لا خطر من الاتصال القوي بأوروبا على شخصيتنا

واعتراضٌ آخر قد يُوجَّه إلى هذا النحو من التفكير الذي أتحدث به إليك، وهو أن الاتصال القوي الصريح بأوروبا قد لا يخلو من الخطر على شخصيتنا القومية وعلى ما ورثناه عن ماضينا المجيد من هذا التراث العظيم.

فنحن قد نرى أفرادًا وجماعات تفتنهم الحياة الأوروبية فيسرعون إليها لا يلوون على شيءٍ، ويتهالكون عليها كما تتهالك الفراشة على النار فلا تلبث أن تحترق، وأمر هذا الاعتراض كأمر الاعتراض السابق، وليس الرد عليه بأشد عسرًا من الرد على الاعتراض السابق؛ فأنا لا أدعو إلى أن ننكر أنفسنا، ولا إلى أن نجحد ماضينا، ولا إلى أن نفنى في الأوروبيين، وكيف يستقيم هذا وأنا إنما أدعو إلى أن نثبت لأوروبا ونحفظ استقلالنا من عدوانها وطغيانها ونمنعها من أن تأكلنا؟!

لقد كنا معرَّضين لخطر الفناء في أوروبا حين كنا ضعافًا مسرفين في الضعف، وحين كنا نجهل تاريخنا القريب والبعيد، وحين لم نكن نشعر بأن لنا وجودًا ممتازًا، وحين كان فريق منا يؤمنون في أعماق نفوسهم بأن للأوروبي فضلًا على المصري لأنه من جوهرٍ ممتاز، وبأن للقبعة فضلًا على العمامة والطربوش لأنها تغطي رأسًا ممتازًا!

فأما الآن وقد عرفنا تاريخنا، وأحسسنا أنفسنا، واستشعرنا العزة والكرامة، واستيقنَّا أن ليس بيننا وبين الأوروبيين فرق في الجوهر ولا في الطبع ولا في المزاج فإني لا أخاف على المصريين أن يفنوا في الأوروبيين.

وقد أغارت أمم قوية على مصر وبسطت سلطانها عليها قرونًا متصلة وأزمانًا طوالًا، فلم تستطع أن تهضمها ولا أن تُفني شخصيتها.

أفتستطيع الآن أمة مهما تكن أن تمحو الشخصية المصرية أو تعرِّضها للخطر؟ لقد ثبتت مصر في هذا العصر الحديث لأقوى أمة في الأرض وخرجت من الجهاد ظافرة، ولم يكن لها سلاح إلا إيمانها بنفسها وثقتها بحقها، أفتراها بعد أن انتصرت في جهادها للإنجليز تتعرض لأن تفنى في الإنجليز؟ كلا، إنما تتعرض مصر لهذا الفناء إذا نكلت أو عجزت عن أن تقاوم أوروبا بسلاحها، وتجاهدها بما تعرف من وسائل الجهاد.

وبعد، فإن مشخصات مصر واضحة بَيِّنة، يشخصها إقليمها الجغرافي الذي تعيش فيه، فهل مما يُفني مصر في أوروبا أن ندعوها إلى حماية هذا الإقليم من أن تُغير عليه أوروبا؟ وكيف تحميه إذا لم تقاوم أوروبا بمثل سلاحها؟ ويشخصها دينها، فهل ندعو إلى أن تفنى مصر في أوروبا إذا دعوناها إلى أن تحتفظ بهذا الدين وتلائم بينه وبين مقتضيات الحياة، كما لاءم أسلافنا بينه وبين مقتضيات الحياة؟ وتشخصها لغتها العربية وتراثها الفني والأدبي. فهل ندعو إلى فنائها في أوروبا إذا دعوناها إلى أن تحتفظ بهذه اللغة وهذا التراث، وتنميهما حتى يَسَعَا ما وسعته اللغات الأوروبية وألوان التراث الأوروبي، وحتى لا يكون للغةٍ أخرى ولا لتراثٍ آخر عليهما فضل؟

ثم يشخصها تاريخها الطويل العظيم، فهل ندعو إلى فنائها في أوروبا إذا دعوناها إلى أن تحفظ لهذا التاريخ حرمته، وتثبت أنها حريصة على أن يكون حاضرها ومستقبلها خليقين بماضيها، وأنها تكره كل الكره وتأبى أشد الإباء أن ينبئها تاريخها بما كان لها من سيادة ومجدٍ وفضل على الحضارة، فتجيبه بأن هذا حق ولكنها الآن عيال على أوروبا وستظل عيالًا على أوروبا لأنها مستمسكة بحياتها الحاضرة ولا تريد أن تأخذ بأسباب الحضارة الأوروبية؟

كلا، ليس على الشخصية المصرية خطر من الحضارة الحديثة، كما لم يكن على الشخصية اليابانية خطر من الحضارة الحديثة، ولست أدري لِمَ تضيع شخصية المصريين إذا ساروا سيرة الأوروبيين، ولا تضيع شخصية اليابانيين مع أن لمصر من المجد والسابقة ما ليس لليابان مثله؟!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤