الفصل الأول

خليل الرحمن وخليل الإنسان

في العالم اليوم أكثر من ألف مليون إنسان يدينون بالموسوية والمسيحية والإسلام، وهي الأديان التي جاء بها موسى وعيسى ومحمد عليهم السلام، وهم الأنبياء الثلاثة الكبار الذين ينتمون جميعًا إلى الخليل إبراهيم … لا جرم١ يُسمى خليل الرحمن.

ولا جرم تتجمع الجهود كلها للبحث عن تاريخه المجهول في أغوار الأرض، فإن علم الأحافير لم ينحصر في البحث عن تاريخ أحد قط كما انحصر في البحث عن تاريخ أبي الأنبياء، وما تجردت البعوث إلى العراق وفلسطين ومصر لسؤال الأرض عن مكنون من أسرارها، كذلك السر المكنون الذي ينطوي على أعمق أسرار الروح والضمير.

قال منقب من أولئك المنقبين الذين عُرفوا باسم الحفريين: إن الناس قد بدءوا بالحفر في الآثار طلبًا للذهب ولقايا الحلي والجوهر، ثم عرف الناس شيئًا أنفس من تلك المعادن يبحثون عنه ويتهافتون على استخراجه وتحصيله؛ وهو التاريخ المقدس، أو تاريخ المعاني العليا التي ترتفع به إلى السماء، ولها مستودع في جوف الرغام.٢

وكل شيء يغليه الإنسان يحفزه إلى ذلك السر الذي تقسمته الأرض والسماء.

فإلى جانب البحث عن أصول العقائد يبحث المنقبون في تاريخ الخليل عن فتوح لا نظير لها في تاريخ الإنسان.

وقد أكثر المؤرخون من القول في أنباء الفتوح التي غيرت مجرى التاريخ، أو غيرت علاقة الإنسان كله بالعالم الذي يحيط به ويحتويه.

ولكن المؤرخين لا يستطيعون أن يذكروا فتحًا من تلك الفتوح أعظم عملًا، وأبقى أثرًا في تاريخ الإنسان، من تلك الفتوح التي اقترنت بدعوة الخليل.

إن دعوة الخليل قد اقترنت بالتوحيد، واقترنت بميزان العدل الإلهي، واقترنت بإعلاء العبادة إلى ما فوق الطبيعة والجثمان.

وهذه هي الفتوح التي لا نظير لها فيما تحدث عنه المؤرخون من فتوح الحياة الإنسانية منذ أقدم عصورها إلى العصر الحديث.

لا نظير لها فيما فتحه الإنسان من هذا العالم حين سخَّر النار، أو سخر الحيوان، أو سخر الكهرباء، أو سخر الذرة على جلالة فعلها وضآلة قدرها، وهي أقوى المسخرات فيما عرفه إلى اليوم.

هذه فتوح فيما يملكه الإنسان.

أما تلك الفتوح ففيها ملاك الإنسان كله، فيما يعلمه وما لا يعلمه، وفيما يبديه وفيما يخفيه.

تلك فتوح غيرت عالم الإنسان الظاهر وعالمه الباطن، وليس قصارى الأمر فيها أنها عبادة جديدة أفضل من عبادات سبقتها، وإن كانت العبادة الفضلى غنمًا يغليه من يقتنيه، ويفديه بكل ما يعيه وما لا يعيه.

كلا … بل هي عبادة فضلى، وفكر فاضل، ونظر جديد إلى الكون وإلى الإنسان وبني نوعه في وحدته وفي اجتماعه.

وهي فتوح تصحح مقاييس الفكر وتبدل علاقة الإنسان بنفسه وبدنياه، وتحسب من أجل ذلك في سجلات العالم، ورياضات الخلق، وقوانين الاجتماع.

إن حقائق الكون الكبرى لن تنكشف لعقل ينظر إلى الكون كأنه أشتات مفرقة بين الأرباب، يتسلط عليها هذا بإرادة، ويتسلط عليها غيره بإرادة تنقضها وتمضي بها إلى وجهة غير وجهتها، فلم يكن التوحيد عبادة أفضل من عبادات الشرك وكفى؛ بل هو علم أصح، ونظر أصوب، ومقياس لقوانين الطبيعة أدق وأوفى، ومن هنا صدرت كل فكرة عظيمة عن الكون من عقل فيلسوف مؤمن بالوحدانية، وإن لم تبلغه دعوة الأنبياء.

أما ميزان العدل الإلهي فهو الذي أقام المساواة بين الناس على دعامتها الراسخة، وكل ما عداها من دعامة فإنما هي دعائم القوة ممن يقدر عليها، سواء اقتدر عليها بسطوته الباطشة، أو بتأليب الطوائف والجماعات، وما كان للعدل بين الناس من سبيل وهم يقيسون بعضهم إلى بعض، ويطلبون المساواة بين أقوى الأقوياء منهم وأضعف الضعفاء.

فإذا ارتفع الميزان إلى اليد الإلهية، فهذا القوي مهما يبلغ من القوة، وذلك الضعيف مهما يبلغ من الضعف ندَّان٣ متساويان، ومخلوقان أمام خالق واحد، ما زاد من قوة أحدهما فهو من عطاء ذلك الخالق، وما نقص من قوة الآخر فهو من قضائه، ومن دواعي رحمته وبلائه، وإليه المرجع في حسابه أو جزائه، فلا يدخله أحد في حساب غير ذلك الحساب، ولا يعرضه أحد على ميزان غير ذلك الميزان.

وقد ارتفع الإنسان كله حين رفع عبادته من الطبيعة إلى ما فوق الطبيعة، وحين أصبحت حاجته إلى المعبود شيئًا أرفع من مطالب الأديان، وضرورات الغرائز والطباع.

كان أقل من الطبيعة فأصبح أعظم منها.

كان مسلوب الحيلة أمامها، فأصبح له من فوقها مرجع لا يعنيه غضبها ورضاها.

ولم يكن له إلا أن يخضع لها أو يحتال عليها.

فأصبح له أن يواجهها ويقف أمامها، بل على أكتافها.

أصبح له كيانه الأدبي في وجهها.

وليس الفتح المبين في هذا أنه يرى فيها ما يحسن وما لا يحسن، وما يرضاه ضميره وما لا يرضاه.

وإن الواقع الذي لا مرية فيه أن الإنسان قد ملك الذرة الصغرى، فملك من الطبيعة قوتها الكبرى، وأنه خليق بهذه القوة أن يضلَّ ويطغى، ولكن اليقين الحق أنه لن يكبح ذلك الطغيان من نفسه بقوة الطبيعة صُغراها وكُبراها، وإنما يكبحه — إذا قُدِّر له أن يكبحه — بسلطان من ذلك الفتح المبين، ما بقي له وما زاد عليه بعد آلاف السنين.

هذه الفتوح قد عُرفت جميعًا قبل عصر الخليل، ولكنها لم تقترن بدعوة قط في عالم النبوة قبل دعوته عليه السلام.

وهذا هو الفارق المهم في العواقب وفي مراحل التاريخ.

أو هو الفارق بين دعوة النبي وبين غيرها من الدعوات.

فالتوحيد لم يكن مجهولًا قبل عصر إبراهيم، وكذلك ميزان العدل الإلهي، وكذلك عبادة «الحق» فوق الطبيعة وفوق مطالب الأبدان.

كان المصريون الأقدمون يؤمنون بالإله الواحد، وكان من معتقداتهم أن الروح في العالم الآخر ميزانًا يقدر لها الحسنات والسيئات، وكانت كلمة الله هي القوة التي تفعل ما تُريد.

ولكنها لم تكن دعوة نبوة ورسالة، ولعلها جاءت في زمن لم تتهيأ فيه النفوس للعلم بالوحدانية، ونبذ الشرك، وتعدد الأرباب.

وكانت في جملتها دعوة كهان يسترون ما يعلمون، ولا يبوحون للناس بأسرار الديانة إلا بمقدار.

وكان ميزان السماء يزن لكل روح حسناتها وسيئاتها، ويحسب الملوك من الأرباب الذين يتصرفون في الأرواح خلال الحياة وبعد الممات.

ولما جهر «إخناتون» بدعوة التوحيد والمساواة بين عباد الله، صدرت دعوته من قصر الدولة كأنها مراسيم الملك وقوانين الحكومة، ولم تلبث أن بطلت في قصر الدولة نفسه بمراسيم من قبيل تلك المراسيم، وقوانين يطيعها الناس أشد من طاعتهم لتلك القوانين؛ لأنها تستعين بدهاء الكهان وسلطان العُرف والعادة.

وكان أناس من الحكماء يعرفون الله كأنهم يعرفون حلًّا مقنعًا لمسألة الوجود، أو كأنهم يعرفونه خالقًا للكون، ولا يزيدون.

ومما لا ريب فيه أن عقيدة التوحيد قد سرت من مصر في صورة من الصور إلى بلاد المشرق، ومنها بلاد البحر الأبيض ووادي النهرين.

ومما لا ريب فيه أنها كانت سر الخاصة وذوي الرسالة في المحاريب والقصور، وأن تعدد الأرباب قد سرى منها كذلك إلى الشعوب سريان العُرف والمحاكاة.

أما الإله الواحد الذي اقترن بدعوة إبراهيم، فلم يكن حل مسألة، ولم يكن سر أحبار وحكماء، ولم يكن خالق الكون والناس ولا مزيد.

بل كان خالق الكون والناس، وحاكم الكون والناس، وكان منه الأمر والنهي، وإليه المرجع والمآب.

كانت عبادته «مسألة حية» تمتزج بسرائر النفس، وتنبعث منها فضائل الخير، ولا تنزوي عنها زاوية في الكون ولا في ضمير الإنسان.

كانت دعوته صرخة تُسمع وتتجاوب بها الآفاق، ولم تكن لغزًا يخفي وتتحاجى٤ به العقول.

كانت صحبة البيت والطريق، وصحبة اليقظة والمنام، وصحبة العزلة والجماعة، وصحبة الحياة قبل الميلاد وبعد الموت، ولم تزل حتى أصبحت وهي صحبة الخلود الذي لا يعرف الفناء.

ولم تصبح كذلك قبل رسالة النبوة حين انبعث بها النبي أبو الأنبياء … حين بشر بها إبراهيم.

وما كان لنبوة واحدة أن تؤدي رسالة التوحيد وتفرغ منها في عمر رجل أو عمر جيل … وإنما هي نبوة بعدها نبوات.

ولو كانت دون ذلك خطرًا لكفى أن تقوم بها دعوة واحدة، وأن تتكفل لها ببقائها، ولكان بها الغنى عن التعقيب والتذكير.

ولكنها على خطرها هذا لا تتم في رسالة واحدة، ولا تستغني عن مرتقى بعد مرتقى، ثم عن قرار بعد قرار.

وعاش الخليل ما عاش والتوحيد في قومه مشوب٥ بالشرك والضلال، وفارق الدنيا والخلفاء من بعده يتقدمون وينكسون، ويستقيمون وينحرفون، ولم ينقض من بعده عهد إلا وهو ينبئ الناس أنها نبوة تتلوها نبوات، وأنها أمانة موروثة في أعقابه لا تنقطع في جيل، ولا بد لها من ورثة أبرار … ومن شكَّ في ذلك فإنما هو شاكٌّ في بداهة العقل، وضرورة الزمن، وحكم التاريخ، فوق الشك في الكتب والأنبياء.

وإنما المستحيل في العقول أن تنفرد رسالة إبراهيم في أعقابه، فلا تأتي بعدها رسالة في أولئك الأعقاب.

ولا دليل في العقول على نسب الأعقاب أقرب من هذا الدليل، ولا دليل على المرسلين منهم أثبت منه عند النظر القويم.

فلو مضت رسالة إبراهيم بغير رسالة بعدها لكان هذا هو العجب المردود، ولو قام بتلك الرسالات التالية فرعٌ من غير أصله، ونبتٌ من غير معدنه؛ لكان هذا أعجب وأولى بالرَّد والارتياب.

ولا يعقل العقل إلا أنه نبي أبو الأنبياء، كما كان وكما ينبغي لا محالة أن يكون … وكم بين توحيد الأعقاب وبيت التوحيد كما تلقاه عصر الخليل من بون بعيد! إنه لأبعد من مسافة الزمن بينهما، وليست مسافة الزمن بينهما بالشوط القريب … ولكن الذي يبدأ لا بد أن يبدأ، ولا بد أن يبدأ من خطوته الأولى ولا يبدأ من منتهاه.

وإلى ذلك المبدأ يرجع اليوم ألف مليون من بني الإنسان أو يزيدون، لا أول لهم في قداسة الحياة غير ذلك الأول، ولا رائد لهم في موازين العدل والصلاح قبل ذلك الرائد ومَن خلَف على أعقابه من الرُّوَّاد.

ومن ذلك المبدأ شخص ذلك الركب الحاشد في طريقه إلى الله، وتقدم من اسم الله ذي العرش إلى اسم الله الرحمن الرحيم.

إنه — لا جرم — خليل الرحمن … وإنه — لا جرم — خليل الإنسان.

وسيرته في الصفحات التالية هي سيرة الخليلين، على هدي الأسلاف، وعلى هدي الأعقاب.

وعلى هدي الأسلاف والأعقاب ينبغي أن تكتب كل دعوة عامة، وأن تُوصف كل بعثة نبوية خُوطب بها الناس على اختلاف المدارك والمعارف والطباع.

فنحن لا نتصور الدعوة في صورتها الحقيقية الشاملة إلا إذا عرفنا صورتها في نفوس المخاطبين بها، سواء منهم من فهم أو من لم يفهم، ومن أحسن الاعتقاد أو أساء.

وعلى قدر العلم بالضلالة نفهم عمل الهداية التي أزالتها، أو عالجت أن تزيلها بما كان لها من الجهد والوسيلة.

فلا غنى في دراسة تاريخ الخليل عن الإحاطة بما ورد عنه وقيل في شتى المصادر في مختلف البيئات والعصور.

وينفعنا الخطأ هنا كما ينفعنا الصواب.

بل الخطأ هنا من الصواب أنفع؛ لأن رسالة النبي قائمة على إزالة خطأ وتبيين الضلالة فيه، فعلى قدر ما نعلمه من جوانب الخطأ وخباياه، نعلم القوة التي تتصدى له، وتَصلُح لعلاجه والغلبة عليه.

ولهذا نود أن نلم في كتابة هذه السيرة بكل طرف، وأن نذهب فيها إلى كل وجهة، ولا نقتصر على المعتمد منها في مذهب واحد أو نحلة واحدة، سواء عرضنا لها من ناحية الأديان، أو من ناحية المباحث والآراء التي رددتها التواريخ، وكشفت عنها البعوث الحفرية من القرن الثامن عشر إلى الآن.

إن منهج البحث تمليه علينا طبيعة البحث نفسه، في الزمن الذي نكتبه فيه، ونحن ندرس سيرة الخليل كما وضحت لنا منذ فاتحة القرن العشرين. ولقد أثار القرن العشرون في هذه السيرة مشكلات لم يعرفها الأقدمون، وأتى فيها بمعلومات من بطون الحفائر وخفايا الآثار لم تكن في حساب أحد ممَّن عرضوا لهذه السيرة قبل مائة سنة.

من هذه المشكلات التي أثارها القرن العشرون: وجود إبراهيم في التاريخ؛ هل هو شخصية تاريخية، أو هو صورة من صور الخيال تجمعت حولها متفرقات العقائد من هنا وهناك؟

ومن المشكلات التي أثارها هذا القرن: علاقة إبراهيم بمكة وبيت الله الحرام؛ هل ذهب إبراهيم إلى مكة؟ وهل كانت له علاقة ببيت الله الحرام فيها، أو تلك علاقة لم تُفهم على سند صحيح من الواقع، ولم تنْجلِ الدراسات العصرية عما يؤيدها بالدليل المقبول؟

ونحن نكتب هذه السيرة وأمامنا هذه المشكلات من مصادرها القوية، وأمامنا كذلك أسبابها وأسباب الإعراض عنها والرد عليها.

ونجملها بداءة فنقول: إنها لا تقوم على سند من العلم، سواء كان الباحث الحديث ينفي وجود إبراهيم جزمًا ويقينًا، أو يشك في وجوده ولا يقطع باليقين إلى جانب النفي أو جانب الإثبات.

فالذي ينفي وجود إبراهيم جزمًا ويقينًا لا يستند إلى حجة واحدة من حجج العلم، ولا يزيد على مجرد الإنكار، والذي يشك يبني شكه على أسباب لا يعتبرها العلم ولا العقل من أسباب الشك في وجود شيء … لأنه يستند في شكه على كثرة الأعاجيب والخوارق والأساطير التي تخللت سيرة إبراهيم كما رواها الأقدمون.

ومثل هذا السبب لم يبطل وجود شيء قط، وإن كانت أعاجيبه وخوارقه وأساطيره مما ترفضه جميع العقول في العصر الحديث.

فهذه الشمس يُضرب بها المثل في الظهور والثبات، وليس أكثر من الخرافات التي رُويت عن مشرقها ومغربها، وعن نشأتها وحركتها، وعن الديانات التي تقدسها وتفرض عبادتها، وليس أكثر في العصر الحاضر من الخلاف على عمرها، وحقيقة تكوينها، وأسباب حرارتها، وطبيعة مادتها؛ لأنها هي طبيعة المادة على العموم.

والهرم الأكبر لا يمتري في وجوده أحد، ولم يُذكر عن إبراهيم بعض ما ذُكر عنه من الأسرار.

ومن الزراية بالعلم أن يقوم الشك على غير أساس؛ فليست الحقيقة خصمًا لنا في محكمة نقول له: تقدَّم أنت بجميع أسانيدك وإلا أنكرنا عليك دعواك.

وإنما الحقيقة قضيتنا نحن، وليست بدعوى خصم يلزمه الدليل ولا يلزمنا؛ فما لم يكن للشك سببٌ فهو زراية بالعلم، وزراية بالعقل، وزراية بأمانة التفكير.

ومن السخف أن نلزم الأقدمين بالبرهان على سيرة إبراهيم ولا نلزم به أنفسنا، كأنهم أصحاب الشأن كله ونحن ثمة غرباء متفرجون.

فلا موجب للجزم بإنكار وجود إبراهيم ولا للشك في وجوده اعتمادًا على كشف جديد من كشوف العلم في القرن العشرين.

أما علاقته بمكة والبيت الحرام، فالأمر فيها أعجب من أمر المختلفين على «شخصيته التاريخية»؛ لأن الذين ينكرون تلك العلاقة لم يدَّعوا لها سندًا من العلم ولا من الكشوف العصرية، بل هم يعتمدون على بعض المصادر الدينية للجزم ببطلان المصادر الأخرى، أو هم يعتمدون على المصادر الإسرائيلية للجزم ببطلان المصادر الإسلامية، ولا شأن للعلم الحديث هنا، بل هو تمييز رواية دينية على رواية دينية تخالفها، ولا محل لإقحام العلم العصري بين الروايتين.

بل هناك محل للتحفظ الشديد في قبول الرواية الإسرائيلية؛ لأنها امتزجت بسياسة الملك والتنازع عليه، وكل دعوى المملكة الإسرائيلية في الزمن القديم قائمة على الأسلوب الذي كُتبت به سيرة الخليل في أيامه الأخيرة على التخصيص.

هذه نظرتنا إلى المشكلات التي طرأت على سيرة إبراهيم في القرن العشرين، وهذه نظرتنا إلى المعلومات التي أتى بها من كشوفه وأحافيره وتعليقاته، ومبلغ حقها في تمحيص السيرة أنها تفسر بعض الغوامض، ولكنها لا تنفي «الشخصية التاريخية»، ولا تُوجب الشك فيها بحجة علمية. وسنرى أن المقابلة بين المعلومات الحديثة وروايات الكتب الدينية وروايات الأقدمين تؤدي لنا عملًا غير النفي والإنكار والتردد بين الشك واليقين؛ تؤدي لنا عمل الغربال والمصفاة، ولا تنفي غير الحثالات٦ والقشور؛ ولهذا سنرجع في سيرة الخليل إلى جميع مراجعها.

سنرجع إلى كتب الأديان التي لها علاقة بسيرة الخليل، وإلى كتب التواريخ وروايات الأقدمين، وإلى كتب الباحثين في الحفائر والآثار، ولا سيما الكتب التي تعمد مؤلفوها أن يبحثوا في مواطن السيرة ومظانها من الألف الثالثة قبل الميلاد، بين آثار العراق وفلسطين ومصر والجزيرة العربية وغيرها من مظان السيرة التي تتاخم تلك الأقطار.

والأديان التي نرجع إلى كتبها ومصادرها هي: الإسرائيلية، والمسيحية، والإسلام، والصابئة. هذه الديانة الأخيرة أقل الديانات ذكرًا للخليل في كتبها، ولكنها احتفظت ببقايا كثيرة من عقائد البابليين، وأخذت من الديانات الوثنية والكتابية في فارس والعراق وفلسطين وجزيرة العرب، فهي مرجع لا يُهمل عند الكلام على دعوة تتصل بجميع هذه الديانات.

ومنهجنا في الأخذ من المراجع أن نقتبس ما جاء في كتب الدين، ثم نردفه بتفسيره من كلام أهله، وكلام الثقات عند أصحابها، حتى نستخلص منها جميعًا لُبابَ السيرة فيها، ونستوفي منها ما تعطيه من موضوعها.

وننتقل من كتب الأديان إلى التواريخ التي تعتمد عليها، وعلى المأثورات المروية، ثم نشفع ذلك بمحصول التاريخ الذي استنبطه الحفريون وعلماء الآثار من البحث في المراجع الأثرية.

ولا ننوي أن نُقحم على هذه المراجع تعليقًا لا يستلزمه سياقها، بل نمشي مع كل مرجع مقبول أو غير مقبول حتى يقيم لنا مَعْلمًا هاديًا من معالم الطريق. وقد يجيء المعلم الهادي من طريق الرفض كما يجيء من طريق القبول، فإن الذي يقول لنا: لا تسيروا من هنا كالذي يقول لنا: سيروا من هناك، وكلها صالح للهداية واجتناب الضلال.

فإذا أوضحت هذه المعالم آخر الأمر لم تبق إلا الخلاصة التي يصح التعويل عليها، وعلى قدر طول الطريق يكون القصد في ختامه؛ لأنه الختام الذي تعددت من أجله المعالم والأعلام.

ونحن على رجاء مع القارئ أن تأتي هذه الخلاصة مصفاة من الشوائب والدخائل، وأن نستخرج منها صفة الخليل كما صحت في النظر بعد المقابلة بين مصادرها وأجزائها، ونترك منها ما لا سبيل إلى القول فيه على بينة، وعلى ضوء هذه المعلومات مجتمعات.

ونحن مبتدئون بالباب الأول فيما يُؤخذ من كتب العهد القديم، ثم تابِعُوه بما يُؤخذ من كتب الأديان على الترتيب.

١  لا جرم: في الأصل بمنزلة «لا بد» ثم تحولت إلى معنى القسم فصارت بمنزلة «حقًّا».
٢  الرغام: التراب.
٣  نِدَّان: النِّدُّ: الشبيه والمماثل.
٤  تتحاجى: تحاجى القوم: تطارحوا الأحاجي؛ أي الألغاز.
٥  مَشُوب: مخلوط.
٦  الحثالات: الحثالة من الطعام: ما يخرج من زؤان ونحوه مما لا خير فيه فيُرمى به، والرديء من كل شيء، وسفلة الناس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤