عذر أرباب الدموع

لا تعذل المشتاق في أشواقه
حتى يكون حشاك في أحشائه
إن القتيل مبللا بدموعه
مثل القتيل مضرجًا بدمائه

نذكر هنا ما يعتذر به الباكون عن بكائهم، وما يحتجون به لدى عذالهم. وهو نوع من الإفصاح عن موجب الدمع، وداعي البكاء. والشعراء فيه رجلان: رجل غلبه الحب، وقهرته الصبابة، فباح بمكنون سره، ومكتوم حبه. ورجل تخوف الرقباء، وتهيب العذال، فأخذ يختلق العلل، وينتحل الأسباب، دفعًا لكيد الواشين، ودرءًا لعذل اللائمين … فمن الأول قول البحتري:

سارت مقدمة الدموع وخلفت
حرقًا توقد في الحشا ما ترحل
إن الفراق كما علمت فخلني
ومدامعًا تسع الفراق وتفضل
إلا يكن صبر جميل فالهوى
نشوان يجمل فيه ما لا يجمل

وحسن البيت الأول في خلود اللوعة، وبقاء الغليل! وهو خير من قول ذي الرمة:

لعل انحدار الدمع يعقب راحة
من الوجد أو يشفي شجي البلابل

والبيت الأخير أروع من قول أبي تمام في نفس المعنى:

والصبر أجمل غير أن تلددًا
في الحب أحرى أن يكون جميلا

وقال البحتري في الاعتذار عن البكاء:

لا تلمني على البكاء فإني
نضو شجو ما لمت فيه البكاء
عذلا يترك الحنين أنينًا
في هوى يترك الدموع دماء
كيف أغدو من الصبابة خلوًا
بعدما راحت الديار خلاء

ومن بديع الاعتذار عن البكاء قول خالد الكاتب:

عش فحبيك سريعًا قاتلي
والضنى إن لم تصلني واصلي
ظفر الحب بقلب دنف
فيك والسقم بجسم ناحل
فهما بين اكتئاب وضنى
صيراني كالقضيب الذابل
وبكى العاذل لي من رحمة
فبكائي لبكاء العاذل

وهذا معنى جميل، لا ينقص غير القرب من الحقيقة: فقد يندر أن يبكي اللائمون رفقًا بالمحب الحزين!

ومما انتحل فيه الشعراء للبكاء أسبابًا غير أسبابه قول كثير:

إذا زرفت عيناي أعتل بالقذى
وعزة لو يدري الطبيب قذاهما

وهو نوع من الكتمان يفزع إليه الشعراء عند اليأس من أحبابهم:

يأس يحسن لي التستر فاعلمي
لو كنت أطمع فيك لم أتستر

ومن طريف هذا النوع قول أبي العتاهية يعتذر عن بكائه، وقد استحيا من صديقه:

كم من صديق لي أسا
رقه البكاء من الحياء
فإذا تأمل لامني
فأقول ما بي من بكاء
لكن ذهبت لأرتدي
فطرفت عيني بالرداء
figure

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤