العتاب

خير العتاب ما كان ظاهر الذل، بادي الخضوع، نزولًا عند حكم الهوى، وإيمانًا بعودة الحبيب، كقول القائل:

يا غاية القصد وأقصى المنى
وخير مَرعى مقلة الناظر
إن كان لي ذنبٌ ولا ذنبَ لي
فما له غيرك من غافرِ
أعوذ بالود الذي بيننا
أن يفسد الأول بالآخر

وحسبك من موجب العطف، ودواعي الرحمة، أن يتوسل المحب بسالف حبه، وماضي عهده، وأن يجعل الأمر في غفر ذنبه لحبيبه.

وقال ابن التعاويذي:

يا ابنة القوم كيف ضاعت عهودي
بينكم والوفاء في العرب دينُ
كيف أسلمت فيك قلبي إلى الأشـ
ـجان لولا أن الغرام جنون
أتريْني على النوى مضمرًا عنـ
ـك سلوًا إني إذن لخئون
أنا من قد علمت عهدي على النأ
ي وثيق وحبل ودي متين

ولا يكون العتاب بابًا للرضى إلا حين يصبح إنابة خالصة، كقول ابن زيدون:

يا قمرًا أطلعه المغرب
قد ضاق في حبك المذهب
ألزمتني الذنب الذي جئته
إليَّ فاصفح أيها المذنب

وكقول الآخر:

إذا مرضتم أتيناكم نعودكم
وتذنبون فنأتيكم فنعتذر

فأما قول البحتري:

قد كان مني الوجد غِبُّ تذكرٍ
إذ كان منك الصد غِب تناسي
تجري دموعي حيث دمعك جامدٌ
ويرق قلبي حيث قلبك قاسي

فهو بالتأنيب أشبه منه بالعتاب، وخير منه قول البحتري نفسه في كلمة ثانية:

إني وإن لم أبح بوجدي
أُسِرُّ فيك الذي أسرُّ
يا ظالمًا لي بغير جرم
إليك من ظلمك المفرُّ
أنت نعيمي وأنت بؤسي
وقد يسوء الذي يسرُّ

وقوله من كلمة أخرى تسيل ذلهً وتفيض خضوعًا:

أيا قمر التمام أعنْت ظلمًا
عليَّ تطاول الليل التمام
أما وفتور لحظك يوم أبقى
تقلبهُ فتورًا في عظامي
لقد كلفتني كلفًا أُعنى
به وشغلتني عما أمامي
أعيذك أن يُراق دم حرامٌ
بذاك الدَّلِّ في شهر حرام

وبعجز القلم عن وصف ما لهذا الشعر من روعة الجمال، وأتمنى لو تأمل القارئ قليلًا هذا البيت الجميل:

يا ظالمًا لي بغير جرم
إليك من ظلمك المفرُّ

فإنه خير من قول ابن زيدون:

ألزمتني الذنب الذي جئته
إلي فاصفح أيها المذنبُ

وهل رأى القارئ، أروح للنفس، وأمتع للقلب، من هذا القسَم:

أما وفتور لحظك يوم أبقى
تقلبه فتورًا في عظامي

وهل رأى حيرة للحب أشقى من حيرة الذي يقول:

لقد كلفتني كلفًا أعنى
به وشغلتني عما أمامي

ألا ليت الذين يكتبون رسائلهم باللغة العامية، يعلمون ما نعلم من جمال اللغة الفصيحة ليعرفوا أنهم يجنون على أنفسهم، وعلى قرائهم إذ يحرمونهم من التطلع إلى جنة الأدب، وقطوفها الدانية، ولو عرضت على كتاب العامية هذا البيت:

إني وإن لم أبح بوجدي
أسر فيك الذي أسرُّ

ثم سألتهم ما فيه من وجوه الحسن لحسبوك من المسرفين، وكيف يفهم جمال هذا البيت من يتدلى إلى اللغة المبتذلة المهلهلة عجزًا عن الكتابة باللغة التي رحبت بثمرات العقول في جميع الأمم الإسلامية، وكانت لغة العالم زمنًا غير قليل.

ولا يحسب واحد من هؤلاء أن الحسن في الأدب لا حد له ولا تعريف، بل هناك حقائق أدبية يرتكز عليها الجمال في الشعر البديع والنثر الجميل، وقاعدة الحسن فيما نحن فيه أن العرب يستملحون بعض ألفاظ الشمول في كثير من المواطن إيذانًا بالتفخيم والتهويل، كلفظة «ما» في قوله تعالى: فَغَشِيَهُم مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ للدلالة على أن ما عانوه من طغيان الماء يفوق الوصف، ويعجز عنه التمثيل، ومنها قول البحتري:

برَّح بي حبك المعني
وغرَّني منك ما يغر

إذ كانت دواعي الحب، وأسباب العشق، مما يقصر عن إدراكه المحب المفتون، والعاشق المأسور، ومن ذلك لفظة «الذي» في هذا البيت المختار:

إني وإن لم أبح بوجدي
أسرُّ فيك الذي أسرُّ

إيذانًا بأن ما يجنه من اللوعة، وما يكنه من الشوق، أجل من أن يحيط به الوصف، أو يناله البيان!

ومن العشاق من يضيف إلى ذلة العتاب، ذلة الإقرار بالذنب كقول الشريف:

أيا شاكيًا مني بذنب جنيته
فديتك من شاكٍ إليَّ حبيبِ
لئن راب مني ما يريب فإنني
على عدواء الداء غير مريب
وإني لأرعى منك والود بيننا
هوى قلما يرعى بظهر مغيب
فهب لي ذنبًا واحدًا كنت قلته
فما زلة من حازم بعجيب
فيا حسن حال الود ما دمت مذنبًا
أتوب وما دامت تعد ذنوبي

والبيت الأخير يذكرنا بقول بشار:

ومن ذا الذي تُرضي سجاياه كلها
كفى المرء نُبلًا أن تُعد معايبهْ

ومن بديع الشعر في وصف العتاب، وما فيه من ذلة العاشق، وعزة المعشوق قول الشريف:

ومقبِّل كفي وددت لو انه
أوما إلى شفتي بالتقبيل
جاذبته طرف العتاب وبيننا
كِبر الملول وذلة المملول
ولحظت عقد نطاقه فكأنما
عُقِد الجمال بِقَرْطقٍ محلول
جذلان ينفض من فروج قميصه
أعطاف غصن البانة المطلول
من لي به والدار غير بعيدة
من داره والمال غير قليل

وقوله:

ومقبّل كفي وددت لو انه
أوما إلى شفتي بالتقبيل

يذكرنا بقول الصاحب بن عباد:

أهوى لتقبيل يدي
فقلت لا، بل شفتي!

وحيرة أمثال الشريف الرضي والصاحب بن عباد في أمثال هذه المواقف حيرة رهيبة، فكلا الرجلين عالم جليل، ولكن الحب كالموت لا يعصم منه البرج المشيد، والحصن المنيع، وقد يتقرب بعض الناس إلى مثل الشريف الرضي بتقبيل يمناه، فيود هذا لو قبل شفتيه، لأن الحب شغله عن الاحتفاظ بالعظمة، وقضى عليه بتقديس الجمال! وهنا يظهر بطش الحب وعدوانه حين يذهب بوقار العلم، وجلال الجاه، وغرور المال، ثم يسوي بين الأقدار، ريثما ينسى العالم علمه، والوجيه جاهه، والغني ماله، حتى إذا أنِست تلك النفوس العاتية إلى هذه المساواة، عاد فميز أهل الحسن، ورفع أرباب الجمال، وصير المحبين أذلة، بالرغم من أنف العلم والجاه والمال! ويقول العرب: الهوى إله معبود، وإنهم لصادقون. غير أنه يحسن أن نعرف أن هذا الإله ليس برحمن ولا رحيم، ولكنه قهار جبار! ولولا الرحمة بضعفاء اليقين لأعطيت هذا البحث ما يستحقه من البيان، ولبينت للقارئ رأى الفلاسفة في مملكة الجمال، ولكن الدين في كثير من القلوب كالكرى في عين الخائف المذعور، يودي به مر الطيف وهبوب النسيم! والذين يختلفون في النظرة البريئة أحرام هي أم حلال، لا يعقلون كيف يكون الهوى إلهًا، وكيف يكون له ملائكة مقربون، من الشعور، والعيون، والخدود، والثغور، والنحور والصدور، وهم إن عقلوا هذه الألوهية فلن يعقلوا كيف يكون لها من كتاب الحب أنبياء مرسلون، بل كل محب عندهم ماجن خليع، قاتلهم الله أنى يؤفكون!

ونعود فنبين أن الشريف أجاد تصوير العتاب بقوله:

جاذبته طرف العتاب وبيننا
كِبر الملول وذلة المملول

والمراد بكبر الملول عزة المعشوق، الذي تحدثه عن هجره وصده، فكأنما تُسمعه هجر القول ولغو الحديث، فيتبرم ويتململ، ويود لو أرحته من حديث الحب؛ إذ كان الحسن يسد أذن الجميل، فلا يسمع الشكوى ولا يفقه العتاب، وما أبدع الغزل في قوله:

جذلان ينفض من فروج قميصه
أعطاف غصن البانة المطلول

ولا يكاد حضرة الشاعر الكبير حافظ بك إبراهيم يذكر الشريف الرضي إلا ذكر له هذا البيت، وله فيه تأويل عجيب، ولعل أبرع ما قيل في التطلع إلى الاستمتاع بالجمال، قوله في هذا البيت المختار:

من لي به والدار غير بعيدة
من داره والمال غير قليل

ولعل صديقنا الشيخ عبد العزيز صقر يتسلى بأن الشريف الرضي على جاهه كان يشكو بعد الدار، وقلة المال:

فدع ذكر سُعدى إن فيك تقيةً
ألا إنما يبغي المها من يصيدها

وقد يصبح العتاب وهو لوم للنفس، وعذل للقلب، على الكلف بحبيب ليس للحب عنده جزاء، فمن ذلك قول بعض الأعراب:

أحيا على حبٍّ وأنت بخيلةٌ
وقد زعموا أن لا يُحبَّ بخيل
بلى والذي حج الملبُّون بيته
ويشفي الهوى بالنيل وهو قليل
وإن بنا لو تعلمين لغلة
إليكِ كما بالحائمات غليل

وقد يعكس هذا المعنى، فيحب العاشق ظلم معشوقه، ويحب من أجل ذلك أعداءه الظالمين، كقول أبي الشيص الخزاعي:

وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي
متأخر عنه ولا متقدم
أجد الملامة في هواك لذيذة
حبًّا لذكرك فليلمني اللوم
أشبهت أعدائي فصرت أحبهم
إذ كان حظي منك حظي منهم
وأهنتني فأهنت نفسي صاغرًا
ما من يهون عليك ممن أُكرم

ومن العشاق من يمزج العتاب بذكر ما لقي في سبيل الحب من البلايا، كقول ابن الدمينة:

وأنت التي كلفتني دلج السرى
وجون القطا بالجلهتين جُثوم
وأنت التي قطعت قلبي حزازة
وفرَّقت قرح القلب فهو كليم
وأنت التي أحفظت قومي فكلهم
بعيد الرضا داني الصدود كظيم

وقد أجابته محبوبته أُمامة فذكرت ما لقيت في سبيل حبه من سفاهة الوشاة، وشماتة اللائمين، حيث تقول:

وأنت الذي أخلفتني ما وعدتني
وأشمتَّ بي من كان فيك يلوم
وأبرزتني للناس ثم تركتني
لهم غرضًا أُرمى وأنت سليم
فلو أن قولًا يكْلم الجسم قد بدا
بجسميَ من قول الوشاة كلوم

وقد ضعف ابن الدمينة عن مجاراتها في قسوة العتاب، فبعث إليها الأبيات الآتية، يسألها الصفح والغفران:

وإذا عتبتِ عليَّ بتُّ كأنني
بالليل مختلس الرقاد سليم
ولقد أردت الصبر عنك فعاقني
عَلقٌ بقلبي من هواك قديمُ
يبقى على حدث الزمان وريبه
وعلى جفائك إنه لكريم

ومن المحبين من تعجزه الحيلة، فيذكر أحبابه بأن الحياة قصيرة، لا تتسع للصد، ولا تحتمل الهجر، كقول الطغرائي:

ويا رُفقة مرَّت بجزعاء مالك
تؤم الحمى أنضاؤها المطايا
نشدتكم بالله ألا نشدتمُ
بها شُعبة أضللتها من فؤاديا
وقلتم لحيٍّ نازلين بقربها
أقاموا بها واستبدلوا بجواريا
رويدكم لا تسبقوا بقطيعتي
صروف الليالي إن في الدهر كافيا

وأصل هذا المعنى لإياس بن القائف إذ يقول:

إذا زرتُ أرضًا بعد طول اجتنابها
فقدت صديقي والبلاد كما هيا
فأكرم أخاك الدهر ما دمتما معًا
كفى بالممات فرقة وتنائيا

وقد كاد سعيد بن حميد يضع لهذا المعنى صورة شعرية بقوله في النهي عن العتاب:

أقللْ عتابك فالبقاء قليل
والدهر يعدل تارة ويميلُ
لم أبك من زمن ذممتُ صروفه
إلا بكيت عليه حين يزول
ولكل نائبة ألمّت مدةٌ
ولكل حال أقبلت تحويل
والمنتمون إلى الإخاء جماعة
إن حُصِّلوا أفناهم التحصيل
فلئن سبقتُ لتبكينَّ بحسرةٍ
وليكثرنَّ عليَّ منك عويل
ولتفجعنَّ بمخلص لكَ وامقٍ
حبل الوفاء بحبله موصول
ولئن سبقتَ ولا سبقت ليمضين
من لا يشاكله لديَّ خليل
وليذهبنَّ بهاء كل مروءةٍ
وليفقدنَّ جمالها المأهول
وأراك تكلَف بالعتاب وودنا
باقٍ عليه من الوفاء دليل
ولعلَّ أيام الحياة قصيرة
فعلام يكثر عتبنا ويطول

على أن الرفق الذي ألمَّ بالطغرائي فجعله يرجو أحبابه ألا يسبقوا صروف الليالي، لم يمنعه من أن يصرخ شاكيًا في نفس القصيدة، فيرمي أحبابه بالخيانة والنسيان، وذلك قوله:

أفي الحق أني قد قضيت ديونكم
وأن ديوني باقياتٌ كما هيا
فوا أسفي، حتام أرعى مضِّيعًا
وآمن خوَّانًا وأذكر ناسيا
وما زال أحبابي يسيئون عشرتي
ويجفونني حتى عذرت الأعاديا

والبيت الأخير يذكرنا بقول أبي تمام:

أحبابَه لِمَ تفعلون بقلبه
ما ليس يفعله به أعداؤه

وقد بسط الأرجاني هذا المعنى فقال:

أأحبابنا كم تجرحون بهجركم
فؤادًا يبيت الليل بالهم مُكْمَدا
إذا رمتمُ قتلي وأنتم أحبةٌ
فما الذي أخشى إذا كنتمُ عِدا
سأضمر في الأحشاء منكم تحرقًا
وأظهر للواشين عنكم تجلدا
وأمنع عيني اليوم أن تكثر البكا
لتسلم لي حتى أراكم بها غدا

ومن هؤلاء المساكين الذين لا يجدون حيلة غير تذكير أحبابهم بقصر الحياة أبو صخر الهذلي في هذه الأبيات الموجعة:

بيد الذي شغف الفؤاد بكم
تفريج ما ألقى من الهمِّ
قد كان صَرمٌ في الممات لنا
فعجلت قبل الموت بالصَّرم
وَلما بقيت ليبقينَّ جوًى
بين الجوانح مُضرعٌ جسمي
فتعلمي أنْ قد كلِفت بكم
ثم افعلي ما شئت عن عِلم

وما ذكرت هذه المعاني المحزنة إلا تغنيت بهذا البيت الذي لا أراه إلا زفرةً تتصعَّد، أو عبرة تتدفق:

وأرى الأيام لا تدني الذي
أرتجي منك وتدني أجلي!

ومن الشعر الممتع في وصف الحيرة، يرمى بها المحب العميد، قول الشريف يعاتب حبيبًا أغراه بالحب، ثم أصلاه الصدود:

يا صاحب القلب الصحيح أما اشتفى
ألم الجوى من قلبيَ المصدوع
أأسأت بالمشتاق حين ملكته
وجزيت فرط نزاعه بنزوعِ
هيهات لا تتكلفنَّ ليَ الهوى
فضح التطبع شيمة المطبوع
كم قد نصبتُ لك الحبائل طامعًا
فنجوتَ بعد تعرُّض لوقوع
وتركتني ظمآن أشرب غلتي
أسفًا على ذاك اللمى الممنوع
قلبي وطرفي منك هذا في حمى
قيظٍ وهذا في رياض ربيع
كم ليلةٍ جرَّعتهُ في طولها
غصص الملام ومؤلم التقريع
أبكى ويبسم والدجى ما بيننا
حتى أضاء بثغره ودموعي
تفلي أنامله التراب تعللًا
وأناملي في سنِّيَ المقروع
قمرٌ إذا استخجلته بعتابه
لبس الغروب ولم يعد لطلوع
لو حيث يُستمع السِّرار وقفتما
لعجبتما من عزه وخضوعي
أبغي هواه بشافع من غيره
شر الهوى ما نلته بشفيع
أهون عليك إذا امتلأت من الكرى
أني أبيت بليلة الملسوع
قد كنت أجزيك الصدود بمثله
لو أن قلبك كان بين ضلوعي

وقد ارتبت في بيتين وردا في خلال هذه القصيدة، وبينهما وبين موضوعها بون شاسع، وهما قوله:

ما كان إلا قبلة التسليم أر
دفها الفراق بضمة التوديع
كمدي قديم في هواك وإنما
تاريخ وصلك كان مذ أسبوع

فإن هذا الوصل الحديث خليق بمحو ذلك العتب القديم، والتنافر بين هذين البيتين وبين موضوع القصيدة ظاهر على الأقل من مقابلتهما بهذا البيت الجميل:

أهون عليك إذا امتلأت من الكرى
أني أبيت بليلة الملسوع

فإنه يدل على أن الحبيب غير بعيد، وأنه في قربه نافر شرود، مما يذكرنا بقوله من كلمة ثانية:

أبيتُ والليل مبثوثٌ حبائلهُ
والوجد يقنص مني كل مجلودِ
شوقًا إليك وإشفاقًا عليك ولي
دمعان ما بين محلول ومعقود
ليس الغريب الذي تنأى الديار به
إن القريب قريب غير مودود

وإنما أردنا هذه الملاحظة ليتنبه القارئ إلى أن في الدواوين أشياء كثيرة نسبت زورًا إلى الشعراء، وربما عدنا إلى تحقيق ذلك في مبحث خاص. والأدباء يعجبون بعينية الشريف هذه في العتاب، وقلَّ منهم من لا يحفظ هذا البيت المختار:

لو حيث يستمع السرار وقفتما
لعجبتما من عزه وخضوعي

والعز والخضوع في هذا البيت يذكرنا بالعز والذل في قول عمارة اليمني في المجون:

ونافر الأعطاف عاملته
باللطف حتى سكن النافرُ
ولم أزل أمسحُ أعطافه
ورأيه في قصتي حائر
حتى غدا من خجلٍ مطرقًا
وكل إعراض له آخر
عجبت من ذلي ومن عزه
في موقفٍ عاذلهُ عاذر
في ليلةٍ ساهرها نائمٌ
فما له سمعٌ ولا ناظر
مددت فيها الفخ لما خلا الـ
ـجوُّ إلى أن وقع الطائر
فبتُّ من فرط اغتباطي به
أظن أني غائبٌ حاضر

وابن التعاويذي يجيد الشعر في العتاب، وهو صاحب هذه الأبيات المختارة:

خذ في أفانين الصدود فإن لي
قلبًا على العِلَّات لا يتقلبُ
أتظنني أضمرت بعدك سلوةً
هيهات عطفك من سلوي أقرب
قد كنت تنصفني المودة راكبًا
في الحب من أخطاره ما أركب
فاليوم أقنع أن يمرَّ بمضجعي
في النوم طيف خيالك المتأوِّب

وهو أيضًا صاحب هذه القطعة التي تمثل الوجد الدفين:

يا نازحًا ليس يدنو
وعاتبًا ليس يرضى
يا واجدًا وديوني
في حبه ليس تُقضى
أمرت عيني ففاضت
ومضجعي فأقضَّا
ارقد هنيئًا فإني
ما ذقت بعدك غمضا

ومن الظلم للعواطف أن لا نفصل مذهب العباس بن الأحنف في العتاب، فإن شعره آية الآيات في الشكوى من الهجر، والتوجع من الصدود، وهو مع هذا يعد أيام الهجر أحسن أيامه، ويقول:

وأحسن أيام الهوى يومك الذي
تُروِّع بالهجران فيه وبالعتَبِ
إذا لم يكن في الحب سخطٌ ولا رضًا
فأين حلاوات الرسائل والكتب

ولكن هذا أمل بعيد، فليس كل عتب تدور فيه رسائل الحب، وصحف الهوى، وكذلك رزئ ابن الأحنف بمن ينبذ كتبه، ويمزق رسائله، وفي هذا المعنى قرأنا له هذه القطعة الباكية:

وصالك مظلمٌ فيه التباسٌ
وعندك لو أردت له شهابُ
وقد حُمِّلت من حبيك ما لو
تقسَّم بين أهل الأرض شابوا
أفيقي من عتابك في أناسٍ
شهدتِ الحظ من قلبي وغابوا
يظن الناس بي وبهم وأنتم
لكم صفو المودة واللباب
وكنت إذا كتبت إليك أشكو
ظلمتِ وقلتِ ليس لهُ جواب
فعشت أقوت نفسي بالأماني
أقول لكل جامحة إياب
وصرت إذا انتهى مني كتابٌ
إليك لتعطفي نُبذ الكتاب
وأن الود ليس يكاد يبقى
إذا كثر التجني والعتاب
خفضت لمن يلوذ بكم جناحي
وتلقوني كأنكم غِضاب

وقد أكثر ابن الأحنف من التوجع لحرمانه من كتب من يهوى، وهو صاحب هذا البيت الحزين:

ويقنعني ممن أحب كتابهُ
ويمنَعنيهِ، إنه لَبخيلُ!

وكثيرًا ما يميل ابن الأحنف إلى الصفح الجميل، إذ يرى العتاب لا يعطف القلوب، إن لم تضمر الحنان. وقد أفصح عن ذلك في هذه الأبيات:

أنكر الناس ساطع المسك من دجـ
ـلة قد أوسع المشارع طيبا
فهمو يعجبون منه وما يدرو
ن أن قد حللت منه قريبا
قاسميني هذا البلاءَ وإلا
فاجعلي لي من التعزِّي نصيبا
إن بعض العتاب يدعو إلى العتـ
ـب ويؤذي به المحب الحبيبا
وإذا ما القلوب لم تضمر العطـ
ـف فلن يعطف العتاب القلوبا

وما أجمل العزة في قوله:

خفضت لمن يلوذ بكم جناحي
وتلقوني كأنكمُ غضابُ

وقوله:

خفضت طرفي لأدنى من يلوذ بكم
حتى احتُقرت وما مثلي بمحتَقر

وأي كريم لم يلق مثل هذه الذلة في سبيل الصبابة؟ ومتى عرف الهوى قيمة العزة في نفوس الأعزاء، فعصمها عن مدارة قوم يحيطون بالجمال، إحاطة الأشواك بالورود؟

وقد ترى ابن الأحنف يائسًا من نفع العتاب، فنقرأ له هذه الأبيات في التبرم بالسكوت:

سكوتي بلاءٌ لا أطيق احتمالهُ
وقلبي ألوف للهوى غير نازع
فأقسم ما تركي عتابك عن قلى
ولكن لعلمي أنهُ غير نافع
وإني إذا لم ألزم الصبر طائعًا
فلا بدَّ منه مُكرهًا غير طائع
إذا أنت لم يعطفك إلا شفاعةٌ
فلا خير في ودٍّ يكون بشافع

وربما رأيناه زاهدًا في العتاب، لأن محبوبته لا تصد صد العاتب، بل صد الملول وذلك قوله:

لو كنتِ عاتبة لسكَّن لوعتي
أملِي رضاك وزرت غير مراقبِ
لكن مللتِ فلم تكن ليَ حيلةٌ
صدُّ الملول خلاف صدِّ العاتب
ما ضرَّ من قطع الرجاء ببخلهِ
لو كان عَللني بوعدٍ كاذب

على أن ابن الأحنف لم يقض كل حياته في هذا العذاب، بل رأيناه يعجب بنصره في الحب، وقهره لقلوب الحسان، أليس سعيدًا من يقول:

يا ربَّ جارية أسلبتُ عَبرتها
من رقة ولغيري قلبُها قاسي
كم من كواعبَ ما أبصرن خط يدي
إلا تمنين أن يأكلن قرطاسي

وكان البها زهير، أحد وزراء مصر في أيامها الخوالي، من أرق الشعراء في العتاب، حتى لتحسب شعره نجوى بين المحب والحبيب، أو رنين الحلى عند عناق الحسان، أو خفوق الأمل في قلب اليائس المحزون. انظر إلى اعتذاره عن محبوبه، ورضاه عما جنت يد الدلال يسكر به المعشوق الجميل:

مولاي من سكر الدلا
ل عبثتَ والسكران عابث
ونكثتَ عهدًا في الهوى
ما خلتُ أنك فيه ناكث
لك لا أشكُ قضيةٌ
أنا سائلٌ عنها وباحثُ

وقد يكثر في شعر البها زهير وصف الدلال وما له من النشوة والسكر، فنراه في موطن آخر يقول:

أضنى الفؤاد فمن يريحُهْ
وحمى الرقاد فمن يبيحُهْ
ونضا من الأجفان سيـ
ـفًا قلما يبقى جريحُهْ
نشوان من خمر الدلا
لِ غَبُوقهُ وبها صَبوحُهْ

والذي يعنينا الآن شرح مواقفه في العتاب، لأنها تمثل الروح المصرية، وما لها من السماحة المصحوبة بالشمَم والإباء، فحينًا ينفي ما ذاع من سلوه، حتى هجره أحبابه، فيقول:

يا هاجرين وحقكم
هوَّنتمُ ما لا يهونُ
قلتم فلانٌ قد سلا
ما كان ذاك ولا يكون
وحياتكم وهي التي
ما مثلها عندي يمين
ما خنت عهدكم كما
زعم الوشاة ولا أخون
يا من يظن بأنني
قد خنتهُ غيري الخئون
لو صحَّ ودك صح ظنـ
ـك بي وبان لك اليقين
يا قلبَ بعض الناس كم
تقسو عليَّ وكم ألين
يا ويلتاه لمن يُخا
طِب أو لمن يشكو الحزين
قد ذلَّ من كان المعيـ
ـن لهُ هو الدمع المعين

وحينما يمزج العتاب بالشكوى فيقول:

يا أعز الناس عندي
كيف خنت اليوم عهدي
سوف أشكو لك بعدي
فعسى شكواي تجدي
أين مولايَ يراني
ودموعي فوق خدي
أقطع الليل أقاسي
ما أقاسي فيه وحدي
ليتني عندك يا مولا
ي أو ليتك عندي

ثم يترفق في شكواه وأمانيه، فيقول:

من لي بقلب أشتريـ
ـه من القلوب القاسيهْ
إني لأطلب حاجةَ
ليست عليك بخافيه
أنعم عليَّ بقبلةٍ
هبةً وإلا عارية
وأعيدها لك لا عدمـ
ـتَ بعينها وكما هيه
وإذا أردت زيادَةً
خذها ونفسي راضيه
فعسى يجود لنا الزما
ن بخلوةٍ في زاويه
أو ليتني ألقاك وحـ
ـدك في طريق خاليه

وهذه غاية الغايات في رقة النجوى ولطف العتاب، ولكن البها زهير كما قلنا مصري الروح، فهو في رقته غضوب؛ ألم تر إليه وقد تبدَّل من يهوى، فرماه بهذه الصاعقة:

يا من تبدَّل في الهوى
يَهْنيك صاحبك الجديدُ
إن كان أعجبك الصدو
د كذاك أعجبني الصدود
واعلم بأني لا أريـ
ـد إذا رأيتك لا تريد
وأنا القريب فإن تغيـَّ
ـر صاحبي فأنا البعيد

وقد أوضح هذا المعنى ووفاه في الكلمة الآتية:

سأعرض عمن راح عنيَ معرضا
وأُعلن سُلواني له وأشيعه
وأحجبُ طرفي عنه فهو رسولهُ
وأحجب قلبي عنه فهو شفيعهُ
وكيف ترى عيني لمن لا يرى لها
ويحفظ قلبي في الهوى من يضيعه
وأقسمت لا تجري دموعي على امرئٍ
إذا كان لا تجري علي دموعه
فلو خان طرفي ما حوته جفونه
ولو خان قلبي ما حوته ضلوعه

وأوضح من هذا قوله من كلمة ثانية:

هو حظي قد عرفتهْ
لم يحل عما عهدتُهْ
فإذا قصَّر من أهوا
هُ في الحب عذرتُه
غير أني ليَ في الحـ
ـب طريق قد سلكته
لو أراد البعد عني
نور عيني ما تبعته
إن قلبي وهو قلبي
لو تجنَّى ما صحبته
كل شيء من حبيبي
ما خلا الغدرَ احتملته
أنا في الحب غيورٌ
ذاك خُلقي لا عدمته
أُبصر الموت إذا أبصـ
ـر غيري من عشقته

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤