الفزع إلى الدموع

قال أبو بكر بن عياش: نزلت بي مصيبة أوجعتني فذكرت قول ذي الرمة:

لعل انحدار الدمع يُعقب راحة
من الوجد أو يشفي شجي البلابل

فخلوت فبكيت فسلوت! ولست أدري كيف تذهب بالوجد زفرة، أو تودي به عبرة، وهو كما قيل:

ظن الهوى لبسة تبلى فيخلعها
فكان في الروح مثل الروح في البدن

وكنت أسمي هذا النوع من الشعر استشفاء بالدموع، وفقًا لما يجنح إليه الشعراء، ولكني رأيت أن أسميه «فزعًا إلى الدموع» حين تبينت أن الدمع لا يطفئ اللوعة، وأنه نار حامية، لا بردٌ وسلام!

وهل تجد أدعى للبث، وأجلب الحزن، من قول كثير، وقد ترحلت حبيبته:

كفي حزنًا للعين أن رد طرفها
لعزة عير آذنت برحيل
وقالوا نأت فاختر من الصبر والبكا
فقلت البكا أشفى إذن لغليلي
توليت محزونًا وقلت لصاحبي
أقاتلتي ليلى بغير قتيل

وما اختار البكاء لأنه أشفى للغليل كما قال، ولكنه اختاره ليفر من الصبر الذي رآه مر المذاق! وقد حسب بعض الشعراء أن التفضيل بين الصبر والبكاء مما ينال، وفي ذلك يقول:

إذا ما دعوت الصبر بعدك والبكا
أجاب البكا طوعًا ولم يجب الصبر

وهو ضلال مبين: فإن البكاء لا ينتظر دعوة المخزون، ولكنه ينقض عليه انقضاض الصاعقة، فإذا هو صريع! وأمثال هذا الشاعر لا يتحدثون عن حزنهم الأليم، ولكنهم يمنون على أحبابهم بهذا الدمع المجلوب.

ومن الشعراء من تنبه إلى أن السلامة من الجوى أمضى من الجوى، وهؤلاء يبكون وجدهم الذاهب وضلالهم القديم «ومن أسماء الحب الضلال»، ومن مختار الشعر في هذا البكاء قول المتنبي:

يراد من القلب نسيانكم
وتأبى الطباع على الناقل
ولو زلتم ثم لم أبككم
بكيت على حبي الزائل

وأوجع منه قول البحتري:

وأود أني ما قضيت لبانتي
منكم ولا أني شفيت غليلي
وأعد برئي من هواك جناية
والبرء أعظم غاية المخبول

ذلك بأن القلب الجريح لا يجد شفاءه في السلوة، ولا في البكاء … وهل السلوة إلا رزء جديد يقصم الظهر، ويقصف العمر؟ أرأيت آدم وقد خرج من الجنة؟ أليست لوعته على ذلك الفردوس الضائع، هي سر ما يعتادنا من أنين قد لا نعرف له سببًا قريبًا؟ وهل البكاء إلا أثر من آثار الوجد يخشع لرهبته غلاظ الأكباد، ويرق له قساة القلوب؟

تلك حسرة البحتري أفصح عنها بقوله:

وأود أني ما قضيت لبانتي
منكم ولا أني شفيت غليلي

فما الذي جعله يرجو من الدمع الشفاء حين يقول:

قف مشوقًا أو مسعدًا أو حزينًا
أو معينًا أو عاذرًا أو عذولا
وخلاف الجميل قولك للذا
كر عهد الأحباب صبرًا جميلا
عل ماء الدموع يخمد نارًا
من جوى الحب أو يبل غليلا
وبكاء الديار مما يرد الشو
ق ذكرًا والحب نضوًا ضئيلا
لم يكن يومنا طويلًا بنعما
نٍ ولكن كان البكاء طويلا

إن فهم ذلك يحتاج إلى تأمل النفس البشرية: فهي ليست موحدة المشاعر والميول. ولو جاز أن تجد نفسًا خالدة الألم لفقد شقيقتها في عالم النفوس، لجاز أيضًا أن تكون في لوعتها الخالدة ذات تصاريف في الشكوى والأنين! وليس طلب السلوة إلا صرخة الوجد يعجز عن كبحها المتيم العاني: ومن الذي يحرم على شقي أن يلتمس إلى السعادة السبيل؟ ومتى كان المحبون سعداء حتى يكون طلب الخلاص من بلواهم كفرًا بنعمة الحب التي ابتلى الله بها أولئك الشهداء؟! وقد يحسن أن ننشد القارئ قول البحتري نفسه:

قد كان مني الوجد غب تذكر
إن كان منك الصد غب تناسي
تجري دموعي حيث دمعك جامد
ويرق قلبي حيث قلبك قاسي

ألا تراه جعل الوجد أثرًا للتذكر الذي حسب البكاءَ يفضي إليه فيريحه من الشوق في قوله:

وبكاء الديار مما يرد الشو
ق (ذكرًا) والحب نضوًا ضئيلا

فهو يجعل الذكر دواء تارة، ويجعله داء تارة أخرى! ولسنا نتخذ من ذلك دليلا يرضاه المنطق عن خلود الصبابة، والعالم كله لن يرزق الخلود، ولكنا نستدل به على الحيرة يرزأ بها المتيم المحزون، فما يدري أيشفيه الدمع، أم يزيد لوعته اضطرامًا.

على أنه لا عيب على الشاعر في أن «تتناقض» خواطره؛ لأن الشعر كالمرآة، والنفس دنيا ثانية، تتراءى صورها المختلفة، في لوحة الشعر الجميل.
figure

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤