الأرق والسهاد

شكا الشعراء قديمًا وحديثًا طول الليل بعد الفراق، وعند الهجر والصدود. فمنهم من يستنجد محبوبه، ويستعديه على وحشة الليل، ومضاضة الأرق، كقول الأبيوردي:

أَأُمَيْمَ إنْ خَفِيَتْ عليك صبابتي
فسَلي ظلامَ الليل كيف أكون
واستخبري عني النجومَ فقد رأت
سَهري وأرْوقة الغياهب جُون
ولئن أذلتُ مصونَ دمعي في الهوى
فعلى البكاءِ يُعوِّلُ المحزون

وهذه الأبيات من خير ما قال المحبون في شكوى الوجد، وعبثه بكرائم النفوس. ومنهم من يستعين من حوله، ويرجوهم أن يحدثوه عن النهار، أو يصفوه له، فقد طال ليله، حتى نسي النهار، وأوصاف النهار، كما قال ابن الأحنف:

أيها الراقدون حولي أعينو
ني على الليل حسبةً وائتجارا
حدثوني عن النهار قليلًا
أو صفوهُ فقد نسيت النهارا

وابن الأحنف يجيد شكوى الليل الطويل، والسهاد المملول، فمن ذلك قوله:

نام من أهدى ليَ الأرقا
مُستريحًا سامني قلقا
لو يبيت الناس كلهمُ
بسهادي بيَّض الحدقا
أنا لم أرزق مودتكم
إنما للعبد ما رُزِقا
كان لي قلب أعيش به
فاصطلى بالحب فاحترقا

وتوجعني شكواه في قوله:

أنا لم أرزق مودتكم
إنما للعبد ما رزقا

فقد تكلفُ النفس بفتنة من فِتن الحسن في هذا الوجود، ثم لا تجد إليها السبيل، على أن هذا الحسن قد يكون زمامه بيد من لا يشعر بروعة الجمال.

ومن الشعراء من يظعن أحبابه بالليل، فيظعن بذلك الكرى عن جفونه، كالبحتري حين يقول:

أمولعة بالبين رُبَّ تفرُّقٍ
جرحتِ به قلبًا بحبِّكِ مولعا
ولي لوعةٌ تستغرق الهجر والنوى
جميعًا وحبٌّ يُنفد الدمع أجمعا
على أن قلبي قد تصدع شمله
فنونًا لشمل البيض حين تصدعا
ظعائنُ أظعنَّ الكرى عن جفوننا
وعوَّضننا منه سهادًا وأدمُعا
نوْينَ النوى ثم استجبن لهاتفٍ
من البين نادى بالفراق فأسمعا
وحاوَلن كتمان الترحل بالدجى
فنمَّ بهن المسك حين تضوَّعا

وقد يفزع المحب إلى تحكيم العدل والحق، حين تطول لياليه، كقول ابن الرومي:

أيا شمسَ النهار سنًا وعِزًّا
يُقصر عنهما نظرٌ ولمسُ
أحلٌّ أن تنامي عن سهادي
ولي مذ بان عني النومُ خمسُ
أمِّيز كل شيء من أموري
سوى أمري لديك ففيه لبس
غرست هوًى فربِّيه بحفظٍ
فليس يُرَبُّ بالتضييع غَرس

ومن الشعراء من يتفنن في وصف الليل فيذكر أن نجومه أقسمت لا تزول، كقول أحدهم:

ألا هل على الليل الطويل مُعينُ
إذا نزحتْ دارٌ وحن حزينُ
أكابد هذا الليل حتى كأنما
على نجمه أن لا يغور يمين
ووالله ما فارقتكم قاليًا لكم
ولكنَّ ما يُقضى فسوف يكون

ومنهم من يزيد على ذلك شوقه إلى تمزيق سرابيل الليل، وظهور تباشير الصبح، كقول حُندج بن حندج:

في ليل صول تناهى العرضُ والطولُ
كأنما ليلهُ بالليل موصول
لا فارقَ الصبح كفي إن ظفرتُ به
وإن بدت غرةٌ منه وتحجيلُ
لساهرٍ طال في صول تململه
كأنه حيةٌ بالسوطِ مقتول
متى أرى الصبحَ قد لاحت مخائله
والليل قد مُزقت عنه السرابيل
ليلٌ تحَّير ما ينحط في جهةٍ
كأنه فوق متن الأرض مشكول
نجومهُ ركدٌ ليست بزائلةٍ
كأنما هُنَّ في الجوِّ القناديل
ما أقدر الله أن يُدني على شحَط
من داره الحَزن ممن دارهُ صول
الله يطوي بساط الأرض بينهما
حتى يُرى الربع منه وهو مأهول

نعم وما أقدر الله أن يدني على النوى من دارهُ سِنتريس ممن داره أسيوط.

لوددِتُ إذ سكنوا هنالك دارَهم
وعدَتهُم عنا أمورٌ تشغلُ
أنا نُطاع إذن فتنقلُ أرضنا
أو أن أرضهم إلينا تُنقل

وقد شبه ابن الرومي نجوم الليل بنجوم الشيب حين قال:

رُبَّ ليلٍ كأنه الدهر طولًا
قد تناهى فليس فيه مزيد
ذي نجوم كأنهن نجوم الشيـ
ـب ليست تزول لكن تزيد

قال أبو بكر الوليد بن البزاز: كان علي بن الجهم يستنشدني كثيرًا شعر خالد الكاتب، فأنشده فيقول: ما صنع شيئًا. ثم أنشدته يومًا قوله:

رقدتَ ولم ترثِ للساهر
وليل المحب بلا آخرِ
ولم تدر بعد ذهاب الرُّقا
دِ ما صنع الدمع بالناظر

فقال: قاتله الله! لقد أدمن الرَّمية حتى أصاب الغِرَّة! وجمال هذا الشعر يرجع إلى شكوى المحب ما صنع الدمع بناظره بعد جفوة النوم. ومثله قول أبي العتاهية:

أمسى ببغداد ظبيٌ لست أذكره
إلا بكيتُ إذا ما ذكره خطرا
إن المحب إذا شطَّت منازله
عن الحبيب بكى أو حنَّ أو ذكرا
يا ربَّ ليلٍ طويل بتُّ أرقبُه
حتى أضاءَ عمود الصبح فانفجرا
ما كنت أحسب إلا مُذ عرفتكم
أن المضاجع مما يُنبتُ الإبَرا
والليل أطول من يوم الحساب على
عين الشجيِّ إذا ما نومهُ نَفرا

ومن المحبين من يخاطب الليل. فيذكر في خطابه أن بعض ما به كاف لمحو الليل لو عَرض له، كقول سعيد بن حُميد:

يا ليل بل يا أبَدُ
أنائمٌ عنك غدُ
يا ليلُ لو تلقى الذي
ألقى بها أو تجد
قصِّر من طولك أو
ضُعِّفَ منك الجَلد
أشكو إلى ظالمةٍ
تشكو الذي لا تجد
وقفٌ عليها ناظري
وقفٌ عليها السُّهد

وأود لو تنبه القارئ إلى حسن هذا البيت:

أشكو إلى ظالمة
تشكو الذي لا تجدُ

وقد ذكر الفرزدق العلة في طول الليل فقال:

يقولون طال الليل والليل لم يطل
ولكن من يبكي من الشوق يسهر

وقد تابعه بشار في هذا المعنى فقال:

لم يطل ليلي ولكن لم أنم
ونفى عني الكرى طيفٌ ألمّ
وإذا قلت لها جودي لنا
خرجتْ بالصمت عن لا ونعم
نفسي يا عبدَ عني واعلمي
أنني يا عبدَ من لحمٍ ودم
إن في بُرديَّ جسمًا ناحلًا
لو توكأتِ عليه لانهدم

وقد ردد هذا المعنى في كلمة ثانية فقال:

طال هذا الليل بل طال السهر
ولقد أعرف ليلي بالقِصَر
لم يطل حتى جفاني شادنٌ
ناعم الأطراف فتان النظر
ليَ في قلبيَ منه لوعةٌ
ملكتْ قلبي وسمعي والبصر
وكأن الهم شخصٌ ماثلٌ
كلما أبصره النومُ نفر

على أن بشارًا يتخطى هذا الحد، فيجاري الشعراء، ويحسب أن ليس لليله نهار، وذلك في قوله:

أقول وليلتي تزداد طولًا
أما لليل بعدهم نهارُ
جفت عيني عن التغميض حتى
كأنَّ جُفونها عنها قصارُ

وليس للبيت الثاني قيمة من الوجهة الأدبية؛ لأن الغمض لا يجفو العيون، لقصر الجفون، كما يقول، وإنما يجفوها لثورة الوجد، وهجمة الأشجان.

ويقول في كلمة ثانية:

خليليَّ ما بال الدجى لا تزَحْزحُ
وما لعمود الصبح لا يتوضَّحُ
أضلَّ النهار المستنير طريقهُ
أم الدهر ليل كله ليس يبرح
وطال علي الليل حتى كأنه
بليلين موصول فما يتزحزح

والبيت الأخير يذكرني بقول صاحب البدائع:

وجنَّ علي الليل حتى حسبته
جفاءَ كريم أو رجاءَ لئيمِ

وإن كان هذا في الحديث عن ظلام الليل، لا عن طوله.

وتروقني البساطة في قول سويد بن أبي كاهل:

وإذا ما قلت ليلٌ قد مضى
عطف الأول منه فرجعْ
يسحب الليل نجومًا ظُلعًا
فتواليها بطيئات التبَع

والخيال هنا خيال بادية، ولكنه في بداوته بديع، وقول الآخر:

سلو مضجعي هل قرَّ من بعد بعدكم
وهل عرفتْ طعم الرقاد جفوني
سهرنا بنعمان ونمتم ببابل
فما لعيونٍ ما وفتْ لعيون

وهو يذكرني بقول بعض الأعراب:

لعمري لئن كنتم على النأي والغنى
بكم مثل ما بي إنكم لصديق
فما ذقت طعم النوم منذ هجرتكم
ولا ساغ لي بين الجوانح ريق
إذا زفرات الحب صعَّدن في الحشا
كررن فلم يُعلم لهنَّ طريق

ومما جمع بين الشكوى من ليل الفراق، وذكرى ليل الوصال قول عبد الرحمن بن هشام:

طال عمر الليل عندي
مذ تولعتَ بصدي
يا غزالًا نقض العهـ
ـدَ ولم يوفِ بوعد
أنسيت العهد إذ بتـ
ـنا على مفرَش وردِ
واجتمعنا في وشاحٍ
وانتظمنا نظم عِقد
ونجوم الليل تحكي
ذهبًا في لازوَرْد

ومن الشعراء من لا يبالي طول الليل في غيبة الحبيب، كقول ابن زيدون:

يا ليل طُل لا أشتهي
إلا لعهدي قِصَرَكْ
لو بات عندي قمري
ما بتُّ أرعى قمرك

وليالي القمر في سنتريس عذبة المذاق، شهية الورود، وما أحسب المصريين عبدوا النيل إلا حين رأوه يداعب القمر في ضواحي سنتريس، ذات الظلال والأفنان.

لياليَ النيل واللذاتُ ذاهبةٌ
وجدي عليكنَّ أشجاني فأضناني
لو يرجع الدهر لي منكنَّ واحدةً
في سنتريس ويُدني بعض خُلاني
إذن تبين دهري كيف يرحمُني
من ظلم همِّي ومن عدوان أحزاني

وقد أجاد شعراء العصر وصف الأرق في الليل الطويل. فمن ذلك قول شوقي:

بدأ الطيف بالجميل وزارا
يا رسول الرضا وقيت العثارا
خُذ من الجفن والفؤاد سبيلا
وتيمَّم من السويداء دارا
أنت إن بتَّ في الجفون فأهل
عادة النور ينزل الأبصارا
زار والحرب بين جفني ونومي
قد أعدَّ الدُّجى لها أوزارا
سألتني عن النهار جفوني
رحم الله يا جفوني النهارا
قلنَ نبكيه قلت هاتي دموعًا
قُلن صبرًا فقلت هاتي اصطبارا
يا لياليَّ لم أجدك طوالًا
بعد ليلي ولم أجدك قِصارا
إن من يحمل الخطوب كبارًا
لا يبالي بحملهنِّ صغارا
لم نُفق منك يا زمان فنشكو
مدمن الخمر ليس يشكو الخُمارا

وقال حافظ:

سكن الظلامُ وبات قلبك يخفق
وسطا على جنبيك همٌّ مقلِقُ
حارَ الفراش وحِرت فيه فأنتما
تحت الظلام معذبٌ ومؤرق
درج الزمان وأنت مفقود المنى
ومضى الشباب وأنت ساهٍ مطرق

وقال القاياتي:

جنَّ الظلام فما يزاح
يا ويلتا أين الصباحُ
ليلٌ كأن نجومهُ
يطلعن في كبدي جراح
يا من أتاح ليَ الأسى
بَردُ الفؤاد متى يتاح
قلب أساه لاعجٌ
لولا تحجبهُ لفاح
ما بال دمعي يُستبا
حُ وحاجتي ليست تباح

وقال العقاد يخاطب الليل:

طويتَ أزمَّة الأجساد منا
فدانت وانطوت عنك القلوب
فما تدري أتسكن حين مالت
إلى تلك المضاجع أم تجوب
وما تدري أباتت في جحيم
أم الجنات مرتعها الخصيب
وما تدري أيسمع في دجاها
هتافٌ للبلابل أم نعيبُ
عقدت من الكرى وطنًا رفيقًا
وكل مسهَّدٍ فيه غريب
تضيق به الوسائد والحشايا
وتلفظه المسالكُ والدروب
وحيدٌ لا يقاربهُ بعيدٌ
ولا يدري بلوعته القريب
فيا وطن النيام بكل فجٍّ
أمن حرج بك السُّهدُ المريب
ويا سكن الأحبةِ والأعادي
أليس بساحليك لنا نصيب
ويا دار السلام بأي سدٍّ
يصدُّ الطرف مربعكِ الرحيب
لئن هجعتْ بساحتك المآقي
لما هجَعتْ بساحتك الخطوب
كأن جموعهنَّ سباع ليلٍ
تبيت على فرائسها تلوب
فهل عند الظلام لنا حديث
يحاذر أن يُلمَّ به رقيبُ
أم ادخر الظلامُ لنا متاعًا
يضنُّ بلمحِهِ الحلمُ الكذوب
سهرْنا يا ظلام فلم يصبنا
على طول المدى إلا الشحوب
وإلا حُلكةً فيها تلاقي
سواد القلب والطرف الكئيبُ

والعقاد يكثر في شعره من شكوى الليل الطويل، وقد يشجيك حين ينظر إلى نفسه فيحسبها من اليأس أمست وهي خراب ينعب على أطلالها البوم. وانظر كيف يقول:

وناعبةٍ صاحت ولليل هجعةٌ
فقال علامَ البوم ينعب ناعيا
لَقُبِّحْتِ من عمياءَ تقرأ في الدجى
إذا اسودَّ أسطار الخراب الخوافيا
فقلتُ على النفس التي سوف تغتدي
طُلولًا بأحناءِ الضلوع حوانيا
تجوس أفاعي الحزن في جنباتها
ويا ربما تُؤوي الضلوعُ الأفاعيا
فلا تحسبنَّ البومَ تنعي المغانيا
فقد تندب البوم النفوس البواليا
وكم وحشة للنفس يخشى اقتحامها
أخو غمراتٍ ليس يخشى الفيافيا

وما أجمل قوله في هذه القصيدة:

ولما تقضَّى الليل إلا أقلهُ
وحان التنائي جئت بالدمع باكيا
فأقبل يرعاني ويبكي وربما
بكى الطفل للباكي وإن كان لاهيا
وزحزحني عنه بكف رفيقةٍ
وأسبل أهداب الجفون السواجيا
يقول لقد ران الكرى وتفرقت
نجوم الدجى والديك أصبح داعيا
فقلت وكم من ليلةٍ إثر ليلةٍ
سهرتُ وقد أمسيتَ وحدك غافيا
فهبْ لوداعي من رقادك ليلةً
تمرُّ فإني قد وهبتُ حياتيا
وأسلمتُ كفي كفهُ فأعادها
وقلبي! فهلا أرجعَ القلب ثانيا؟
figure

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤