كلمة المؤلف

لهذا الكتاب ككلِّ شيء في الحياة قصةٌ وتاريخ:

ففي شتاء سنة ١٩٤٣ نشَرت صحيفةُ الأهرام أنَّ فقيدَ الأدب والصحافة المغفور له الأستاذ أنطون الجميل باشا قد تبرَّع بمبلغ خمسين جنيهًا جائزة يمنحُها مجمع فؤاد الأول الملكي للغة العربية لأحسن بحث يُقدَّم إليه عن «حركة الترجمة في مصر في القرن التاسع عشر».

وراقني الموضوعُ؛ فهو يُؤرِّخ للحياة الفكرية في مصر في فجر نهضتها الحديثة، وأحسستُ رغبةً قوية للاشتراك في هذه المسابقة، وبدأتُ أجمعُ المصادر وأتلمَّس المظانَّ، وكنتُ حينذاك مدرِّسًا بمدرسة قنا الثانوية، ولكن مكتبة هذه المدرسة وكتبي القليلة التي اصطحبتُها معي لم تُقدِّمْ لي إلا مادةً قليلة ضئيلة.

وانتهى الموسمُ الدراسي، وسافرتُ إلى القاهرة، ومع أنَّ شهور الصيف ليست الشُّهورَ المناسبة للقيام بجهد فكري فقد صدفتُ فيها عن كل شيء، وفرغت تمامًا للقراءة حول هذا الموضوع وجمْع مادته.

ولم يكد ينتهي الصيفُ حتى نُقلت معيدًا بكلية الآداب بجامعة فاروق الأول بإسكندرية، استنفد هذا النقلُ مني وقتًا وجهدًا غير قليلين، ثم بدأت أستكمل الناقصَ من مادة البحث وأرسم خُطَّتَه النهائية توطئة للبدء في كتابته، وهنا تبيَّن لي أنَّ الموضوع كما اقترحه المجمعُ يحتاج إلى تعديل؛ لأنَّ حركة الترجمة في مصر في القرن التاسع عشر شهدت نهضتين؛ النهضة الأولى: في عصر محمد علي، وشملت النصف الأول من القرن التاسع عشر، والنهضة الثانية: في عصر إسماعيل وما تلاه، وشملت النصف الثاني من هذا القرن. وظهر لي من خطوات البحث الأوَّل أنَّ كلًّا من النهضتين تختلف عن الأخرى في الممهدات والنشأة والبواعث والتطور والأدوات والأغراض والنتائج.

لهذا رأيتُ أنَّه قد يكون من الأفضل لو أنَّ المجمع عدَّل الموضوع وقصره على «حركة الترجمة في مصر في عصر محمد علي أو في النصف الأول من القرن التاسع عشر»، على أن تكون الحركة في عصر إسماعيل أو في النصف الثاني من القرن موضوعًا لمسابقة ثانية، وخاصة أن التأريخ لحركة خطيرة كهذه في قرن كامل — حتى لو تغاضينا عن الصعوبة الفنية السابقة — يحتاج إلى جهد كبير ووقت طويل لا تتَّسع لهما السنةُ التي حدَّدها المجمع ليقدَّم البحث في نهايتها، وأن أيَّ باحث يُقدِم على التأريخ لهذه الحركة في قرن كامل — وفي مدى سنة واحدة — لا بد أن يَخرج بحثُه هزيلًا ناقصًا؛ فالموضوع طويل متشعِّب النواحي والأطراف.

وكتبتُ إلى المجمع بهذه الملاحظات مقترحًا أن يُقصر الموضوع على «حركة الترجمة في النصف الأول من القرن التاسع عشر» أو أن يُمدَّ أجَلُ المسابقة سنةً أخرى إذا رُئيَ أن يبقى عنوانُ الموضوع كما هو، غير أن المجمع رفض مقترحاتي معتذرًا بأنه لا يستطيع التغيير في الشروط التي سبَق أن أعلنها؛ لأن الباحثين بدءوا عملهم على أساسها وخاصة أن المدة المحددة قد أوشكت على النهاية.

وكنتُ إذ ذاك أُعِدُّ العُدَّة للتقدم ببحث آخر للحصول على درجة الدكتوراه في جامعة فاروق الأول، ولكن الجامعة — لأمرٍ ما — رأتْ أن أتقدَّم أولًا ببحث آخر للحصول على درجة الماجستير، فرأيتُ أن يكون تاريخ الترجمة هو موضوع الماجستير، ورحت أستكمل ما نقص منه، وأُعدِّل ما يحتاج إلى تعديل، وأُغيِّر ما يحتاج إلى تغيير، ثم كتبتُه من جديد؛ لأنَّ منهجَ البحث في رسالة تُقدَّم لمسابقة عامة يختلف — ولا شك — عنه في رسالة تُقدَّم للحصول على إجازة علمية، وقصرتُه — كما ارتأيت — على النهضة الأولى في عصر محمد علي، وجعلتُ عنوانَه «تاريخ الترجمة في مصر في النصف الأول من القرن التاسع عشر»، وقسمتُه إلى كتابَين؛ الأول: كتابٌ صغير أرَّختُ فيه للترجمة في عهد الحملة الفرنسية،١ أي في مطلع القرن التاسع عشر وسنواته الأولى — وجعلتُه كمدخل للكتاب الثاني الكبير — وهو هذا الكتاب الذي ضمنتُه لبَّ الموضوع وصميمَه، وأرَّختُ فيه للترجمة في عصر محمد علي (١٨٠٥–١٨٤٩).

وكانت هذه الرسالةُ أوَّلَ رسالة تُقدَّم إلى جامعة فاروق الأول للحصول على درجة الماجستير، فلم تكن الجامعة قد استكملت وقتذاك غير سنتين ونصف سنة من عمرها، ونُوقشت الرسالة في ٢٨ أبريل سنة ١٩٤٥ أمام لجنة مكوَّنة من حضرات الأساتذة عبد الحميد العبادي بك، ومحمد شفيق غربال بك، والدكتور محمد مصطفى صفوت، ونالتْ بإجماع الأصوات درجةَ الماجستير مع مرتبة الشرف الأولى.

وبعد ذلك بقليل أعلن المجمع — شأنه في كل عام — عن مسابقات رصَد لها جوائزَه السنوية التي تُمنَح لأحسن بحث أدبي بوجه عام، ولأحسن قصة، ولأحسن ديوان شعر، ورأيتُ أنه وإن كانت الفرصةُ السابقة قد فاتتْني في المسابقة الماضية منذ تقدَّم الباحثون بأبحاثهم وفاز بجائزة الجميل باشا بحثُ الصديق الأستاذ جاك تاجر، فإنَّ هذه فرصةٌ جديدة أستطيع أن أنتهزَها لأُطْلعَ المجمعَ على منهجي في بحث الموضوع كما سبق أن شرحتُه له.

وتقدَّمتُ بكتابي «تاريخ الترجمة في مصر في النصف الأول من القرن التاسع عشر» لجائزة البحث الأدبي، وقُدِّر له أن يفوز بهذه الجائزة، وكانت اللجنةُ التي قرأتْه ورشَّحتْه للجائزة مكوَّنة من حضرات الأساتذة:

المغفور له أنطون الجميل باشا، والدكتور إبراهيم بيومي مدكور بك، ومحمد فريد أبو حديد بك، ومحمد أحمد العوامري بك.

وقد نشرت صورة من تقارير حضراتهم في صدْر هذا الكتاب.

وأعلنت نتائج المسابقات لتلك السنة في حفْلٍ عامٍّ أُقيم في قاعة المحاضرات بالجمعية الجغرافية الملكية في أبريل سنة ١٩٤٦، وتحدَّث عن كل مسابقة مقرِّرُ لجنتِها، وكان مقرِّرُ لجنة البحوث الأدبية حضرةَ صاحب المعالي الأستاذ الدكتور طه حسين باشا، فتحدَّث عن كل كتاب من الكتب الفائزة، وخصَّ كتابي بكلمة قيِّمة فيها تقديرٌ كريم للبحث وقيمته ومنهجه.٢

•••

هذه هي قصة الكتاب وهذا هو تاريخه، أما موضوعه فلستُ أجد وصْفًا له أبلغ من هذه الكلمة التي وصفَه بها المغفورُ له أنطون الجميل باشا في قوله: «هو تاريخ خطوات مصر الأولى في سبيل تحريرها، أو تاريخ العلماء والأدباء الذين كفَلوا بوادر نهضتها، أو تاريخ محاولتها الخروج من عزلتها وتعرُّفها بالغرب لوصْل ما انقطع من حضارتها، أو تاريخ الوسيلة المثلى التي اصطنعها محمد علي في إقالة عثرتها»، فقد بقيت مصرُ قرابة قرون ثلاثة — في العصر العثماني — منطويةً على نفسها، مقفلةَ النوافذ والأبواب، والعلاقات بينها وبين العالم الخارجي — وخاصةً أوروبا — مقطوعة مبتوتة، ولو أن الحكومات المشرفة على مصر عملتْ على النهوض بها داخليًّا خلال هذه المدة لهان الخطبُ، ولكن زاد الطين بِلَّة أن هذه العُزلةَ صَحبِها ركودٌ واضمحلال في كافة شئون مصر الداخلية، حربيةً كانت أم اقتصادية أم ثقافية.

ولم يكدْ يُشرف القرنُ الثامن عشر على نهايته حتى كان الغربُ قد ضاق ذرعًا بهذه العُزلة التي تقبع فيها بلدانُ الشرق الأدنى — ومصر بوجه خاص — ولم يشأْ هذا الغرب الأوروبي أن يسلك السبيل السوي فيدعو مصر إلى أن تقطع حبلَ هذه العزلة، وإلى أن تفتح الأبواب والنوافذ كي تسمحَ لأضواء الحضارة الأوروبية الجديدة بالدخول والانتشار، ولكنه آثَر أن يقوم هو بفتح هذه الأبواب والنوافذ، وبالقوة، قوة السلاح؛ فقد كانت تدفعه عواملُ الاستعمار، عوامل الأثرة والاستغلال، مما أثار قوى المقاومة الداخلية، وقوى المنافسة الخارجية، وبهذا اضطرتْ جيوش الفرنسيين إلى الجلاء عن مصر بعد أن قضتْ في ربوعها سنواتٍ ثلاث لم تذقْ في خلالها طعمَ الراحة يومًا واحدًا.

وهكذا استيقظتْ مصر من سُباتها الماضي الطويل العميق، ولكنَّ يقظتَها لم تكن تلقائيةً رفيقة هادئة، بل لقد كانتْ يقظةً عنيفة مفاجأة دُفعت إليها دفعًا، وكانت الأضواء التي حملها الفرنسيون معهم — أضواء السلاح والحضارة والعلم — قوية برَّاقة، كادت تغشى لها عيونُ المصريين، ولم يتمالكْ كبيرٌ من علمائهم — وهو المؤرخ المعروف عبد الرحمن الجبرتي — أن يُعبِّر عنها حين زار مكتبة الفرنسيين ومعهدهم، بقوله: «ولهم فيه أمورٌ وتراكيب غريبة، ينتجُ منها نتائجُ لا تسعُها عقولُ أمثالنا.»

وشهدت مصر في السنوات الأولى من القرن التاسع عشر صراعًا عنيفًا بين قوى ثلاث: الأتراك، والمماليك، والإنجليز، كلٌّ منها تعمل لحسابها، وتُمهِّد السبيل كي تفوز هي وتُصبح لها السيطرة على مصر وشعبها وشئونها، ووسط هذا الضباب الكثيف، ووسط هذا العِثْيَر المتطاير نتيجة لصراع هذه القوى الأجنبية الثلاث بدأت تظهر قوةٌ جديدة ظلَّت كامنةً قرابة ثلاثة قرون، تلك هي قوة الشعب المصري.

وأعلن هذا الشعبُ إرادتَه قويةً جريئة صريحة: أنَّه صاحب الحقِّ الأول في اختيار حاكمه، وكان موفَّقًا حين أعلن على لسان زعمائه اختيارَ محمد علي واليًا عليه.

وأدرك محمد علي منذ اللحظة الأولى التي تولَّى فيها عرشَ مصر أنَّه لا بد من رسْم سياسة إصلاحية جديدة لانتشال الكنانة من وهدة الخراب والفساد التي تردَّتْ فيها طوال العصر العثماني، ورأى أنَّ السبيل القويم للإصلاح هو الاتجاه نحو الغرب، والاقتباس من نُظُمه والنقل عن علومه، وخطا نحو تنفيذ هذه السياسة الإصلاحية خطواتٍ مختلفة؛ فبدأ باستخدام الأجانب والاستعانة بهم، ثم ثنَّى بإرسال المصريين في بعثات إلى أوروبا، ثم ثلَّث بإنشاء المدارس الجديدة في مصر على النظام الأوروبي، ولتدريس هذه العلوم والنظم الجديدة، وكانت وسيلتُه الكبرى في كل هذه المحاولات هي النقلَ عن الغرب، هي الترجمة.

وما كتابُنا هذا إلا دراسةٌ تفصيلية لهذه الوسيلة الكبرى، وما يتصل بها من أدوات، وما سبقها من مقدمات وتمهيدات، وما تلاها أو تسبَّب عنها من نتائج.

تتبَّعنا حركةَ الترجمة في هذا العصر منذ خطواتها الأولى في إعداد المترجمين من خريجي المدارس والبعثات، إلى اختيار الكتب وطريقة ترجمتها، إلى مراجعتها وتحريرها وتصحيحها، إلى أنْ وصلْنا بها إلى المرحلة الأخيرة، مرحلة الطباعة والنشر.

وأفردْنا خلال هذا كلِّه فصولًا قائمة بذاتها للمؤسسة العلمية الكبرى التي أُنشئت لخدمة هذه الحركة — وهي مدرسة الألسن وقلم الترجمة الملحق بها — ثُم لطلائع رجال النهضة الثَّقافيَّة الذين أسهموا في هذه الحركة من مترجمين ومصححين، ثم لحركة القواميس والمعاجم باعتبار أنها أداةٌ من أهم أدوات النقل والترجمة، ثم لحركة الطباعة والمطابع التي أُنشئت أول ما أُنشئت لخدمة حركة الترجمة، ولطبع الكتب المترجمة.

وأخيرًا ختمْنا الكتاب بفصل كبير قدَّمنا فيه دراسة تحليلية مقارنة للحركة وأهدافها ووسائلها وأسلوب الترجمة وآثارها في اللغة العربية وفي المجتمع المصري.

ثم ألحقنا بالبحث مجموعةً من الجداول ضمنَّاها إحصاءً للكتب التي تُرجمت في عصر محمد علي مع البيانات الوافية عن كلِّ كتاب ومؤلِّفه ومترجمه ومصححه وأجزائه وصفحاته وسنة طبعه … إلخ.

هذه صورة سريعة للكتاب وموضوعه ومحتوياته لا أريد أن أزيد في تفصيل الحديث عنها، وإنما أترك الحكم عليها للقارئ الكريم بعد الاطلاع عليها، وإذ كان هذا الكتاب قد تناول بالبحث والدراسة — إلى جانب موضوع الترجمة — نواحي النهضة الثقافية المختلفة، بحكم اتصالها وخدمتها لحركة الترجمة، فقد آثرتُ أن يكون عنوانه الجديد: «تاريخ الترجمة والحركة الثقافية في عصر محمد علي»، فهو بهذا أدل على موضوعات الكتاب ومحتوياته.

•••

بقيتْ كلمةٌ أخيرة أُحبُّ أن أختمَ بها هذا الحديث، وأن أُلفت إليها الأنظار، ذلك أن محمد علي لم يندفع في حركته الإصلاحية نحو الغرب اندفاعًا كليًّا، بل حاول دائمًا أن يُوائم بين حاجات مصر وتراثها الشرقي وبين ما يريد أن يستوردَه له من إصلاحات ونُظم وعلوم غربية، فهو بوسائله جميعًا — التي عرضنا لذكرها في متن هذا الكتاب — حاول أن ينقلَ الغرب إلى مصر؛ ليُحقِّق مثُلَه العليا في الإصلاح، ولكنه لم يحاول البتة أن ينقل مصر إلى الغرب، بل احتفظ لها بروحها وتقاليدها، بل لقد حاول في كثير من الأحيان أن يمزجَ بين الخير في العالَمين — الشرقي والغربي — فأقام النهضة المصرية الحديثة على أُسُس متينة صحيحة، ووجَّهها — منذ عصره حتى الآن — الوجهةَ الطيبة التي أفادتْ منها، والتي لا نزال نعمل للإفادة منها.

وأخيرًا أرى أنَّ من واجبي أن أتقدَّم بالشكر الجزيل لأستاذيَّ الجليلَين حضرتي صاحبي العزة عبد الحميد العبادي بك، ومحمد شفيق غبريال بك؛ فقد أفدت الكثير من توجيهاتهما، وتعضيدهما أثناء إعداد هذا البحث.

وبعدُ، فإنِّي أحمد الله سبحانه وتعالى حمدًا كثيرًا أن وفَّقني لهذا، فمنه وحده التوفيق، وبه وحده العون، وأبتهلُ إليه سبحانه أن يُوفِّقَني للعمل الصالح إنَّه على كل شيء قدير.

جمال الدِّين الشَّيَّال
الإسكندرية في ٢٨ أكتوبر سنة ١٩٥١
١  نُشر هذا الكتيب على حدة في السنة الماضية تحت عنوان: «تاريخ الترجمة في مصر في عهد الحملة الفرنسية».
٢  حاولت أن أحصل على كلمة معاليه لنشرها مع تقارير اللجنة، ولكنني أُخبرت — مع الأسف — أنَّ المجمع لا يحتفظ بصورة منها؛ لأنَّ معاليه لم يُعدَّها كتابة، بل ألقاها ارتجالًا، وإنِّي أنتهز هذه الفرصة لأقدِّم لمعاليه شُكري القلبي الخالص؛ فقد كان لكلمته الطيبة أبلغُ الأثر في نفسي، وإنِّي لأعتزُّ بها أبدًا اعتزازًا خاصًّا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤