الفصل الثاني

ظاهرة الاختفاء المفاجئ

صاحت ستار في الرجل الذي كان يتقدَّمها ببضع خطوات، بينما كانت تحاول الْتِقاطَ أنفاسها قائلةً: «قُلْ لي مجددًا لِمَ نفعل هذا؟» ضحك جون من كلامها وهو يشقُّ طريقَه إلى أعلى الجبل بسرعةٍ وسهولةٍ وكأنَّ الأمرَ لا يتطلَّب مجهودًا.

ثم أجاب جون مداعِبًا بصوتٍ لم يُوحِ بأنه كان يواجِه أيَّ صعوبةٍ في التنفس على الإطلاق: «هل تحبِّين الطعام؟»

تمتمَتْ ستار وهي تحاول الابتعادَ قدر الإمكان عن ذلك الثعبان الذي كان يرقد فوق صخرةٍ ليتشمَّس: «ربما يمكنني تعلُّم العيش دون طعام.» لم يكن هذا رأي ستار وحدها؛ ففي تلك الأيام لم تكن مهمة تسلُّق الجبال بالنسبة إلى معظم الووركرز مملةً فحسب، بل كانت مثيرةً للجنون أيضًا؛ فثمة الملل من المسيرة الشاقة التي تستمرُّ لأيامٍ في ظل الحرارة اللاذعة التي لا يلقون منها سوى الجحود، وثمة أيضًا الخوف من أن يراهم الهايلاندرز الذين يراقِبون جانبَ التل من مكانهم بالأسفل … كان الأمرُ كلُّه أشبهَ بمحاولةٍ مستمرة لتحقيق ذلك التوازُن بين بذل القدر المطلوب من الجهد لإنجاز العمل، وتوخِّي القدر اللازم من التحفُّظ حتى لا يلفتوا الأنظارَ إليهم. وهكذا، قضَتْ ستار وغيرها من الووركرز جزءًا كبيرًا من اليوم في الشكوى بعضهم إلى بعض، وفي الاختباء من الهايلاندرز؛ ليس لأنهم يراقبونهم — فَلَمْ يَعُد الهايلاندرز يراقبونهم كثيرًا على أي حال — ولكن لأن الاحتياط واجب.

وقفت ستار تحت شجرة صغيرة تحتمي في ظلها، ونظرَتْ باتجاه جون من مكانها بالأسفل وقالت: «تمهَّلْ، أَلَا ترغب في استراحة؟»

غمز جون بعينيه موافِقًا وعاد أدراجه لينضمَّ إليها بالأسفل. كان جون قويَّ البنية كأقرانه من الووركرز، وكان لونُ شعره وبشرته شاحبًا لدرجة جعلته يبدو شبهَ شفاف. قالت ستار في نفسها: «إنَّ الأمر لَيتطلَّب شخصًا حادَّ الرؤية من الهايلاندرز كي يستطيع رؤيةَ جون، هذا إنِ اهتمَّ أحدُهم بإلقاء نظرةٍ من الأساس.»

غمغمَتْ ستار بلهجةٍ تعبِّر عمَّا تكنُّه لِجون من احترام: «أنا لا أعلم كيف يتأقلم مع الأمر على هذا النحو الجيد، حتى إنه لا يلاحظه أحدٌ.» لم يكن يخفى على أحدٍ أن جون هو أكثر متسلِّقي الجبال احترافًا بين الووركرز؛ فلقد وصل في إحدى المرات إلى تلك النقطة العالية التي يمكن العثور عندها على الماس الثمين، ولكن عندما سألَتْه ستار عن هذا الأمر أعرَضَ عن الإجابة.

كانت الحقائب التي معهما فارغةً في تلك اللحظة؛ فقد اعتادَا جمْعَ الجواهر في طريقهما إلى النزول من الجبل وليس في أثناء تسلُّقِه؛ كانت تلك واحدةً من حِيَل توفير الجهد التي تعلَّمَتْها ستار من جون، أما الحيلة الأخرى فكانت الدَّفْعَ بالحقائب المملوءة على المنحدرات الوعرة كي تتدحرج بنفسها إلى الأسفل، بدلًا من أن يُضطرَّ أحدٌ لحمْلِها. وبالطبع، كانت بعض الأحجار الكريمة تنكسر خلال هذه العملية، ولكن تلك الحيلة كانت تهوِّن كثيرًا من مشقة رحلتهما إلى أسفل الجبل. لقد كانت تلك إحدى الطرق المختصرة التي تعلَّمَاها، والتي تسهِّل عليهما عملهما.

قالت ستار مشيرةً باتجاه قرية الهايلاندرز التي استقرَّتْ بعيدًا عند سفح الجبل: «انظر، يبدو أنهم يستعِدُّون لحفل توزيع ثمار العُمَّال.»

كان الهايلاندرز يتَّجِهون إلى أماكن تقديم القرابين عند سفح الجبل مرةً عند ظهور الهلال في بداية الشهر، ومرةً عند انتصاف القمر، وهناك كانوا يحصدون صناديقَ الجواهر من الووركرز ويتركون لهم ثمارَ العُمَّال، التي كانت عبارةً عن سِلالٍ تحتوي على الفاكهة والحبوب والخضراوات التي شكَّلَتِ الغذاءَ الأساسي للووركرز. كانت تلك الثمار الغريبة التي قُطِفت من بساتين الهايلاندرز تتلألأ تحت ضوء القمر بألوانها البنفسجية والزرقاء والقرمزية والذهبية، فتُصدِر بريقًا يضاهي بريقَ الجواهر.

مجرد التفكير في هذه الثمار الطازجة الحلوة جعَلَ لُعابَ ستار يسيل.

كانت ستار تَعْلم أن تقديم تلك الثمار لم يكن مجرد ثمن يدفعه الهايلاندرز مقابل الجواهر فحسب، وإنما كان أيضًا رشوة للووركرز كي يجلبوا المزيدَ من تلك الجواهر. وعادةً ما كانت هذه الرشوة تُثبِت فعاليتها؛ فحصيلةُ الجواهر لم تكبر في الحجم ولم تتحسَّن جودتها قط، ومع ذلك فقد استمر الووركرز في جلب حقائب مليئة بها عامًا بعد عام … على الرغم من المخاطر؛ ففي نهاية المطاف، كان الووركرز في حاجةٍ إلى الغذاء في وقتٍ لم يكن الهايلاندرز يفرضون سيطرتَهم على الجبال فحسب، وإنما أيضًا على الحقول التي شكَّلَتِ المصدرَ الوحيد للغذاء على الجزيرة.

لكن كان ثمة شيءٌ ما يحدث مؤخرًا، شيء عكَّرَ صفْوَ الحياة على جزيرة كوباني. حاولَتْ ستار بكل ما في استطاعتها أن تقترب من كبار السن الذين عاشوا عمرًا على هذه الجزيرة؛ كي تسمع ما كانوا يتهامسون به فيما بينهم، عندما يجلسون معًا حول النار في المساء والقلقُ بادٍ على وجوههم العابسة، غير أن محاولاتها قد باءت بالفشل.

ولكن جون استطاع سماعهم.

سألها جون وهو يتحرَّك نحوها كي يجلس إلى جانبها: «هل سمعتِ ما يقوله الآخرون؟»

أومأت ستار بالنفي، ومالت ناحيته وكأنهما يخطِّطان لمؤامرةٍ ما.

استطرد جون قائلًا: «التبخُّر؛ هذا هو ما يحدث.» لاحظَتْ ستار في كلامه نبرةَ فخرٍ بأنه قد كشفَ لها عن هذا السر، ولِلَحظةٍ بَدَا لها أن هذا الشعور بالفخر قد جعل جون يبدو مرئيًّا قليلًا، فلم يَعُدْ ذلك الشخصَ الشاحبَ الذي بالكاد يراه الآخرون.

قال جون مفرقعًا أصابعه: «الووركرز يتبخرون، إنهم يتبخرون هكذا في الهواء، والكبار لا يَعْلمون السرَّ وراء ذلك أو السبيلَ إلى إيقافه.»

وكسا الخوفُ وجهَه بينما استطرد قائلًا: «لقد اختفى أربعةٌ من الووركرز خلال هذا الأسبوع فقط.»

فكرت ستار وهي تَقْطع طريقها إلى أسفل الجبل بصعوبة: «هذا هو الأمر إذن؛ يتبخرون. هل يُعقَل أن يكون هذا حقيقيًّا؟» تبادرت إلى ذهنها صورُ كل أصدقائها الأعزاء الذين قد تفقدهم. تذكَّرَتِ المهارات الفريدة التي كانت لدى كل واحد من المتسلِّقين المهدَّدين بالاختفاء، تذكَّرت ساريا التي دائمًا ما كانت تَعْرف السبيلَ إلى العثور على تلك الممرات الضيقة التي حوَتْ داخلَها الجواهرَ الثمينة، ثم تذكَّرَتْ كيف كان الباقون متسلِّقين محترفين، وكيف نقلوا خبرتهم إلى الصغار. وماذا لو فقدوا ريمي التي كان بإمكانها التنبُّؤ بحالة الجبال وما إذا كانت غير آمِنة للتسلُّق؟ بل إنها وجدَتْ نفسها تفكِّر بكل أنانية في كل رحلات التسلُّق الإضافية التي سيتعيَّن عليها القيام بها لو اختفى المزيد من أفراد قبيلتها.

ثم جاء وقت الاحتفال ليقاطع أفكارها.

كانت ليلةً رائعةَ الجمال … ليلةً صافية ودافئة ازدانت سماؤها بالنجوم اللامعة.

كانت ستار تقف على حافة تلك الرقعة من الأرض التي خَلَتْ من الأشجار تقريبًا، لتشاهد الهايلاندرز وهم يرقصون في ملابسهم المنمَّقة، مشكِّلين صفًّا طويلًا يدور حول نفسه ويرقص كلُّ مَنْ فيه على قدم واحدة، بينما كانت أعلامهم البرتقالية ترفرف فَيَتَمَاهى لونها مع أضواء النجوم، لتبدو وكأنها عصيٌّ مشتعلة انتُزِعت من النار ولوَّحَ بها أحدهم في هواء الليل.

كانت ستار تقف إلى جانب جون عندما سمعَتْه يفكِّر بصوتٍ خافت تُخالِجه نبرةُ تعجُّب: «إنهم حقًّا لا يبالون من أين تأتي الأحجار الكريمة ما دامت هنا، ولن يبالوا بمصدرها حتى لو كانت تنزل عليهم من السماء.»

لم تكن ستار لتخالفه الرأي في معظم الأيام، ولكن كان من الصعب عليها أن تنتقد الهايلاندرز في هذا اليوم الذي كانوا يقدِّمون فيه القرابين للووركرز؛ ومن ثَمَّ قالت: «ولكنهم يرقصون من أجلنا.»

ابتسم جون ابتسامةً كتلك الابتسامة التي قد يُبدِيها أبٌ في وجه طفله الساذج، قائلًا: «ربما كانوا يرقصون من أجلنا في السابق، ولكنَّ الحالَ قد تغيَّرَ؛ إنهم يرقصون لأن في رقصهم ما يضمن لهم المزيدَ من الجواهر. هم لا يرقصون من أجلنا، لم يَعُدْ أحدٌ يبالي بنا؛ إنهم يرقصون الآن لأنفسهم.»

فكَّرَتْ ستار مليًّا ثم أعرضَتْ عن الأمر؛ لم تكن الليلةُ مناسبةً للنقاش.

قالت ستار: «دَعْ عنكَ كلَّ هذا، إنها ليلةٌ جميلة و…»

حدث الأمر في غضون لحظة؛ لم تكد ستار تدير رأسها نحو جون مداعِبةً إياه لتخفِّف من حزنه حتى سمعَتْ فرقعةً طفيفةً! فجأةً وعلى نحوٍ صادم، لم يَعُدْ جون موجودًا! لم يتحوَّل إلى رجلٍ خفي، ولم يتلاشَ تدريجيًّا، وإنما تبخَّرَ كليًّا في غمضة عين.

ولم يخلِّف وراءه سوى صمت عميق.

(١) ظاهرة الاختفاء المفاجئ

(١-١) لماذا يترك الموظفون عملهم؟

ماذا لو قلنا لك إن ثمة سببًا واحدًا يَعْزُو إليه ٧٩ بالمائة من الموظفين قرارَهم عندما يتركون عملهم؟ هل ستفعل شيئًا حيال هذا؟ حسنًا إذن، وفقًا لجمعية إدارة الموارد البشرية (وهي أكبر جمعية في العالم تكرِّس جهودَها لإدارة الموارد البشرية، ويقع مقرُّها في الولايات المتحدة الأمريكية)، فإن ٧٩ بالمائة من الموظفين يتركون عملهم بسبب عدم التقدير.

اليوم، وفي ظلِّ هذا المشهد الاقتصادي الذي ترتفع فيه نسبةُ البطالة، قد لا يبدو هذا الأمر مُقلِقًا من وجهة نظر بعض المديرين، ولكنه ينبغي أن يكون كذلك؛ إنهم في حاجة إلى فهم نوعية الموظفين الذي يتركون وظائفَهم أثناء الركود الاقتصادي؛ إذ إن مثل هؤلاء الموظفين غالبًا ما يكونون من ذوي الأداء المهني الأعلى كفاءةً، ودائمًا ما تكون لديهم خيارات، وهم من الأشخاص الذين يُعَدُّ وجودُهم عنصرًا أساسيًّا لبقاءِ مؤسسةٍ ما ونموِّها عندما يدخل الاقتصادُ منعطَفَ الركود.

لا عجبَ إذن في أن برودينشال فاينانشيال قد خرجَتْ بالنتائج نفسها، عندما أشرفَتْ على مشروعٍ على مستوى الشركة كان يهدف إلى جمع معلومات من موظفي الشركة الحاليين والسابقين، وكذلك من الأشخاص المرشحين للعمل بالشركة مستقبلًا؛ وكانت النتائج أن الموظفين السابقين ذكروا «عدمَ تلقِّيهم التقديرَ نظيرَ العمل الذي أنجزوه»، على رأس قائمة الأسباب التي دعَتْهم إلى ترك عملهم بالشركة.

في زمن يجد الموظفون فيه أنفسَهم مطالَبين ببذل الكثير مقابل القليل، من الطبيعي أن يتمردوا، إلا أنهم لا يعبِّرون عن هذا التمرُّد بالوقوف أمام بوابة مصنعك حاملين لافتاتِ اعتصامٍ أو إضرابٍ، بل يعبِّرون عنه بالتذمُّر والاستسهال في العمل إلى أن يتركوا العمل فجأةً، أو «يتبخروا» من المكان كله في نهاية الأمر.

هل ثمة علاقة بين الحب والعمل؟ نعم، ثمة علاقة وثيقة على ما يبدو، ولا سيَّما عندما يتعلَّق الأمر برضا الموظفين.

إنَّ الموظفين لا يتركون عملهم سعيًا وراء المال.

بل يتركونه هربًا من هؤلاء المشرفين الذين يرأسونهم.

ثمة قناعة سائدة بين معظم المديرين الذين قابلناهم بأن الراتب الذي يمنحونه لموظفيهم مرتين شهريًّا، هو المقابل الذي يشترون به التزامَ موظفيهم، ولكن المفاجِئ في الأمر هو أن المال نادرًا ما يأتي على رأس قائمة العوامل التي تجعل الموظفين راضين عن عملهم؛ فعلى الرغم من أن الراتب قد يُجبِر الموظفين على الحضور إلى العمل بصفة يومية، فإنه لا يضمن انخراطَهم في العمل على المدى الطويل. وربما لا يبدو الأمر مفاجِئًا إلى هذه الدرجة، إذا أنت أنعمتَ النظر فيه جيدًا.

لنفكِّرْ كَمْ من المال سيكسب هؤلاء الموظفون عندما يتركون العمل لديك؛ ربما يقول أحد الموظفين: «إنهم يمنحونني ضِعْفَ الراتب الذي كنتُ أحصل عليه.» حسنًا، هذا غير معقول. وهناك مَنْ يقول: «لقد زاد راتبي بمعدل النصف.» وهذا أمر غير وارد أيضًا. بالطبع، قد يترك بعضُ الموظفين عملهم بهدف تحسين وضعهم المادي ليس إلا، ليتقاضوا راتبًا أعلى بنسبة ٢٠ بالمائة مثلًا، ولكن معدل زيادة الرواتب في أمريكا الشمالية قد استقرَّ تقريبًا عند نسبة ٥ بالمائة، فهل يخبرك هذا بشيء؟ نعم، يخبرك هذا بأن بعض الناس في الواقع يتركون عملَهم ليحصلوا على راتبٍ أقلَّ بكثير من الذي كانوا يتقاضونه.

الحقيقة هي أن بعض الموظفين يفضِّلون الحصولَ على راتب أقل عن البقاء والعمل معك … أنت.

كشفَتْ دراسةٌ أجراها معهد ساراتوجا عن أن ٥٠ بالمائة من نسبة الرضا الوظيفي تتوقَّف على علاقة الموظف برئيسه المباشِر، وأنَّ تدهوُرَ هذه العلاقة يعني تدهوُرَ وضْعِ مكان العمل ككلٍّ. وفي مقابَلات أُجرِيت مع ٢٠ ألف موظف كانوا قد تركوا عملَهم توًّا، وَجَدَ معهد ساراتوجا أن سلوك رؤساء هؤلاء الموظفين كان السببَ الرئيسي الذي دفَعَ معظمَهم إلى الاستقالة من عملهم. قد تجد صعوبةً في تصديق هذا الأمر إنْ لم تكن قد تعرَّضْتَ له بنفسك.

الْتَقينا مؤخرًا بسيدة أعمال شديدة الذكاء عقب تحدُّثنا في الاجتماع السنوي للرابطة الدولية لخبراء الاتصال في إدارة الأعمال. جاءتنا هذه السيدة بعد حديثنا مباشَرةً، بينما كنَّا في عجلةٍ من أمرنا كي نحزم أمتعتنا ونلحق بالطائرة، ولكن كلامها استوقفنا؛ قالت — بعد أن أخبرتنا أنها كانت تعمل في مجال الرعاية الصحية: «لم أكن أصدِّق أن الناس قد يتركون عملَهم هربًا من رؤسائهم، ولكنني مررتُ بهذه التجربة؛ إذ كانت لديَّ رئيسةٌ مريعة.» ارتجَفَ جسدها في اشمئزازٍ عندما تذكَّرَتْها ثم استطردَتْ: «لم تكن تهتمُّ إلا بنفسها.»

سألناها إنْ كان هذا قد دفَعَها إلى ترْكِ عملها.

أومأت برأسها وقالت: «تركتُ العملَ معها ووجدتُ وظيفةً في مكانٍ آخَر، والآن لديَّ رئيسٌ رائعٌ يشكرني طوالَ الوقت.»

هذا أمر جيد في حق الشركة الجديدة التي تعمل معها، ولكنه أمر سيئ في حق الشركة القديمة التي تركتها. والأمر ليس سيئًا فحسب، بل لعله أسوأ حتى ممَّا يعتقد مديرو هذه الشركة؛ فكَمْ من موظَّف آخَر يشعر بهذا الاشمئزاز ذاته عندما يحضر إلى العمل كلَّ يوم؟ وهل يقدِّم أيُّ موظف أفضلَ أداءٍ لديه، أم يبحث الجميع عن مهرب؟

(١-٢) الموهوبون يفرُّون أولًا

لعلك قرأتَ أو سمعتَ أنه في الماضي كان ثمة عصفور صغير في مناجم الفحم للتنبُّؤ بالخطر؛ كان العُمَّال دائمًا ما يأخذون معهم عصفورَ كناري أو أيَّ طائرٍ آخَر إلى مكان عملهم تحت الأرض؛ ليكون لهم بمنزلة جهاز إنذار مبكر. كانوا يعلمون أنه في حال انبعاث أي غازات مُمِيتة غير مرئية، فإن الطائر سيكون أولَ مَنْ يتأثَّر بها؛ بعبارة أخرى، كان موتُ الطائر بمنزلة جرس إنذار للعُمَّال لمغادرة المنجم فورًا.

إنَّ حال هذا الطائر يشبه حال موظفيك المتميزين في كل شيء، عدا أن الموظفين — لحُسْن الحظ — لا يسقطون صرعى، وإنما «يتبخَّرون» فحسب.

يقول مارشال جولدسميث، المدير المؤسِّس لشركة أليانز فور ستراتيجيك ليدرشب: «عند سؤال الموظفين ذوي الأداء المهني المرتفع عن سبب ترْكِهم عملَهم، فإنهم يُجِيبون بأنْ لم يطلب أحدٌ منهم البقاءَ. كثير من المديرين التنفيذيين لا يخبرون الموظفين ذوي الأداء المرتفع بأن لهم مكانةً خاصةً؛ خشيةَ أن يشعر ذوو الأداء العادي من الموظفين بالتهميش. إلا أن مثل هذه الممارسات تجعل الاحتفاظَ بأصحاب الأداء المتميِّز صعبًا.»

كلَّفَ جاك ويلش، الرئيسُ التنفيذي السابق لشركة جنرال إلكتريك، نفسَه عناءَ التعرُّف على الموظفين ذوي الأداء المرتفع في شركته وإعلامهم بأنهم يُحدِثون فَرْقًا. يقول ويلش عن هؤلاء الموظفين: «هؤلاء الموظفون المتميِّزون الذين يشكِّلون نسبةَ عشرين بالمائة، لا بد أن يشعروا بالحب والرعاية، ولا بد أن يتلقَّوْا المكافآت المادية والمعنوية؛ فهؤلاء هم الذين يصنعون المعجزات.»

ولكن عندما يكون مناخ العمل في شركةٍ ما لا يُطاق مطلقًا، فإن أفضل الموظفين هم عادةً أول مَن يغادر.

ما الذي يمكنك فعله إذن لإيقاف هذه الهجرة الجماعية للموظفين؟ الإجابة تكمن في رفع معدل تقدير الموظفين.

عُدْ بذاكرتك للأمس وفَكِّرْ كم مرة وجَّهْتَ انتقادًا (حتى إنْ كان بنَّاءً) لأحد الموظفين أو قمتَ بتقويمه، ثم قارِنْ ذلك بعدد المرات التي أثنيتَ فيها على أحد الموظفين أو عبَّرْتَ عن امتنانك له.

بالنسبة إلى كثيرٍ من الموظفين الذين يتلقَّون هذا وذاك من رؤسائهم، فإن هذا المعدل من التقدير ليس إيجابيًّا. قال لنا أحد الموظفين في قطاع الخدمات: «عندما أخطِئ فالأمر يكون معلومًا بنسبة ١٠٠ بالمائة، لكن عندما أنجز عملًا رائعًا فالأمر لا يكون معلومًا بنسبة ٩٩ بالمائة.»

شهادة مفزعة، أليس كذلك؟ هذا الكلام يعني أن نسبة التقدير التي يتلقاها هذا الموظف عن عمله لا تتعدَّى واحدًا بالمائة.

لكن ماذا لو ارتفعت نسبة التقدير الذي يتلقَّاه الموظفون عن عملهم لتصل إلى ٢ بالمائة؟ بل أفضل من ذلك، ماذا لو وصلَتْ إلى ١٠ أو ٢٠ أو حتى ٤٠ بالمائة؟ قد يفاجئك ما سيحدث. في الواقع، ووفقًا لما لدينا من بيانات، فإنك من دون شك ستتفاجأ؛ فالنتائج مذهلة حقًّا.

فيما يلي مثال على ما قد يحدث في مجال واحد فقط؛ مجال الخدمات الغذائية.

إذا كان قد سبق لك العمل في مطعم، فلا بد أنك تعلم أن بيئة العمل هي التي تُحدِث الفرق كله؛ فالمطاعم بإمكانها أن تكون بيئة تقوم على العمل الجماعي وسط زملاء عمل مَرِحين، ومنتجات رائعة، ورؤساء ذوي شخصيات مَرِحة وجذَّابة، أو بإمكانها أن تكون مكانًا يعجُّ بالطلبات المرهقة؛ ومن ثَمَّ يصعب فيه التعامُل مع زملاء العمل، ويندر فيه مدح الموظفين على أدائهم، ويشهد نسبةً هائلةً من دوران العمالة (قد تصل إلى ٣٠٠ بالمائة سنويًّا).

لا تكاد تدخل أحد مطاعم فريندليز للآيس كريم، حتى تلاحظ بيئةَ العمل الممتازة التي يوفرونها لموظفيهم.

خُذْ على سبيل المثال فرعَهم في مقاطعة هيرشي بولاية بنسلفانيا؛ حيث تعمل بيفرلي جوميز مديرًا عامًّا. إنْ كنتَ تعتقد بأن وقتك مشغول بمحاولة التعرف على موظفيك، فَلْتقابلْ بيفرلي التي لديها ٧٧ موظفًا يعملون تحت إدارتها، ومع ذلك فمنذ تولِّيها إدارة المطعم منذ سنتين، تراجعَتْ نسبةُ دوران العمالة بنسبة ٢٥ بالمائة وأصبح الوضع المالي للمطعم ممتازًا.

تُرَى ما هو السر وراء نجاح بيفرلي؟

تقول بيفرلي: «عليك أن تهتمَّ اهتمامًا صادقًا بموظفيك، عليك أن تعامِلَ الجميع على أنهم سواء، ولكن دون إهمال الفروق الفردية فيما بينهم؛ فعليك أن تراقب وترى الأمور المختلفة التي تحفِّز كلَّ واحدٍ منهم على العمل.»

روت لنا هذه المديرة العظيمة قصةَ واحدةٍ من عاملاتِ غسلِ الأطباق بالمطعم؛ كانت هذه الموظفة جديدة نسبيًّا وأبطأ قليلًا في أدائها من أقرانها، وقد لا يُقْدِم الكثير من المديرين على مكافأةِ موظفٍ أداؤه أقل من العادي؛ خوفًا من الانطباع الذي قد يتركه هذا عند بقية الموظفين، ولكن جوميز تختلف عن كل هؤلاء المديرين.

تقول جوميز: «مؤخرًا، أنجزَتْ هذه الموظفة عملًا رائعًا بالنظر إلى مستواها؛ حيث تمكَّنَتْ من تنظيف أماكن رصِّ الأطباق بالكامل في غضون نصف ساعة، وقد كان ذلك الأمر في العادة يستغرق منها ٤٥ دقيقة.» ثم تستطرد جوميز قائلةً: «أهديتُها كعكةَ آيس كريم كي تأخذها معها إلى المنزل، وتحدَّثْتُ إليها شخصيًّا وأَشَدْتُ بذلك العمل الرائع الذي أنجزَتْه على وجه التحديد. ولو كنتَ رأيتَها وقتها، لَظننتَ أنني قد أهديتُها العالَمَ وما فيه.»

وماذا عن رد فعل الموظفة؟ تقول جوميز: «أصبحَتْ أكثر انفتاحًا في التعامُل معي، وأصبحت تتحدث إليَّ أكثر من السابق. إنَّ منصب المدير العام عادةً ما يخيف الكثير من الناس؛ ومن ثَمَّ فإنني بإهداء الكعكة إلى هذه الموظفة قد جعلتُها تشعر بمزيد من الارتياح في التعامُل معي. واليومَ، نحن أقرب بكثيرٍ إحدانا إلى الأخرى، حتى إنني أحيانًا ما أشمِّر عن ساعدي وأساعدها في غسل الأطباق عندما تبدأ في التراكم.»

كان هذا مجرد تقدير بسيط تلقَّتْه موظفة كان أداؤها أقل من العادي، ولكن هذا التقدير قد ساعَدَ كثيرًا في ترسيخ علاقة قوية بينها وبين المديرة.

في هذه الأيام التي تَسُودها التقلبات الاقتصادية، بعضُ المجهود الخارق من جانب الموظفين مع جرعةٍ جيدةٍ من التقدير، سيكون من شأنهما إلهام فريقٍ بأكمله؛ فالمرء منَّا يقلِّد الأشخاص الذين ينجذب إليهم ويُعجَب بهم. ولكن الفك المتناسِق والعضلات البارزة التي تجذبنا للأبطال الخارقين وتجعلنا نقلِّدهم، ليست هي ما يجذبنا إلى الموظفين الخارقين (على الرغم من أن القدرة على الاندفاع عبر جدران المباني قد تكون جذَّابةً حقًّا)؛ إن ما يجذبنا إليهم ويدفعنا لتقليدهم هو بكل بساطة التقديرُ الإيجابي الذي يتلقَّوْنه عن عملهم.

تسعى مؤسسة خدماتِ ما بعد التقاعُد التابعة للكنيسة المشيخية بولاية أوهايو — التي تُعَدُّ أقدمَ وأكبر مؤسسة غير ربحية تعمل في مجال تقديم الرعاية المستمرة للمتقاعدين في الولاية — إلى تقدير موظفيها الذين يلتزمون بالقِيَم الأساسية للمؤسسة، لا سيَّما في وقت التقلُّبات الاقتصادية. تقول دانا أولوم فوسيليتش، نائب رئيس المؤسسة: «في وقتِ المِحَن، نجد أنفسنا مطالَبين بإيجاد طريقةٍ نجمع بها بين تقدير الموظفين ونجاح الميزانية. في كثير من المؤسسات، تتجه الإدارة إلى قَطْع كلِّ ما يتعلَّق بالمزايا الإضافية للموظفين، ولكننا نقاوم اتخاذَ مثل هذه الإجراءات بأن نطرح على أنفسنا هذه الأسئلة: «كيف تساهِم هذه المزايا في نجاحنا؟ وما هي الطُّرُق التي يمكننا من خلالها الاستمرار في إظهار التقدير لموظفينا؟»»

على سبيل المثال: لم تكن ميدي سويجر — التي كانت تستعِدُّ في إحدى الليالي لمغادرة عملها في مؤسسة خدماتِ ما بعد التقاعُد التابعة للكنيسة المشيخية بولاية أوهايو — تعتقد أنها قد تغدو بطلةً في يوم من الأيام. كانت تسير عبر الرواق وهي تحمل قالبًا من الشوكولاتة، كانت قد اشترته من أحد محلات الهدايا عندما قابلت آن رولر، المديرة التنفيذية للمؤسسة، التي سألتها بعفويةٍ ما إذا كانت قد اشترت الشوكولاتة لترضي تلك الرغبة المفاجئة في تناوُل السكريات التي تصيب الناس بعد الظهر. أجابَتْها ميدي: «إنها ليست لي، بل هي لواحدة من النزلاء كانت تشتهي حلواها المفضَّلة طوال اليوم، وأردتُ أن أحضرها لها قبل أن أغادر.»

هذه المبادرة الطيبة على الرغم من بساطتها قد عَلِقَت في ذهن المديرة التنفيذية كمثال عظيم على الخدمة الصبورة والعطوفة. تأثَّرَتْ آن كثيرًا بهذا الموقف، حتى إنها أرسلت خطابَ شكرٍ إلى منزل ميدي، وداخل الخطاب وضعت بضعةَ دولارات مقابل قالب الحلوى الذي اشترته ميدي، وطلبت منها أن تشتري واحدًا لنفسها في المرة القادمة؛ ولكن ميدي بشخصيتها البطولية لم تشترِ شوكولاتة لنفسها، بل تبرَّعَتْ بالمبلغ فورًا لصندوق الرعاية مدى الحياة، وهو صندوق أُنشِئ بهدف توفير التمويل اللازم لرعاية النزلاء الذين غَدَوْا عاجزين عن دفع تكاليف الرعاية الخاصة بهم.

تقول دانا: «تشير الأبحاث إلى أن السعادة التي يشعر بها الموظفون السعداء ترجع إلى التقدير الذي يتلقَّوْنه مقابل العمل العظيم الذي ينجزونه؛ وعندما يكون الموظفون سعداء، ويشعرون بالتقدير، فإنهم يَبْقَوْن في عملهم؛ وعندما يبقى هؤلاء الموظفون بكل الخبرة والمعرفة التي لديهم عن المؤسسة، فإن هذا يعني أننا سنكون في أمان أثناء الأوقات العصيبة.» إن كلامها صحيح تمامًا؛ إذ تشير دراساتنا إلى أن فُرَص بقاء الموظفين الذين يشعرون بالتقدير في المكان الذي يعملون فيه، أكبر ثلاث مرات من فُرَص بقاء أقرانهم الذين يشعرون أنهم لا يتلقَّوْن القدرَ الكافي من التقدير.

بالإضافة إلى ما تقدِّمه تلك المؤسسة من برامج تقدير غير مسبوقة، وبرامج تدريب للمديرين على تقدير الموظفين، وجوائز مقابل الخدمة، وغيرها من أساليب الإشادة والتقدير؛ فإن المؤسسة تؤمن أيضًا بأن ثمة أساليبَ بسيطةً يمكن من خلالها التعبير عن تقدير جهود الموظفين دون صرف قرش واحد من الميزانية، ومن هذه الأساليب مَنْح الموظفين خطابات شكر مكتوبة بخط اليد، على سبيل المثال. إن المؤسسة كثيرًا ما تقدِّم خدماتها للأفراد البالغين الذين يعانون من الوحدة، والذين قد لا يأتيهم زوَّار من الخارج؛ وقد ذكرَتْ لنا دانا مثالًا لبستانيٍّ كان يبذل كلَّ ما في وسعه لتحفيز النزلاء على الكلام والاندماج في محادثة، ولا سيما هؤلاء النزلاء الذين لم يكن لديهم أحدٌ يزورهم. ولكي يعبِّر مدير الصيانة عن شكره لهذا الشاب، كتب إليه خطابًا شخصيًّا يشكره فيه على تكلُّفه عناء القيام بهذه الأعمال الطيبة تجاه النزلاء، على الرغم من أنها لا تقع ضمن متطلبات وظيفته. وبالمصادفة، كان جَدُّ هذا العامل الشاب نزيلًا في المؤسسة، وخلال الاستراحة أخرَجَ الشابُّ الخطابَ وقرأه على الرجل العجوز الذي ما كان منه إلا أن عبَّرَ عن فخره بحفيده، وشارَكَ مشاعِرَه مع غيره من النزلاء. كانت هذه لحظة مؤثِّرة تحقَّقَتْ بفضل تقدير بسيط، ولكنها غدَتْ مؤثِّرةً أكثر عندما تُوفي جدُّه بعد ذلك بأسابيع قليلة.

كيف لك أن تحصل على مديرين خارقين يقدِّرون موظفيهم في مؤسستك؟ تخبرنا مؤسسة خدماتِ ما بعد التقاعُد، التابعة للكنيسة المشيخية بولاية أوهايو، أن الحل يكمن في التدريب؛ إذ لا يمكنك أن تضع برنامجًا لتقدير الموظفين وتتوقَّع من الجميع أن يقتنع به ويطبِّقه. إن ارتداء زيِّ سوبرمان لن يجعلك تطير، وبالمثل، فإنَّ توافُرَ أدوات التقدير لديك دون معرفةِ كيفيةِ استخدامها، لن يجعل منك شخصًا محفِّزًا، ومع ذلك، ثمة أخبار جيدة؛ حيث يشير البحث الذي أجريناه إلى أن تدريب المديرين على طُرُق تقدير الموظفين على النحو الصحيح، يرفع نسبةَ التطبيق الفعلي لسياسة التقدير بنسبةٍ تصل إلى ٥٠ بالمائة؛ الأمر الذي يؤثِّر تأثيرًا مباشِرًا على معدل الاحتفاظ بالموظفين وأدائهم وانخراطهم في العمل.

(١-٣) أجزِلِ الثناءَ لموظفيك

مِن فترةٍ ليست ببعيدة، كشف استطلاعُ رأيٍ شارَكَ فيه آلافٌ من الموظفين الذين يعملون بدوامٍ كاملٍ، عن أن الموظفين الذين يعملون لدى شركات تطبِّق مبادرات التقدير، كانت فُرَص كونهم «راضين جدًّا جدًّا» عن شركاتهم أعلى أربع مرات من فُرَص رضا الموظفين الذين يعملون لدى شركات لا تقدِّم أيَّ جوائز تقديرية. وبالطبع، مِن المستبعَد أن يقدِّم موظفون راضون عن عملهم استقالتَهم عاجلًا أو آجلًا. إننا بصفتنا قادة نستطيع — وينبغي علينا — أن نقدِّم نموذجَ قيادةٍ أكثرَ إيجابيةً مِن الذي نقدِّمه الآن.

ما هي إذن نسبة التقدير الكافية مقارَنةً بنسبة الانتقاد؟ يرى توم راث ودونالد كليفتون في كتابهما «إلى أيِّ مدًى تشعر بالإيجابية في حياتك؟»، أن الثناء يجب أن يفوق الانتقاد بنسبةٍ تتراوح بين خمسة وواحد لتشجيع ثقافة الأداء المرتفع بين الموظفين، وذلك بحسب ما جاء في أبحاثٍ أَجْرتها منظمةُ جالوب.

بعض المديرين وقعوا فريسةَ اعتقادٍ خاطئٍ بأنهم لا بد أن ينتهجوا سياسةَ المساواة بين الثناء والانتقاد، بحيث يكون أمامَ كلِّ انتقادٍ يوجِّهونه مجاملةٌ تقابله. ولكن أبحاثنا التي شملت عددًا من كبرى المؤسسات في العالم، تؤكِّد أن النسبة خمسة إلى واحد هي الأصح، بل تشير أبحاثنا أيضًا في ملاحظة جانبية مهمة إلى أن سياسة المساواة بين الثناء والانتقاد، التي تعتمد نسبة واحد إلى واحد في التعاملات الإيجابية والسلبية مع الموظفين، هي في الواقع سياسةٌ تضرُّ بالعلاقة بين الموظفين والإدارة في مكان العمل.

هذا يذكِّرنا بتلك المديرةِ الحسنةِ النيةِ التي أقبلَتْ علينا بعد حديثٍ كنَّا قد ألقيناه في اجتماعٍ لإدارة أحد المستشفيات في تكساس؛ قالت المديرة إنها تعطي موظفيها حفنةً من القِطَع المعدنية في بداية العام، وكلما أنجزوا عملًا جيدًا يحصلون على المزيد من هذه القِطَع، وفي ديسمبر يمكنهم استبدالَ هذه القِطَع بجائزة.

أجبناها بأنها فكرة رائعة حقًّا.

ولكنها أضافت قائلةً: «وإذا قاموا بخطأٍ ما، فإنني كنتُ أسترِدُّ منهم إحدى القِطَع.»

وهنا لم يسعنا إخفاء الامتعاض الذي شعرنا به.

فَكِّرْ للحظةٍ إلى أي مدًى يمكن لاعتماد نسبة واحد إلى واحد في التعامُل مع شريك حياتك في المنزل أن يكون فعَّالًا. مجاملة واحدة مقابل كل انتقاد؟ إلى متى سيظل هذا فعَّالًا؟ فقط فَكِّرْ في هذا؛ كم مجاملة ستحتاج أن توجِّهها إلى نصفك الآخَر قبل أن يسامحك على انتقادٍ واحدٍ قد وجَّهْتَه إليه؟ «هذا الثوب يبدو رائعًا عليكِ، ولا يجعلكِ تبدين بدينةً جدًّا.»

إذا اعتمدتَ نسبة واحد إلى واحد في علاقتك مع نصفك الآخر، فمن المرجَّح أنك ستبيت في حديقة المنزل؛ وكذلك بالنسبة إلى علاقتك مع موظفيك بالعمل؛ فهذه النسبة لن توصلك إلى أي مكان. «شكرًا على حضورك مبكرًا وبقائك حتى وقتٍ متأخِّر على مدى الأسبوعين الماضيين لتعمل على ذلك المشروع. ربما عليك الاستغناء عن استراحة الغداء في المرة القادمة كي لا يستغرق الأمر كلَّ هذا الوقت.»

يعود تاريخ الأبحاث التي تؤكِّد مدى فعالية الثناء مقارَنةً بالانتقاد إلى حوالي قرنٍ، وبالتحديد إلى عام ١٩٢٥، عندما قاست د. إليزابيث هيرلوك الأثرَ الذي تركته أنواع مختلفة من التعليقات على أداء طلاب الصفَّيْن الرابع والسادس في حصة الرياضيات؛ في ذلك الاختبار، لاقت إحدى المجموعات الخاضعة للدراسةِ الثناءَ، بينما لاقَتِ الثانيةُ الانتقادَ، وقُوبِلت الثالثة بالتجاهُل، وقِيس عدد المسائل الحسابية التي حلَّتْها كلُّ مجموعةٍ، بدايةً من اليوم الثاني وحتى الخامس.

بدأت النتائج في الظهور بدايةً من اليوم الثاني؛ حيث كان أداء طلاب المجموعة التي لاقَتِ الثناءَ أعلى بكثيرٍ من أداء طلَّاب المجموعة التي لاقَتِ الانتقادَ أو المجموعة التي قُوبِلت بالتجاهل؛ الأمر الذي أدَّى إلى زيادة عدد المسائل الحسابية التي حلتها هذه المجموعة الأولى بنسبة ٧١ بالمائة خلال زمن الدراسة. وعلى النقيض، زاد عدد المسائل الحسابية التي حلتها المجموعة الثانية بنسبة ١٩ بالمائة، بينما ارتفع عدد المسائل التي حلتها المجموعة الثالثة بنسبة ٥ بالمائة فقط. إن هذه النتائج لا تشير فحسب إلى أنَّ تلقِّي المرء تعليقًا على عمله — حتى إن كان تعليقًا انتقاديًّا — أفضل من التجاهل وعدم تلقِّي أي تعليق على الإطلاق، ولكنها تشير أيضًا إلى ميزة التعزيز الإيجابي مقارَنةً بالتعزيز السلبي.

يقارن تريفور جرامز، الذي يعمل مهندسًا ومديرًا للعمليات بشركة إيبكور لتوليد الطاقة بمدينة أدمنتون في إقليم ألبرتا بكندا، بين أثر الثناء والانتقاد فيقول: «في هذا المكان، علينا أن نكون منتجين وننجز الكثير من العمل، وفي كل عامٍ علينا أن ننجز عملًا أكثر من الذي أنجزناه العام الماضي. ولكن بغضِّ النظر عن ذلك كله، يبدو لنا أن العمل الذي ننجزه عندما نلقى تعزيزًا إيجابيًّا هو أكثر بكثيرٍ من ذلك الذي ننجزه في وجود تعزيز سلبي.»

مرَّ جرامز عندما كان مديرًا شابًّا لإحدى محطات التوليد بحيِّ روزديل في ألبرتا بموقفٍ علَّمه الكثير؛ حدث هذا الموقف بينه وبين أحد الموظفين الذين يشرف عليهم مباشَرةً، وكان يعمل كضابط سلامة بالمحطة. «كنتُ قد أثنيتُ عليه بعد أن قام ببعض الأنشطة الإضافية التي لم تكن سهلةً، وكان قد أنجزها على نحو جيد. دخلتُ إلى مكان عمله واستغرقتُ وقتًا حتى عثرتُ عليه ثم شكرتُه، وقد كانت عنده الشجاعة الكافية كي يأتي إليَّ بعد ذلك ويتحدَّث في الأمر. قال بكل بساطة إن هذا الثناء هو ما يجعل لتلك الوظيفة معنًى.»

بعبارة أخرى، إنَّ رضا ضابط السلامة هذا لم يكن مرهونًا براتبه؛ فهو مؤهَّل جيدًا ويمكنه أن يحصل على الراتب نفسه من العمل في أي مكانٍ آخَر، ولم يكن رضاه مرهونًا كذلك بالمزايا التي يتلقَّاها؛ فثمة شركات أخرى يمكنها توفير نفس التأمين الطبي أو التأمين الذي يغطي العنايةَ بصحة الأسنان؛ إن رضا هذا الموظف كان مرهونًا بالتعليق الفوري الذي تلقَّاه من تريفور، والذي بيَّنَ له أن رئيسه يقدِّر ما لديه من نقاطِ قوةٍ فريدةٍ وما يقدِّمه من إسهامات، وقد عَلِمَ عندها أنه لن يستطيع أن يجد هذا عند شركة أخرى.

إنَّ عدد المجاملات الصادقة التي يتوقَّع الموظفون سماعَها قد يفوق توقعاتك. في الواقع، هم يحتاجون إلى سماع مجاملة واحدة على الأقل في الأسبوع. عندما نخبر المديرين بهذا، غالبًا ما يضحكون ويقولون إن الموظفين سيصيبهم الغرور والخيلاء بسبب كل هذه المجاملات، والغرور مشكلة لأن …

يعلِّق كوينت ستودر — الرئيس المتقاعد لأحد المستشفيات الناجحة للغاية، والرئيس الحالي لمجموعة ستودر الاستشارية — على هذا الأمر مازحًا، فيقول: «هل استُدعِيتَ إلى مكتب مديرك من قبلُ؟ ما هي أول فكرة تبادرَتْ إلى ذهنك عندها؟ هل قلتَ لنفسك: «حسنًا، ها نحن أولاء مجددًا. المزيد من المكافآت والتقدير. متى ستتوقَّف هذه المجاملات التي لا يمكن حَصْرها؟ إنها تقتل قدرتي على الإنتاج»؟»

بالطبع لا، إن أول فكرة ستتبادر إلى ذهنك هي: ما الخطأ الذي فعلتُه؟

لا تقلق، فمن المُستبعَد جدًّا أن تبالِغ في مجاملة موظفيك؛ فلم يسبق لأحدٍ قطُّ أنْ ذهب إلى مستشفى مايو كلينيك وهو يشكو من أعراض الغرور المبالَغ فيه بسبب كثرة الإطراء الذي يتلقَّاه في العمل. من الأيسر بكثير أن يتقاعس المرء عن أداء عمله ويتدنى مستواه نظرًا لغياب التقدير.

بصفتك قائدًا، من المهم أن تتذكر أن المدح المحدَّد والمتكرِّر لا يمثِّل الجانبَ الحماسي والأقل صرامةً في حياتك، وإنما هو مكوِّن مهم من مكونات القيادة، ويلعب دورًا أساسيًّا في خلق بيئة عمل جيدة.

وكما عَلِمَ ضابط السلامة في ولاية ألبرتا الريفية في القصة التي أشرنا إليها سابقًا، فإن هذا الثناء هو الشيء الوحيد الذي لم يكن ليستطيع الحصولَ عليه في مكانٍ آخَر.

(١-٤) الفوائد الملموسة للثناء

إنَّ الموظفين الذين يتلقَّوْن الثناءَ لا يميلون فحسب إلى مواصلة العمل لدى مؤسساتهم، وإنما يقدمون أيضًا أفضل أداء لديهم.

تأمَّلْ في نتائج استطلاع الرأي الذي أَجْرته شركة واطسون وايت حول خطط المكافآت، والذي خضعَتْ له ٦١٤ جهة من أصحاب الأعمال. تَبيَّنَ من هذا الاستطلاع أن معدل دوران العمالة لدى أصحاب الأعمال، الذين لديهم استراتيجية واضحة لمكافأة العاملين، كانت أقل بنسبة ١٣ بالمائة من معدل دوران العمالة لدى الشركات التي لم تكن استراتيجيتها مُعلَنةً بوضوح للموظفين.

هل تذكُر الإحصائية التي قالت بأن ٧٩ بالمائة من الموظفين يتركون عملهم بسبب انعدام التقدير؟ قارِنْ تلك الإحصائية بهذا البحث الذي أَجْرَتْه شركة هويت مؤخرًا، ووجدَتْ فيه أنه في «أفضل» الشركات — التي يقول ٦١ بالمائة من موظفيها إنهم «يثقون في أن الإدارة العليا ستحافظ على تحقيق التوازن المناسب بين مصالح الموظفين ومصالح المؤسسة ككلٍّ» — يقول ٧٩ بالمائة من الموظفين إنهم «متحمِّسون لتقديم أفضل ما لدينا كلَّ يوم».

يقولون إن مستوى الموظفين يعكس مستوَى مَنْ يقودهم، وباتِّباع سياسةِ الثناء ستكون أنت وموظفوك دائمًا في أفضل مستوًى.

ولا شكَّ أن هذا هو أقصى مبتغاك كقائدٍ.

(٢) دوران العمالة يكلِّف الكثير

إنَّ المشكلة في دوران العمالة هي أنه مكلِّف للغاية، بل إنه مكلِّف حتى أكثر ممَّا يَعتقد أغلب المشرفين.

في الواقع، إن دوران العمالة هو أكبر تكلفة يتجاهل الجميعُ حسابَها في عالَم الشركات.

وفقًا لويليام بليس رئيس شركة بليس آند أسوشيتس الاستشارية — التي يقع مقرُّها في مدينة وين الصناعية بولاية نيو جيرسي، وتعمل في مجال تقديم الاستشارات بخصوص تحسين الأداء المؤسسي — فإن كثيرًا من الشركات تتعامل مع معدل دوران العمالة بمنظور سطحي.

يقول بليس: «تقدِّر الإدارةُ التكاليفَ التي سيخلِّفها استبدالُ موظفٍ بآخَر جديد، بمبلغ يتراوح ما بين ٥٠٠٠ و٦٠٠٠ دولار تقريبًا، ولكنْ بحسب ما وثَّقناه فإن الأمر سيكلِّف الشركةَ ١٥٠ بالمائة من مستحقات الموظف المالية التي يحصل عليها سنويًّا.» ودلَّلَ بليس على ذلك بأن استبدال موظَّف جديد بموظف يحصل على ٥٠ ألف دولار سنويًّا، غالبًا ما يكلِّف الشركة مبلغًا ضخمًا يصل إلى ٧٥ ألف دولار.

هذه هي الأرقام التي دائمًا ما تجذب انتباهَ المديرين التنفيذيين والمديرين الماليين.

تلك الحسابات تأخذ في الاعتبار تكاليفَ الإعلانات، وتكاليفَ الموظف البديل الذي سيؤدي مهامَّ الوظيفة الشاغرة مؤقتًا، أو تكاليفَ ساعات العمل الإضافية التي سيقوم بها موظفٌ ثابت لحين شغْلِ الوظيفة، وتكاليفَ الفُرَص البديلة، وأتعابَ شركة التوظيف، وتكاليفَ الانتقال، والوقتَ الذي سيُخصَّص لعقد المقابلات مع المتقدمين للوظيفة، والوقتَ المطلوب لتوجيه الموظفين الجُدد وتهيئتهم مبدئيًّا، والوقتَ اللازم لتدريب الشخص الجديد. لكنْ تلك الحسابات لا تأخذ في اعتبارها — ولا يمكنها أن تأخذ — خسارةَ الخبرة والمعرفة القيِّمة، وعرقلةَ سيرِ العمل في خدمة العملاء، وخسارةَ معرفة العملاء، وتكاليفَ المبيعات المُهدَرة، والتكاليفَ الشعورية، وانهيارَ الروح المعنوية، والإجهادَ أو الغيابَ بين الموظفين الباقين، وضياعَ الخبرة، وعدمَ الاستمرارية … وهكذا.

لدينا هنا وجهة نظر كلية موسَّعة للمشكلة لا نعتقد أنها قد نُشِرت من قبلُ؛ ففي الولايات المتحدة وبعد عقود من البحث، تبيَّنَ أن حوالي ٤ ملايين موظف في الشهر — أيْ ما يعادل ٤٨ مليون موظف في السنة — يتركون وظائفَهم بمحض إرادتهم. يصل متوسط الراتب الآن إلى ٣٤٠٦٥ دولارًا، بتكلفة متحفظة تبلغ ١٠٠ بالمائة من الراتب لاستبدال موظَّف بآخَر؛ ويعني هذا أن تكلفة دوران العمالة في الولايات المتحدة لا تقل عن ١٫٧ تريليون دولار سنويًّا، وهذا في الولايات المتحدة فقط؛ أما على مستوى العالم، فالرقم فلكي.

أما إذا تناولنا المشكلة من وجهة نظر مصغَّرة، فإن دوران العمالة بالنسبة إلى أمثالنا من المديرين، الذين يكافحون من أجل أن يظلوا متقدِّمين خطوةً على منافسيهم؛ يُعَدُّ خسارةً فادحةً، لا سيَّما أن الموظفين الموهوبين هم أول مَنْ يغادر؛ لماذا؟ لأنهم يمتلكون المهارات الأكثر رواجًا وطلبًا.

وماذا عن أفضل موظفيك؟ من الغريب أنهم يختفون فجأةً.

ومَنِ الذي يبقى معك؟ الممرضةُ التي لا تستطيع حقْنَ المحلول في وريد المريض على نحوٍ صحيح، والمهندسُ المتذمِّر الذي يخشاه الجميع، وعاملةُ الصيانة المصابة بوسواس المرض، ومن ثَمَّ تستنفد كلَّ إجازاتها المرضية كلَّ عام؛ هؤلاء هم الأشخاص الذين ينشر لهم زملاؤهم سِيَرَهم الذاتية على موقع Monster.com. هل تعتقد أنهم سيذهبون إلى أي مكانٍ آخَر؟ قطعًا لا؛ لقد كان لديك من سوء الحظ ما يكفي لكي تعيِّن هؤلاء الناس من البداية، وسيبقون لديك إلى الأبد.

وإلى الأبد هذه تعني وقتًا طويلًا للغاية.

تدريب عملي

تغيير الأوضاع

هل تبحث عن أداةٍ تساعد بها مؤسستَك في استيعاب تكلفة دوران العمالة؟ لدينا معادلة بسيطة؛ ببساطة، اضربْ عددَ الموظفين الذين يتركون العملَ في مؤسستك بإرادتهم (وليس هؤلاء الذين يُطرَدون من العمل) في التكلفة المتحفِّظة لمائة بالمائة من متوسط الراتب السنوي في مؤسستك؛ على سبيل المثال: إذا كانَتِ القوى العاملة لديك ٥٠٠ موظف، وكان متوسط معدل دوران العمالة ١٥ بالمائة؛ فإن هذا يعني أن ٧٥ موظفًا قد استقالوا من عملهم في العام الماضي. إذا بلغ متوسطُ الراتب الذي تمنحه في الساعة ٢٩٧٠٠ دولار سنويًّا، فهذا يعني أن دوران العمالة قد كلَّفَكَ ٢٩٧٠٠ دولار مضروبة في ٧٥؛ أيْ ٢٫٢ مليون دولار؛ ولك أن تتخيَّل ماذا ستعني ٢٫٢ مليون دولار إضافية بالنسبة إلى صافي دخلك؟

ستجد على شبكة الإنترنت أداةً أكثر تفصيلًا تتيح لك إدخالَ نوعِ الوظيفة، والمزايا، وغيرها من الخيارات، وذلك على الموقع الإلكتروني: carrots.com.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤