الفصل الثامن

تذييل

إلى هنا انتهت المصادر الدينية ومراجع التاريخ القديم التي رويت فيها سيرة الخليل إبراهيم.

وهذه المراجع هي الأساس الذي يقوم عليه كل ما تجده في العصر الحديث من أخبار الحفريات الأثرية وتعليقات المؤرخين عليها.

ومن الواجب أن نعرف مبلغ قوة هذا الأساس قبل أن ننتقل منه إلى البناء الذي يرتفع عليه.

ففي تقديرنا أن هذا الأساس اليوم أقوى مما كان عليه عند المؤرخين العلميين قبل القرن العشرين.

فقد كانت البدعة الشائعة في القرن الماضي أن التواريخ الدينية لا تصلح أن تكون أساسًا للتواريخ العلمية.

وكان يكفي أن تروى الحادثة وتُنسب إلى سبب خارق للطبيعة ليقول المؤرخون العلميون: إنها لم تحدث، ولا يُعقل أن تحدث. ولا يقنعوا بالشك في السبب ومحاولة البحث عن سبب آخر داخل التعليلات الطبيعية …

وكان يكفي أن يقال: إن نبيًّا من الأنبياء عاش ثلاثمائة سنة أو نحوها ليقال: إنه لم يوجد قط، فضلًا عن أن يكون قد وُجد وقد عاش أقل من عمره المذكور …

كل هذا قد تغير في معيار البحث الحديث، أو وجب أن يتغير؛ لأنه مناقض للعلم نفسه، عدا ما هو ظاهر من مناقضته للدين.

فقد ثبت اليوم أن الأخبار الدينية سبقت المباحث الحفرية والمقارنات العلمية إلى تقرير أحكام التاريخ التي صحت في رأي المتأخرين بالبراهين الحديثة …

ومن أمثلة ذلك وحدة الأجناس السامية في نشأتها، فإن العلماء العصريين قد عرفوا هذه الوحدة من المقارنة بين اللغات، ومن الدراسات الأخيرة في علم السلالات البشرية، ومن تفسير الكتابة على الآثار المطمورة والهياكل المهجورة.

وهذه الدراسات جميعًا من مستحدثات الزمن الأخير لم يستخرج منها العلماء دليلًا موثوقًا به قبل مائة سنة.

فإذا احترم العالم حكمه وتقديره، وجب أن يفهم أن كلام الأمم السامية عن وحدة أصولها يستند ولا شك إلى أصل عريق، وسند وثيق؛ لأنها تكلمت عن هذه الوحدة وهي لا تعرف شيئًا من مقارنات اللغات والأحافير، ولم يكن في وسعها أن تعرف شيئًا عنها قبل ألوف السنين.

فمن أين جاء لتلك الأمم أنها سلالة أصل واحد إن لم يكن لها مرجع تعول عليه، ولا يجوز للعلم رفضه وإسقاطه من الحساب؟

كذلك شاعت في القرن الماضي بدعة العلم — أو أدعياء العلم — الذين رفضوا كل خبر له علاقة بالمعجزات وخوارق الطبيعة.

فإذا قال قائل: إن هذه المدينة دمرها الله لفسادها وعدوانها على أنبيائه؛ أسرع أولئك الأدعياء فأبطلوا القصة كلها وقالوا: إنه لا مدينة ولا فساد ولا أنباء، وإن الأمر كله حديث خرافة أو تلفيق خيال …

فاليوم قد ثبتت وقائع لا شك فيها من تواريخ تلك المدن التي تواترت الأنباء الدينية بتدميرها في الزمن القديم.

وقد تتابع التنقيب في وادي الأردن وشواطئ البحر الأحمر ورمال الأحقاف من جنوب بلاد العرب، فظهر من الأحافير أنها كانت بلاد زلازل وأغوار وعوارض جوية تُطابق ما وصفته الكتب الدينية من أحوال عمارها وأحوال خرابها، وأن الزمن الذي وقعت فيه نكباتها قريب من الزمن المقدور لقيام الأنبياء فيها، ولم ينحصر الأمر في دلالات الكوارث الطبيعية والأعاصير، بل جاءت الدلالات الاجتماعية مصححة موضحة تعلم الباحثين الأناة والرصانة قبل التعجل بالرفض والإنكار.

فلم يكن أبناء الشواطئ على البحر الأحمر يعلمون شيئًا عن التواريخ التي كُتبت بالإغريقية واللاتينية ثم اندثرت في القرون الوسطى، وظلت مندثرة إلى أن تجددت وانتشرت بين الأوروبيين والمطلعين على اللغات الأوروبية في العصر الحديث.

ولكن القدماء على شواطئ البحر الحمر تحدثوا عن المدن التي كانت تحتكر التجارة، وتماكس١ وتبالغ في إضافة الأرباح والإتاوات، ولم تأتها هذه الأخبار من المراجع الإغريقية أو اللاتينية بطبيعة الحال، فلا بد من الاعتراف لها بمرجع معول عليه، وليس من الجائز أن يتعجل العالم الأمين بالشك فيه …

ومن أمثلة هذه الأخبار مثل الهزيمة التي حلت بأبرهة الأشرم صاحب الفيل، الذي ورد ذكره في القرآن الكريم، وأن جيشه هلك بالطير الأبابيل، ترميهم بحجارة من سجيل، وقال أبو عبد الله عكرمة مولى عبد الله بن عباس: إنهم أُصيبوا بالجدري «وأن من أصابته الحجرة جدرته.»

فهذا الخبر عن الجدري قد أيده من لم يرد تأييده من مؤرخي اليونان والرومان، فقد ذكر الوزير بركوب Procobe، من أبناء القسطنطينية، أن مرض الجدري ظهر في مصر عند منتصف القرن السادس قبل الميلاد، وروى بروس Bruce، الذي زار بلاد الحبشة في القرن الثامن عشر، أن الأحباش يذكرون في تواريخهم كيف ارتد أبرهة، وأنه رجع عن مكة لما أصاب جيشه من المرض الذي يصفونه بصفة الجدري، وكتب غير واحد من مؤرخي اليونان أن أبرهة زحف على مكة في مركبة يجرها أربعة من الفيلة، وأن جيشه لم يعد منه إلا القليل لكثرة من مات منه بالوباء، فأيسر ما يفهمه العالم الأمين من هذا وأشباهه أن المصادر القديمة قائمة على أساس لا يجوز إهماله، وأن المستقبل خليق أن يفسر منه أكثر مما فسرناه حتى اليوم.

وقد تمحصت مسألة الأعمار الطوال ووضعت في مواضعها من الدراسة التاريخية، فليس فيها ما يعترض الباحث في تاريخ قديم أو تاريخ حديث، وهذه المسألة — أي مسألة الأعمار — قد نُوقشت كثيرًا قبل القرن العشرين، وتساءل المتناقشون فيها: هل حساب السنين واحد بين الأوائل والأواخر، أو هما حسابان مختلفان؟

وضربوا لذلك مثلًا بأيام الخليقة، فإن خلق العالم في ستة أيام يعني أيامًا غير الأيام التي تُحسب بطلوع الشمس وغروبها؛ لأن الشمس خُلقت في اليوم الرابع، فلا بد أن يكون معنى الأيام أنها أدوار لا تُحسب بالشروق والغروب.

وتقرر أن الأوائل كانوا يحسبون للسنة رأسين: رأس السنة الزراعية، ورأس السنة الديوانية، فربما اجتمع في العام الواحد رأسان للسنة على هذا الحساب …

وظن بعضهم أن حساب السنين كحساب الأهلة عند الأوائل، ومن هؤلاء أبو العلاء المعري حيث يقول:

ورأيت الحمام يأتي على العا
لم من قاهر ومن مقهور
وادعوا للمعمرين أمورًا
لست أدري ما هن في المشهور
أتراهم فيما تقضي من الأيا
م عدوا سنيهم بالشهور
كلما لاح للعيون هلال
كان حولًا لديهم في الدهور

وليس هذا الظن بالصواب؛ لأن الأوائل كانوا يعرفون حساب الأهلة وحساب الشمس منذ عهد بعيد يرجع إلى ما قبل التاريخ.

واجتهد بعضهم فقال: إن الأعمار المقدرة هنا هي أعمار العشائر والدعوات النبوية، وكثيرًا ما يجري الحديث حتى اليوم باسم رأس العشيرة ويكون المقصود هو العشيرة كلها، أو يقال ابن الشرق وابن الغرب وابن أوروبة وابن أمريكا، والمقصود هنا هو العشائر بأجمعها.

وتوافق على هذه المذاهب من التأويل أناس من كل ديانة كتابية، فليست هي مقصورة على المسلمين ولا على المسيحيين ولا على اليهود، بل يشترك فيها أصحاب الفقه من جميع الأديان.

ونحن هنا لا حاجة بنا إلى الفصل في هذه التأويلات، وإنما أردنا بتمحيصها ووضعها في مواضعها أن الاتفاق تام بين أصحابها جميعًا على أمرين:

  • أولًا: أن تقدير الأعمار في كتب العهد القديم يزداد كلما تباعد الزمن بين رواة الخبر وبين عصور المعمرين الذين تُحسب أعمارهم، فكلما صغرت المسافة بين الزمنين كان التقدير أقرب إلى العمر المألوف.

    فعند كتابة العهد القديم كان قد انقضى على عهد موسى عليه السلام نحو سبعة قرون، وانقضى على عهد إبراهيم عليه السلام نحو أحد عشر قرنًا، فحسب عمر موسى مائة وعشرين سنة، وعمر إبراهيم مائة وخمس وسبعين سنة، ويزداد التقدير إلى أكثر من ذلك كلما أوغل الزمن في القدم إلى ما قبل التاريخ.

    فبهذه القاعدة أصبح تقدير الأعمار مساعدًا على تقرير وقت الكتابة وتقرير الفترات بين العهود، فلم يبطل حساب المراجع القديمة بهذا الاختلاف بين الأوائل والأواخر في حساب الأعمار الطوال، بل جاء فيه ما يساعد على الموازنة والقياس.

  • وثانيًا: يلاحظ أن حساب العهود بيننا وبين الأوائل لا يختلف كما يختلف حساب الأعمار، فابن الأثير مثلًا يقول اعتمادًا على مصادره جميعًا: إن عهد إبراهيم مضى عليه ألفان وسبعمائة ونحو ثلاث وتسعين سنة قبل الهجرة المحمدية. وهذه التقديرات لا تطيل العهود والفترات بينها بنسبة الطول في أعمار الأفراد المعمرين، فإن هذا الحساب قريب من حساب علماء الأحافير وطبقات الأرض الذين يقيسون الفترات بمقياس تكوين الطبقات وتتابع الظواهر الجيولوجية. وسيأتي فيما بعد أن التفاوت بين تقديرات علماء الأحافير أنفسهم، لا يقل عن التفاوت بين تقدير ابن الأثير على حسب مصادره، وبين تقديرات هؤلاء العلماء مجتمعين.

وأيًّا كان مقطع الرأي في هذه المسائل جميعًا، فليس من أمانة التاريخ أن يستند إليها أحد في نفي الأخبار المتواترة، ولا سيما أخبار العهود والدعوات، ولا تزال الأسانيد الأولى أساسًا قويًّا لتواريخ الأمم ترجح فيه دلائل الثبوت على دلائل البطلان.

وبهذا الوزن ننتقل من المصادر الأثرية إلى ما بعدها، ونعتمد على هذا الأساس، ثم لا يمنعنا هذا الاعتماد أن نفرق بين الأسانيد في درجة القبول وميزان الترجيح …

ولا ننتقل من الكلام عن المصادر الأثرية في جملتها حتى نضيف إليها مصدرًا يستمد قوته من السكوت، ولا يستمدها من البيان والإيضاح؛ فلا يخفى أن السكوت المتعمد يدل على كثير، وربما كان في ميزان الصدق أدل من الكلام الذي يتعرض للتورية والمحال.

فإذا علمنا من بعض التواريخ أنها تسكت عمدًا عن بعض الأمور؛ فقد علمنا شيئًا صحيحًا يبين لنا تلك الأمور المسكوت عنها، وبخاصة حين نعلم سبب السكوت.

لقد سكتت مصادر اليهود عن حالة العرب الدينية كل السكوت، وترجع هذه المصادر إلى القرن السابع قبل الميلاد.

وقد تعمدت هذه المصادر أن تُخرج أبناء إسماعيل من حقوق الوعد الذي تلقاه إبراهيم من الله، وقالت: إن هذا الوعد إنما هو حق لأبناء إبراهيم من سلالة إسحاق.

إن انتساب العرب إذن إلى إسماعيل قد كان تاريخًا مقررًا لا سبيل إلى إنكاره عند كتابة المصادر اليهودية التي حصرت النعمة الموعودة في أبناء إسحاق …

ولو لم يكن انتساب العرب إلى إسماعيل بن إبراهيم تاريخًا مقررًا في ذلك العصر — عصر كتابة المصادر اليهودية الأولى — لما كانت بهم حاجة إلى التمييز بين أبناء إسحاق وأبناء إسماعيل؛ إذ كان يكفي أن يقال: إن النعمة الموعودة من نصيب أبناء إبراهيم عامة؛ ليخرج من هذا الوعد من لم يكن من اليهود لا ينازعهم أحد في الانتساب إلى إبراهيم.

لكن انتساب العرب إلى إبراهيم كان تاريخًا مقررًا كما هو واضح مما تقدم، فلم يكن في الوسع إنكاره، ولم يكن ثمة مناص من التفرقة بين أبناء إبراهيم من سلالة إسماعيل وأبناء إبراهيم من سلالة إسحاق.

وأكثر من ذلك أن كهان اليهود كانوا يحسون من العرب منافسة دينية، فضلًا عن المنافسة الدنيوية، فلو لم يكن للعرب حياة دينية يخشى الكهان منافستها؛ لكان يكفيهم أن يحصروا وعد إبراهيم في أبنائه المؤمنين دون أبنائه الوثنيين الذين لا يعرفون الله الواحد الأحد، فيخرج العرب بهذا الاستثناء من وراثة إبراهيم الروحية، ولا تدعو الحاجة إلى أكثر من ذلك الاستثناء.

ولا شيء غير خطر المنافسة في النسب، وخطر المنافسة في العقيدة الدينية يلجئ الكهان إلى حصر النعمة الموعودة في أبناء إسحاق دون أبناء إبراهيم. وقد لوحظ أن الكهان يحصرون النسب شيئًا فشيئًا كلما أحسوا بخطر المنافسة على سلطانهم وسلطان هيكلهم على الخصوص.

فخصصوا أبناء يعقوب بعد أن كان الوعد عامًّا شاملًا لأبناء إسحاق أجمعين، وقالوا: إن الإسرائيليين هم أبناء يعقوب دون غيره، وإسرائيل هو لقب يعقوب.

ثم انقسمت دولة اليهود إلى دولة في الشمال تُسمى مملكة إسرائيل، ودولة في الجنوب تُسمى مملكة يهودا، فقال كهان الهيكل: إن النعمة الموعودة محصورة في أبناء داود.

وقبل ذلك بزمن طويل كان اللاويون يحصرون الرياسة الدينية فيهم دون غيرهم؛ لأنهم يقولون: إن اللاويين قبيلة موسى الكليم.

فاستثناء أبناء إسماعيل لم يحصل عبثًا منذ القرن السابع قبل الميلاد على الأقل، ولا بد من منافسة دينية ودنيوية دعت إلى هذا الاستثناء، وإلى السكوت عن الحالة الدينية التي تُخشى منها المنافسة، ويشعر بها الكهان.

ولعل المنافسة في الحقيقة كانت بين الإيمان ﺑ «يهوا» والإيمان بالإيل أو الإله، فإن العرب الأقدمين لم يذكروا «يهوا» قط بين أربابهم، وإنما ذكروا الإيل والإله والله تعالى، وكان اليهود يعبدون الإيل كما يعبده العرب، ومن ذلك تسمية إسماعيل وإسرائيل وبتوثيل، فلما تشابه النسب بالانتماء إلى إبراهيم، وتشابهت العبادة بالاتفاق على اسم الإله، جدت الرغبة بالكهان في الاستئثار من جهة، والاستثناء من جهة أخرى، فحصروا النعمة الموعودة في أبناء إسحاق، ثم في أبناء يعقوب، ثم في أبناء داود، جريًا على عاداتهم المطردة في أمثال هذه الأحوال.

ومهما يكن من أمر هذا التاريخ المسكوت عنه، فوجود النسبة إلى إسماعيل قديم لم تكن فيه حيلة لليهود ولا للعرب.

فلو أراد العرب أن يخترعوا لما اخترعوا نسبة ينتمون بها إلى جارية، وتخص غيرهم بالانتماء إلى السيدة المختارة.

ولو كان في وسع اليهود أن يحتكروا النسب إلى إبراهيم لما ذكروا شيئًا عن نسبة غيرهم إليه …

فالانتساب إلى إبراهيم لم يكن مسألة اختراع واختبار، ولكنه كان مسألة تاريخ مقرر لا بد من البحث فيه على هذا الأساس، ومن هنا قيمته التاريخية التي نضيفها إلى الأسانيد القوية في سيرة الخليل.

ويقضي استيفاء البحث في الأخبار المسكوت عنها أن نشير هنا إلى المراجع التي ذكرتها كتب العهد القديم، ولم يبق لها أثر بين هذه الكتب ولا بين غيرها من المراجع الإسرائيلية.

فليست الكتب التي ضمت إلى العهد القديم هي كل كتب التوراة المعترف بها؛ لأن الكتب التي جرى الاستشهاد بها على ألسنة الأنبياء من بني إسرائيل لم توجد كلها بين أسفار التوراة، كما هو واضح من الشواهد الكثيرة التي نلم ببعضها في هذا السياق.

ففي ختام كتاب الأيام الأول يقول الكاتب: «وأمور داود الملك الأولى والأخيرة هي مكتوبة في سفر أخبار صموئيل الرائي، وأخبار ناثان النبي، وأخبار إسرائيل، وأخبار جاد الرائي، مع كل ملكه وجبروته، والأوقات التي عبرت عليه وعلى إسرائيل وعلى كل ممالك الأرض.»

فهناك على هذا كتب تاريخية لم توضع بين كتب العهد القديم؛ لأن كتاب صموئيل موجود بينها، ولا يوجد بينها كتاب للنبي ناثان ولا للرائي جاد.

وفي الإصحاح التاسع من كتاب أخبار الأيام الثاني أن «بقية أمور سليمان الأولى والأخيرة إما هي مكتوبة في أخبار ناثان النبي، وفي نبوة إخيا الشيلوني، وفي رؤى يعدوا الرائي على يربعام بن نباط.»

وقد تقدم أن كتاب ناثان غير موجود، وكذلك نبوءة إخيا الشيلوني ورؤى يعدوا الرائي، فإنهما غير موجودين على انفراد أو على اتصال بغيرهما من الكتب المعروفة.

وفي الإصحاح الرابع عشر من كتاب الملوك الأول: «وأما بقية أمور يربعام: كيف حارب: وكيف ملك؟ فإنها مكتوبة في سفر أخبار الأيام لملوك إسرائيل.»

وجاء في الإصحاح السادس عشر من كتاب الملوك الأول: «إن بقية أمور يعشا وما عمل وجبروته مكتوبة في سفر أخبار الأيام لملوك إسرائيل!»

وليس في كتاب الملوك شيء عن هذه الأمور، ولا عن أمور تاريخية أخرى وردت الإشارة إليها مردودة إلى نحو ثلاثين كتابًا لم يبق منها أثر محفوظ.

ومن هذه الأمور ما هو منسوب إلى الإله كما جاء في الإصحاح الحادي والعشرين من كتاب العدد؛ حيث يقول الكاتب: «لذلك يقال في كتاب حروب الرب واهب في سوفة وأودية أرنون ومصب الأودية.» أو كما جاء في الإصحاح العاشر من كتاب يشوع: «حينئذ كلم يشوع الرب يوم أسلم الرب الأموريين أمام بني إسرائيل وقال أمام عيون إسرائيل: يا شمس دومي على جبعون، ويا قمر على وادي إيلون. فدامت الشمس ووقف القمر حتى انتقم الشعب من أعدائه، أليس هذا مكتوبًا في سفر ياشر؟»

وليس بين المراجع المحفوظة كتاب ياشر الذي أشير إليه في هذين الموضعين، وقد أشير إليه في موضع آخر في كتاب صموئيل الثاني حيث يقول: «ورثى داود بهذه المرثاة شاءول ويغر باثان ابنه، وقال: إن يتعلم بنو يهوذا نشيد القدس، هو ذا مكتوب في سفر ياشر.»

ويؤخذ من مراجع كثيرة كالكتاب الرابع لعزرا، وكتب الحكيم فيلون، وكتب آباء الكنيسة الأولين، أن أسفارًا غير الأسفار الخمسة كانت تنسب إلى موسى عليه السلام.

وصفوة القول في هذا الصدد أن المراجع الإسرائيلية قد سكتت عن بعض الأمور، ولم تستوعب أمورًا أخرى في سجلاتها المحفوظة؛ فليس من الجائز أن يعترض المعترضون على أمر من الأمور التاريخية لأنه غير مذكور في تلك المراجع، وإذا جاز أن يذهب بعض السجلات من تاريخ سليمان وأبنائه، فمن الجائز أن تذهب سجلات أقدم منها في التاريخ؛ كالسجلات التي حفظت عن عهد إبراهيم، وهي أقدم منها بعدة قرون.

وإذا صرفنا النظر عن هذا كله، ولم نقدر أن هناك أخبارًا مسكوتًا عنها، وأخبارًا ضائعة، فالمسألة التي لا يصح الخلاف عليها عند المقابلة بين المصادر القديمة، هي نقص المصادر اليهودية حتى في أخبار البلاد المجاورة لمملكة إسرائيل؛ فإن المصادر الإسلامية أوفى بأخبار هذه البلاد من مصادر اليهود، ويكفي لتقرير ذلك أن كتب اليهود لم تذكر قط أخبار عاد وثمود، وانفرد القرآن الكريم بذكرها مع ما جاء عنها في المأثورات العربية.

ولولا أن اسم عاد واسم ثمود قد وردا في جغرافية بطليموس، لكان من اليسير على الذين يحملون اسم الخرافة على أطراف ألسنتهم أن يزعموا أنها إحدى الخرافات، ولكن اسم عاد Oadita واسم ثمود Thamudita قد وردا في جغرافية بطليموس، وليس موقعهما كما وصفه الجغرافي الكبير بعيدًا عن مملكة إسرائيل، فإذا كان بطليموس قد سمع بهما؛ فلا يعقل أن يكون أمرهما مجهولًا عند كُتَّاب العهد القديم، وإنما المعقول أن السكوت عن كل رسالة في أبناء إسماعيل هو المقصود.

ومن الواجب تقرير هذه الملاحظات قبل الانتقال إلى مصادر الأحافير وتعليقات المؤرخين المحدثين.

١  تماكس: ماكس المشترى البائع: جادله وطلب منه حط الثمن.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤