحام الشديد ونفاد التذاكر قالوا لي إن السر أنها لمُخرجٍ بولندي. والحقيقة أن بولندا في مجال المسرح لا تُعَد من الطليعة فقط بالنسبة للبلاد الاشتراكية، ولكن بالنسبة لبلادٍ أوروبيةٍ غربية أيضًا مثل إيطاليا وفرنسا. إن المسرح هناك حقيقةٌ أزلية واقعة. قال لي رئيس تحرير مجلة «ديالوج» وهي المجلة المسرحية الأولى في بولندا «وهناك أربع مجلاتٍ أخريات»: إننا لسنا قومًا برجوازيِّين لدينا العربات الفارهة والفيلات المُقامة في الريف نقضي فيها «الويك إند»، نحن قومٌ كلنا نعمل كما ترى ونكدح؛ ولهذا فحياتنا الروحية كلها مُرتبِطة بالمسرح. إنه «كنيستنا» الحديثة بلا وعظٍ أو إرشاد. والغريب أني حين سألتُه إن كان لديهم مسرحٌ تجاري نفى هذا وقال: وعن المسرح التجاري وجماهيرنا قد تعوَّدَت على المسرح الحقيقي بحيث لا يمكن لأَذوَاقها أن تقبل السخفَ أو التهريج؟ ليس لدينا سوى مسرحٍ واحد يَؤمُّه جميع الناس، مسرحٌ قائم على «الريبوتوار» الأوروبي والإنتاج المسرحي المحلي، ورئيس تحرير «ديالوج» من ألمع الشخصيات الأدبية البولندية ولِحُسن الحظ يتكلم الإنجليزية والفرنسية بطلاقة، وقد ذكر لي أنه أولُ من اكتشف بيكيت للبولنديِّين والعالم أجمع، وأنه نشر له مخطوطاته الأولى التي كان يرفضها الناشرون والمُخرجون في فرنسا ولا يزال صديقه إلى الآن. والغريب أنني في نفس اليوم الذي قابلتُه فيه كنتُ آتيًا من لقاء مُخرجٍ مسرحي شابٍّ ثائر بعد أن حَضرتُ معه إحدى «بروفات» مسرحية جيرودو «أنديين». ومع أنها كانت مُجرَّد بروفة إلا أني فوجئتُ بها تحدث بالملابس والأضواء والمُؤثِّرات الصوتية، ولم تكن البروفة جنرالًا ولا الأخيرة. كانت البروفة الخامسة عشرة للرواية، ولكن المُخرج أكَّد لي ضرورة إيجاد المُمثِّل ومنذ التدريبات الأولى في الجو النفسي الكامل للرواية.

وبعد انتهاء «البروفة» جلس المُخرج يحدثني عن طريقته في الإخراج، ويؤكِّد ضرورة أن يُفسِّر المُخرج النص تفسيرًا شخصيًّا، أما رئيس تحرير «ديالوج» فقد عارض هذا على خطٍّ مستقيم، واعتبر النص المسرحي أولًا عملًا أدبيًّا لا يجب المساس به أو الإخلال.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤