الفصل الثاني

الكتب والمؤلفون

العلوم والفنون التي شملتْها حركةُ الترجمة، أوامر محمد علي بشراء وجمْع الكتب اللازمة للمدارس أو للترجمة من فرنسا وإيطاليا وإنجلترا وتركيا، كان لكل مدرسة «خصوصية» مكتبة تضمُّ أحدث الكتب الأوروبية، الكتب التي تُرجمت في عصر محمد علي كانت: (١) لواحد من هيئات التدريس الأجنبية بالمدارس المصرية. (٢) أو لواحد من كبار المؤلفين في أوروبا في القرنين ١٧ و١٨، أمثلة، معظم الكتب تُرجمت لتُستعمل في المدارس، شواهد، بعض الأساتذة الذين تُرجمت كتبهم، الدكتور كلوت بك، كتُبه التي تُرجمت: بعضُها للتدريس، والبعضُ الآخر لخدمة الحالة الصحية في مصر، كتُب النوع الثاني وخاصة: «كنوز الصحة»، و«الدرر الغوال» تأليفهما وترجمتهما تنفيذًا لرغبة محمد علي، انتشارهما بين أفراد الشعب، الدكتور «برون» ترجمة موجزة له، جهوده العلمية، الجمعية المصرية واتصال بالعلماء الأوروبيين في مصر، اتصاله ببعض مشايخ الأزهر، كتبُه التي تُرجمت.

***

اتجهت الترجمةُ في عصر محمد علي لخدمة المدارس، والمصانع، والجيش، والأسطول، والإدارات، أي بعبارة أصح لخدمة المنشآت الحديثة التي خلقها محمد علي خلقًا؛ ولهذا نجد الكتب في هذا العصر تُترجم في هذه العلوم والفنون:

  • (١)
    الطب البشري١ والطب البيطري، وما يتصل بهما من العلوم الطبيعية كالطبيعة والكيمياء، والنبات والحيوان … إلخ مما كان يُدرس في مدارس الطب، والطب البيطري والصيدلة والزراعة.
  • (٢)

    العلوم الرياضية من حساب وجبر وهندسة، وهندسة وصفية، وميكانيكا، وهدروليكا، وحساب مثلثات … إلخ مما كان يُدرس في مدارس الهندسة، والمدارس الصناعية.

  • (٣)

    العلوم الحربية والبحرية، وما يتصل بها من فنون الرسم والعلوم الرياضية مما كان يُدرس في المدارس الحربية والبحرية.

  • (٤)

    العلوم الاجتماعية أو الأدبية؛ كالتاريخ والجغرافيا، والاجتماع والجيولوجيا والفلسفة والمنطق … إلخ مما كان يُدرس أو يُترجم في مدرسة الألسن.

وقد ذكرنا أن السيطرة في أوائل عهد محمد علي كانت للغة الإيطالية ثم انتقلت منها للغة الفرنسية؛ ولهذا نجد أن الكتب الأولى القليلة التي تُرجمت، نُقلت عن اللغة الإيطالية، ثم أصبحت الترجمةُ في معظمها عن اللغة الفرنسية، والفنُّ الوحيد الذي نُقلت بعض كتبه وتعليماته عن الإنجليزية هو قوانين وتعاليم الأسطول المصري بحكم أن إنجلترا لها السبقُ في هذا الفنِّ، أما إن نُقل كتابٌ في علمٍ آخر عن هذه اللغة فقد كان يُترجم عن الترجمة الفرنسية لهذا الكتاب.

وكانت الترجمةُ عن هذه اللغات إلى اللغتين التركية والعربية؛ فترجمت الكتب الحربية إلى اللغة التركية؛ لأن معظم طلاب المدارس الحربية في عهدها الأول كانوا من أبناء المماليك والأتراك، كما تُرجمت بعضُ كتبٍ خاصة في التاريخ والسيَر وشئون الحكم إلى اللغة التركية إجابةً لرغبة محمد علي، وليطَّلع عليها هو، ويُفيد منها، أما بقية الكتب في الفنون والعلوم الأخرى فقد تُرجمت إلى اللغة العربية لأن تلاميذ المدارس المدنية كانوا جلُّهم إن لم يكن كلهم من المصريين.

ومذ فكَّر محمد علي في خطته الإصلاحية، وبدأ يُنشئ جيشَه وأسطوله ومدارسه، رأَى أنه في حاجة إلى كميات كبيرة من الكتب باللغتين العربية والتركية ليستعين بها أساتذةُ المدارس وطلَّابُها، فاستورد الكتبَ الكثيرة من تركيا (أُنشئت فيها الطباعة منذ سنة ١٧٢٨)، غير أنه رأى أن معظم هذه الكتب لا تُرضي أطماعه؛ فهي كتب قديمة لا تسير مع التقدم العلمي الحديث في أوروبا، فأنشأ مطبعتَه العربية في بولاق، وراح يسعى لجمْع الكتب من كل مكان سعْيَ العالم الهاوي،٢ وقد بذَل الجهدَ كلَّ الجهد لاختيار الكتب التي يمكن أن تُفيد لنشر التعليم أو الثقافة في مصر، أو أن تُحقق ما يريده من إصلاح، أو تثقيف لعقول مساعديه من رجال الحكم الجديد.
ففي سنة ١٢٢٤ / ١٨٠٩ أرسل عثمان نور الدين أول مبعوث مصري إلى أوروبا لتلقِّي العلم في إيطاليا، وظلَّ ينتقل بينها وبين فرنسا وإنجلترا مدة ثماني سنوات، ولم يعُدْ إلى مصر إلا في سنة ١٢٣٢ / ١٨١٧، وقُبيل عودته أمرَه محمد علي أن يشتريَ لحسابه من فرنسا وإيطاليا كتُبًا في مختلف العلوم والفنون السياسية بمبلغ ٥٠٠٠٠٣روبل.
وفي سنة ١٢٣٣ / ١٨١٨ أمر محمد علي بشراء ٦٠٠ كتاب٤ فرنسي أخرى، وعندما استدعيت بعثة مسيو بويه M. Boyer٥ الحربية إلى مصر كلَّف ضباطَها أن يُحضروا معهم مجموعةً من الكتب الفرنسية في الفنون الحربية المختلفة.
وهكذا دأب محمد علي على سياسته في شراء الكتب اللازمة للمدارس أو للترجمة من أوروبا وتركيا منذ هذا التاريخ المبكر حتى آخر سنة من حياته؛ ففي «الخامس من شهر ذي القعدة سنة ١٢٤١/يونيو ١٨٢٥ صدر أمرٌ منه إلى باغوص بك يُشير به إلى إرسال الكتب الإفرنجية — المختصة بتعليمات وأمور البحرية السابق تسليمها — لمكتب الجهادية».٦
وسرعان ما عرف هذه الرغبةَ جميعُ المحيطين بمحمد علي من أجانب ومصريين، فتسابقوا لإشباعها؛ فمن أمثلة ذلك ما فعله المسيو «دروفتي Drovetti» قنصل فرنسا في مصر، فقد حمل إلى محمد علي في سنة ١٢٤١ / ١٨٢٦ مجموعةً من الكتب المختصة بعلوم وقوانين البحرية هدية إليه «من قِبل ناظر ترسانة بحرية طولون»، ففرح بها محمد علي، «وحصل له السرور»، وصدر أمرٌ منه في ١٠ ذي القعدة إلى باغص بك يرى فيه لزومَ إرسال قبضة سيف وشال كشمير إلى الناظر المومى إليه بصفة هدية.٧
وفي ١٩ ربيع الثاني سنة ١٢٤٣ / ٩ نوفمبر سنة ١٨٢٧، صدر أمرٌ من محمد علي باشا «إلى أحد مندوبي مصر بلوندرة، أنه قد اتصل بعلمه تأليف وطبْع كتاب يختص بالسفن الميرية الجاري إنشاؤها برسْم الحكومة الإنجليزية، وبه مقدار المصاريف التي حُذفت عليها، وكتاب آخر يختص بتعليم الأطفال المبتدئين، ويُشير به بمشترى بعض نسخ من هذا وذاك، وإرسالها بسرعة للزومها بطرفه …»٨
وفي ٢٥ شوال سنة ١٢٤٤ / ١٠ أبريل سنة ١٨٢٨ صدر أمرٌ منه إلى ولده إبراهيم باشا «بأن يُرسل له كتابَ الاستحكامات القوية الوارد من الآستانة قبلًا، وملحق به أطلس يشتمل على ٢٤ شكلًا مكملًا له …»٩
وفي وثائق عابدين شواهدُ كثيرة تؤيد هذه الرغبة السامية؛ ففي ١٦ صفر سنة ١٢٤١ / ١٩ سبتمبر سنة ١٨٢٥، صدر أمرٌ من محمد علي باشا إلى صادق أفندي المقيم بالآستانة أن يحصل على كتاب في الجراحة باللغة التركية اسمه: «شاني زاده في فن الجراحة».١٠
وفي رسالة أخرى مؤرخة في ٢٤ ربيع الأول سنة ١٢٤١ / ٦ نوفمبر سنة ١٨٢٥، كلف المدعو توسيزا Tossizza١١ أن يبحث في محالِّ بيعِ الكتب في أزمير عن بعض الكتب التي يطلبها محمد علي.

وكان يتقدَّم إليه أحيانًا بعضُ رجال دولته يرغبون التوصيةَ لشراء أحدث المؤلفات العلمية التي صدرت في أوروبا بعد عودتهم، فكان محمد علي يُسرع بتلبية هذه الرغبة؛ فقد صدَر منه أمرٌ إلى أرتين بك في ٢٥ ذي الحجة سنة ١٢٦١ / ٢٥ ديسمبر سنة ١٨٤٥ بأن «بهجت بك المهندس» أوضح بإفادته المقدمة إليَّ بأنه من بعد عودته من أوروبا للآن صار نشر جملة كتب في علم الهندسة، وتطلب بها استحضار تلك الكتب للوقوف على ما تدون بها، فيلزم مخابرةُ اسطفان أفندي (رئيس البعثة بفرنسا) عن إرسال تلك الكتب لبهجت بك وخصْم أثمانها من استحقاقه.»

وفي السنة السابقة لوفاة محمد علي أعدَّ كلوت بك ولامبير بك قائمةً بالمعدات والكتب الخاصة «بالمواليد الثلاثة والكيمياء والنبات، فأصدر محمد علي في ٦ رجب سنة ١٢٦٣ / ٢٠ يونيو سنة ١٨٤٦ أمرًا إلى أرتين بك باستحضار «تلك الآلات والكتب» من فرنسا «ما دامت تكون غير موجودة بالمخازن».»١٢
هذا وقد كان لكل مدرسة خصوصيةُ مكتبة كبيرة تضمُّ أحدثَ الكتب الأوروبية التي كانت تصدر حينذاك في أوروبا، وإن كان معظمُها باللغة الفرنسية ولمؤلفين فرنسيين، ذكر المسيو «بروكي Brocchi»١٣ أنه شاهد أثناء زيارته لمدرسة بولاق في سنة ١٨٢٢ مكتبةً تضمُّ مجموعةً كبيرة من الكتب الأوروبية، وعددًا من الكتب العربية والتركية المطبوعة في الآستانة.
وقد كان محمد علي يرى أن هذه الكتب وجدت في هذه المكتبات «للترجمة منها والانتفاع بها»، لا «لحبْسِها وعدم الانتفاع بها»؛ فقد صدر أمرٌ منه إلى وكيل الجهادية في ١٦ ربيع الثاني سنة ١٢٥١ / ١٠ أغسطس سنة ١٨٣٥ يذكر فيه أنه «اطَّلع على المضبطة الصادرة في ٦ الجاري سنة تاريخه الشاملة لاستحسان تسليم زمام مكتبة القصر العيني إلى يحيى أفندي الموجود بمدرسة الترجمة المستجدة بالأزبكية عوضًا عن الشيخ رفاعة المحال عليه محافظة تلك المكتبة، وحيث إن الغرض من استحضار الكتب هو تسليمها لأهلها، وللترجمة منها، والانتفاع بها، وحال وجودها تحت يد يحيى أفندي المذكور يكون عبارة عن حبسها وعدم الانتفاع بها فيلزم نقلُها إلى محل وجود الشيخ رفاعة وإبقاؤه بوظيفة محافظ لتلك الكتب كما كان.»١٤

ونظرة واحدة إلى قائمة الكتب التي تُرجمت في عصر محمد علي تبين أن هذه الكتب كان يُراعَى في اختيارها أن تكون:

  • (١)
    لواحد من هيئات التدريس الأجنبية١٥ بالمدارس المصرية.
  • (٢)

    أو لواحد من كبار المؤلفين في أوروبا في القرنين السابع عشر والثامن عشر.

يقول كلوت بك عند كلامه عن مدرسة الطب: «تقرَّر الرجوعُ إلى مصنفات الأساتذة: «كلوكيه»، و«بروسيه»، و«لالمان»، و«ماجاندي»، و«روش»، و«سانسون»، وغيرهم من أساطين الطب الفرنسيين.»١٦

وقد تُرجمت في عصر محمد علي كتبٌ كثيرة لأشهر مشاهير علماء أوروبا ومؤلفيها في الطب والهندسة والتاريخ والجغرافيا والسياسة والمنطق … إلخ، نذكر منها على سبيل المثال:

  • (١)

    قواعد الأصول الطبية، تأليف «فرانشسكوفافا» الأستاذ بجامعة بيزا، طُبع في بولاق سنة ١٢٤٢ / ١٨٢٦-١٨٢٧.

  • (٢)

    «منتهى الأغراض في علم شفاء الأمراض»، تأليف: «بروسيه»، و«سانسون» من أكبر أطباء فرنسا وقتذاك، ترجمة يوحنا عنحوري، وطُبع في بولاق سنة ١٢٥٠ / ١٨٣٤-١٨٣٥.

  • (٣)

    «ضياء النيرين في مداواة العينين»، تأليف الطبيب الإنجليزي «لورانس»، وترجمَه إلى العربية أحمد حسن الرشيدي، وطُبع في بولاق سنة ١٢٥٦ / ١٨٤١.

  • (٤)
    أصول الهندسة تأليف لوجاندر Legendre ترجمَه إلى التركية محمد عصمت أفندي، وطُبع في بولاق سنة ١٢٥٥ / ١٨٤٠.
  • (٥)
    «قترينه تاريخي» تأليف « كاسترا Castsra»، ترجمَه إلى التركية جاكوفاكي أرجير وبولو المترجم بالديوان الخديوي، وطُبع في بولاق سنة ١٢٤٤ / ١٨٢٩.
  • (٦)

    «تاريخ نابليون»، وهو مذكراته التي كتبَها بنفسه حين كان منفيًّا في «سانت هيلانة»، تُرجم عن الفرنسية إلى التركية، وطُبع في بولاق سنة ١٢٤٧ / ١٨٣٢.

  • (٧)
    «تاريخ نابليون بونابرته» تأليف «دوق دي روفيجو Due de Rovigo»، ترجمَه إلى التركية «حسن أفندي» الكاتب بديوان محمد علي، وطُبع في مطبعة سراي الإسكندرية سنة ١٢٤٩ / ١٨٣٤.
  • (٨)
    «تاريخ دولة إيطاليا» تأليف «بوتا Botta»، ترجمَه عن الفرنسية إلى التركية عبد الله أفندي عزيز الكاتب بديوان محمد علي، وطُبع في مطبعة سراي الإسكندرية سنة ١٢٤٩ / ١٨٣٤.
  • (٩)
    «مطلع شموس السيَر في وقائع كرلوس الثاني عشر»، تأليف «فولتير Voltaire»، ترجمَه عن الفرنسية إلى العربية محمد أفندي مصطفى البياع أحد خريجي مدرسة الألسن، وطُبع في بولاق سنة ١٢٥٧ / ١٨٤٢ — وهو تاريخ كرلوس الثاني عشر ملك أسوج (١٦٩٧–١٧١٨).
  • (١٠)
    «الروض الأزهر في تاريخ بطرس الأكبر»، تأليف «فولتير Voltaire»، وتعريب أحمد عبيد الطهطاوي، طُبع في بولاق سنة ١٢٦١ / ١٨٤٥.
  • (١١)
    «إتحاف الملوك الألبا بتقدم الجمعيات في أوروبا»، تأليف المؤرخ الإنجليزي «روبرتسون Robertson»، ترجمَه عن الفرنسية إلى العربية خليفة أفندي محمود، أحد خريجي مدرسة الألسن، طُبع في بولاق سنة ١٢٥٨ / ١٨٤٢، وهو مقدمة لتاريخ شارلكان الآتي.
  • (١٢)

    «إتحاف ملوك الزمان بتاريخ الإمبراطور شارلكان»، تأليف «وليم روبرتسون»، ترجمَه عن الفرنسية إلى العربية خليفة محمود، طُبع في بولاق سنة ١٢٦٦ / ١٨٥٠.

  • (١٣)

    «الدارسة الأولية في الجغرافية الطبيعية»، تأليف «مسيو فيلكس لامروس»، وترجمَه عن الفرنسية إلى العربية أحمد حسن الرشيدي، وطُبع في بولاق سنة ١٢٥٤ / ١٨٣٩.

  • (١٤)
    «الجغرافية العمومية» تأليف «ملطبرون Malte Brun»، ترجمَه عن الفرنسية إلى العربية رفاعة رافع الطهطاوي، طُبع في بولاق حوالي سنة ١٢٥٠ و١٢٦٢ / ١٨٣٥ و١٨٤٦.
  • (١٥)
    «تنوير المشرق بعلم المنطق»، تأليف «دي مرسيه Dumarsais»، ترجمَه عن الفرنسية إلى العربية خليفة محمود، وطُبع في بولاق سنة ١٢٥٤ / ١٨٣٩.
ولم يراعِ المترجمون في عصر محمد علي أن يذكروا دائمًا اسمَ المؤلف؛ ولهذا ظهرت معظمُ الكتب وهي لا تحمل اسمَ مؤلفيها، بل كان يكتفي في الغالب أن يذكر أن الكتاب تُرجم عن الفرنسية،١٧ كذلك أُهملت في جميع الكتب المترجمة أسماءُ الكتب بلغاتها الأصلية، ولم يثبت على أي كتاب عنوانه الأصلي لا بالحروف اللاتينية، ولا بالحروف العربية، بل لقد طغتْ على المحررين والمصححين والمترجمين تقاليدُ التأليف القديمة التي توجب أن تكون أسماء الكتب مسجوعة، فاختيرت للكتب المترجمة عناوين مسجوعة، إلا في النادر، وإلا أن يكون المترجَم رسالة أو نبذة، فإذا كان المترجم مصريًّا من أعضاء البعثات أو من خريجي مدرسة الألسن اختار هو الاسم على هذا النحو، أما إن كان المترجم من طائفة المترجمين السوريين الذين حملوا عبءَ هذا الواجب في أوائل عهد محمد علي خاصة، فإنه كان يترك اختيار اسم الكتاب — بعد ترجمته — للشيخ الأزهري المنتدَب لتصحيحه وتحريره. يقول الشيخ مصطفى حسن كساب محرر الكتب المترجمة بمدرسة الطب البيطري في مقدمة أحد الكتب المترجمة في هذا العلم: «… وقد سميتُ هذا الكتاب روضة الأذكياء في علم الفسيولوجيا.»١٨ ويقول نفس المحرر في مقدمة كتاب آخر من كتب الطب البيطري: «فجاءت — أي هذه الرسالة — بعون الله مرتبة المباني، مهذبة المعاني، وسميتُها: البهجة السنية في أعمار الحيوانات الأهلية …»١٩
وقد كانت معظمُ الكتب التي تُرجمت لفائدة التعليم بالمدارس الخصوصية وخاصة مدرسة الطب والهندسة، من تأليف أساتذة هذه المدارس. يقول الشيخ محمد عمر التونسي في مقدمته لكتاب «الجواهر السنية في الأعمال الكيماوية»: إن الدكتور برون Dr. Perron ألَّف هذا الكتاب حين كان مدرِّسًا لمادة الكيمياء بمدرسة الطب بأبي زعبل، «وألقاه على التلاميذ أولًا بأول، فاستفادتْ منه التلامذةُ في علم الكيمياء فوائد جمة»، ويقول «الدكتور برون» نفسه في مقدمته لكتاب: «الأزهار البديعة في علم الطبيعة»: «وإني لمَّا استُخدمتُ بمدرسة الطب البشري معلِّمًا للكيمياء … وقمتُ بما وجب عليَّ فيها بما تقرُّ به العينُ، طلب مني أن أضمَّ لتعليم علم الكيمياء علْمَ الطبيعة، امتثلتُ الأمر، واقتطفتُ من روضة كتبِ هذا الفنِّ كلَّ زهرة بديعة. ولما كان هذا الكتابُ أولَ مصنَّف تُرجم من كتب الطبيعة وكائنات الجو بالديار المصرية، والقصد أن تتناوله جميعُ المدارس وتتلقَّاه بحسن طوية، حذفت البراهين التي تؤدَّى بالأشكال والأرقام الرياضية؛ ليسهل على تلامذة المدارس الدخولُ في هذه القضايا العقلية.»٢٠
وقال الشيخ محمد الهراوي في مقدمته لكتاب «المنحة في سياسة حفظ الصحة»: «الخواجا برنار جمَع هذا الكتاب من مجلدات كبار، وترجمَه من الفرنساوي للعربي بالكتابة والمقال المترجم الحلبي جورجي فيدال، وكنت مقيدًا لتصليح ما ترجم ترجمة لفظية، وتوقيعه مواقع عبارات عربية، حفظًا لمقابلة الكلام عند التعليم، وتسهيلًا لفهمه منهم وقت التفهيم …»٢١
ويقول الشيخ مصطفى حسن كساب في مقدمته لكتاب «منتهى البراح في علم الجراح»: «إن علم الطب من أجلِّ العلوم قدْرًا؛ فلهذا اعتنى بتحصيله الأجلَّة، من علماء كل ملَّة، وممن بذل جهدَه في قراءته وأفرغ وسعَه في دراسته، الطبيب الأريب … مَن لا ريب في حذْقه ولا لبْس، المعلم الحازق «برنس» الذي ألَّف هذا الكتاب ونمَّقه بأعذب خطاب، وقرأه على الطلبة قراءةً جميلة، وأوضح لهم مسائله الجليلة في المدرسة البيطرية … إلخ.»٢٢
كذلك كانت الكتبُ التي كتبَها كبارُ المؤلفين الأوروبيِّين في ذلك العصر، وتُرجمت في مدارس محمد علي؛ فإنها كانت تُترجم في معظمها لتُلقَى دروسًا على الطلاب؛ فكتاب «اللآلئ البهية في الهندسة الوصفية»: «لمَّا أُكمل تعريبُه وتدريسه في مدرسة الهندسة النفيسة — المهندسخانة الخديوية — معدن النفائس الرياضية، تداولتْه أيدي التصحيح ونقَّحتْه غايةَ التنقيح …»٢٣ ثم قُدِّم للمطبعة فطُبع في بولاق سنة ١٢٦١.

ويقول أحمد فايد في مقدمة «كتاب علم تحرُّك السوائل»: «حيث كانت المعارفُ البشرية آخذةً في التقدُّم على ممرِّ الأزمان، وكان ممن ربِح في هذه العلوم اللطيفة المهندس بيلانجيه، فألَّف في ذلك تأليفًا دلَّ على غزارة عقلِه، وحيث كان فريد عصره، ووحيد دهره، جناب «لامبير بك» الجليل الشأن، ناظر مدرستنا الآن، يستنشق أخبار تلك اللطائف، فحين عَثر على تلك المؤلفات الغربية، ورأى ما فيها من الفوائد الجمَّة العجيبة بادرَ بجلْبها إلى الديار المصرية، وأراد تدريسها بالمهندسخانة الخديوية، وحيث كنتُ أنا معلِّمَ تلك العلوم فيها، ولي الوقوف على مبانيها ومعانيها، تبعتُ هذا المؤلف في تدريسي وتقريري، وجعلتُه إمامي وسميري، ولما اطلعتُ على فرائده، وتضلعتُ من فوائده، لاحَ لي أن أُترجم هذا الكتاب، فقضيت أغراضي وآمالي، وترجمتُ مجلداته الأربع على التوالي … إلخ.»

وقد كان للكثيرين من أساتذة مدارس محمد علي نشاطٌ ملحوظ في التأليف؛ فكانت كتبُهم، في معظمها، هي محاضراتهم التي يُلقونها على الطلاب، تُجمع وتُترجم، ثم تُحرَّر وتُصحَّح وتُطبع، وممن تُرجمت كتبُهم من أساتذة مدرسة الطب مثلًا:
  • (١)

    «الدكتور برنار» معلِّم قسم حفظ الصحة، ألَّف كتاب «قانون الصحة»، وترجمَه إلى العربية جورجي فيدال، وطُبع في بولاق سنة ١٢٤٨.

    «وكتاب المنحة، في سياسة حفظ الصحة، ترجمَه جورج فيدال»، وطُبع في بولاق سنة ١٢٤٩.

  • (٢)

    «الدكتور سوسون» معلِّم الفسيولوجيا، ألَّف كتاب «إسعاف المرضى من علْم منافع الأعضاء، ترجمَه إلى العربية علي أفندي هيبة، وطُبع في بولاق سنة ١٢٥٢».

  • (٣)

    «الدكتور لافارج»، ألَّف كتاب «نزهة الأنام في التشريح العام»، وترجمَه يوسف فرعون، وطُبع في بولاق سنة ١٢٥٥ / ١٨٤٠.

    وكتاب «روضة الأذكيا في علم الفسيولوجيا»، وترجمَه أيضًا يوسف فرعون، وطُبع في بولاق سنة ١٢٥٦ / ١٨٤١.

  • (٤)

    «الدكتور فيجري»، ألَّف كتاب «الدر اللامع في النبات وما فيه من الخواص والمنافع»، ترجمه السيد حسن غانم الرشيدي، وطُبع في بولاق سنة ١٢٥٧.

    غير أن اثنين من هيئة التدريس في تلك المدارس كانَا أوفرَ نشاطًا من جميع زملائهما، وأكثرَ إنتاجًا، هما: الدكتور كلوت بك، والدكتور برون، وكلاهما تولَّى نظارة مدرسة الطب المصرية في عصر محمد علي.

(١) الدكتور كلوت بك

التحق الدكتور كلوت بك بخدمة محمد علي في سنة ١٨٢٥؛ فقد رأى عاهل مصر — بعد تكوين جيشه الجديد — أنه في حاجة ماسَّة إلى أطباء أوروبيين للإشراف على صحة ضباطه وجنوده؛ فكلَّف التاجر الفرنسي «تورنو Tourneau» أن يرحل في سنة ١٨٢٥ إلى فرنسا لكي يتعاقد مع أحد الأطباء الفرنسيين، وسافر «تورنو»، واتصل بأحد أطباء «مرسيليا» وهو الدكتور «أنطوان برتلمي كلوت Antoin Barthélmy Clot»، وكتب معه شروطًا تقضي: «بحريته في العمل، وأن يتبع ديانته المسيحية، وعدم إجباره على السير مع الجيش … إلخ.»٢٤ وحضر «كلوت» إلى مصر في نفس السنة (١٢٤١ / ١٨٢٥)، وعين «جراح باشي» الجيش المصري.

غير أنه لم يلبث أن أخلص لعمله الجديد، ووهبه كلَّ وقته وتفكيره، فأنشأ المستشفيات العسكرية، ومصلحة الصحة البحرية، وفي سنة ١٢٤٢ / ١٨٢٧ أُنشئت مدرسة الطب المصرية تنفيذًا لرغبته، وجُعل مقرُّها في أبي زعبل لتكون قريبةً من معسكرات الجند.

وتخيَّر الدكتور «كلوت» نخبةً من أطباء أوروبا وعلمائها الممتازين ليكونوا أساتذةَ المدرسة الجديدة، غير أن الطريق لم يكن ممهَّدًا أمامه كما سبق أن ذكرنا؛ فقد اعترضتْه صعوباتٌ جمَّة كان أهمُّها جهلَ الأساتذة باللغة العربية، وجهلَ التلاميذ باللغات الأجنبية عامة، ولكنه بذل جهودًا جبارة للتغلب على هذه العقبة، بدأتْ بأن يُترجِم المترجمون عن الأساتذة ما يقولون، وانتهتْ بترجمة الدروس التي تُلقَى والمراجع الطبية المختلفة وطبعها في مطبعة بولاق ثم توزيعها على تلاميذ المدرسة.

وقد شارك «كلوت» مشاركة فعَّالة قوية في حركة التأليف والترجمة التي قامت بها مدرسة الطب، وكان أكبر عدد من الكتب الطبية التي تُرجمت في عصر محمد علي من وضْعِه وتأليفه وهذه هي:

(١) العجالة الطبية فيما لا بد منه لحكماء الجهادية ترجمة أوغسطين سكاكيني وطُبع في مطبعة مدرسة الطب بأبي زعبل في ٢٣ صفر سنة ١٢٤٨ / ٢٢ يوليو سنة ١٨٣٢
(٢) رسالة في الطاعون ؟ بولاق ١٢٥٠ / ١٨٣٤
(٣) رسالة في علاج الطاعون ؟ مطبعة الجهادية ١٢٤٠ / ١٨٣٤
(٤) رسالة فيما يجب اتخاذُه لمنع الحرب والداء الإفرنجي عن عساكر الجهادية ونسائهم ؟ مطبعة ديوان الجهادية ١٢٥١ / ١٨٣٥
(٥) مبلغ البراح في علم الجراح ترجمة يوحنا عنحوري بولاق ١٢٥١ / ١٨٣٥
(٦) نبذة في تطعيم الجدري ترجمة أحمد حسن الرشيدي بولاق ١٢٥٢ / ١٨٣٦
(٧) نبذة في الفلسفة الطبيعية الدكتور إبراهيم النبراوي بولاق ١٢٥٣ / ١٨٣٧
(٨) نبذة في التشريح العام
(٩) نبذة في التشريح المرضي
(١٠) رسالة في مرض الحمَّى ؟ بولاق ١٢٥٩ / ١٨٤٣
(١١) كنوز الصحة ويواقيت المنحة ترجمة الدكتور محمد الشافعي بولاق ١٢٦٠ / ١٨٤٤
(١٢) الدرر الغوال في معالجة أمراض الأطفال ترجمة الدكتور محمد الشافعي بولاق ١٢٦٠ / ١٨٤٤
وهذه إما كتبٌ تُرجمت لتُدرَّس في مدرسة الطب؛ «كمبلغ البراح في علم الجراح»، و«العجالة الطبية فيما لا بد منه لحكماء الجهادية»٢٥ والنُّبَذ الثلاث في الفلسفة الطبيعية والتشريح العام والتشريح الطبي، وقد طُبعت هذه النُّبَذ جميعًا في كتيب واحد يقع في ٧٦ صفحة، وليس في أوله أيُّ مقدمة أو تقريظ كما جرت العادة في الكتب المترجمة في ذلك العصر، إنما جاء في الصفحة الأخيرة ما يلي: «هذا آخرُ ما جمَعه ميراللوا كلوت بك في هذا المختصر من نُبذة في الفلسفة الطبيعية ونُبذة في التشريح المرضي لتعليم تلامذة الطب، وقد ترجمه عن الفرنسية إلى العربية إبراهيم أفندي النبراوي حكيمُ أول ابن عرب (يقصد مصري) بإملائه للشيخ محمد محرم أحد المصححين قبل الطبع، ومعه على يد مغفور المساوي محمد الهراوي.»٢٦
وإما رسائل وضعها كلوت بك لخدمة الحالة الصحية في مصر إثر انتشار الأمراض والأوبئة بها؛ كرسالته عن الطاعون، ورسالته عن علاج الطاعون، فإنهما صدرتَا سنة ١٢٥٠ / ١٨٣٤، وهي السنة التي انشر فيها مرضُ الطاعون٢٧ في مصر انتشارًا مخيفًا، فبذل كلوت بك جهدًا كبيرًا لمحاربة هذا المرض والقضاء عليه، فقدر له محمد علي هذه الجهود خيرَ تقدير، وأنعم عليه بهذه المناسبة برتبة «أمير لواء»، ورسالته «في علاج الطاعون» تقع في عشر صفحات، وطُبعت بمطبعة ديوان الجهادية في آخر ذي الحجة سنة ١٢٥٠ / ٢٨ أبريل سنة ١٨٣٥، وقد اطلع عليها «أرباب المشورة الطبية» وأقروها قبل طبعها، وجاء في مقدمتها «حمدًا لله وقاية من الأسواء … هذا تنبيه فيما يختص بالطاعون، وذلك قبل أخْذِه في الظهور، يُبيِّن للأطباء ورؤساء المارستانات طريقةً تُرشدهم إلى الاحتراسات اللازمة للتوقِّي من هذا المرض، وسعيه وانتشاره، ويذكر لهم العلامات الدالة عليه ثم الوسائط التي يمكن بها مقاومته»،٢٨ وهذا التنبيهُ يحتوي على مقدمة وثلاثة مقاصد: المقدمة في قوانين الكورنتينا، والمقصد الأول في تدابير المرض الصحية، والثاني في علاماته، والثالث في معالجته.
كذلك بذَل كلوت بك جهدًا عظيمًا لمحاربة مرض الجدري الذي كان يقضي في مصر على حياة نحو ستين ألفًا من الأطفال كل عام؛ فأشار على الحكومة باستعمال التطعيم ضدَّ هذا المرض، وواضحٌ أن رسالته عن تطعيم الجدري التي ترجمها أحمد حسن الرشيدي كُتبت وتُرجمت لتحقيق هذا الغرض، أما رسالته «فيما يجب اتخاذُه لمنْع الجرب والداء الإفرنجي عن عساكر الجهادية ونسائهم، فظاهرٌ أنه ألَّفها بحكم مركزه كمدير للإدارة الصحية للجيش المصري، وكبير أطبائه، أو كما كان يُسمَّى في كتب ذلك العصر «كشاف عموم الصحة بالديار المصرية».»٢٩

وقد صدرتْ هذه الرسالة عن «مشورة الصحة» إلى «حكماء الجهادية»، وهي صورة ترتيب وضعه كلوت بك باش حكماء الجهادية في الوسائط التي يستعملها الحكماء أولاد العرب لمنع الداءَين المذكورَين من عساكر الجهادية ونسائهم، وجاء في أولها: «قد بلغ أهل مشورة الصحة أن كثيرًا من العساكر إذ لم يبادروا بإيقافهما (أي المرضَين) بالوسائط القوية لمنعهما عن التقدم والانتشار فاقتضى رأيُ أرباب المشورة المذكورة أن يأمروك [والكلام هنا موجَّه لكل طبيب من أطباء الجهادية] بهذه الأوامر …»

وهذه الرسالة تقع في ثماني صفحات وطُبعت بخط دقيق في حجم صغير ليمكن حملُها في الجيب والرجوعُ إلى ما فيها من تعليمات.

أما رسالتُه في «مرضى الحمى» فهي صغيرة الحجم أيضًا، وتقع في ١٣ صفحة، وقد وجَّهها كلوت بك «إلى جميع ضباط الصحة أولاد العرب [يقصد المصريين] المقيمين في مصر، وفي غيرها من القرى، والأوردي المنصور»، وقد تكلَّم فيها عن أسباب الحمى وأعراضها، ومدتها، والحميات المتقطعة، وطرُقِ معالجتها، وتدبير النقه، ووسائط التحرز من الحمى … إلخ، ومما جاء فيها:

وهذ الحمى تتسلطنُ أيضًا في إقليم مصر كثيرًا والشام، وتكون في البلاد القريبة للبحر؛ كبلاد البحيرة ودمياط، ورشيد، وخصوصًا البلاد التي على شواطئ البحيرات؛ كالبرلس والمنزلة، وزيادة تسلطنها يكون بعد فيضان النيل لوجود المياه الراكدة المتخلفة من النيل في البِرَك، وتنتشر كثيرًا في هذا الإقليم إذا كان النيل زائدًا لكثرة ما يوجد في الأماكن من الرسوب الذي يتخلَّف من الماء، ومعالجة هذا المرض في الإقليم المصري لا يختلف عن معالجة هذا المرض في الشام، وقد ذكرناها لكم فلا يلزم إعادتُها والله الشافي.

وجاء في ختام الرسالة هذا التنبيه:

فعليكم أيها التلامذة العِزاز أن تهتمُّوا في مثل هذه العوارض، وتبذلوا جهدَكم في التمسك بما ذكرناه لكم من المعالجة الشافية والاحتراسات الصحية كي تصونوا أنفسكم، والعساكر التي أنتم موكلون بحفظ صحتها (كذا) عن بوائق (كذا) الأمراض، والتوسيخ في الأعراض.

وهناك كتابان أخيران من كتب «كلوت بك» يستحقان الالتفات والعناية والدراسة الخاصة هما: «كنوز الصحة ويواقيت المنحة»، و«الدور الغوال في معالجة أمراض الأطفال».

أما الكتاب الأول فقد أُلِّف وتُرجم لغرض نبيل هو تعليم الشعب المبادئ والتعاليم الصحية ونشْرها بين أفراده بأسلوب سهل قريب إلى فهْم العامة، وقد وُضع هذا الكتاب وتُرجم لتحقيق هذا الغرض بإشارة ولي الأمر والنعم محمد علي باشا؛ فهو في الواقع نفحة من نفحات تفكيره الفذ، وحسن رعايته لشعبه وحبه لخدمته، جاء في مقدمة هذا الكتاب لكلوت بك: «اعلم أن الطب قد فُقد من الديار المصرية بعد وجدانه، وادَّعى معرفتَه أناسٌ به جاهلون فظلُّوا في طغيانهم يعمهون، فكم أسقموا صحيحًا؟ وأماتوا عليلًا، ومكثوا على ذلك زمنًا طويلًا، حتى أراد الله إحياءَ عظمة الرميم، وانتشار فضله العظيم، بولاية صاحب السعادات، أفندينا الحاج محمد علي، أدام الله أمثاله، فأنشأ في مصر جملةَ مدارس، وأحيا من العلم كلَّ رسم دارس، وكان من أعظمها مدرسةُ الطب الإنساني التي أسَّسها حين تشرَّفتُ بخدمته، وعلَّمتُ فيها جملة أطباء لخدمة عساكره، وأرباب دولته، وألَّف معلموها في الطب وفنونه كتبًا جليلة، وانتفع بها مطالعوها انتفاعات جميلة، ولكن حيث إن مسائلها العلمية عثرةُ المنال على غير الأطبا، لا يفهمها إلا المهرةُ الألبا، جمعتُ هذا الكتاب من مشاهير الكتب الطبية، وتساهلتُ في ألفاظه ما أمكن ليستفيدَ منه أهلُ اللغة العامية، وطالما كان كلام صاحب السعادة يومئ إلى ذلك ويشير، ويرمز بطرف خفي فهمه عسير، فلما تكرَّر منه ذلك فهمت الإشارة، وبادرت بتحريره … إلخ.»٣٠
وجاء في مقدمة هذا الكتابِ أيضًا لمحرِّر الكتاب ومصحِّحه الشيخ محمد عمر التونسي ما يلي:
… وبعد فيقول راجي رحمة المنان، محمد التونسي بن سليمان، محرر كتب الطب البشري الآن: لما كانت صحةُ الأبدان، من أجلِّ ما أنعم به الجوادُ على العباد، وبدونها تتعطل الأسباب، وعبادة العباد ويبقى الجسمُ عليلًا نحيلًا، ويحقُّ لفاقدها أن يُكثر بكاءً وعويلًا؛ إذ لولاها لما اصطدمت الجحافل،٣١ ولا قُرئت العلوم في المحافل، كان الواجب مراعاتها بقدر الإمكان … ومَرامُ صاحب السعادة أن يكونوا (أي المصريين) بصحَّتهم متمتعين، ولجلباب العافية لابسين؛ فلذا أُحيِّي الطب بعد اندراسه، واضمحلال أهله وناسه بجلب كلِّ طبيب نطاسي وحاذق في الطب آسي، وكان أجَلُّ مَن حضر لخدمة سدته الشريفة، وأريكته المنيفة، أبقراط زمانه، وأفلاطون أقرانه، أمهر مَن قال أنا طبيب، مَن يكاد الداء إذا رآه بدون معالجة يطيب، حضرة رئيس الأطباء وكشاف عموم الصحة البرية والبحرية أمير اللواء كلوت بك؛ فبذل المجهود في خدمة سعادته بتعليم التلامذة ومداواة المرضى وعمارة المارستان، وألَّف هذا الكتاب خدمةً لصاحب السعادة، والعزة والسيادة، وجعله هدية للعوام ومنحة؛ لأنه جامعٌ لما يحتاج إليه من الوسائط لحفظ الصحة، ولمَّا برَز للعيان وسلَّمه أمير اللواء المذكور إلى حضرة الألمعي اللوذعي الحاذق النجيب، والماهر الحكيم الكيماوي الطبيب، العارف بكثير من اللغات، المنتخب لأكثر ألفاظ الطب من كلام الثقات، ناظر مدرسة الطب الإنساني، الذي لا يوجد في مصرنا له ثاني، المعلِّم برون، لتمكنه من العربية والفنون الأدبية، وأمره بتهذيبه وتنقيحه، كما أمرني بمقابلته معه وتصحيحه، وأن أجتنب فيه التعمُّقَ في الألفاظ اللغوية، ولا أذكر فيه إلا ما اشتهر من الألفاظ وإن كانت عامية، ليعمَّ نفعُه العالِمَ والجاهل، والمفضول والفاضل … إلخ.٣٢

والكتاب يقع في نحو ٤٠٠ صفحة، وذُكر في أوله فصل موجز في ١٦ صفحة عن المارستانات في مصر في العصر الإسلامي منقول عن خطط المقريزي، كما استغرق فهرس الكتاب ٢٨ صفحة أخرى.

وقد طبع من هذا الكتاب ١٠٠٠ نسخة في الطبعة الأولى، ويبدو أن الإقبال كان عليها شديدًا، وأنها نفدت في مدى خمس سنوات؛ فقد طُبع هذا الكتاب مرة ثانية في بولاق سنة ١٢٦٥، وهي ثاني سنة تولَّى فيها عباس الأول حكْمَ مصر، ثم طُبعت منه خمسمائة نسخة طبعة ثالثة في بولاق سنة ١٢٧١ في عهد سعيد باشا، وجاء في مقدمة هذه الطبعة مما يدلُّ على رواج هذا الكتاب، وكثرةِ إقبال الناس على شرائه واقتنائه ما يلي:
… هذا ولمَّا تمَّ طبْعُ هذا الكتاب، وظهر للناظرين ما فيه من الصواب، وأنه سهلُ المأخذ للفوائد الطبية، عَرِيٌّ‎ عن التعمية الصناعية، موشَّح بالأحاديث النبوية، متوَّج بالآيات القرآنية، تنافس الناس في اقتنائه، ورغب العقلاء في اشترائه، فمدُّوا إليه أعناق الانتهاب، وجعلوا قنيتَه من أقوى الأسباب، وجاءوه من الشرق والغرب، وضربوا في الأرض بسببه أيَّ ضرب، فكأن ما حواه هو العجب، وكأن أساليبه ليس لها ضريبٌ في الضرب، فنعَق على صرْح نُسَخه غرابُ البين، فبذل الراغبون فيه العين، حتى صار أثرًا بعد عين، ثم كثر السؤال عليه، وطلبوه من كل أوب وجاءوا إليه، فأكثرهم أخفق مسعاه، ورجع بخفَّي حنين إلى مأواه، وبعضهم ظفر ببعض نسخ أخرجها الإفلاس، فاشتروه بضِعف ما كانت تأخذه به الناس، ثم فقد شخصه وتعذر إليه الوصول، حتى كأنه العنقاء أو الغول، ومكث الأمر على ذلك مدة من السنين، ولم تزل الناس على طلبه مُلحِّين، فصدر الأمرُ بأن يُطبع منه خمسين …٣٣
ثم طُبع طبعة رابعة في عصر إسماعيل في بولاق سنة ١٢٩٦، وقال مصحِّحُه محمد بن قاسم في مقدمة هذه الطبعة: «وبعدُ، تمَّ بعون سيد كل منحة طبْعُ هذا الكتاب الموسوم بكنوز الصحة بعدما طُبع مرات كثيرة، لمنافعه الجمَّة العامرة الغزيرة … إلخ.»٣٣

ويدل على انتشار هذا الكتاب بين عامة القراء من الناطقين بالضاد في مصر وخارج مصر أنه طُبع طبعات أهلية مختلفة؛ فطبع في مطبعة شرف سنة ١٣٠٢، وفي مطبعة عثمان عبد الرازق سنة ١٣٠٤، وذلك في عهد الخديو توفيق باشا، وفي المطبعة اليمنية سنة ١٣٢١ في عهد الخديو عباس حلمي الثاني، أي أنه ظلَّ يتداول بين أيدي المصريين وينتفع به القراء من العامة ثلاثة أرباع القرن.

وأما الكتاب الثاني وهو «الدرر الغوال في معالجة أمراض الأطفال»؛ فقد أُلِّف وتُرجم أيضًا تنفيذًا لرغبة محمد علي النبيلة؛ فإنه كما قال «كلوت بك» في مقدمته للكتاب: «لما كان وليُّ النعم مهتمًّا بعلاج الرعايا، راغبًا في كثرة سوادهم وسلامتهم من الأمراض والبلايا، وتحقَّق لدى سعادته أن الأطفال في الديار المصرية معرَّضون لجملة أمراض، ويهلك بها أكثرهم حينما تشتدُّ به الأعراض، وذلك من أقوى عدم كثرة السواد، وخلاف ما هو واقع في غيرها من البلاد، نعم وإن كان نفس الإقليم لا يناسب سِنَّ الطفولية، لكن عدم اعتقاد الأهالي في الطب هو أكبر بلية، ولا سيما والأمهات والمراضع لا يراعين نظافة الأطفال، ولا يلتفتْنَ لما يليق من العلاج وإن ساء الحال، أمرني أيَّده الله أن أجمع كتابًا مختصرًا فيما ينفع الأطفال المذكورة، فجمعتُ هذا الكتاب امتثالًا لأوامره النافذة المنصورة، ورتَّبتُه على ثلاثة أقسام: الأول في قانون صحة الأطفال؛ أعني ما ينبغي أن يُفعل ليدرأ عنهم الأمراض الثقال، والثاني في أمراضها وعلاجها، والثالث في تراكيب الأدوية التي يجب استعمالُها، ولم أضع فيه إلا ما انتخبتُه من أحسن الكتب المؤلفة أو ما تحققتُ نفعَه بالتجربة والمنفعة … إلخ.»

وقال أيضًا الشيخ محمد عمر التونسي محرِّر هذا الكتاب ومصحِّحه: «لما كان العلم أفضلَ مقتنى، وأعظم شيء به اللبيب اعتنى، وكان الواجب على العاقل التحلي بلطايفه ليخرج بها من الظلمات إلى النور … وكان من أهمه بعد معرفة ما يجب به الإيمانُ، علمُ الطب الذي ستنار بدر في هذا الزمان بمراحم صاحب السعادة الداورية، والسيادة الخديوية صاحب الهمم السنية، أفندينا الحاج محمد علي، فأحيا الفضائل بعد اندراس رسمها، وكان أجَل أطباء حضرته، ومفتش عموم صحة أرباب دولته، وأهل إيالته، وخادم أريكته الشريفة وحضرته، أمير اللوا كلوت بك، فألَّف خدمةً لسعادته جملة تآليف وضع فيها كلَّ قول مشهور لطيف، لكن لما كان البيك المذكور يعلم شفقة سعادته على رعاياه، وأن نجاتهم من الأمراض غايةُ ما يتمنَّاه، ألَّف مختصرًا جليلًا، فائقًا جميلًا فيما يصلح للأهالي، لينفع به المقدم والتالي، وسمَّاه «كنوز الصحة، ويواقيت المنحة»، وعرضه على أعتابه الكريمة، وذاته الشفوقة الرحيمة، فوقع من سعادته موقعَ القبول وبلغ البيك المذكور من رضاه القصد والمأمول.»

لكن لما كانت مصر مدينةً وخيمة، وأن ما يُولد بها من الأطفال يصاب بأمراض ذميمة، أمره أيَّده الله أن ينتخب مختصرًا يجمع فيه ما يصلح للأطفال من العلاج، وما يُذهب عنهم السقمَ الذي طغى عليهم وهاج، لكمال شفقته على الصغير والكبير، فشمر كلوت بك المذكور عن ساعِدَيه، وجمع هذا المختصر ووشَّحه بجميع ما يحتاج في مرض الأطفال إليه، وسلَّمه للشاب الأمجد الحكيم الأول، محمد شافعي أفندي، فترجمه من اللغة الفرنساوية إلى العربية، واجتهد في الوقوع على المعنى فلم يُخطئ سهمُه الرمية، فجاء كتابًا صغيرَ الحجم كبيرَ العلم، وسميتُه «الدرر الغوال في معالجة أمراض الأطفال … إلخ».٣٤
وقد طُبع هذا الكتاب في بولاق في ربيع الثاني سنة ١٢٦٠ في ١٣٢ صفحة من القطع الصغير، وإتمامًا للفائدة رأى محمد علي أن يُترجم هذان الكتابان إلى اللغة التركية، فترجمهما عن اللغة العربية مصطفى أفندي الشركسي، وطُبع الأول في بولاق سنة ١٢٦١ تحت عنوان «ترجمة كنوز الصحة»، وطُبع الثاني في نفس المطبعة سنة ١٢٦٠ تحت عنوان «ترجمة تربية الأطفال».٣٥

(٢) الدكتور «برون» Dr. Perron

تخيَّر الدكتور كلوت كما ذكرنا نخبةً من أطباء أوروبا وعلمائها الممتازين ليكونوا أساتذة المدرسة الطبية الجديدة، وكان من بينهم «الأستاذ برون الكيماوي المعروف من مدرسة باريس»٣٦ لتدريس مادتَي الكيمياء والطبيعة.

وكانت الصعوبة الكبرى التي اعترضت سبيل كلوت بك كما سبق أن ذكرنا هي جهل الأساتذة باللغة العربية وجهل التلاميذ باللغات الأوروبية عامة، وقد عرفنا كيف تغلَّب على هذه الصعوبة باستخدام مترجمين للنقل عن الأساتذة ولترجمة الكتب.

غير أن أستاذًا واحدًا استطاع — كما يبدو — أن يُذلِّل هذه العقبة وحدَه؛ فاستعان ببعض الألفاظ العربية — ولا شك — عند شرح دروسه، ثم استعان أول الأمر بأحد مترجمي المدرسة من السوريين — وهو يوحنا عنحوري — ليُترجم له محاضراتِه في علم الطبيعة بعد سنوات قضاها في الدرس والبحث والاتصال ببعض المحررين والمصححين من شيوخ الأزهر، والتتلمذ عليهم استطاع أن يُترجم بنفسه محاضراتِه في الكيمياء.

ذلك الأستاذ المستشرق هو الطبيب الكيماوي الدكتور «برون»، وهو الوحيد من بين جميع الأساتذة الأجانب في مدارس محمد علي المختلفة الذي كان يعرف اللغة العربية ويُعنى بالبحث في كتُبها، والترجمة عنها وإليها.

كان «برون» عالمًا بحَّاثة بكل ما تحمل هاتان الكلمتان من معنًى؛ فلم يكتفِ بعمله التعليمي الوظيفي فيُغمض عينَيه عن الحياة التي تُحيط به، وهي حياة جديدة في بلد غريب، وبين أناس يختلفون عن عشيرته من الفرنسيِّين الاختلافَ كلَّه في الدين والأخلاق والعادات والملابس والثقافة … إلخ … إلخ، ولكنه وهب وقتَه كلَّه للبحث العلمي ولنوع خاص من البحث العلمي هو الحياة الثقافية قديمًا وحديثًا في الشرق عامة وفي مصر خاصة، فشارك في حركة الترجمة والنشر التي نشطت وقتذاك في مصر، وكانت له جهودٌ جليلة في الترجمة عن العربية إلى الفرنسية، وعن الفرنسية إلى العربية، وكانت له نظراتٌ ناقدة نافذة — رغم مرارتها — إلى صميم الحياتَين الثقافية والسياسية في مصر حينذاك، ولهذه النظراتِ قيمةٌ عظيمة جدًّا؛ لأنها صادرةٌ عن أجنبي يُدرك العيب الذي لا يُدركه صاحبُ البيت، وعن عالم يستطيع التحليل والمقارنة، ويُجيد الشرح والوصف، وإدراك الأسباب والمسببات.

وقد سجَّل «برون» هذه الملاحظاتِ في خطاباته التي كان يُرسلها أثناء مقامه في مصر إلى صديقه المستشرق الشهير Jules Mohl ناموس الجمعية الآسيوية وعضو المجمع الفرنسي L’Institut de France في باريس، وقد نشر J. Mohl بعضَ هذه الخطابات في الجريدة الآسيوية Journal Asiatique وبقيَ البعض الآخر دون أن ينشر حتى انتقل إلى ابن أخيه مسيو «أُ. دي مول O. de Mohl» بصفته الوريث لعمِّه.
وفي سنة ١٩٠٨، كان أُ. دي مول وزيرًا مفوَّضًا ووكيلًا لألمانيا في صندوق الدَّين العام بالقاهرة، فعثر بين أوراق عمِّه على أربع عشرة رسالة بخط الدكتور «برون» مرسلة من مصر إلى «جول مول» في باريس، فقدَّمها لصديقه المرحوم يعقوب أرتين باشا وكيل وزارة المعارف وقتذاك، وعضو المجمع المصري l’Institut Egyptien؛ علَّه يجد بها ما يهمُّ مصر أو المجمع المصري، وذلك قبل إرسالها إلى باريس لتُضمَّ إلى أوراق جول مول المحفوظة بالمجمع الفرنسي.

وقد نشر أرتين باشا هذه الخطاباتِ، ومعها مقدمةٌ تحليلية سنة ١٩١١ تحت هذا العنوان:

Yacoub Artin Pacha. Lettres du Dr. Perron, du Caire et d’ Alexandrie, à M. Jules Mohl, à Paris (1838–1854) Le Caire 1911.

وفي هذه الخطابات صورٌ من نشاط «برون» العلمي في الترجمة والنشر.

ودكتور «برون» فرنسيُّ الأصل، ولا نعرف شيئًا كثيرًا عن حياته الأولى في فرنسا قبل أن يحضر إلى مصر، غير أنه يبدو أنه عُنيَ وهو في باريس — إلى جانب دراساته الطبية العلمية — بدراسة اللغة العربية، وتتلمذ إذ ذاك على كبير مستشرقي فرنسا «سلفستر دي ساسي A. Silvestre de Sacy» كما تتلمذ على المستشرقين «جان جاك كوزين دي برسيفال» الأب، و«أرمان كوزين دي برسيفال» الابن.٣٧

ولسنا نعرف بالتحديد تاريخ مقدمِه إلى مصر، وإن كان «كلوت بك» يذكره ضمن الأساتذة الأُوَل لمدرسة الطب المصرية بأبي زعبل، فإذا صح أنه بدأ عمله بهذه المدرسة وقتَ إنشائها، فإنه يكون قد حضَر إلى مصر سنة ١٨٢٧ / ١٢٤٢-١٢٤٣ أو قبلهما بقليل.

وظلَّ «برون» يُدرِّس مادتَي الطبيعة والكيمياء في مدرسة الطب حتى بعد نقلها إلى قصر العيني.

ويبدو من رسائله إلى صديقه «مول» أنه كان فقيرًا رقيقَ الحال؛ فقد كتب إليه في خطابه المرسل من الإسكندرية بتاريخ ١٠ أغسطس سنة ١٨٣٦ يقول: «أشِرْ عليَّ بما ترى أنه خيرٌ وأفضل لي أن أعملَه لأنني فقيرٌ لا أملك إلا مِدادي …»٣٨ وقال في خطاب آخر أرسله لصديقه من القاهرة في ١٨ سبتمبر سنة ١٨٣٩: «وأما أنا فقد عُهد إليَّ بإدارة مدرسة الطب، وهذا المنصب الجديد قد عاد عليَّ بشيء من التحسين المادي — أعني المالي — غير أن كل شيء هنا وقتيٌّ ورهين بتقلُّب الأحداث والأشخاص لدرجة أنني لو كنت أعرف أنني سأجد في فرنسا — في الحال — نصفَ ما أجمعه هنا لرحلتُ إليها توًّا …»٣٩
ونجده في نفس الخطاب قلِقًا جدًّا لاهتمامه بطبع كتاب «الأنساب» الذي ترجمه عن العربية إلى الفرنسية، وكان قد كلَّف صديقًا له في باريس اسمه «مسيو دوبرات M. Duprat» أن يقوم عنه بنشره، يقول «برون» في خطابه لمول — وفيما يقول دليلٌ واضح على رقَّة حاله: «لقد تركتُ له مسألة النفقات وتقديرها، وإني أرى أن كل شيء غير مناسب الآن للقيام بهذا النشر الذي أريده (وأريده أن يتمَّ بأقل نفقات ممكنة، وذلك دون إهمال ما يتطلبه ظهورُ الكتاب)؛ إذ إنه قلما تُصرَف لنا مرتباتنا، والحكومة مدينةٌ لنا بمرتب سنة؛ فإذا كان مسيو دوبرات يثقُ فيَّ الثقةَ الكافية، فإني أرجو أن يتولَّى الطبعَ في الحال، واعدًا إياه أن أقومَ بسداد المبلغ منجَّمًا كلما صرفتْ لنا الحكومة … وإلى هذا فإن مرتبي قد زاد؛ فقد كنتُ أتقاضى ثلاثة أكياس فجعلها الباشا خمسة …»٤٠
ظلَّ الدكتور كلوت بك مديرًا لمدرسة الطب المصرية حتى سنة ١٨٣٤ حيث تخلَّى عن منصبه للدكتور «دفينو» Dr. Duvigneau، وكان أستاذ الباثولوجيا والعيادة الداخلية، وفي سنة ١٨٣٩٤١ عُيِّن الدكتور «برون» مديرًا لهذه المدرسة.
ولبث «برون» مديرًا لمدرسة الطب ست سنوات، وفي سنة ١٢٦١ / ١٨٤٥ أنعم عليه محمد علي باشا برتبة قائمقام، وفي السنة التالية (١٨٤٦)٤٢ استقال من منصبه، وعاد إلى فرنسا، فأقام في باريس ثماني سنوات، ثم شعر بالحنين إلى مصر فعاد إليها في أواخر سنة ١٨٥٣، حيث عمل كطبيب حرٍّ في مدينة الإسكندرية،٤٣ ولا نعرف متى غادر مصر ثانية إلى وطنه، ولكننا نعلم أنه مات في باريس في ١١ يناير سنة ١٨٧٦ في نفس السنة التي تُوفي فيها صديقُه ومراسلُه العلامة ج. دي مول.
وقد كتب المسيو «أرنست رينان M. Ernest Renan» مرثيةً للرجلين في التقرير المقدَّم عن أعمال الجمعية الآسيوية لسنتَي ١٨٧٥-١٨٧٦.٤٤

قال رينان في رثائه للدكتور «برون»: «في الحادي عشر من يناير اختفى أيضًا رجلٌ ترك في تاريخ دراستنا تذكارًا باقيًا، وأعني به الدكتور «برون» وهو واحد من أوائل الملتحقين بهذه الفرقة من الرجال المستنيرين المقاديم الذين عضدوا — وهم في مصر — مشاريع محمد علي لتحضير هذا البلد.»

«وبرون لم يدرُس الشرق كباحث فقط، وإنما كان يؤمن — ككل أفراد الجيل الذي كان من أبنائه — بالشرق، كما كان يأمل في انبعاثه من جديد، وقد عمِل هناك في إخلاص نادر.

وكان إنشاءُ طبٍّ عربي فرنسي جزءًا من عمله، وقد أدى خدمات من نفس النوع لمنشآت مدارسنا في الجزائر، وكان يحب العرب، ويعتقد في إمكان ربطهم بالحضارة الأوروبية، ممتلئًا في ذلك بعواطف خيرية، ومتشبِّعًا بمبادئ فلسفة عاطفية …»٤٥

ذكرنا فيما سبق أن «برون» كان يُضمِّن خطاباتِه آراءَه عن الحياتَين السياسية والعلمية في مصر. وآراؤه عن الحياة السياسية لا تعنينا هنا، وإنما يعنينا أن نعرض لآرائه عن الحياة العلمية ففيها مساسٌ قوي بتاريخ الترجمة في ذلك العصر.

كان محمد علي قد أرسل البعوث إلى أوروبا، وأنشأ المدارس الحديثة في مصر، وكانت جهودُ خريجي المدارس والبعثات مركزةً أول الأمر في ترجمة المؤلفات الأوروبية، وتلا هذه الجهودَ جهودٌ أخرى لنشْر بعض المؤلفات العربية القديمة الهامة، وقد أرَّخ «برون» لهذه الحركة — حركة الترجمة والنشر — تأريخًا لطيفًا مفيدًا؛ فأرسل لصديقه «ج. مول» في سنة ١٨٤٢ خطابًا تحدَّث فيه عن المدارس الجديدة ومطبعة بولاق، فنشره في الجريدة الآسيوية — المجموعة الرابعة، المجلد الثاني سنة ١٨٤٣ — تحت عنوان: Lettre sur les écoles et l’imprimerie du Pacha d’Egypte par m.a. Perron à m.j. Mohl. 22 Octobre 1842.٤٦
وقد استطاع «برون» أن يندمجَ في الوسط العلمي المصري بحكم اشتغاله بالتدريس، وبحكم معرفته باللغة العربية، غيرَ أن معظم الأجانب الموجودين في مصر وقتذاك للمساهمة في نهضة محمد علي التعليمية والإصلاحية كانوا يجهلون اللغة العربية، وهم قوم مثقفون يُحبون البحث والقراءة، وليس في مصر مكتباتٌ إفرنجية أو محالُّ لبيع الكتب الأجنبية؛ لهذا كوَّن هؤلاء الأجانب في القاهرة جمعيةً أسمَوها «الجمعية المصرية Societé Egyptienne»٤٧ تحدَّث عنها «برون كثيرًا في خطاباته لصديقه «مول»، فذكر أنها أُسِّست في سنة ١٨٣٥ وكان غرضُها الأول إنشاءَ مكتبة تضمُّ أكثر عدد ممكن من الكتب، وخاصة ما يتحدث منها عن الشرق: تاريخه وجغرافيته، وأديانه، وعاداته … إلخ … إلخ.»
وكانت مالية الجمعية تتكوَّن من:
  • (١)

    اشتراكات الأعضاء، واشتراك العضو في السنة مائة وخمسة قروش.

  • (٢)

    هبات الرحالة الأوروبيين الذين يمرون بالقاهرة؛ فإن أي سائح أوروبي كان يستطيع أن يتردَّد على الجمعية ويتمتَّع بالقراءة في مكتبتها على شرط أن يُقدِّمَه للجمعية أيُّ عضو من أعضائها.

وكان هؤلاء السائحون يُقدِّرون ما تُؤدِّيه الجمعية من فوائد ثقافية للجاليات الأوروبية في القاهرة؛ فكانوا يتركون — عند رحيلهم — بعضَ الجنيهات — كهِبة — في صندوق الجمعية.

وقد تطوَّرت أغراضُ الجمعية بعد نحو ست أو سبع سنوات من تأسيسها، فأصبح من أغراضها طبْعُ ونشْرُ الكتب المتصلة بالشرق. يقول «برون» عضو الجمعية وسكرتيرها في خطابه المرسل من القاهرة بتاريخ ٢٨ أكتوبر سنة ١٨٤٢: «وعندنا الآن — تحت الطبع — مذكراتٌ شيقة جدًّا عن الموقع الحقيقي لبحيرة قارون بالفيوم، وعن حدودها، والعلاقات القديمة بينها وبين فيضان النيل … إلخ، وهذا الكتاب من وضع «مسيو لبنان» الرئيس الحالي للجمعية المصرية …»٤٨

وواضحٌ من هذا الخطاب أن رئيس الجمعية في سنة ١٨٤٢ هو المهندس الفرنسي الشهير مسيو «لينان»، وكان سكرتيرها في تلك السنة وفي سنوات مقبلة هو الدكتور «برون»، وبفضل صلتِه بجولي مول وافقت الجمعيةُ الآسيوية على أن تقدِّم لزميلتها الجمعية المصرية المساعداتِ الممكنة لبيع كتبها ومنشوراتها في باريس، ويقول برون لصديقه في نفس الخطاب: «اطَّلعتِ الجمعيةُ على خطابكم الذي تعرضون فيه مساعدة الجمعية الآسيوية لتسهيل بيع الكتب التي سننشرها، وقد قُبِل عرضُكم هذا بكل سرور، وإني أُقدِّم لكم شكرَ الجميع … إلخ.»

وقد اعترضتْ هذه الجمعيةَ صعوباتٌ كثيرة؛ ففي عهدها الأول (ما بين ١٨٣٥ و١٨٤٢) قام نزاعٌ شخصي بين رئيس الجمعية دكتور فالن Dr. Walne وسكرتيرها العام دكتور أبوت Dr. Abbot،٤٩ وأدَّى هذا النزاع إلى انفصال بعضِ الأعضاء وتكوينهم جمعيةً جديدة، أسمَوها الجمعية الأدبية Association Littéraire، يقول برون في خطابه السابق: «وهذه الجمعية المنفصلة تضمُّ نحو الستين عضوًا، وقد دفعوا رسْمَ التأسيس، وتنوي هذه الجمعية أن تعمل على النشر وخاصة النصوص الهيروغليفية، وتحاول أيضًا إنشاءَ مكتبة».
أما الجمعية المصرية فقد انتهت حياتُها إلى الانحلال في عهدٍ متأخر، فضُمَّت مكتبتُها القيِّمة إلى المكتبة الخديوية (دار الكتب المصرية الآن) في سنة ١٨٧٣ أو سنة ١٨٧٤ تنفيذًا لوصية أعضائها الأخيرين حككيان بك Hekekian Bey ومسيو توربون M. Thurborn وكاني بك Cany Bey.
ولم يقتنع «برون» باتصاله بأنداده العلماء الأوروبيِّين المقيمين في مصر والوافدين عليها؛ لأنه كان معنيًّا بالبحث في الكتب العربية وترجمتِها والكتابة عن مواضيع مختلفة من تاريخ الشرق، وقد أتى إلى مصر وعربيَّتُه ضعيفةٌ دون شك، فعمِل على أن يزيد معرفتُه بهذه اللغة، ولم يلبثْ أن وصفَه صديقُه وأستاذُه الشيخ محمد عمر التونسي بأنه «العارف بكثير من اللغات، المنتخِب لأكثر ألفاظ الطب من كلام الثقات، «المتمكن» من العربية والفنون الأدبية.»٥٠

وكان في مدرسة الطب التي درَس فيها وتولَّى نظارتَها هيئاتٌ مختلفة تعمل مشتركة لترجمة الكتب الطبية إلى اللغة العربية، أهمُّها هيئةُ المترجمين وهيئةُ المحررين والمصححين، وأعضاء الهيئة الأخيرة كلهم من خيرة مشايخ الأزهر المعروف عنهم الدقة في البحث والشغَف بالقراءة، فكان منهم في مدرستَي الطب البشري والطب البيطري الشيخ محمد عمر التونسي، والشيخ نصر أبو الوفا الهوريني، والشيخ أحمد حسن الرشيدي، والشيخ محمد الهراوي، والشيخ سالم عوض القنياتي، والشيخ مصطفى كساب … إلخ.

وقد اتصل الدكتور برون بهؤلاء المشايخ وأفاد منهم، وقد كان له رأيٌ خاص عن علماء الأزهر في ذلك الوقت، فيه — رغم قسوته ومرارته — بعضُ الخطأ وبعض الصواب مما سنعرض له بالتحليل الوافي عند كلامنا عن المحررين والمصححين، وعند تقديرنا العام للترجمة في ذلك العصر، غير أن اثنين فقط من علماء مصر الذين اتصل بهم برون حازَا إعجابَه، وتتلمذ عليهما وأشار إليهما في خطاباته بالإعجاب والإجلال، واعترف لهما بالأستاذية؛ فقد أعاناه وساعداه في بحوثه وترجماته العلمية المختلفة، وهما: الشيخ محمد عياد الطنطاوي، والشيخ محمد عمر التونسي.

وقد عُنيَ «برون» كمؤلِّف بالمادتين اللتين كان يُدرِّسهما في مدرسة الطب، وهما الكيمياء والطبيعة؛ فوضع فيهما كتابَين كبيرَين تُرجمَا إلى اللغة العربية؛ أما الكتاب الأول فهو «الجواهر السنية في الأعمال الكيماوية»، ألَّفه «برون»، وألقاه على التلامذة أولًا بأول، فاستفادتْ منه في علم الكيمياء فوائدَ جمَّة، فلما نُقلت مدرسةُ الطب إلى قصر العيني، وعُيِّن «برون» ناظرًا لها، وكان إذ ذاك ضرب بعطن في اللغة العربية، وصار يفهم النكاتِ الأدبية، فبحث في القواميس على الألفاظ الطبية والكيماوية، وأسهر ليلَه في نفْع المدرسة بكل فكرة ورويَّة، فلمَّا وُوفِقَ على طبْع الكتاب قام هو بترجمته بنفسه، وأشرف على مراجعته الشيخُ محمد الهراوي، فراجع ثمانيًا وخمسين ملزمة، ثم تُوفي فأشرف على مراجعة بقية الكتاب أستاذُ «برون» وصديقُه الحميم الشيخُ محمد عمر التونسي، الذي يقول في مقدمة الكتاب: «على أن جُلَّ هذا الكتابِ كان أُمليَ عليَّ من قبل ذلك، وصحَّحتُ أكثرَه بلا مشارك، ولم آلُ جهدًا في تنقيحه والله المستعان، وساعدَني في ذلك معرفةُ مؤلفه باللغة العربية؛ لأني قابلتُ كلَّ مشكلة معه على أصوله الفرنسية …»٥١ وقد ساعده في هذه المراجعة تلميذُ «برون»، وخلفه في تدريس مادة الكيمياء بمدرسة الطب الشيخ درويش زيدان، والدكتور حسين غانم الرشيدي.

والكتاب ضخمٌ جدًّا؛ فإنه يقع في ٣ أجزاء، عدد صفحات الأول ٦٧٦، والثاني ٤٩٤، والثالث ٤٤٠، وألحق بالجزء الأخير ذيل في ١١٩ صفحة أخرى لشرح الآلات الواردة في الكتاب، جاء في مقدمته ما يلي: «… وبعد فلمَّا منَّ الله سبحانه وتعالى بإتمام كتاب الكيمياء للماهر في جميع الفنون، ناظر مدرسة الطب البشري الشهير برون، وكانت فيه أعمالٌ جمَّة تحتاج إلى آلات معرفتها مهمة، وكان لم يذكر في الكتاب إلا القليل مع أن عليها في الأعمال التعويل، وكان عدمُ ذكْر جميعها في صُلْب الكتاب مما يحصل به الإطناب، فقصَد أن يجمع جميعَ الأشكال ويجعلها كالذيل ليكون بها الإكمال، ولأجل أن تكون كلها مجموعة في ورقات قليلة لتسهُلَ مراجعتُها في المهمات الجليلة، فجمعَها في هذه الورقات، ووضَّحها أتمَّ توضيح كما هو المقصود للمراجعات، وأمرني أن أُرتِّبَها على حروف المعجم؛ لتكون في المراجعة أسهلَ وأقوم، فامتثلتُ أمرَه لما فيه من الفوائد … إلخ.»

ويسرُّنا أن نُشير هنا إلى أن «برون» وتلاميذَه مصححي الكتاب قد وُفِّقوا توفيقًا كبيرًا في ترجمة أسماء كثير من هذه الآلات؛ ففي هذا الملحق أسماءُ كثيرٍ من الآلات لا زالت تُستعمل حتى الآن في كتب الكيمياء الحديثة منذ وُفِّق هؤلاء الرواد في تخيُّرِها، ومنها مثلًا: الأنبوبة، الأنبيق، البودقة، الجفنة، جهاز تعيين الوزن النوعي للهواء والغازات، دورق ولف، المخبار، المرشح … إلخ.٥٢
وكان برون قد أعدَّ لكل جزء فهرسًا خاصًّا، ولكنه رأى بعد إتمام الكتاب أن يجعل له فهرسًا عامًّا اقتداءً بمؤلفي أوروبا، يقول الشيخ عمر التونسي: «أما بعد؛ فإن كتاب الكيمياء الآن وقد تمَّ، ومسك ختامه على المدارس قد عمَّ، وكان قد عمل لكل جزء منه فهرسة مستقلة، وحيث إن أهل أوروبا يجعلون لمثل هذا الكتاب النفيس فهرسةً جامعة أمرني مؤلفُه أن أتتبع الفهارس الثلاث، وأجعلها فهرسة عامة نافعة اقتداءً بأهل أوروبا في مؤلفاتهم، وأن أُرتِّب الفهرسةَ المذكورة على أوائل حروف المعجم لتكون لدى المراجعة أسهلَ وأحكم، فأجبتُه إلى ذلك حسب مَرامه … إلخ.»٥٣

وقد تمَّ طبْعُ الجزء الأول في بولاق في سنة ١٢٥٨، وتمَّ طبعُ الجزء الثالث في اليوم الخامس من شهر ربيع الأول سنة ١٢٦٠.

أما الكتابُ الثاني فقد سمَّاه برون «الأزهار البديعة في علم الطبيعة»، وقال في مقدمته: «إني لما استُخدمت بمدرسة الطب البشري معلِّمًا للكيمياء من مدة سنتين وقمتُ بما وجب عليَّ فيهما بما تقرُّ به العينُ، طلَب مني أن أضمَّ لتعليم علمِ الكيمياء علمَ الطبيعة فامتثلتُ الأمر واقتطفتُ من روضة كتُب هذا الفنِّ كلَّ زهرة بديعة، وجمعتُ هذا الكتاب من أحاسن الفنِّ المذكور …» ثم يقول: «ثم إني لفَهْمي بعض الألفاظ العربية تجنبتُ من الألفاظ الفرنساوية ما يعسر ترجمتُه إلى العربية، هذا وقد رتبتُ هذا الكتاب على جزأين، أولهما في العلوم الطبيعية وثانيهما في الكائنات الجوية …»٥٤
وقد ترجم هذا الكتاب يوحنا عنحوري، وأشرف على مراجعته وتحريره الشيخُ محمد الهواري، وطبع منه ألف نسخة في بولاق سنة ١٢٥٤، أي قبل أن يتمَّ طبْعُ الكتاب السابق بنحو ٦ سنوات، غير أن هذا الكتاب كان أولَ كتاب في علم الطبيعة تُرجم إلى اللغة العربية؛ فلهذا أقبل عليه تلاميذُ المدارس، «وانكبُّوا عليه ما بين مطالع ودارس، وهبَّت عليه من القبول نسمةُ صبا، فتناهبتْه الأقطارُ وبدَّدتْ نُسَخه أيادي سبأ، واحتيج إلى إحياء مَواتِه، ونشْر رُفاته»٥٥ فصدَر الأمرُ بطبعِه طبعةً ثانية في عهد عباس الأول، فطُبع في بولاق سنة ١٢٦٩.

والآن آنَ لنا أن نتركَ الحديث عن برون كمؤلف لنستأنفَ الحديثَ عنه كمترجم وعن جهوده في الترجمة في الفصول التالية.

١  ذكر Bowring. Op. Cit, p. 140 أن الكتب التي تُرجمت في مدرسة الطب المصرية منذ تأسيسها حتى سنة زيارته لمصر (١٨٣٧-١٨٣٨) كانت في الفنون الآتية:
(١) علم التشريح. (٢) علم التشريح المرضي. (٣) الفسيولوجيا. (٤) الطبيعة. (٥) الكيمياء. (٦) النبات. (٧) المادة الطبية. (٨) علم السموم. (٩) علم الصحة. (١٠) أمراض النساء والأطفال. (١١) رسائل في التشريح العام. (١٢) علاج الاختناق. (١٣) الجراحة العسكرية. (١٤) الأربطة الجراحية. (١٥) أمراض الجلد. (١٦) قوانين المستشفيات العسكرية.
٢  Dunne, Printing and Translations under m ed ali, etc. p. 328.
٣  Cattaui, .Le Regne de Med. Ali, .etc. pp. 387-88.
٤  نَشرتْ هذا الخبرَ جريدةُ التيمس، عدد ٤ يوليو سنة ١٨١٨، عمود ٤، انظر: Dunne, Op. Cit. p. 328 note 1.
٥  Douin, une mission militaire Française auprés de Med aly. p. 23.
٦  أمين سامي باشا، تقويم النيل، ج٢، ص٣٢٢.
٧  تقويم النيل ج٢، ص٣٢٣.
٨  المرجع السابق ص٣٣٠.
٩  المرجع السابق ص٣٤٧.
١٠  وثائق عابدين، دفتر رقم ٢٢ رسالة رقم ٢٠٢، وانظر أيضًا Dunne, Op. Cit. p. 329.
١١  وثائق عابدين، دفتر رقم ٢١ رسالة رقم ٢٢٠٤.
١٢  تقويم النيل، ج٢، ص٥٤٦.
١٣  Broechi, Giornale delle osservazioni fattenei viaggi in Egitto, etc. pp. 160-1.
١٤  تقويم النيل، ج٢، ص٤٤٨.
١٥  Bowring, Op. Cit. p. 135.
١٦  لمحة عامة إلى مصر، ج٢، ص٦٢٠-٦٢١.
١٧  انظر مثلًا: «قلائد المفاخر في غريب عوائد الأوائل والأواخر»، ترجمة رفاعة بك، بولاق سنة ١٢٤٩ ص٣، ٧، و«رسالة في علم البيطرية»، ترجمة يوسف فرعون، بولاق سنة ١٣٤٩، «والتحفة الفاخرة في هيئة الأعضاء الظاهرة» لنفس المترجم، بولاق سنة ١٢٥١، و«تحفة القلم في أمراض القدم»، ترجمة محمد عبد الفتاح، بولاق سنة ١٢٥٢، و«تاريخ الفلاسفة اليونانيين»، ترجمة السيد عبد الله أفندي، بولاق سنة ١٢٥١ … إلخ … إلخ.
١٨  انظر هذا الكتاب، ص١-٢، وهو تأليف «لافارج» أحد مدرِّسي مدرسة الطب، وترجمة يوسف فرعون، بولاق سنة ١٢٥٦.
١٩  انظر هذا الكتاب، ص٢، وهو من تأليف «جيرار»، وترجمة محمد عبد الفتاح، بولاق سنة ١٢٦٠.
٢٠  انظر هذا الكتاب ص٤-٥، وقد قام بترجمته «يوحنا عنحوري»، وصححه الشيخ محمد الهراوي، وطُبع في بولاق.
٢١  انظر ص٢-٣، وهذا الكتاب من تأليف «برنار» وترجمة فيدال، وتصحيح محمد الهراوي، طُبع في بولاق سنة ١٢٤٩.
٢٢  انظر ص٢-٣، وقد ترجم هذا الكتاب يوسف فرعون، وطُبع في بولاق سنة ١٢٥٦.
٢٣  ص٣.
٢٤  تاريخ كلوت بك، ترجمة محمد لبيب البتانوني، ص١٠، وعن ترجمة حياته بالتفصيل. انظر: المرجع السابق، ص٦–١٥، كلوت بك، لمحة عامة إلى مصر، ج٢، ص٥٩٣ وما بعدها، وعزت عبد الكريم، المرجع السابق، ص٣٣، ٨٥، ٩٠، ٩٣، ١٢٩، ١٣٠، ١٥٩، ٢٥١، ١٦٠ … إلخ … إلخ.
٢٥  ويقع هذا الكتاب في ٣٥١ صفحة، وليس به أيُّ تقريظ، وقد أملَى المترجم — سكاكيني — بعضَه للشيخ أحمد الرشيدي والبعضَ الآخر للشيخ محمد الهراوي من محرري الكتب المترجمة بمدرسة الطب.
٢٦  ص٧٦، وقد تم طبعُ هذا الكتاب في ٧ رجب سنة ١٢٥٠ / ٩ نوفمبر سنة ١٨٣٤.
٢٧  عن أخبار الطاعون وانتشاره في المدن المصرية وخاصة دمياط، انظر: Cattaui. Le Régne de Med Ali, etc., t. 1.
٢٨  انظر مقدمة الرسالة، وانظر أيضًا: إسكاروس، «شيء من التاريخ والأدب في بدء النهضة الطبية المصرية»، البلاغ الأسبوعي، عدد ٩٨، ص٢١، وقد جاء في هذه المقالة أن كلوت بك له كتابان آخران عن الطاعون هما:
  • (١)
    تعليمات خاصة بالطاعون، ترجمَه محمد الشافعي Instructions sur la Peste, traduit par Chafey.
  • (٢)
    في الطاعون، ترجمَه الشافعي De la Peste, traduit par Chafey.
ولكلوت بك كتابٌ كبير شامل باللغة الفرنسية عن هذا الطاعون، وعن تجاريبه في مصر أثناء مكافحة هذا المرض، طُبع في باريس سنة ١٨٤٠، في ٤٤٠ صفحة، ولم يُترجم إلى اللغة العربية، وعنوانُه بالفرنسية: De la Peste Observée en Egypte, Recherches et Consideration sur cette maladie.
وقد ذكر في هذا الكتاب أسماء جميع الأساتذة الأجانب بمدرسة الطب المصرية، وجميع الأطباء الملحقين بالجيش المصري والبحرية المصرية الذين اشتركوا في كفاح هذا المرض، وعرَض آراءهم وأبحاثهم الخاصة بهذا المرض عرضًا سريعًا.
٢٩  «صدر بيرولدي في ٩ شوال سنة ١٢٤٩ / ١٩ فبراير سنة ١٨٣٤ إلى كلوت بك بتعيينه مفتشًا لعموم الصحة بديوان البحرية والجهادية، وعضوًا بمجلس شورى الأطباء، وناظرًا لمدرسة الطب البشري والبيطري مع مباشرة ورؤية أعمال الحكماء والأجزاجية، ويؤكد عليه برؤية تلك المصالح المحالة لعهدته كما يجب كما هو مأموله في صداقته المعلومة لديه». تقويم النيل، ج٢، ص٤١٨.
٣٠  انظر هذا الكتاب، بولاق، ١٢٦٠، ص٥.
٣١  لاحظ هذا فهو يُؤكد الغرض الأول من إنشاء المدارس ووضْع الكتب وترجمتها في ذلك العصر.
٣٢  انظر هذا الكتاب، ص٢–٥.
٣٣  انظر مقدمة الطبعة الثالثة، بولاق سنة ١٢٧١، وإسكاروس، شيء من الأدب والتاريخ … إلخ، البلاغ الأسبوعي، العدد ١٠٠، ص٢٢.
٣٤  انظر خاتمة الكتاب ص١٣١-١٣٢.
٣٥  انظر فهرس الكتب التركية الموجودة بدار الكتب المصرية.
٣٦  كلوت بك، لمحة عامة إلى مصر، ج٢، ص٦٢٨.
٣٧  ذكر «برون» مرة في أحد خطاباته لصديقه «مول» أنه سيكتب قريبًا لمسيو كوسان، وطلب من صديقه أن يُبلغَه أنه سيعمل التحليل (؟) الذي طلبه منه، وأنه يُشرِّفُه جدًّا أن يتمتع بصداقة وثقة عالم كبير كمسيو كوزان، وفي خطاب آخر طلب من صديقه أن يُسلِّمَ خطابًا أرسله لأستاذه العزيز «كوزان دي برسيفال» “l’autre est une seconde letter quej’adresse à mon cher professeur monsieur causin de preceval …”; Y. artin Lettres du Dr. Perron, pp. 51, 53. ومن الواضح أن «برون» يقصد «دي برسفال» الابن؛ فإن هذه الإشارات وردتْ في خطابين بتاريخ ١٠ أغسطس سنة ١٨٣٨، و٢١ مارس سنة ١٨٣٩، ودي برسفال الأب تُوفي سنة ١٨٣٥، انظر يوسف جيرا، تاريخ دراسة اللغة العربية بأوروبا ص١٨.
٣٨  Artin Pacha. Op. Cit. p. 11.
٣٩  Ibid. p. 12.
٤٠  والكيس كان يساوي ٥ جنيهات، أي إن مرتَّبه كان ١٥ جنيهًا فأصبح ٢٥ جنيهًا Ibid. pp. 13-14، ونلاحظ أن هذا الخطاب صادرٌ عن مصر في أواخر سنة ١٨٣٩، وكان نضال محمد علي وقتذاك ضد الدولة العثمانية يستنفد معظمَ إيرادات مصر، فلا عجبَ إذن إن أخَّرت الحكومة صرْفَ مرتبات الموظفين.
٤١  يقول الدكتور عزت عبد الكريم، المرجع السابق، ص٢٨٤: «وإلى أوائل سنة ١٢٥٤ / ١٨٣٧ كان دفينو مديرًا لمدرسة الطب، وخلفه الدكتور برون.» ويفهم من قوله أن الدكتور «برون» تولَّى هذا المنصبَ في سنة ١٨٣٧، ولكننا نستطيع أن نُحدِّد — بوجه التقريب — تاريخَ تعيينه مديرًا للمدرسة؛ ذلك أنه لم يُشِر إلى أي تغيير في مركزه في خطابه المرسل من القاهرة في ٢١ مارس سنة ١٨٣٩، ولكنه تحدَّث إلى صديقه «مول» في خطابه الصادر من القاهرة في ٢٦ سبتمبر سنة ١٨٣٩ عن ترقيته إلى هذا المنصب، وعن زيادة مرتبه تبعًا لهذه الترقية، فيكون «برون» قد تولَّى هذا المنصب بين مارس وسبتمبر سنة ١٨٣٩، انظر أيضًا: Enc, Isl. art; Tunisi.
٤٢  جاء في Enc. Isl. art; Tunisi أن «برون» عاد إلى فرنسا سنة ١٨٥٠. والصحيحُ ما ذكرناه هنا نقلًا عن الدكتور عزت عبد الكريم، المرجع السابق، ص٢٨٤، الذي اعتمد عند ذكر هذا التاريخ على بعض وثائق عابدين.
٤٣  وقَّع برون على خطابه المرسل من الإسكندرية في ١٩ يناير سنة ١٨٥٤ هكذا: “Perron. médecin sanitaire à alexandrie.” Voir. Artin Pacha. Op. Cit. p. 109.
٤٤  28 Juin 1876, 7 me série, tome VIII.
٤٥  Artin Pacha. Op. Cit. p. 7.
٤٦  Journal Asiatique. 4, me. serie. t. II, 1843. pp. 5–23.
٤٧  Artin Pacha, Op. Cit. pp. 15, 21–25, 76-77، وقد مرَّ بمصر حوالي سنة ١٨٣٥ السائح الإنجليزي C. Rochfort Scott، وقد وصَف هذا السائح في كتابه: Rambles in Egypt and Candia, vol l. p 319 ما تُعانيه الجالية الأوروبية المثقفة في القاهرة من قلة الكتب، ثم أشار إلى هذه الجمعية، وما تؤديه من خدمات، قال: «أما عن الكتب (في القاهرة)، فإنه من العسير الحصولُ على أيِّ كتاب، اللهم إلا الكتب الكثيرة التداول التي نجدها في مكتبات الدرجة الثالثة عند الإيطاليين، أما الصحفُ فإنَّا لا نحصل عليها إلا مرةً واحدة في الشهر …» ثم أشار إلى الجمعية المصرية بقوله: «وأخيرًا تكوَّنت جمعيةٌ اسمها الجمعية المصرية أسَّسها بعضُ الأجانب في القاهرة، وستقدِّم للرحالة خدماتٍ كثيرة في المستقبل؛ ففيها مكتبة، وفيها سيكون مركز صالح لاجتماعهم وسكرتير طبيب إنجليزي اسمه: «فالن Walne»، وقد تولَّى حككيان بك رئاسةَ هذه الجمعية أكثرَ من مرة، وفي مذكراته المخطوطة المحفوظة في المتحف البريطاني: Memoires inédits du Hekekyan Bey, deposés en manuscrit au British musium â Londres … أحاديث كثيرة عن هذه الجمعية.»
٤٨  Artin Pacha. Op. Cit. pp. 23, 76-77.
٤٩  هما طبيبان إنجليزيان كانَا في خدمة محمد علي باشا.
٥٠  كلوت بك، كنوز الصحة ويواقيت المنحة، تعريب الشافعي، ص٤.
٥١  انظر مقدمة الجزء الأول.
٥٢  انظر هذا الملحق، ص٢، ٦، ٩، ١٦، ٢٢، ٣٤، ٤٦، ٤٧.
٥٣  ص٦٨.
٥٤  ص٥ و٦ من مقدمة الكتاب.
٥٥  ص٣ من مقدمة الطبعة الثانية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤