الفصل الثاني
القرآن في عهد عثمان — رضي الله عنه
قد سبق أن الصحابة قرءوا بعض كلمات القرآن بألفاظ مختلفة كانت تدل على معنًى واحد،
كامض وأسر وعجِّل وأسرع وأخِّر وأمهل، وأن عمر قرأ: فامضوا إلى ذِكْرِ الله، وأنس قرأ:
إن ناشئة الليل هي أشد وطئًا وأَصْوب قِيلًا، ولم يكن هذا الاختلافُ بنظرهم مغيِّرًا
لمعنى القرآن؛ ولذلك أقرَّ النبي ﷺ قراءاتهم على اختلاف ألفاظِهَا.
وبعد عهد النبي
ﷺ أخذ يزيد هذا الاختلاف في عهد أبي بكر، واشتد في عهد عثمان
حتى اقتتل المعلِّمون والغلمان، وتفرَّق القُرَّاء والحُفَّاظ في الشام والعراق واليمن
وأرمينية وأذربيجان، وزاد على هذا الاختلاف بتأثير عوامل تحول اللغة بمجاورة أمم غير
عربية أو عربية غير مُضَرِيَّة، وأصبح بحيث يُخْشَى من تأثيره، فعند ذلك أحسَّ
حُذَيْفَة بن اليمان
١ الصحابي الجليل بسوء تأثيره إن استمر، وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية
وأذربيجان مع أهل العراق، فأَعْلَمَ عثمانَ سوء عاقبة الاختلاف في القرآن.
وفي البخاري ووافقه صاحب الفهرست
٢ قال: حدَّثنا إبراهيم قال: حدَّثنا ابن شهاب، أن أنس بن مالك حدَّثه، أن
حذيفة بن اليمان قَدِمَ على عثمان (في الفهرست وكان بالعراق)، وكان يغازي أهل الشام في
فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق، فأَفْزَعَ حذيفةَ اختلافُهم في القراءة، فقال
لعثمان: يا أمير المؤمنين أَدْرِك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود
والنصارى، فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالمصحف ثم نَرُدُّها إليك، فأرسَلَتْ
بها حفصة إلى عثمان، فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن
بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف، وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم
أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن، فاكتبوه بلسان قريش، فإنما أُنزِل بلسانهم.
٣
ويظهر من بعض الأسانيد الموَثَّقة أن عثمان لما أراد نسخ القرآن في المصاحف، جَمَعَ
له اثني عشر رجلًا من قريش والأنصار. خرَّج ابن أبي داود من طريق محمد بن سيرين عن كثير
بن أفلح، قال: لما أراد عثمان أن يكتب المصاحف جَمَعَ له اثني عشر رجلًا من قريش
والأنصار، فبعثوا إلى الربعة
٤ التي في بيت عمر فجيء بها، وكان عثمان يتعاهدهم إذا تداوروا
٥ في شيءٍ أَخَّرُوه، قال محمد: فظننت أنما كان يؤخِّرونه لينظروا أحدثهم
عهدًا بالعرضة الأخيرة فيكتبونه على قوله، وقال ابن حجر: فاتفق رأي الصحابة على أن
كتبوا ما تَحَقَّقَ أنه قرآن في العرضة الأخيرة، وتركوا ما سوى ذلك.
٦ ويدلُّ على قول ابن حجر ذَيْلُ حديث البخاري عن خارجة بن زيد بن ثابت قال:
فُقِدَتْ آية من الأحزاب حين نَسَخْنَا المصحف، قد كُنْتُ أسمع رسول الله
ﷺ يقرأ
بها، فالتمسناها فوجدناها مع أبي خزيمة بن ثابت الأنصاري:
مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ
فألحَقْنَاها في سورتها في المصحف. يتراءى أن التحقيق أَرْشَدَهُم إلى أن الآية مما
عُرِضَتْ على النبي
ﷺ في العرضة الأخيرة في المصحف، ولما نَسَخُوا الصحف في
المصاحف ردَّها عثمان إلى حفصة ونسخوا أربعة مصاحف، وأبقى عنده واحدًا منها، وأرسل
عثمان الثلاثة للبصرة والكوفة والشام، وعيَّن زيدُ بن ثابت أن يُقْرِئَ بالمدني، وبعث
عامر بن قيس
٧ مع البصري، وأبا عبد الرحمن السلمي مع الكوفي،
٨ والمغيرة بن شهاب مع الشامي، وقرأ كل مِصْرٍ بما في مصحفه.
فالجَمْع الأول كان جَمْعَ الآيات حين نزولها في الكتب وأمثالها مما كانت العرب
تَكْتُب عليه وعَرْضها على النبي ﷺ، والجمع الثاني في عهد الخليفة أبي بكر كان
جَمْع القرآن بين لوحين ونسخها في قطع الأديم، والجمع الثالث في عهد عثمان — رضي الله
عنه — كان جَمْع المسلمين على قراءة واحدة.
ذَكَرَ علي بن محمد الطاوس العلوي الفاطمي في كتابه «سعد السعود» نقلًا عن كتاب أبي
جعفر محمد بن منصور ورواية محمد بن زيد بن مروان في اختلاف المصاحف أن القرآن جَمَعَهُ
على عهد أبي بكر زيدُ بن ثابت، وخالَفَه في ذلك «أُبَيٌّ» و«عبد الله بن مسعود» و«سالم»
مولى أبي حذيفة، ثم عاد عثمان فجمع المصحف برأي مولانا علي بن أبي طالب — عليه السلام
—
وأخذ عثمان مصحف أُبي وعبد الله بن مسعود وسالم مولى أبي حذيفة فغسلها (كذا)
٩ وكتب عثمان مصحفًا لنفسه، ومصحفًا لأهل المدينة، ومصحفًا لأهل مكة، ومصحفًا
لأهل الكوفة، ومصحفًا لأهل البصرة، ومصحفًا لأهل الشام، (ومصحف الشام رآه ابن فضل الله
العمري في أواسط القرن الثامن الهجري) يقول في وصف مسجد دمشق: «وإلى جانبه الأيسر
المصحف العثماني بخط أمير المؤمنين عثمان بن عفان — رضي الله عنه» ا.ﻫ.
١٠ ويُظَنُّ قويًّا أن هذا المصحف هو الذي كان موجودًا في دار الكتب في لنين
غراد وانتقل الآن إلى إنكلترا.
ورأيت في شهر ذي الحجة سنة ١٣٥٣ﻫ في دار الكتب العلوية في النجف مصحفًا بالخط الكوفي
كُتِبَ على آخره: كَتَبَه عليُّ بن أبي طالب في سنة أربعين من الهجرة، لتشابه أبي وأبو
في رسم الخط الكوفي قد يَظُنُّ من لا خبرة له أنه: كتب علي بن أبو طالب بالواو.
وفي كلام ابن طاوس — رحمه الله — في كتاب سعد السعود أن عثمان عاد وجمع المصحف برأي
علي — عليه السلام — تأييد لما ذَكَرَهُ الشهرستاني في مقدمة تفسيره براوية سويد بن
علقمة قال: سمعت علي بن أبي طالب — عليه السلام — يقول: أيها الناس، الله الله إياكم
والغلو في أمر عثمان، وقولكم حرَّاق المصاحف، فوالله ما حرَّقها إلَّا من ملأٍ من أصحاب
رسول الله ﷺ، جمعنا وقال: ما تقولون في هذه القراءة التي اختلف الناس فيها: يلقى
الرجلُ الرجلَ فيقول قراءتي خيرٌ من قراءتك، وهذا يَجُرُّ إلى الكفر. فقلنا بالرأي.
قال: أريد أن أجمع الناس على مصحف واحد، فإنكم إن اختلفتم اليوم كان مَنْ بَعْدَكُم
أَشَدَّ اختلافًا. فقلنا: نِعْمَ ما رأيت. فأرسل إلى زيد بن ثابت وسعيد بن العاص قال:
يكتب أحدكما ويُمْلِي الآخر، فلم يختلفا في شيء إلَّا في حَرْف واحد في سورة البقرة،
فقال أحدهما: «التابوت» وقال الآخر «التابوه»، واختار قراءةَ زيد بن ثابت لأنه كتب
الوحي.