الفصل الخامس

في إقراء النبي الصحابة الكرام القرآن

وكان النبي أُمِّيًّا لا يقرأ ولا يكتب، دلَّ على ذلك نصُّ القرآن: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ،١وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ.٢ وكان بعد نزول الوحي إليه وحِفْظه الآية أو السورة يُبَلِّغها الناس، ويُقرئ من الفائزين بِشَرَف الصحبة مَنْ كان يَصْلح لذلك ويَسْتَحْفِظهم إياها، دلَّ على ذلك استقراء الأحاديث الواردة بطرق الثقات من رجال الحديث، الذين أَصْبَحَتْ كُتُبُهُم معوَّلًا عليها عند المسلمين.
روى البخاري في صحيحه بإسناده عن عروة بن الزبير، أن المسور بن مخرمة وعبد الرحمن بن عبدٍ القارئ حدَّثاه، أنهما سَمِعَا الخليفة عمر بن الخطاب — رضي الله عنه — يقول: سَمِعْتُ هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله ، فاستمعْتُ لقراءته فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يُقرئنيها رسولُ الله ، فكِدْتُ أُسَاوِرُهُ٣ في الصلاة، فتصبَّرت حتى سَلَّم، فلبَّبْتُه بردائه، فقلت: مَنْ أقرأك هذه السورة التي سَمِعْتُكَ تقرأ؟ قال: أقرأنيها رسول الله ، فقُلْتُ: كَذَبْتَ، فإن رسول الله قد أقرأنيها على غير ما قَرَأْتَ، فانطلَقْتُ به أقوده إلى رسول الله ، فقلت: إني سمعت هذا يقرأ بسورة الفرقان على حروف لم تُقْرِئْنِيهَا فقال: «أرسِلْهُ، اقرأ يا هشام، فقرأ عليه القراءة التي سَمِعْتُها يقرأ، فقال صلى الله عليه وسلم: كذلك أُنزِلَتْ، ثم قال: اقرأ يا عمر، فقرأْتُ القراءة التي أقرأني، فقال : كذلك أُنزِلَتْ، إن هذا القرآن أُنزِل على سبعة أحرف، فاقرءوا ما تيسر منه.» وفي البخاري عن شقيق بن سلمة قال: خَطَبَنَا عبد الله بن مسعود — رضي الله عنه — فقال: والله لقد أخذت مِنْ فِي رسول الله بضعًا وسبعين سورة، والله لقد عَلِمَ أصحاب النبي أني مِنْ أعلمهم بكتاب الله وما أنا بخيرهم. قال شيخ الطائفة الإمام محمد بن الحسن الطوسي الفقيه٤ في أماليه: إن ابن مسعود أخذ سبعين سورة من النبي وأخذ الباقي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب — عليه السلام — وفي المستدْرَك عن ابن مسعود قال: كنَّا مع النبي في غار، فنزلت عليه وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا فأخَذْتُها من فيه … إلخ الحديث.

روى أبو عبيدة في فضائله وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن عمر بن عامر الأنصاري، أن عمر قرأ: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارُ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ) بِرَفْع الأنصار ولَمْ يُلْحِق الواو في (وَالَّذِينَ)، فقال له زيد بن ثابت: وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ، فقال أمير المؤمنين: أَعْلَمُ، فقال: ائتوني بأُبَيِّ بن كعب، فسأله عن ذلك، فقال أُبَيٌّ: وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ، فجعل كل واحدٍ يشير إلى أنف صاحبه بأصبعه، فقال أُبَيٌّ: والله أقرأنيها رسول الله وأنت تبيع الحنطة، فقال عمر: نعم إذن، فتابَعَ أُبَيًّا.

وفي صحيح البخاري أن النبي قال لأُبي بن كعب: «إن الله أَمَرَني أن أقرأ عليك القرآن»، قال: الله سمَّاني؟ قال: «نعم، وقد ذُكِرتَ عند رب العالمين»، قال: فذرفَتْ عيناه، واشتهر بين القوم بعدة طرق، قوله : «أُبَيٌّ أقرأُكُمْ.» دلَّت هذه الروايات على أن النبي كان يُقرئ القرآن بعض عظماء الصحابة، ويهتم بأن يحفظوه، حتى قال لأُبي: «إن الله أمرني أن أقرأ عليك»، ودلَّت أيضًا على أن الصحابة كانوا يهتمون بحفظ نصوص الآيات، بحيث كان زيادة حرف واو ونقيصتها أمرًا مهتمًّا به، مع أن ذلك لا يُغَيِّر المعنى كثيرًا.

تنبيه

والمراد بالأحرف السبعة: سبعة أوجه من المعاني المتفقة بالألفاظ المختلفة، نحو: أَقْبِلْ وهلمَّ وتَعَالَ وعجِّل وأسْرِعْ وأخِّر وأَمْهِل وامْضِ واسْرِ، وهذا الوجه هو ما اختاره محمد بن جرير الطبري في مقدمة تفسيره٥ وقال: والدلالة على صحة ما قلناه ما تقدم ذِكْرُنا له من الروايات الثابتة عن عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود وأُبي بن كعب — رضي الله عنهم — أنهم تَمَارَوْا في القرآن فخَالَفَ بعضهم بعضًا في نفس التلاوة دون ما في ذلك من المعاني، وأنهم احتكموا فيه إلى النبي فاستقرأ كلَّ رجل منهم ثم صَوَّبَ جميعَهُم في قراءتهم على اختلافها، حتى ارتاب بعضهم لتصويبه إياهم، فقال النبي للذي ارتاب منهم عند تصويبه جميعهم: «إن الله أمرني أن أقرأ القرآن على سبعة أحرف»، فمفاد هذا الكلام أن قول النبي للمختلفين في نفس التلاوة: «إن الله أمرني أن أقرأ القرآن على سبعة أحرف» يَكْشِف أن سبعة أحرف هي ألفاظ مختلفة لمعنًى واحدٍ.

روى في أول مقدمة تفسيره عن أبي كريب عن رجاله عن عبد الرحمن بن أبي بكر عن أبيه قال: قال رسول الله : «قال جبرائيل اقرأ القرآن على حرف، فقال ميكائيل: اسْتَزِدْه، فقال: على حرفين، حتى بلغ ستةَ أو سبعةَ أحرف، فقال: كُلُّها شافٍ كافٍ ما لم يختم آية عذاب برحمة أو آية رحمة بعذاب، كقولك: هَلُمَّ وتعالَ»، وشَاهِدُ ذلك فَهْم الفقهاء هذا المعنى من الحديث.

قال ابن عبد البر: وذَكَر ابن وهْب في كتاب الترغيب من جامعه: قيل لمالك: أترى نقرأ مثل ما قرأ عمر بن الخطاب: فامضوا إلى ذِكْر الله؟ قال: جائز، قال رسول الله : «أُنزِل القرآن على سبعة أحرف فاقرءوا ما تيسر منه»، وهذا الوجه هو الذي لا يراه العقل بعيدًا، فإن الاختلاف لو كان في المعنى بسبعة أوجُه يفسر به المعنى، فقد يفضي إلى معنيين متضادين، فكيف يجيز النبي خلاف ما أراد الله بيانَه من الآية؟ مع أن الروايات الكثيرة دلَّت أن النبي صوَّب قراءتهم؟ وغيرُ خَفِيٍّ أن الآية لا تُفَسَّر بمعنيين متضادَّيْن قد يَئُول إلى حِلِّيَّة ما حرَّم وحُرْمَة ما أَحَلَّ، والله تعالى يقول: وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا.٦ وروى الأعمش عن أنس أنه قرأ هذه الآية «إن ناشئة الليل هي أشد وطئًا وأصوب قيلًا»،٧ فقال له بعض القوم: يا أبا حمزة! إنما هي أَقْوَم، فقال: أقوم وأصوب وأهدى واحد، ويمكن أن يُحْمَل الحديث على ما ذَكَرَهُ محمد بن عبد الكريم الشهرستاني٨ في تفسيره وقال: وقد قيل معنى قول النبي أُنزِل القرآن على سبعة أحرف، أنها هي الجهات التي تَحْتَمِلُها الكلمات، وهي ما اخْتَلَفَ فيه القراء السبعة من الإمالة والإشمام والإدغام.

وكان الصحابة إذا تَلَقَّوْا آية من النبي أو سورة يترددون عليه غير مرة، ويتلونها أمامه حتى يزداد تَثَبُّتُهم من حِفْظِها، ويسألونه: هل حُفِظَتْ كما أُنزِلَتْ؟ حتى يُقِرَّهُم عليها. ذَكَرَ الحافظ الذهبي في «تذكرة الحفاظ»: روَى خارجة بن زيد عن أبيه قال: أتى النبيُّ المدينة وقد قَرَأْتُ سبعة عشر سورة، فقرأت على رسول الله فأعجبه ذلك، وقال: «يا زيد تَعَلَّمْ لي كتابةَ يهود فإني ما آمنهم على كتابي»، قال: فحذقته في نصف شهر.

وبعد الحفظ والإتقان كان كل حافظ يَنْشُر ما حَفِظَه، ويُعَلِّمه للأولاد والصبيان والذين لم يشهدوا النزول ساعةَ الوحي من أهل مكة والمدينة ومَنْ حولهم من الناس، فلا يمضي يوم أو يومان إلَّا وما نزل محفوظ في صدور كثيرين من الصحابة، وكان الحَفَظَة والقرَّاء يَعْرِضون على النبي القرآن ويختمونه عنده، وقد كانوا يقرءون بعض القرآن بأمره .

عن ابن مسعود قال: قال لي رسول الله : «اقرأ عليَّ، ففتحت سورة النساء، فلما بَلَغْتُ: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا رأيْتُ عينيه تذرفان من الدمع، فقال: حسبك الآن.»

قال الآمدي٩ في كتابه «الأفكار الأبكار»: إن المصاحف المشهورة في زمن الصحابة كانت مقروءة عليه ومعروضة، وكان مصحف عثمان بن عفان — رضي الله عنه — آخر ما عُرِض على النبي ، وكان يصلي به إلى أن قُبِض. خرَّج ابن أشتة في المصاحف وابن أبي شيبة في الفضائل من طريق ابن سيرين عن عبيدة السلماني، قال: القراءة التي عُرِضَتْ على النبي في العام الذي قُبِض فيه هي القراءة التي يقرؤها الناس اليوم. قال البغوي١٠ في شرح السنة: إن زيد بن ثابت شَهِدَ العَرْضَة الأخيرة التي بيَّن فيها ما نُسِخ وما بَقِيَ، وكتبها له وقرأها عليه، وكان يُقرئ الناس بها حتى مات؛ ولذلك اعتمَدَهُ عمر وأبو بكر — رضي الله عنهما — وجَمعه، وولَّاه عثمانُ كَتْب المصاحف.
أرسل رسول الله جماعةً من القُرَّاء إلى المدينة لتعليم القرآن. روى البخاري بإسناده عن أبي إسحاق عن البراء قال: أوَّل مَنْ قَدِمَ علينا من أصحاب النبي مُصعب بن عمير وابن أم مكتوم، فجعلا يُقْرِئاننا القرآن، ثم جاء عمار وبلال، ولما فتح مكة ترك معاذ بن جبل للتعليم، وكان الرجل إذا هاجر إلى المدينة دَفَعَهُ النبي إلى رجل من الحفظة ليعلِّمه القرآن، وكَثُر عدد الحفظة في عهد رسول الله ، وقُتِل في عهده في بئر معونة زُهَاء سبعين من القراء. قال الكرماني كما في الإتقان في الصحيح: إن الذين قُتِلوا في غزوة بئر معونة من الصحابة — وكان يُقال لهم القُرَّاء — كانوا سبعين رجلًا، وفي كثير من الأحاديث أن أبا بكر — رضي الله عنه —١١ حَفِظَ القرآن في حياة رسول الله ، وقد ذَكَرَ أبو عبيدة في «كتاب القراءات»: القُرَّاء من أصحاب النبي ، فعدَّ من المهاجرين: الخلفاء الأربعة، وطلحة وسعدًا، وابن مسعود وحذيفة وسالمًا وأبا هريرة وعبد الله بن السائب والعَبَادلة١٢ وعائشة وحفصة وأم سلمة، ومن الأنصار: عبادة بن الصامت ومعاذ الذي يُكْنَى أبا حليمة، ومجمع بن جارية، وفضالة بن عُبَيْد، ومَسْلَمة بن مَخْلد، وصرَّح أن بعض هؤلاء كَمَّل القرآن بعد النبي ، وعدَّ ابن أبي داود منهم تميمًا الداريَّ وعقبة بن عامر. خرَّج ابن سعد في الطبقات: أنبأنا الفضل بن دُكَين، حدَّثنا الوليد بن عبد الله بن جميع قال: حدَّثَتْني جدتي عن أم روقة بنت عبد الله بن الحارث، وكان رسول الله يزورها ويسمِّيها الشهيدة، وكانت قد جَمَعَت القرآن، وكان رسول الله قد أَمَرَها أن تؤم أهْل دارها.
١  سورة الأعراف.
٢  سورة العنكبوت.
٣  ساوره: وَثَبَ عليه، أي كِدْتُ أَثِبُ عليه.
٤  هو محمد بن الحسن بن علي الطوسي شيخ الإمامية ومن جُمْلَة فقهائهم ومحدِّثيهم، وُلِد في رمضان سنة ٣٨٥، وقَدِمَ العراق وتُلْمِذَ لدى الشيخ المفيد محمد بن محمد بن النعمان، وتوفي في محرم سنة ٤٦٠ في النجف.
٥  ج١.
٦  سورة النساء.
٧  سورة المزمل.
٨  هو أبو الفتح محمد بن أبي القاسم عبد الكريم بن أحمد الشهرستاني، مُتَكَلِّم فقيه وُلِد سنة ٤٦٧ وتوفي سنة ٥٤٨، وله كتاب في التفسير اسمه «مفاتيح الأسرار ومصابيح الأبرار» وهو تفسير جليل مخطوط منه نسخة موجودة في دار الكتب في برلمان إيران.
٩  هو أبو الحسن علي بن أبي علي محمد بن سالم التغلبي الفقيه الأصولي المتكلِّم المتوفَّى سنة ٦١٧.
١٠  هو أبو محمد الحسين بن مسعود بن محمد بن الفراء الشافعي، صاحب مَعَالِم التنزيل وشرح السنة والمصابيح، كان ذا تَعَبُّد ونسك وقناعة باليسير، توفي بمرو سنة ٥١٦ﻫ.
١١  نُقِلَ عن ابن حجر في الإتقان حِفْظ أبي بكر القرآن.
١٢  وهم: عبد الله بن عمر بن الخطاب المتوفى سنة ٧٤ (تذكرة الحفاظ)، وعبد الله بن عمرو بن العاص السهمي المتوفى سنة ٦٣ (كشف الظنون)، وعبد الله بن عباس بن عبد المطلب، هو الذي سُمِّيَ تُرجمانَ القرآن، ودعا له النبي أن يُفَقِّهَه الله في الدين، وأن يعلِّمه تأويل القرآن، تُوُفِّيَ في الطائف سنة ٦٨ (تذكرة الحفاظ للذهبي)
خرَّج النسائي بسندٍ صحيحٍ عن عبد الله بن عمر قال: قال سَمِعْتُ القرآن فقرأت به كل ليلة فبلغ النبيَّ فقال: «اقرأه في شهر» … الحديث.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤