عند منازل الأحباب

كان أبو نواس يكره الشعر في بكاء الرسوم والأطلال، وأدباء هذا العصر يعدون هذه النزعة توديعًا للقديم، وترحيبًا بالجديد، وهذا حق إذا لوحظ أن الشعراء كانوا يبدءون قصائدهم ببكاءِ الديار، وإن لم يكونوا بنار الفراق من المحرقين! ولكن من العبث في تحليل العواطف أن نجهل ما يجده المحبون عند المرور بديار أحبابهم المبعدين، ومن الغبن للآداب العربية أن نغفل ما قيل في منازل الأحباب من الشعر الباكي الحزين! وها نحن أولاء نبسط القول عن هذه الوقفة الأليمة، وقفة المحب على ديار خلت غرفها من الظباء الغرائر، وعفت سررها من النساءِ الحرائر، بعد أن كان ساكنوها أمل الآمل، وأمنية المتمني! فمن ذلك قول بعض الأعراب وقد وقف (بالحزن) بفتح الحاء، وكان ملعب شبابه، ومنتدى هواه، وصورة أيامه الخوالي:

ومستنجد (بالحَزن) دمعًا كأنه
على الخد مما ليس يرقأ حائر
إذا ديمة منه استقلت تهللت
أوائل أخرى ما لهن أواخر
ملا مقلتيه الدمع حتى كأنه
لما انهل من عينيه في الماءِ ناظر
وينظر من بين الدموع بمقلة
دمى الشوق في إنسانها فهو ساهر

وفي هذا المعنى يقول ابن الملوح:

نظرت كأني من وراءِ زجاجة
إلى الدار من ماءِ الصبابة أنظر
فعيناي طورًا تغرقان من البكا
فأعشي وطورًا يحسران فأبصر

ومما يغري القلب بالحزن، والعين بالدمع، قول البحتري:

وقفنا فحيينا لأهلك باللوي
ربوع ديار دارسات المعالم
ذكرنا الهوى العذري فيها فأنسيت
عزاها مشوقات القلوب الهوائم
خلعنا بها عذر الدموع فأقبلت
تلوم وتلحي كل لاح ولائم
لقد حكم البين المشتت بالبلى
عليك وصرف الدهر أجور حاكم
لعل الليالي يكتسبن بشاشة
فيجمعن من شمل الهوى المتقادم

ونود لو تأمل القارئ ما في هذه الأبيات من الترتيب والتنسيق، فقد وقف الشاعر بالديار، ثم حياها وهو يتنقل بروحه بين الشقاء الحاضر والنعيم الماضي، ثم اشتعل الحزن في قلبه اشتعالًا، فنسي جمال الصبر وحسن العزاء، فاندفع يبكي وينتحب، ثم أغرب في البكاءِ والنحيب، حتى خشع عاذلوه، وخضع لائموه! ثم توجع للديار مما حكم عليها البين وصنعت بها الليالي! ثم تمنى لو ضحك الزمن بعد العبوس، فاجتمع الشمل بعد الفراق! وقال أبو فراس:

علي لربع العامرية وقفة
ليملي علي الشوق والدمع كاتب
فلا وأبي العشاق ما أنا عاشق
إذا هي لم تلعب بصبري الملاعب
ومن مذهبي حب الديار وأهلها
وللناس فيما يعشقون مذاهب

ولا يفهم أحد كيف يكون حب الديار وأهلها مذهبًا لأبي فراس، مع أن أبياته هذه ليست شيئًا في جانب ما قيل في منازل الأحباب، ويكفي أن نذكر قول نبهان العبسي في البئر الذي كانت تشرب منه حبيبته سليمى:

سأسري إلى الماءِ الذي شربت به
سليمى وإن مل السرى كل واحد
وألصق أحشائي ببرد ترابه
وإن كان مخلوطًا بسم الأساود

ويذكرني هذا بقول بعض الأعراب في (الوشل)، وهو ماء كان يطالع عنده وجوه الكواعب:

اقرأ على الوشل السلام وقل له
كل المشارب مذ هجرت دميم
سقيًا لطلك بالعشي وبالضحى
ولبرد مائك والمياه حميم
لو كنت أملك منع مائك لم يذق
ما في قلاتك ما حييت لئيم١

وللشريف الرضي في بكاء الديار بدائع، فمن ذلك قوله:

تزافر صحبي يوم ذي الأثل زفرة
تذوب قلوب من لظاها وأضلع
منازل لم تسلم عليهن مقلة
ولا جف بعد البين فيهن مدمع
فدمع على بالي الديار مفرق
وقلب على أهل الديار موزع
ألا ليت شعري كل دار مشتة
ألا موطن يدنو بشمل ويجمع

ومن جيد شعره في هذا المعنى قوله من كلمة ثانية:

وقفت على تلك الديار ووحشها
دوان ومن يحكين غير دوان
فأنكرت العينان والقلب عارف
قليلًا ولجا بعد في الهملان

وهذا آخر ما يقال في رسوم الديار، فحسب أطلالها من البلى، ورسومها من العفاء، أن تنكرها العينان، ولا يعرفها القلب إلا قليلًا! والأدباء ينكرون أن يتردد القلب في معرفة دار كانت بالأمس جنة ونعيمًا، ويعجبون بقول طريح بن إسماعيل الثقفي:

تستخبر الدمن القفار ولم تكن
لترد أخبارًا على مستخبر
فظللت تحكم بين قلب عارف
مغنى أحبته وطرف منكر

ومن الشعراء من يرى الديار الخالية، وكأنها بأهلها مأهولة، كأبي نواس حين يقول:

لمن دمنٌ تزداد طيب نسيم
على طول ما أقوت وحسن رسوم
تجافى البلى عنهن حتى كأنما
لبسن على الأقواءِ ثوب نعيم

وكقول الأخطل:

لأسماء محتل بناظرة البشر
قديم ولما يعفه سالف الدهر
يكاد من العرفان يضحك رسمه
وكم من ليال للديار وكم شهر

وكقول ابن أحمر العقيلي:

تراها على طول القواء جديدة
وعهد المغاني بالحلول قديم

والمعروف في هذا المعنى أن الديار تجد مثل ما يجد المتيم المحزون، كقول محمد بن وهب:

طللان طال عليهما الأمد
درسا فلا علم ولا قصد
لبسا البلى فكأنما وجدا
بعد الأحبة مثل ما أجد

وكقول مالك ابن أسماء الفزاري:

بينا هم سكن لجارهم
ذكروا الفراق فأصبحوا سفرا
فظللت ذا ولهٍ يعاتبني
من لا يرى مثلي له أمرا
بكت الديار لفقد ساكنها
أفعند قلبي أبتغي الصبرا

ومن بديع الشعر في هذا الباب قول ابن سنان الخفاجي:

ولما وقفنا بالديار وعندنا
مدامع نسديها لكم ونثيرها
شكونا إليها ما لقينا من الضنى
فعرفنا كيف السقام دثورها
وقد درست إلا أمارة ذاكر
تلوح له بعد التمادي سطورها
خليلي قد عم الأسى وتقاسمت
فنون البلى عشاق ليلى ودورها
فلا دار إلا دمنة ورسومها
ولا نفس إلا لوعة وزفيرها
لعمر الليالي ما حمدت قديمها
فيوحشني ذهابها ومرورها
وقالوا عطاء الدهر يبلى جديده
ومن لي بدنيا لا يزول سرورها

نود لو تأمل القارئ إبداع ابن سنان في هذين البيتين:

خليلي قد عم الأسى وتقاسمت
فنون البلى عشاق ليلى ودورها
فلا دار إلا دمنة ورسومها
ولا نفس إلا لوعة وزفيرها

وحسب العاشق من موجب الأسى، وداعي الحزن، أن يرى منازل أحبابه هامدات، باليات!

تعفو المنازل إن نأوا
عنها وتغبر البلاد
والحي أولى بالبلى
شوقًا إذا بلي الجماد

وهل تأملت كيف شكا إلى الديار ما لقي من الضنى، وكيف عرف ما به من السقم لما تبين دثورها، وتعرف عفاءها! ويا ليت شعري هل شكت إليه ما تجد إليه من بعد سكانها، وبين ملاكها؟ أما والهوى إنها لتشكو في صمتها الرهيب، إذ كانت تحزن بغير قلب، وتبكي بغير دمع!

كفى حزنًا للهائم الصب أن يرى
منازل من يهوى معطلة قفرا

ومما يقرب من فلسفة الشعر، وفقه الأدب، في بكاء الرسوم الهوامد، والأطلال الدوارس، مع الإفصاح عن الأسى والبث، والشجى والحزن، قول ابن الخياط في ديار لقيت من بعد سكانها ما لقي المحب بعدهم من الضنى والنحول:

وقفت أداري الوجد خوف مدامع
تبيح من السر الممنع ما أحمي
أغالب بالشك اليقين صبابة
وأدفع من صدر الحقيقة بالوهم

وهذا من خير ما قيل في مصانعة النفس، ومغالبة الوجد، فقد عرف الديار بقلبه، لما ضمنت منه الضلوع لأهلها النازحين، وأنكرها بطرفه، لما لقيت من الدثور والعفاء، فهو يريد أن يعتصم بالشك، لينجو من قسوة اليقين، ولكنه غلب على أمره فقال:

فلما أبى إلا البكاء لي الأسى
بكيت فما أبقيت للرسم من رسم
كأني بأجزاع النقيبة مسلم
إلى ثائر لا يعرف الصفح عن جرم

يرحمه الله! فهل رأى ثائرًا أظلم من الوجد، وحاكمًا أجور من الصبابة! ثم أخذ يقارن بين بليته وبلية الديار، فقال:

لقد وجَدَتْ وَجْدِي الديارُ بأهلها
ولو لم تجد وجدي لما سَقِمَتْ سُقْمِي
عليهن رسم للفراق وإنما
علي له ما ليس للنار من رسم

وهذا من الإبداع في وصف الديار الخالية، وهل تجد المنزل بعد أهله إلا باكيًا حزينًا؟ أوليست وحشة المنزل الخالي ذلة بادية يطالع بها الرائح والغادي، عساه يعرف شيئًا عن سكانه الراحلين، وملاكه الغائبين فإن السكان للمنازل كالأرواح للأجسام، فإذا ارتحلوا آن حمامها، وحان دثورها، وحل دمارها! وقد رأى الشاعر بعد ذلك أن البين جائر في قسمة الضنى بينه وبين المنزل الخالي، فقال:

وكم قسم البين الضنى بين منزل
وبيني ولكن الهوى جائر القسم
منازل أدارس شجاني نحوها
فهلا شجاها ناحل القلب والجسم

وهذه استغاثة بالطلل البالي، يشعر بمثلها ذو اللوعة الحزين!

وكان ابن الخياط من أغزر الناس دمعًا عند مغاني الأحباب، فمن ذلك قوله:

يا عمرو ما وقعة في رسم منزلة
أثار شوقك فيها محو آثار
أنكرت فيها الهوى ثم اعترفت به
وما اعترافك إلا دمعك الجاري
أو كنت ناسي عهد من تقادمه
نسيت فيها لباناتي وأوطاري
أيام يفتك فيها غير مرتقب
ظبي الكناس بليث الغابة الضاري
لا أرسل اللحظ إلا كان موقعه
على شموس منيرات وأقمار
ما أطيب العيش لو أني وفدت به
على زمان ودهر غير غدار

وهذا شعر يخالط النفس، ويلابس الفؤاد، ومثله في اللوعة قوله من كلمة ثانية:

أجدك ما تنفك بالغور ناشدًا
فؤادًا بنجد؟ يا لقلبك من نجد!
وإني لتصميني سهام ادكاركم
وإن كان رامي الشوق مني على بعد
تمادى غرام ليس يجري إلى مدى
وفرط سقام لا يقيم على حد
وما أنسَ لا أنسَ الحمى وأهلة
تضل ومن حق الأهلة أن تهدي
زمانًا إخال الجهل فيه من النهى
وحبًّا أعد الغي فيه من الرشد
غنين وما نولن نيلًا سوى الجوى
وبن وما زودن زادًا سوى الوجد
خليلي ما أحلى الحياة لَوَ انَّهَا
لطاعمها لم تخلط الصاب بالشهد
لقد حالت الأيام عن حال عهدها
ومن لي بأيام تدوم على العهد

ومن بديع الشعر في بكاء الديار قوله من كلمة طويلة:

وبالجزع حي كلما عَنَّ ذكرهم
أمات الهوى مني فؤادي وأحياه
تمنيتهم بالرقمتين ودارهم
بوادي الغضا يا بعد ما أتمناه
سقى الوابل الربعي حائل ربعهم
وراوحه ما شاء روح وغاداه
وجر عليه ذيله كل خاطر
إذا مشى في عاطل الترب حلاه
وما كنت لولا أن دمعي من دم
لأحمل منًّا للسحاب بسقياه

ومن المعاني المولدة في الدمع عند الرسوم قول الأرجاني:

وقفت بأطلال الديار مسلمًا
وعهدي وملء الواديين قباب
فأبرق عذالي ملامًا وأرعدوا
وأمطرت أجفاني فتم سحاب
به غنيت أرض الحمى عن مصبح
يقول سقى دار الرباب رباب

وهو خيال يبدو كأنه طريف، ولكنه من الأخيلة الجوفاء، وفي هذا المعنى يقول ابن التعاويذي:

سقى دار الحبيب وإن تناءَت
ملث مثل أجفاني هطول
ولا برحت تسحب للغوادي
وطورًا للصبا فيها ذيول
فجفني والغمام لها غدير
وقلبي والنسيم بها عليل
وعنفني على العبرات صحبي
عشية قوض الحي الحلول
وقالوا استبق للأحباب دمعًا
فقد شرقت بأدمعك الطلول
معاذ الحب أن ألقى حمولا
وقد سارت بمن أهوى الجمود
وعار أن تزم ليوم بين
جمالهم ولي صبر جميل

ومن الشعراءِ من يجعل الحنين إلى الوطن كناية عن الحنين إلى ليالي الشباب التي قضاها بمرأى من كواكبه السواطع، ونجومه اللوامع. وقد نوه بذلك صاحب زهر الآداب فذكر أن ابن الرومي جاء إلى علي بن عبد الكريم النصيبي وأنشده هذه القطعة البديعة:

ولي وطن آليت أن لا أبيعه
وأن لا أرى غيري له الدهر مالكا
عمرت به شرخ الشباب منعما
بصحبة قوم أصبحوا في ظلالكا
وحبب أوطان الرجال إليهم
مآرب قضاها الشباب هنالكا
إذا ذكروا أوطانهم ذكرت لهم
عهود الصبا فيها فحنوا لذلكا
فقد ألقته النفس حتى كأنه
لها جسد إن بان غودر هالكا

ثم قال: أنصفني وقل الحق. أيهما أحسن؟ قولي في الوطن أم قول الأعرابي:

أحب بلاد الله ما بين منعج
إلي وسلمى لا يصوب سحابها
بلاد بها نيطت على تمائمي
وأول أرض مس جسمي ترابها

فقال له: بل قولك أحسن، لأنه ذكر الوطن ومحبته، وأنت ذكرت العلة التي أوجبت ذلك! وقد يشعر القارئ بالحاجة إلى معرفة المخاطب في قول ابن الرومي:

عمرت به شرخ الشباب منعما
بصحبة قوم أصبحوا في ظلالكا

وخلاصة الحديث أن القطعة التي نقلناها من شعر ابن الرومي عن الوطن هي جزء من قصيدة قدمها إلى سليمان بن عبد الله بن طاهر يستعديه على رجل من التجار أجبره على بيع داره واغتصبه بعض جدرانها، فمما فيها من التحريض قوله:

وإني وإن أضحي مدلًا بماله
لَآمل أن أضحي مدلًا بمالكا
فإن لم تصبني من يمينك نعمة
فلا تخطئنه نقمة من شمالكا
فكم لقي العافون بدءًا وعودة
نوالك والعادون غمر نكالكا

وقال ابن الرومي من كلمة أخرى يتشوق إلى بغداد:

بلد صحبت به الشبيبة والصبا
ولبست ثوب العيش وهو جديد
فإذا تمثل في الضمير رأيته
وعليه أغصان الشباب تميد

والأدباء يرون أن مثل هذا الشعر ليس بكاء على الوطن، ولا بكاء على اللهو، ولكنه بكاء على الشباب، ويذكرون قول ابن الرومي من كلمة ثانية:

لا تلح من يبكي شبيبته
إلا إذا لم يبكها بدم
عيب الشبيبة غول سكرتها
ومدار ما فيها من النعم
لسنا نراها حق رؤيتها
إلا أوان الشيب والهرم
كالشمس لا تبدو فضيلتها
حتى تغشى الأرض بالظلم
ولرب شيء لا يسر به
وجدانه إلا مع العدم

والذين يُؤَوِّلون شعر ابن الرومي هذا التأويل يرون أنه تبع في وصف الوطن بشار بن برد حين يقول:

متى تعرف الدار التي بان أهلها
بسعدى فإن العهد منك قريب
تذكرك الأهواء إذ أنت يافع
لديها فمغناها إليك حبيب

ولعلنا لا نبالغ إذا ذكرنا هؤلاء بأن بكاء الشباب ليس إلا بكاءً لما انقطع بعده من دواعي الطيش، وموجبات الجنون، فبعض العقل رزء، وبعض الوقار بلاء، ولكن أكثر الناس لا يفقهون!

ولقد سافر العباس بن الأحنف مع هارون الرشيد إلى خراسان فاستدعاه ليلة لينشده شيئًا من الشعر، فأنشده هذه الأبيات:

قالوا خراسان أقصى ما يراد بنا
ثم القفول فقد جئنا خراسانا
مضى الذي كنت أرجوه وآمله
أما الذي كنت أخشاه فقد كانا
ما أقدر الله أن يدني على شحط
سكان دجلة من سكان جيحانا

فقال له: لقد اشتقتَ يا عباس! فأجابه، نعم يا أمير المؤمنين! فأذن له بالرجوع … وقال ابن ميادة يخاطب الوليد بن يزيد:

ألا ليت شعري هل أبيتنَّ ليلة
بحرة ليلى حيث رببني أهلي
بلاد بها نيطت عليَّ تمائمي
وقطعن عني حين أدركني عقلي
فإن كنت عن تلك المواطن مانعي
فاقتر عليَّ الرزق واجمع بها شملي

وهذا البيت من أرق ما قيل في الحنين إلى الأوطان! وما أدري أكان شوق ابن ميادة إلى بلاده رفقًا بالأهل والعشيرة، أم كان برًّا بمن فيها من فاتنات الخدود، وساحرات العيون، وقاسيات القلوب؟ لا يعلم ذلك إلا الذي يقول:

ومن بينات الحب أن كان أهلها
أحب إلى قلبي وعيني من أهلي

وقال مالك ابن الريب يتشوق إلى اليمامة ونسيمها العليل:

سقى الله اليمامة من بلاد
نوافجها كأرواح الغواني٢
وجو أزاهر للريح فيه
نسيم لا يروع الترب واني
به سقت الشباب إلى مشيب
يقبح عندنا حسن الزمان

وقال بعض الأعراب في توديع نجد، وما لقي بها من نضارة العيش، وطيب الحياة:

أقول لصاحبي والعيس تهوي
بنا بين المنيفة فالضمار
تمتع من شميم عرار نجد
فما بعد العشية من عرار
ألا يا حبذا نفحات نجد
وريا روضه بعد القطار
وأهلك إذ يحل الحيُّ نجدًا
وأنت على زمانك غير زار٣
شهور ينقضين وما شعرنا
بأنصاف لهن ولا سِرار

وهذا حنين يذل له عصيُّ الدمع. ويشبهه قول ابن المعتز في دار كانت ملعب صباه:

لا مثل منزلة الدويرة منزلٌ
يا دار جادك وابل وسقاك
بؤسًا لدهر غيرتك صروفه
لم يمح من قلبي الهوى ومحاك
لم يحلُ للعينين بعدك منظر
ذم المنازل كلهن سواك
أي المعاهد منك أندب طيبة
ممساك بالآصال أم مغداك
أم برد ظلك ذي الغصون وذي الجنى
أم أرضك الميثاء أم رياك
وكأنما سعطت مجامر عنبر
أو فت فار المسك فوق ثراك
وكأنما حصباء أرضك جوهر
وكأن ماء الورد دمع نداك
وكأنما أيدي الربيع ضحية
نشرت ثياب الوشي فوق رباك
وكأن درعًا مفرغًا من فضة
ماء الغدير جرت عليه صباك

ومما يقرب من بكاء الديار ذكر منازل اللهو والقصف، وقد كان الشعراء يتخذون الأديار موطنًا لعبث الصبا ولعب الشباب، ولكثير منهم حنين موجع إلى سكانها من ظرفاء الرهبان، وربما عدنا إلى بسط ذلك في غير هذا الحديث، ونكتفي الآن بنفثات العشاق في التغني بمنازل الشراب. فمن ذلك قول محمد بن عاصم المصري في دير القصير، وقد كان ملعبًا للشعراء المصريين:

إن دير القصير هاج أذكاري
لهو أيامنا الحسان القصار
وزمانًا مضى حميدًا سريعًا
وشبابًا مثل الرداء المعار
ولو ان الديار تشكو اشتياقًا
لشكت جفوتي وبعد مزاري
ولكادت تسير نحوي لما قد
كنت فيها سيرت من أشعاري
وكأني إذ زرته بعد هجر
لم يكن من منازلي ودياري
إذ صعودي على الجياد إليه
وانحداري في المعتقات الجواري
بصقور إلى الدماءِ صواد
وكلاب على الوحوش ضواري
منزلًا لست محصيًا ما لقلبي
ولنفسي فيه من الأوطار
كم شربنا على التصاوير فيه
بصغار محثوثة وكبار
صورة في مصور فيه ظلت
فتنة للقلوب والأبصار
أطربتنا بغير شدو فأغنت
عن سماع العيدان والمزمار
لا وحسن العينين والشفة اللمـ
ـياء منها وحدها الجلنار
لا تخلفت عن مرادي دهرًا
هي منه ولو نأى بي مزاري

وفي دير القصير هذا يقول كشاجم:

سلام على دير القصير وسفحه
فجنات حلوان إلى النخلات
منازل كانت لي بهن مآرب
وكن مواخيري ومنتزهاتي
إذا جئتها كان الجياد مراكبي
ومنصرفي في السفن منحدرات

ومن الأديار التي خلدها الشعراء «دير قُنَّا» بالقرب من بغداد، وقد أبدع في وصفه المؤرخون، ثم طواه الدهر فيما طوى من ملاعب الشباب، ولم يبق غير ذكراه في قول ابن جمهور:

يا منزل اللهو بدير قُنا
قلبي إلى ذلك الربى قد حنا
سقيًا لأيامك لما كنا
نمتاز منك لذة وحسنا
أيام لا أنعم عيشًا منا
إذا انتشينا وصحونا عدنا
إذا فنى دن بزلنا دنًّا
حتى يظن أننا جننا
ومسعد في كل ما أردنا
يحكي لنا الغصن الرطيب اللدنا
أحسن خلق الله إذ تحنا
وجس زير عوده وغنا
بالله يا قسيس يا باقنا٤
متى رأيت الرشأ الأغنا
متى رأيت فتنتي تجنى
آه إذا ما ماس أو تثنى
أسأت إذا أحسنت فينا الظنا!

ومن الشعراء من تهيج حفيظته على قطر فيتغنى بقطر آخر كان ملعب هواه، كما قال السري الرفاء يمدح الموصل ويذم العراق:

لحا الله العراق وساكنيه
فما للحر بينهم قرار
وجاد الموصل المبيض غيث
يجود وللبروق به انسفار
كما انهلت مدامع مستهام
تلهب منه في الأحشاء نار
ففي أيامه حسن التصابي
وفي أفيائه خلع العذار
ليالي كان لي في كل يوم
إلى الحانات حج واعتمار
فعن ذكر القيامة بي صدود
وعن ساح المساجد بي نفار
ولى خدنان همهما المعالي
وشأنهما السكينة والوقار
وساق تضحك الدنيا إليه
إذا ضحكت بكفيه العقار
يطوف بها وقد حملت حبابًا
كما حمل السقيط الجلنار٥
كأن الشرب ينتهبون نارًا
لها لهب وليس لها شرار
رأى الدهر اجتماع الشمل منا
فبدده وللدهر الخيار

إلى هنا وقف القارئ على نماذج في بكاءِ الديار الخالية، والحنين إلى الوطن النائي، والشوق إلى مواطن اللهو والشراب، فلنذكر شكوى العشاق من المنزل القريب المأهول، حين يصبح أهله كالكواكب قريبة الضوء، بعيدة المنال! وحين يصبح تمنع الحبيب أقسى من النوى، وأمرَّ من الفراق. وأبدع الشعر في ذلك قول راشد بن إسحاق الكوفي:

ومستوحش لم يمس في دار غربة
ولكنه ممن يحب غريب
طواه الهوى واستشعر الوصل غيره
فشطت نواه والمزار قريب
سلام على الدار التي لا أزورها
وإن حلها شخص إلي حبيب
وإن حجبت عن ناظري ستورها
هوى تحسن الدنيا به وتطيب
هوى تضحك اللذات عند حضوره
ويسخن طرف اللهو حين يغيب
تثنى به الأعطاف حتى كأنه
إذا اهتز من تحت الثياب قضيب
ألم تر صمتي حين يجري حديثه
وقد كنت أدعى باسمه فأجيب
رضيت بسعي الدهر بيني وبينه
وإن لم يكن للعين فيه نصيب
أحاذر إن واصلته أن ينالني
وإياه سهم للفراق مصيب
أرى دون من أهوى عيونًا تريبني
ولا شك أني عندهن مريب
أداري جليسي بالتجلد في الهوى
ولي حين أخلو زفرة ونحيب
وأخبر عنه بالذي لا أحبه
فيضحك سني والفؤاد كئيب
مخافة أن تغرى بنا ألسن العدا
فيطمع فينا كاشح فيعيب
كأن مجال الطرف في كل ناظر
على حركات العاشقين رقيب
أرى خطرات الشوق يبكين ذا الهوى
ويصبين عقل المرء وهو لبيب
وكم قد أذل الحب من متمنع
فأضحى وثوب العز منه سليب
وإن خضوع النفس في طلب الهوى
لأمر إذا فكرت فيه عجيب

وقد نقل صاحب زهر الآداب عن أبي شراعة القيسي أنه كان في مجلس العتبي مع عبد الصمد بن المعذل، وأنهم تذاكروا ما أبدع المولدون من الشعر الرقيق فقال عبد الصمد أنا في ذلك أشعر الناس؟ فقال أبو شراعة أشعر منك الذي يقول:

ومستوحش لم يمس في دار غربة
ولكنه ممن يحب غريب

إلى آخر القصيدة. وإن عبد الصمد حين سمعها لم ينطق بحرف! وعندي أن صاحب هذه القصيدة لم يوفق في وصف مشاعره وصفًا منظمًا يصح أن يكون «صورة شعرية» بل نراه جمع بين أشياء متنافرة حظها من الائتلاف قليل؛ ألا تراه يذكر في أول القصيدة أنه قريب، ولكنه في قربه غريب؛ لأن إنسانًا غيره يتمتع بذلك الحبيب؟ ثم ألا تراه بعد ذلك يذكر أنه يحاذر الوصل طائعًا لئلا يصيبه ويصيب من يهواه سهم الفراق؟ وهذا بالطبع شطط في تصوير النفس المعذبة، لأن الذي يتصور أن محبوبه قد يطوق بذراع عاشق غيره لا يتغنى بأنه يترك مواصلته اتقاءً لعيون الوشاة!

ينقص هذه القصيدة إذن ما أسميه «الصورة الشعرية» ولا يمنع هذا أن تكون في جملتها جميلة لما تحويه من الأبيات المختارة، ولئن صح أن العتبي صادق على أن صاحبها أشعر الناس فإنا نشك في أذواق الأدباء الأقدمين ونرتاب في حاستهم الفنية، وأحب أن يفهم بعض الناس معنى «الحاسة الفنية» فإن كثيرًا من أدعياء الأدب لا يفقهون ما يقولون وما يكتبون، فضلا عن أن يفقهوا ما تناثر على بساط الدهر من ثمرات العقول!

وأمثال هؤلاء يعرفون فقط ما يسمع أو يرى أو يلمس أو يشم أو يذاق! ولكنهم لا يعرفون ما يدرك، إذ لم يرزقوا الإدراك! ومحال أن يجدوا طعمًا لقول الشاعر:

أسمع في قلبي دبيب المنى
وألمس الشبهة في خاطري

لأنهم لا يدرون أين تكون الخواطر، وأين تكون القلوب! من أجل هذا أشير على طالب الأدب بأن يتروى ويتريث حين يقرأ آثار الكتاب والشعراء، وأن لا يعتمد في اختياره على الأذواق العامة لعلماء البيان، فقد غفل الدهر عن كثير من المتصدرين فظنوا أنهم على شيء، وأن الأدب لحياتهم مدين!

وقد يمر العاشق ببيت من يهوى ثم لا يملك التحية، لأن الوشاة له بالمرصاد. فمن ذلك قول السري الرفاء:

مررنا بالعقيق فكم عقيق
ترقرق في محاجرنا فذابا
ومن مغنى جعلنا الشوق فيه
سؤالا والدموع له جوابا
وفي الكلل التي غابت شموس
إذا شهدت ظلام الليل غابا
حملت لهن أعباءَ التصابي
ولم أحمل من السلوان عابا
ولو بعدت قبابك قاب قوس
من الواشين حييت القبابا
figure

إلى هنا عرف القارئ ألوان العواطف عند منازل الأحباب، فقد رأى نفثات المحبين عند الديار الخالية، وشهد بكاءهم على الوطن النائي، وحنينهم إلى مواطن اللهو والشراب، ثم رأى زفراتهم عند المنزل يدنو وهو بعيد، لنفور ما فيه من الظباء! ويجمع شتيت هذه المعاني قول بعض الأعراب:

بكل تداوينا فلم يشف ما بنا
على أن قرب الدار خير من البعد
على أن قرب الدار ليس بنافع
إذا كان من تهواه ليس بذي عهد

وربما عدنا إلى تفصيل هذه النوازع القلبية، حين نتحدث عن آراء الشعراء في أفنان الجمال.

١  القلات: جمع قَلْت بفتح فسكون وهو النقرة تكون في الصخرة.
٢  النوافج بالجيم نافجة وهي الريح تبدأ بشدة.
٣  غير زار: غير عاتب.
٤  قد يكون أصل الكلمة يا أبا قنا ثم حذفت الهمزة تخفيفًا والمراد به ساكن دير قنا.
٥  الجلنار: زهر الرمان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤