نوح الحمام

لقد ألممنا إلمامةً قصيرة بنوح الحمام عند أسباب المدامع، واليوم نفصل مذاهب الشعراء في هذا الباب: فمنهم من يحن إلى الحمائم الشادية، ويتمنى لو عُدن إليه، فإذا عدن أسلمنه إلى البكاء، كما قال المجنون:

ألا يا حمامات اللِّوى عدن عودةً
فإني إلى أصواتكن حزينُ
فعُدْن فلما عدن كدن يمتنني
وكدتُ بأشجاني لهنَّ أبينُ
فلم ترَ عيني مثلهنَّ بواكيا
بكينَ ولم تذرف لهنَّ عيون

ومن الشعراء من يذكر أن الحمائم الباكية تبعث الهوى في قلب الخليِّ، فكيف بالشجيِّ، وأن أنغامها ليست دموعًا ولكنها أمضى من الدموع، كما قال أبو تمام:

بعثن الهوى في قلب من ليس هائمًا
فقلْ في فؤادٍ رُعْنه وهْو هائمُ
لها نغمٌ ليست دموعًا فإن علت
مضت حيث لا تمضي الدموع السواجم

ومنهم من يستريح إلى نوح الحمام، ويراه تداويًا من الداء بنفس الداء، كقول ابن عبد ربه:

فكيف ولي قلبٌ إذا هبت الصبا
أهاب بشوق في الضلوع دفينِ
ويهتاج منه كلما كان ساكنًا
دعاء حمام لم تبت بوكون
وإن ارتياحي من بكاء حمامةٍ
كذي شجنٍ داويته بشجون
كأنَّ حمام الأيك لما تجاوبت
حزينٌ بكى من رحمةٍ لحزين

ويسمون الحمامة «مطوقة» لطوقها المخضب الجميل، كما قال ابن عبد ربه:

ونائحٌ في غصون الأيك أرَّقني
وما عُنيت بشيء ظلَّ يعنيه
مطوَّقٌ بخضابٍ ما يزايلهُ
حق تزايله إحدى تراقيهِ
قد بات يشكو بشجو ما دريْت بِهِ
وبت أشكو بشجوٍ ليس يدريه

ومن الشعراء من يقارن بينه وبين الحمامة الباكية، فيذكر أنها تبكي بلا دمع، وأن إلفها منها قريب، كما قال أبو محلم الشيباني من قصيدة اقترحها عليه طاهر بن الحسين، وقد كبرت سنه، وطالت غربته:

وأرقني بالريِّ نوح حمامة
فنحت وذو الشجو الغريبُ ينوح
على أنها ناحت ولم تذر دمعةً
ونحت وأسرابُ الدموع سفوح
وناحت وفرخاها بحيث تراهما
ومن دون أفراخي مهامه فِيحُ
ألا يا حمام الأيك إلفكَ حاضرٌ
وغصنك ميادٌ ففيمَ تنوحُ
أفق لا تنحْ من غير شيءٍ فإنني
بكيت زمانًا والفؤاد صحيح
ولوعًا فشطت غُربةٌ دار زينبٍ
فها أنا أبكي والفؤاد جريح

ومما يجدر أن يكون «صورة شعرية» في وصف الحمامة الباكية قول الطغرائي:

أيكيةٌ صدحت شجوًا على فننٍ
فأشعلت ما خبا من نار أشجاني
ناحت وما فقدت إلفًا ولا فُجعت
فذكرتنيَ أوطاري وأوطاني
طليقةٌ من إسار الهمِّ ناعمةٌ
أضحت تجدد وجد الموثق العاني
تشبهت بيَ في وجدي وفي طربي
هيهات ما نحن في الحالين سيَّانِ
ما في حشاها ولا في جفنها أثرٌ
من نار قلبي ولا من ماء أجفاني
يا ربَّة البانة الغناءِ تحضنها
خضراءُ تلتفُّ أغصانًا بأغصان
إن كان نوحك إسعادًا لمغتربٍ
ناءٍ عن الأهل ممنوٍّ بهجران
فقارضيني إذا ما اعتادني طربٌ
وجدًا بوجد وسُلوانًا بسلوان
أو لا فقصرَكِ حتى أستعين بمن
يعنيه شأني ويأسو كَلمَ أحزاني
ما أنت مني ولا يعنيكِ ما أخذت
مني الهموم ولا تدرين ما شاني
كِلي إلى الغيم إسعادي فإنَّ له
دمعًا كدمعي وإرنانًا كإرْناني

وهذه القصيدة من أبدع ما قال الشعراء في الحمائم الشاديات. وهي أنموذج لملاحة التقسيم، وبراعة التصوير، وحلاوة التعبير، ويقرب منها قول ديك الجن:

حمائمُ وُرْقٌ في حمى وَرَق خُضرِ
لها مُقَل تُجري الدموع ولا تجري
تكلفن إسعاد الغريبة إن بكت
وإن كن لا يدرين كيف جوى الصَّدر
لها حُرَقٌ لو أن خنساء أعْولتْ
بهن لأدَّت حق صخرٍ إلى صخرِ
فقلت لنفسي ها هنا طلب الأسى
ومعدنه إن فاتني طلب الصبر

وقد يحسن لفت النظر إلى الخرافة القديمة في نوح الحمام: فإن العرب يذكرون أنه كان لهن ملك في عهد نوح يسمى (الهديل) فهن يبكينه إلى الآن! وهو المعني بقول نصيب:

لقد راعني للبين نوح حمامةٍ
على غصن بانٍ جاوبتها حمائمُ
هواتفُ أمَّا من بكين فعهدهُ
قديمٌ وأما شجوهنَّ فدائمُ

وممن ذكر الهديل حُميد بن ثور في هذه الأبيات الحسان:

إذا نادى قرينته حمامٌ
جرى لصبابتي دمعٌ سفوحُ
يُرَجِّع بالدعاء على غصون
هَتوفٌ بالضحى غرد فصيح
هفا لهديله مني إذا ما
تغرد ساجعًا قلبٌ قريح
فقلت حمامة تدعو حمامًا
وكل الحب نزَّاعٌ طمُوح

قال أبو بكر بن دريد: خرجنا من عُمان في سفر لنا، فنزلنا في أصل نخلة، فنظرت فإذا فاختتان تزقوان في فرعها، فقلت:

أقول لوَرقاوَين في فرع نخلةٍ
وقد طفل الإمساء أو جنح العصر
وقد بسطت هاتي لتلك جناحها
ومال على هاتيك من هذه النحرُ
لِيَهْنِكما أن لم تُراعا بفرقةٍ
وما دب في تشتيت شملكما الدهر
فلم أر مثلي قطَّعَ الشوق قلبه
على أنهُ يحكي قساوته الصخر

ومن جيِّد الشعر في الموازنة بين العاشق وبين الحمامة الشادية قول ابن سنان الخفاجي:

أتظن الورقُ في الأيك تغنى
أنها تضمر حُزنًا مثل حزني
لا أراك الله نجدًا بعدها
أيها الحادي بها إن لم تجبني
هل تُباريني إلى بث الجَوى
في ديار الحي نشوى ذات غُصنِ
هَبْ لنا الشبقَ ولكن زادنا
أننا نبكي عليها وتغنِّي
يا زمانَ الخيْفِ هل من عودة
يسمح الدهر بها من بعد ضنّ
أرضينا بثنيات اللوى
عن زرودٍ يا لها صفقة غَبنِ

وقد ينكر الشاعر على الحمامة أن تشكو الفراق، وهي كثيرة الألَّاف، وحالية بالطوق والخضاب، كقول ابن سنان صاحب الأبيات السالفة:

وهاتفةٍ في البان تملي غرامها
علينا وتتلو من صبابتها صحفا
عجبت لها تشكو الفراق جهالةً
وقد جاوبَتْ من كل ناحيةٍ إلْفا
ويشجي قلوبَ العاشقين حنينها
وما فهموا مما تغنَّت له حرفا
ولو صدقت فيما تقول من الأسى
لما لبست طوقًا ولا خضبت كفَّا

ولكن الأرجاني يصفها بصدق اللوعة، فيذكر أنها مزقت أثواب الحِداد، وأن صدورها ضاقت بأنفاسها ففضت مجامع الأطواق وأنها نزفت دمعها وأفنته بطول البكاء، وذلك في قوله:

ومما شجاني وقد ودَّعوا
بكاءُ الحمام على ساقها
تنوح على بُعد ألَّافها
وتظهر مكنون أشواقها
لبسنَ حدادًا ومزَّقنه
فلم تدَّخر غير أزياقها
وضاقت صدورًا بأنفاسها
ففضَّت مجامع أطواقها
وقد نزفت في الهوى دمعها
فلم يبق ماءٌ بآماقها

ولم يكثر الشعراء الحديث عن غناء الكروان، ويظهر أنهم لم يتمتعوا بأغانيه الجميلة على ضفاف النيل في سِنتريس، والدهر كله فداء للحظة واحدة من الأصائل، أو العشيَّات، أو الأسحار، في مغاني سنتريس.

ويعجبني في وصف الكروان قول الأستاذ عباس العقاد:

يا مُحييَ الليل البهيم تهجُّدًا
والطير آوية إلى الأوكان
يحدو الكواكب وهو أخفى موضعًا
من نابغ في غَمرة النسيان
قلْ يا شبيه النابغين إذا دعوا
والجهل يضرب حولهم بجران
كم صيحةٍ لك في الظلام كأنها
دقات صدر للدجنةِ حانِ
خَفاقة النغمات تطفرُ في الدجى
فوق النسائم طفرة النشوان
هنَّ اللغات ولا لغات سوى التي
رُفعت بهن عقيرة الوجِدان
إن لم تقيِّدها الحروف فإنها
كالوحْي ناطقةٌ بكل لسان
أغنى الكلام عن المقاطع واللغى
بثُّ الحزين وفرحةُ الجذلان
إني لأسمع منكَ إذْ ناديتني
معنى يقصِّر عنه كل بيان
أصغي إليك إذا هتفت وفي يدي
سفرٌ يغرد صامت الأوزان
شعر الطيور ولا رياء يشوبهُ
يذري ببدْع قصائد الإنسان
يا ساليًا يشكو ويصدح وحْدَه
علِّم سميرَك راحة السُّلوان

ومن خير ما وُصفت به الحمامة من ناحية الخِلقة الجميلة، قول بعض الأعراب:

وقبليَ أبكَى كلَّ من كان ذا هوى
هتوفُ البواكي والديارُ البلاقعُ
وهنَّ على الأطلال من كل جانب
نوائح ما تخضلُّ منها المدامعُ١
مزَبْرجة الأعناق غرُّ ظهورها
مُخطمةٌ بالدر خُضرٌ روائع٢
ترى طُررًا بين الخوافي كأنها
حواشي برد زينتها الوشائع٣
ومن قِطع الياقوت صيغت عيونها
خواضب بالحنَّاءِ منها الأصابع

ويعجبني خطاب عبد البر بن فرسان الغساني لطائر مغرِّد ضم أفراخه إليه:

أعِدهنَّ ألحانًا على سمع مُعربٍ
يطاوحُ مرتاحًا على القُضب مُعجما
وطر غير مقصوص الجناح مُرَفها
مُسوغ أشتاتِ الحبوب مُنعما
مُخلى وأفراخًا بوكرك نُوَّما
ألا ليتَ أفراخي معي كن نُوما

وقد أبدع الرصافي شاعر الأندلس حين تغنى يومًا من أيام شبابه وقد خلا فيه بمن يهوى في روضة لم يشاركهم في سكناها غير الهديل، وأبياته الآتية غاية من غايات الحسن في وصف الشمس وهي تجنح للغروب:

وعشيٍّ رائق منظرُه
قد قطعناهُ على صرْف الشَّمولْ
وكأن الشمسَ في أثنائه
ألصقتْ بالأرض خدًّا للنزولْ
والصَّبا ترفع أذيال الرُّبا
ومُحيَّا الجوِّ كالسيف الصقيل
حبذا منزلُنا مُغتَبَقًا
حيث لا يطرُقنا غير الهديل
طائرٌ شادٍ وغصنٌ منثنٍ
والدُّجى تشرب صهباء الأصيل

ومما يقرب من هذا الباب وليس منه قول القاضي أبي حفص القرطبي:

همُ نظروا لواحظها فهاموا
وتشربُ لُبَّ شاربها المدامُ
يخاف الناس مقلتها سواها
أيذعر قلب حامله الحسام
سما طرفي إليها وهو باك
وتحت الشمس ينسكب الغمامُ
وأذكر قدَّها فأنوح وجدًا
على الأغصان ينتحبُ الحمام
وأعقب بينُها في الصدر غمًّا
إذا غربَت ذكاءُ أتى الظلام
figure
١  المدامع هنا أماكن الدمع وهي العيون.
٢  مزبرجة: من الزبرج وهو الزخرف. ومخطمة من الخطم بفتح فسكون وهو منقار الطائر.
٣  الوشائع جمع وشيعة وهي الطرائق في الثوب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤