خيال البحتري

وقد يكون من الوفاء لتاريخ الآداب أن نذكر كيف اشتهر البحتري بالخيال حتى قالوا (خيال البحتري) وضربوا به الأمثال. وقد تأملت هذه الشهرة فوجدتها ترجع إلى ترديده لزيارة الطيف في غير ضعف ولا فضول: فتارة يصف الخيال بالكرم وقد ضن المحبوب، والقرب وقد شطت ديار الحبائب، حتى ليبعث الهوى من جديد، كقوله:

وقفنا فلا الأطلال ردت إجابة
ولا العذل أجدى في المشوق المخاطب
تمادت عقابيل الهوى وتطاولت
لجاجة معتوبٍ عليه وعاتب
إذا قلت قضيت الصبابة ردها
خيال ملم من حبيب بجانب
يجود وقد ضن الألى شغفي بهم
ويدنو وقد شطت ديار الحبائب

وتارة يذكر أن الطيف ألمَّ به في الظلام فلم يجد مكانًا يأوي إليه، لأن الكرى طردته الدموع، كقوله:

تلك البخيلة ما وصلي بمنصرف
عنها ولا صدُّها عني بمصدود
ألم بي طيفها وهنًا فأعوزه
عندي وجود كرًى بالدمع مطرود

وأحب لو تأمل القارئ وصفه لحبيبته بالبخل، وعفا الله عن هؤلاء البخلاء.

ومما امتاز به البحتري شكواه هجر الخيال، وقد أكثر من ذلك حين حرم من غلامه نسيم، ولغلامه هذا قصة عجيبة؛ فقد ذكروا أنه كان يبيعه، ثم تطير نفسه إليه فيشتريه، حتى وقع في يد من لا يبيع روائع الجمال، وقد أوضح شكواه هجر الخيال في هذه الأبيات الحسان:

أنسيم هل للدهر وعدٌ صادق
فيما يؤمِّله المحبُّ الوامق
ما لي فقدتك في المنام ولم يزل
عون المشوق إذا جفاه الشائق
أمنعتَ أنت من الزيارة رقبة
منهم فهل منع الخيال الطارق
اليوم جاز بي الهوى مقداره
في أهله وعلمت أنيَ عاشق

ثم ردد هذا المعنى في داليته الجميلة، التي يقول فيها:

دعا عبرتي تجري على الجور والقصد
أظن نسيمًا قارف الهجر من بعدي
خلا ناظري من طيفه بعد شخصه
فيا عجبًا للدهر فقدًا على فقد
بنفسي حبيب نقلوه عن اسمه
فبات غريبًا في رجاء وفي سعد
فيا حائلًا عن ذلك الاسم لا تحل
وإن جهد الأعداءُ عن ذلك العهد
أبا الفضل في تسع وتسعين نعجة
غنًى لك عن ظبي بساحتنا فرد
أتأخذه مني وقد أخذ الجوى
مآخذه مما أسر وما أبدي
وتخطو إليه صبوتي وصبابتي
ولم يخطه بثي ولم يعده وجدي

ونحب ألا يتعقبنا حضرة (البدوي الملثم) فيطالبنا بتحقيق بيع البحتري لغلامه نسيم، ليعرف أكان ذلك عن حاجة أم كان طمعًا في المال، فقد تردد في ذلك المؤرخون. أليس هو الذي لمَّح إلينا حين ذكرنا أن عُلية بنت المهدي كَنَتْ عن طلٍّ بزينب، ولفت نظرنا إلى أنها إنما كَنتْ بزينب عن رشأ؟ رويدك أيها الصديق، فليس في هذه المجاهل يقين، وحسبك أن تعلم أن ذلك سر من أسرار القصور، وناهيك بقصر الرشيد!

وبهذه المناسبة أذكر أن التعبير الحديث «شربوا نخب مصر، وشربوا نخب فرنسا» كان له عند العرب بديل جميل، انظر قول علية في غلامها رشأ:

اشرب على وجه الغزال
الأهيف الحلو الدلال
اشرب عليه وقل له
يا غل ألباب الرجال

وانظر قول إسحاق في غلامه زياد:

أدرها على بعد الحبيب فربما
شربنا على بُعد الأحبة والفجْع
فما بلغتني الكأس ألا شربتها
وإلا سقيت الأرض كأسًا من الدمع

وقال ابن الفارض:

شربنا على ذكر الحبيب مدامة
سكرنا بها من قبل أن يخلق الكرْم

فأي التعبيرين أجمل؟ أقول العرب: شربت على وجهه، وعلى بُعْده، وعلى ذِكْره؟ أم قولنا شربت نخبه! أجيبوا أيها المتكلفون!

ونعود فنذكر تشبث البحتري بالطيف عند الصباح في قوله:

وليلة هوَّمنا على العيس أرسلت
بطيف خيال يشبه الحق باطله
فلولا بياض الصبح طال تشبثي
بعِطْفَي غزال بتُّ وهنًا أُغازله
وكم من يد لليل عندي حميدة
وللصبح من خطب تُذم غوائله

أتذكر أيها القارئ أن لسانك انعقد، وقد رأيت دمية من دمى الجمال، فلم تزد على أن قلت: هذه فتاة حسناء؟ الأمر هنا كذلك، فاعذرني إن لم أزد على أن أقول: هذا شعر جميل!

ويظرف البحتري كثيرًا حين يجعل هجر الطيف نوعًا من العتاب. انظر قوله:

تناءَت دار عَلوة بعد قرب
فهل ركبٌ يبلغها السلاما
وجدَّد طيفها عتبًا علينا
فما يعتادنا إلا لِماما
وربَّتَ ليلةٍ قد بتُّ أُسقى
بعينيها وكفيها المداما
قطعنا الليل لثمًا واعتناقًا
وأفنيناه ضما والتزاما

وقد تعجب لتشبيه الزائر النحيل بالطيف الطروق: انظر قوله:

وزَوْرٍ أتاني طارقًا فحسبته
خيالًا أتى من آخر الليل يطرق
أقسِّم فيه الظنَّ طورًا مكذبًا
به أنه حقٌّ وطورًا أصدِّق
أخاف وأرجو بُطل ظني وصدقه
فلله ظني حين أرجو وأفرقُ
وقد ضمَّنا وشك التلاقي ولفَّنا
عناقٌ على أعناقنا ثمَّ ضيِّق
فلم نرَ إلا مخبرًا عن صبابةٍ
بشكوى وإلا عبرة تترقرق
فأحسن بنا والدمع بالدمع واشجٌ
تمازجُه والخد بالخد ملصق
ومن قُبَلٍ قبل التشاكي وبعده
نكاد بها من شدة الوجد نشرق
فلو فهم الناس التلاقي وحسنه
لحُبِّب من أجل التلاقي التفرق

وقد يأسى البحتري ويشجى حين لا تبقي له الليالي غير الذكرى والخيال، تأمل قوله:

حبيبٌ نَأى إلا تَعَرُّضُ ذكرةٍ
له أو ملمٌّ طائف من خياله
أأُمنع في هجرانه من صبابة
وقد كنت صبًّا مغرمًا في وصاله
ويأمرني بالصبر من ليس وجدهُ
كوجدي ولا إعلان حالي كحاله
فإن أفقد العيش الذي فات باللوى
فقِدمًا فقدت الظل عند انتقاله

ولقد أذكر أني قرأت منذ سنين رواية (رافاييل) وهي بدعة في الآداب الفرنسوية. فأقسمت لأزورن إن استطعت قبر (لامارتين) واليوم أقسم إن استطعت لأزورن قبر البحتري!

أليس هو القائل في طيف الخيال:

أترى حبي لسعدى قاتلي
وإذا ما أفرط الحب قتل
خطرت في النوم منها خطرةٌ
خطرةَ البدر بدا ثم اضمحل
أي زَور لك أو قصدًا سرى
وملم منك أو حقًّا فعل
يتراءى والكرى في مقلتي
فإذا فارقها النوم بطل

ولتقي الدين السروجي قصيدة بديعة ختمها ببيتين في الخيال، وقد زاره فما حققه لفرط سروره به، ثم ولى عنه فما درى كيف يدركه، ولا عرف كيف يلحقه. قال:

أنعمْ بوصلك لي فهذا وقته
يكفي من الهجران ما قد ذقته
أنفقت عمري في هواك وليتني
أُعطى وُصولًا بالذي أنفقته
يا من شُغلتُ بحبه عن غيره
وسلوت كل الناس حين عشقته
كم جال في ميدان حبك فارسٌ
بالصدق فيك إلى رضاك سبقته
أنت الذي جمع المحاسن وجهه
لكن عليه تصبري فرقته
قال الوشاة قد ادعى بك نسبة
فسررتُ لما قلتَ قد صدقته
بالله إن سألوك عني قل لهم
عبدي وملك يدي وما أعتقته
أو قيل مشتاقٌ إليك فقل لهم
أدري بذا وأنا الذي شوقته
يا حسنَ طيف من خيالك زارني
من فرحتي بلقاك ما حققتهُ
فمضى وفي قلبي عليه حسرةٌ
لو كان يمكنني الرقاد لحقته

والشعراء يشكون غالبًا ألا يمكث الطيف طويلًا. وقد شذ الطغرائي فذكر أن محبوبته عتبت عليه لغيبة الطيف عنده، وطول مكثه لديه. وذلك قوله:

بعثت إليَّ تلومني في هَجعةٍ
أهدت إليَّ خيالها المذعورا
وتقول ما للطيف أبطأ بعدما
كنا اشترطنا أن يقيم يسيرا
فأجبتها بالعذر وهو مبينٌ
لو كان يُنصف لائمٌ معذورا
أطبقت أجفاني عليه وسمته
خوض الدموع فما استطاع عبورا

وهذا الخيال على طرافته منتقد؛ فإن الطيف لا يدخل العين، حتى يُضطر إلى عبور الدمع، وهدى الله قومًا يحسبون هذا الشعر من وثبات الخيال!

قالوا: وأول من طرد الطيف طرفة بن العبد في قوله:

فقل لخيال العامرية ينقلبْ
إليها فإني واصلٌ حبلَ من وصل

وتبعه جرير فقال:

طَرَقتك صائدة القلوب وليس ذا
وقت الزيارة فأرجعي بسلام

وهذا حدس وتخمين، فإنه ليس إلى توقيت النوازع القلبية من سبيل.

ومن طريف الشعر في طرد الخيال قول ابن هانئ الأندلسي:

ألا طرقتنا والنجوم ركودُ
وفي الحيِّ أيقاظٌ ونحن هُجود
وقد أعجل الفجر الملمع خطوها
وفي أُخريات الليل منه عمودُ
سرت عاطلًا غضبى من الدر وحده
فلم يدر نحرٌ ما دهاه وجيد
فما برحت الا ومن سلك أدمعي
قلائد في لبَّاتها وعقود
ألم يأتها أنا كبرنا عن الصبا
وأنا بَلينا والزمان جديد

ومن الشعراء من يعتذر عن النوم في بعد الحبيب باحتياله لزيارة الخيال. انظر قول علي الإيادي:

أما أنه لولا الخيال المراجع
وعاصٍ يُرى في النوم وهو مطاوع
لأشفق واستحيا من النوم والهٌ
يُرى بعد روعات النوى وهو هاجع

وأود لو تأمل القارئ قوله: (وعاص يرى في النوم وهو مطاوع) فطالما قدم النوم هؤلاء العصاة وهم للحب خاضعون.

وأصل هذا المعنى لقيس بن الملوح في قوله:

وإني لأستغشي وما بي نعسة
لعل خيالًا منك يلقى خياليا
وأخرج من بين الجلوس لعلَّني
أحدث عنك النفس في السر خاليا
تُقطع أنفاسي بذكرك أنفسًا
يَردن فما يرجعنَ إلا صواديا

وأوضح منه قول قيس بن ذريح:

وإني لأهوى النوم في غير نعسةٍ
لعل لقاءً في المنام يكونُ
تخبرني الأحلام أني أراكم
فيا ليت أحلام النيام يقين

والظاهر أن نعمة الطيف لا تُسَوِّي بين العشاق جميعًا؛ فهي عند بعضهم لوعة وغليل، فقد جعلها حسين بن الضحاك قناعة تقضي بها الضرورة حين يقول:

وماذا يفيدك طيف الخيا
ل والهجر حظك ممن تحب
غناءٌ قليلٌ ولكنني
تمنيته بقنوع المحب

ومن الشعراء من يعجب لزيارة الخيال، كأن يزوره الطيف وهو سجين، كقول جعفر بن عُلبة:

عجبت لمسراها وأنَّى تخلصت
إليَّ وباب السجن دوني مُغلق
ألمّت فحيت ثم قامت فودَّعت
فلما تولَّت كادت النفس تزهق
فلا تحسبي أني تخشَّعت بعدكم
لشيٍء ولا أني من الموت أفرق
ولا أن نفسي يزدهيها وعيدهم
ولا أنني بالمشي في القيد أخرق
ولكن عرتني من هواك صبابةٌ
كما كنت ألقى منك إذ أنا مطلق

وقد ترفق زياد بن حَمل فعجب كيف زاره طيف حبيبته مع أنها ضعيفة المشي مكسال، وذلك قوله من قصيدة طويلة:

زارت رويقة شعثا بعدما هجعوا
لديَّ نواحلَ في أرساغها الخدم
وقمت للزور مرتاعًا فأرَّقني
فقلت أهي سرت أم عادني حُلم
وكان عهدي بها والمشي يبهظها
من القريب ومنها النوم والسأم
وبالتكاليف تأتي بيت جارتها
تمشي الهوينا وما تبدو لها قدم
سود ذوائبها بيض ترائبها
دُرم مرافقها في خالها عمَمُ
رويق إني وما حج الحجيج لهُ
وما أهلَّ بجنبي نخلة الحُرُمُ
لم يُنسني ذكركم مُذ لم ألاقكم
عيش سلوت به عنكم ولا قِدمُ
ولم تشاركك عندي بعد غانيةٌ
لا والذي أصبحت عندي له ذمِم

ومن هذا يعتذر فريق من الشعراء من هجر الطيف لبعد الشقة كقول ابن عنين:

سامحت كُتبك في القطيعة عالمًا
أن الصحيفة أعوزت من حامل
وعذرت طيفك في الجفاء لأنه
يسري فيصبح دوننا بمراحل

وقال كشاجم في مثل العذر الطريف:

لقد بخلت حتى بطيف خيالها
عليَّ وقالت رحمة لنحيبي
أخاف على طيفي إذا جاء طارقًا
وسادك أن يلقاه طيف رقيبي

طرف أدبية

وقد يكون من المستملح أن نذكر جملة من الطرف تتناسب مع طيف الخيال. فمن ذلك ما أرسله بعض الشعراء إلى الحسن بن سهل:

رأيت في النوم أني راكب فرسًا
ولي وصيفٌ وفي كفي دنانيرُ
فقال قوم لهم فهمٌ ومعرفةٌ
رأيت خيرًا وللأحلام تعبير
رؤياك فسر غدًا عند الأمير تجد
في الحلم درًا وفي النوم التباشير

فوقع في أسفل الكتاب «أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين»! ودخل بعض الشعراء على بشر بن مروان فأنشده:

أغفيت عند الصبح نوم مسهدٍ
في ساعة ما كنت قبل أنامها
فرأيت أنك رعتني بوليدة
رعبوبة حسنٌ عليَّ قيامها
وببدرة حُمِلت إلي وبغلة
دهماء مشرقة يصل لجامها
فدعوت ربي أن يثيبك جنة
عوضًا يصيبك بردُها وسلامها

فقال له: أبشر في كل شيء الا البغلة فإني لا أملك إلا شهباء! فقال: امرأتي طالق إن كنت رأيتها إلا شهباء غير أني غلطت!

ونقل عن أبي العبر أنه كان عنده حمار فمات فرآه في النوم ينشد شعرًا يقول فيه إنه مات عاشقًا، فسأله المتوكل ما الذي كان من شأنه؟ فقال: كان يا أمير المؤمنين أعقل من القضاة، ليس له هفوة ولا زلة! فاعتلَّ على حين غفلة، فمات، فرأيته في النوم فقلت له: ألم أنقِّ لك الشعير وأبرد لك الماء، فما سبب موتك؟ فقال: أتذكر إذ وقفت على باب الصيدلاني؟ قلت: نعم، قال: مرت إذ ذاك أتان فافتتنت بها ومت. فقلت: وهل قلت شيئًا في ذلك؟ فقال: نعم وأنشد:

هام قلبي بأتان
عند باب الصيدلاني
تيمتْني يوم رحُنا
بثناياها الحسان
وبخدٍ ذي دلالٍ
مثل خد الشيقران
فبها متُّ ولو عشـ
ـت إذن طال هواني
figure

فقال له: يا أبا معاذ، وما الشيقران؟ فقال: أنا مشغول بما أنا فيه، وهذا كلام تعرفه الحمير، فإذا رأيتم حمارًا، أو من كان أولًا حمارًا، فاسألوه! فضحك المتوكل حتى استلقى على قفاه، ثم أمر له بعشرة آلاف درهم، جزاء بما أبدع في هذا الخيال.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤