في أرض الميعاد

قصة المدينتين

قلت لبعض الإخوان الفلسطينيين: إن الله أنعم عليكم بحرية الاختيار في أمر واحد، ولعله فأل حسن وبشارة صادقة بنعمة أخرى تملكون فيها حرية الاختيار فيما يشغلكم اليوم وتؤثرونه على كل نعمة، وهو نعمة الحرية القومية.

إنكم تملكون اختيار الأجواء والأهوية في كل فصل من فصول السنة، وترجعون إلى حسابكم أنتم لا حساب الأفلاك والكواكب؛ لتخرجوا من الصيف وتدخلوا في الشتاء …

فنحن في مصر ننتظر ثلاثة أشهر أو أربعة لنشيع الصيف ونستقبل الشتاء، ولكنكم هنا لا تحتاجون إلى هذا الانتظار الطويل؛ لأن ساعة واحدة تنقلكم من حرارة يوليو إلى برودة نوفمبر أو يناير في بعض الجهات، وعندكم المكان الذي يتذكر فيه السمار معاطفهم إذا طالت السهرة كما تطول أبدًا في ليالي الربيع … وعلى مسيرة ساعة منه مكان يتذكر فيه السائرون مظلاتهم في أبرد أيام الشتاء، وقد أوحى مكان من هذه الأمكنة نغمة الفكاهة إلى قائد من قواد الحرب وهو في ميدان القتال، فكتب منه اللورد اللنبي إلى وزارة الدفاع البريطانية برقية يصف بها إحدى المعارك في أيام الحرب العالمية الماضية، فقال: «حلقت طائراتنا هذا الصباح تحت سطح البحر الأبيض المتوسط بستمائة قدم، ولاحقت العدو عند أريحا من هذا الارتفاع!»

وقد كان الحر هذا العام على أشده في شواطئ البحر الأبيض جميعها، فلم نشعر بوطأته الثقيلة حين تركنا الشواطئ وارتفعنا إلى هضاب رام الله أو «رام إيل» الفيحاء، ولكنني لم أندم على قضاء معظم أيامي في فلسطين بين الشواطئ، حيث تفرط الحرارة والرطوبة هذا العام على خلاف المألوف في السنوات الماضية؛ لأنني لمست فيها عن كثب ذلك الصراع العنيف الذي أحسبه أعجب صراع بين مدينتين متجاورتين في تاريخ المشرق، أو في تاريخ العالم بأسره، وهو الصراع بين مدينة يافا ومدينة تل أبيب …

إن المدينتين متجاورتان تقيمان في مكان واحد، حتى ليبدأ الشارع أحيانًا في يافا وينتهي في تل أبيب، ولكن السباق بينهما سباق بين أقدم ميناء على شواطئ بحر الروم وأحدث ميناء عليه … أو لعله أحدث ميناء على جميع شواطئ البحار.

كانت «يافا» علمًا مشهورًا في التاريخ القديم قبل نيف وثلاثين قرنًا من الزمان … وكانت «الإسكندرية» جنينًا في الغيب يوم كان سوفكليس ويوربيدس وغيرهما من شعراء اليونان يتغنون بجمال «يافا»، وينسجون خيوط القصيد حول عروسها الفاتنة «أندروميد» التي ربطها الأرباب إلى صخرة الشاطئ عقابًا لها على رفض البناء بخطابها السماويين! ثم ما زالت حتى نجا بها القدر من وحش البحر، وهو راصد لها ليغتالها … فأصبحت بعد ذلك كوكبًا من كواكب السماء …

ولا نحسب أن مدينة في الشرق الأدنى عرض لها من تعاقب السعود والنحوس ما عرض لمدينة «يافا» في جميع الدول وعلى جميع العهود …

فعمرت وخرجت مرات على أيدي البشر، وعلى أيدي الزلازل والجوائح الطبيعية، وصمدت للعراك بين الدول التي تداولتها من عهد تحوتمس وسنحاريب، إلى عهد العرب والصليبيين، إلى هذا العهد الذي لا يحسب في تاريخها من العهود الرخية الميمونة، وإن كنا لنرجو ألا يكون من أقسى العهود؛ لأنها قد صمدت في تجاربها الكثيرة لما هو أقسى، وأصرم من تجارب العهد الذي هي فيه الآن.

كانت «يافا» تعوِّل في معيشتها على الزراعة وعلى الصناعة، وعلى الميناء، وما يدور حوله من حركة السفن وحركة البيع والشراء …

فأصيبت في جميع هذه الموارد، ولا تزال مع هذا قائمة على قدميها تناضل نضالها المجيد في سبيل البقاء.

فالموالح والثمرات التي عرفت باسمها من قديم الزمن لا تلقى اليوم في الأسواق القريبة ذلك الترحيب الذي تعودت أن تلقاه إلى زمن غير بعيد.

والصناعة — وأهمها صناعة الجلود وصناعة الصابون — قد منيت بالمزاحمين الأقوياء في تل أبيب، وما وراء تل أبيب من بلدن الشرق الأدنى.

أما الميناء فقد تحول عنه أكثر السفن إلى ميناء حيفا الذي تنتهي إليه أنابيب البترول من آبار العراق، أو إلى ميناء تل أبيب الذي بناه مجلسها البلدي، ومد إلى جانبه ذلك «الكرنيش» الطويل محاكيًا به كرنيش الإسكندرية في كل شيء … حتى في «الأذرة الشامية» التي تشوى أو تسلق على زواياه ومنعطفاته، ويقبل عليها المتنزهون والمتنزهات إلى أواخر الليل!

فهي اليوم تتماسك على مضض، أو على صبر أليم، وحسبك من مدينة تفجع في مواردها جميعًا، ولا تزال ناهضة على قدميها في إباء المناضل المستميت.

•••

إلى جانب هذه «الشيخة» الصبور فتاة ماكرة لعوب تتيه عليها بدلال الفتنة وجمال الشباب …

تلك مدينة تل أبيب …

صبية لم تتجاوز الثانية والعشرين، إذا نظرنا إلى مولدها الصحيح في أعقاب الحرب الماضية، ولم تتجاوز السادسة والثلاثين إذا نظرنا إلى نشأتها في عهد الدولة العثمانية أيام كانت هذه الدولة تحب أن تستعين بالدعاية الإسرائيلية في مقاومة روسيا، ودويلات البلقان، ولم تكن نشأتها يومئذ نشأة مدينة تزخر بالسكان، وتحتوي من الوافدين عشرات الألوف، ولكنها كانت روضة للنزهة وقضاء ساعات الأصيل في أيام الصيف والربيع؛ ولهذا سميت «تل الربيع» حين غرسوها في أول عهدها بالظهور …

كذلك نشأت منذ نيف وثلاثين سنة على غير حذر من عواقبها السريعة، لا من جانب الراعي ولا من جانب الرعية …

أما اليوم فليست هي تلك الروضة البريئة التي يتنسم لديها أهل «يافا» نفحات الغروب من نسمات الربيع …

يا له من صراع عجيب بين شيخة الأمس وفتاة اليوم …

وإنه لصراع ظالم إذا ترك فيه الندان منفردين على النحو الذي نراه؛ لأن «يافا» تقف وحدها هناك، ولا تقف «تل أبيب» وحدها في ميدانها … بل تقف هنالك من ورائها أمة موزعة بين جميع أنحاء العالم تعينها بأحدث ما اخترعه العلم من الوسائل، وأخفى ما يعرفه المال من الأساليب، وأقوى ما تسيطر عليه السياسة من الخدع والأحابيل …

واليافيون لا يغفلون عن الخطر الذي يستهدفون له، ولا يجهلون أن الأساليب القديمة لن تجدي وحدها في اتقاء هذه المنافسة، التي تعتز بأحدث ما عرفه الناس من ضروب التعمير والاستغلال …

فقد علمت من مدير المجلس البلدي بمدينة يافا أنهم يعدون العدة لبناء الكرنيش الذي يضارع كرنيش تل أبيب، ولتنظيم الطرقات التي لا تزال بحاجة إلى التنظيم …

وعلمت أنهم يؤلفون شركة كبيرة لبناء فندق فخم ونادٍ حديث يستغني بهما من يريد الاستغناء عن ارتياد الفنادق والأندية في تل أبيب.

وهذا كله حسن واجب، بل هذا كله قليل من كثير ينبغي الشروع في إنجازه قبل أن يطول التفكير فيه …

ولكن الحقيقة التي ينبغي أن تذكر في هذا الصدد قبل كل حقيقة أخرى هي أن مدينة «يافا» لن تقوى على هذا الصراع العنيف على انفراد، فلا بد لها من عون سريع كالعون الذي ترجع إليه غريمتها؛ ليجري الأمر بينهما على سنة الإنصاف، ويرجى منه اتقاء الهزيمة في هذا النضال.

الصهيونية والجامعة العربية

إذا عبرت «تل أبيب» رأيت في أكثر أوقات النهار زحامًا يملأ جوانب الطرق من اليمين والشمال، وخيل إليك أن القوم منصرفون من محفل، أو مقبلون على اجتماع في منعطف الطريق …

لأن حركة المرور لا تنقطع في «تل أبيب» من ساعات الصباح الباكر إلى ما بعد العشاء …

ولكنك مع هذا تلاحظ هذا الزحام المتلاحق فتعجب؛ لأنك لا ترى فيه أحدًا يلوي على أحد، ولا تكاد تلمح إنسانًا يومئ إلى إنسان آخر بالتحية، إلا في العرض النادر الذي يرجع إلى محض الاتفاق …

وأعجب من ذلك أنك تنظر إلى القوم، فلا ترى على وجوههم ما يدل على السعادة: سعادة الظفر بالأمنية الروحية والمطلب التراثي القديم … فلا تملك أن تسأل نفسك: ما هذا؟ أهؤلاء قوم يهبطون إلى أرض الميعاد بعد التفرق في جوانب الأرض مئات السنين؟

وتتخيل المسلمين في عرفات، أو النصارى في معاهد المسيحية المقدسة، فلا ترى على وجوه القوم في «تل أبيب» شيئًا من دلائل تلك الأخوة الروحانية، التي تفيض على وجوه الحجاج من جميع الأديان، ولا يقع في نفسك إلا أن القوم مسوقون إلى هذه الحجة الموعودة، وأن الذي وجدوه هنالك غير الذي آمنوا به وصدقوه …

وما في الأمر من غرابة إذا رجعت إلى الواقع، أو رجعت إلى المعقول …

إذ كانت حجة اليهود إلى أرض الميعاد غير الحجة إلى عرفات، أو إلى كنيسة القيامة أو ما شابهها من الديانة المسيحية …

فإن المسلمين والمسيحيين يقضون مناسك الحج، ويعودون إلى أوطانهم التي نشئوا فيها وألفوا معالمها …

أما اليهودي حين يهجر بلاده إلى الوطن القومي بفلسطين، فإنه يترك وطنه الذي نشأ فيه وألف معالمه ليستنبت نفسه في وطن جديد … ولا يفعل ذلك إلا بدافع قوي من الأمل في تحسين الأحوال، أو بدافع قوي من الحماسة الروحية … فليس من شك في أن اليهودي الناجح في وطنه — الأوروبي أو الأمريكي — لن يهجر ذلك الوطن ليستأنف الحياة زارعًا أو بائعًا في ناحية يجهلها من أرض فلسطين، ولن يبيع نجاحه المحقق بأمل بعيد يمنيه به الزعماء الصهيونيون، بالغًا ما بلغ من الإيمان بوعود صهيون …

ولنذكر أن اليهودي قد ألف العمل في التجارة والصفقات المالية، ولم يألف العمل في الزراعة وتربية الدواجن، وما إليها من أعمال الفلاحة ورعي الحيوان … فهو لا يقدم على تبديل مألوفاته إلا إذا اتفق الشظف والتعصب والأمل في المجهول على إقناعه بالهجرة وإمداده بالبواعث النفسية التي تساعده على هذا التبديل … وقلما تعمر هذه البواعث إلى زمن طويل …

والذي نعتقده أن «النقلة الصهيونية» هي نقلة مصطنعة عارضة تخلقها تلك العوامل الموقوتة التي أشرنا إليها، وينفخ فيها عاملان آخران موقوتان، وهما دعاية الزعماء واضطهاد الطوائف الإسرائيلية في أوروبا الوسطى وأوروبا الشرقية … ولولا هذان العاملان لبقيت الصهيونية حيث كانت أملًا من آمال الخيال.

ظهرت في الأيام الأخيرة مذكرات اللورد «هربرت صمويل»، الذي كان أول مندوب سامٍ على فلسطين من قبل الدولة البريطانية …

وهو سياسي فيلسوف ينتمي إلى أسرة إسرائيلية كبيرة في البلاد الإنجليزية، ويتكلم بكثير من الصراحة عن موقف زعماء اليهود من الدعوة الصهيونية عند ظهورها واشتدادها في أعقاب الحرب الماضية، ومن هذه المذكرات يتبين لنا أن ثلاثة من عظماء اليهود الإنجليز، الذين شاورتهم الحكومة البريطانية في إعلان الوطن القومي بفلسطين كانوا معارضين لإعلانه متشائمين من عقباه، وعلى رأسهم «إدوين منتاجو» الذي كان وزيرًا للهند في وزارة لويد جورج الائتلافية …

فحماسة الشعوب الإسرائيلية للوطن القومي هي حماسة مصطنعة مبالغ فيها بغير مراء، وأقل ما يقال فيها: إنها ليست بالحماسة الاجتماعية التي تقاوم جميع المصاعب، وتذلل جميع العقبات …

وإنما قامت الحركة كلها على دعاية الزعماء، وصادفت هذه الدعاية ما صادفته من النجاح لأمرين لا مناص منهما للمثابرة على نشاط الحركة واستمرارها …

هذان الأمران هما: «أولًا» سهولة الحصول على الوطن العربي القومي في أعقاب الحرب الماضية، و«ثانيًا» صعوبة المقام في كثير من الأقطار الأوروبية على اليهود، لما كانوا يلقونه هناك من ضروب الحجر والاضطهاد …

فإذا تغير الموقف بعد الحرب العالمية الأخيرة، فصعب المقام في الوطن القومي، وسهل المقام في الأقطار الأوروبية بعد زوال الاضطهاد منها وفتح أبوابها لمشروعات التعمير، وصفقات التجارة والمال، فقد تنكشف الحركة المصطنعة عن حقيقتها الباقية، فإذا هي أضعف من أن تقوى على الثبات إلى زمن طويل.

•••

نعم إن الصهيونية تعتمد الآن — بعد القيام في فلسطين زهاء ربع قرن — على عاملين آخرين غير تلك العوامل التي بعثت الحركة من مرقدها في دفعتها الأولى …

تعتمد الآن على الجيل الجديد الذي يولد، وينشأ في تل أبيب وما يحيط بها من المستعمرات الإسرائيلية.

وتعتمد كذلك على الصناعات الحديثة التي تأسست في أيام الحرب الأخيرة على الخصوص، واتصلت معاملاتها بأقطار الشرق الأدنى وما جاورها من الأقطار.

لكن الجيل الجديد الذي يولد وينشأ في تل أبيب خليط من الأوطان المختلفة لا يمتزج بعضه ببعض في زمن قريب.

أما الصناعات الحديثة فلها مزاحم أقوى من الصناعات الأوروبية المتعطشة إلى الأسواق، ولها مزاحم أخرى من الصناعات الوطنية التي تعتمد على الشعور الوطني والضرورات الاقتصادية، ولها بعد هذا وذاك كابح آخر من حراسة الأسواق الشرقية، حيثما تنبهت إلى أخطار الاحتكار، وليست أزمات البطالة فيها بعد انتهاء الحرب بالأزمات التي يسهل علاجها في هذه الأوقات.

•••

كنت أقول لإخواننا الفلسطينيين كلما سألوني عن رأيي في قضية بلادهم، وقضية البلاد العربية: إنني متفائل قوي التفاؤل عظيم الرجاء في مصير البلاد الشرقية على الإجمال …

ولكنني كنت أشفع ذلك دائمًا بتفسير التفاؤل الذي أعنيه وأعقد عليه عظيم الرجاء …

فالتفاؤل المحمود هو التفاؤل الذي يقنعك بأن العمل ممكن، وأنه مع إمكانه مفيد …

ومتى آمنت بذلك فعليك أن تعمل، وأن تحقق الفائدة التي ترجوها وإن كلفك العمل أثقل الجهود …

فلا فائدة من تعظيم خطر الصهيونية، والارتفاع به إلى ما وراء طاقة الجهود البشرية …

ولكن لا فائدة كذلك من تهوين هذا الخطر إذا لم يقترن تهوينه بالشروع في العمل المفيد …

والجامعة العربية خليقة أن تنتهز فرصة العمل في هذه الآونة؛ لأنها فرصة سانحة بعد الحرب الأخيرة، وفي مفتتح الحياة الجديدة التي تستعد لها الأقطار الأوروبية، ممن كانت على صلة بالمسألة الصهيونية أو باضطهاد اليهود، وقد تفتح أبوابها غدًا لمن يؤثرون العودة إليها من أرض الميعاد إذا عز عليهم الوفاء بما وعدهم به الدعاة والزعماء …

ولا غنى للبلاد العربية على أية حال — لخدمة نفسها لا لخدمة القضية الفلسطينية وكفى — من تنظيم الصناعات الحديثة، وتنظيم الأسواق في وجه المعاملات الطارئة عليها، ومن منع الاحتكار في أيدي فريق من الناس كائنًا ما كان.

وإذا استقامت البلاد العربية على هذا الطريق، فقد استقامت على الطريق السوي الذي يفضي بها إلى النجاح في جميع قضاياها، ومنها قضية فلسطين.

الحالة الاجتماعية

المجتمع الفلسطيني قريب من المجتمع المصري في تكوينه، وفي معظم آدابه وعاداته، ولا يختلفان إلا في بعض التقاليد التي ترجع أولًا إلى امتزاج شعائر الأسرة المصرية بشعائر الحداد الموروث من أقدم العصور، وترجع ثانيًا إلى الزراعة المصرية، والبادية الفلسطينية … فمصر تنقسم إلى عاصمة وقرية، وفلسطين تنقسم إلى حاضرة وبادية، وإن كانت باديتها أخصب من بادية الصحراء، وأقرب إلى العمار …

ولا يزال سلطان البادية ظاهرًا في تقاليد الأسرة الفلسطينية، سواء منها الإسلامية أو المسيحية …

والبادية كما لا يخفى تشتد في المحافظة الاجتماعية، وتحب البقاء على القديم، وأظهر ما تبدو عليه هذه المحافظة الاجتماعية في حجاب المرأة ونظام الحياة الزوجية … فإن بنات الأسر في حواضر فلسطين متعلمات على نصيب وافر من الثقافة العصرية، ولا يندر بينهن من تحسن لغة أو لغتين من اللغات الحديثة، ولكنهن قليلات الظهور في الحياة العامة، وقلما تجسر السيدة منهن أو الفتاة على السفور في الطريق إلا أن تكون من أسرة قوية السلطان مهيبة الجانب تحميها بسلطانها وهيبتها أن تتعرض للأذى والمهانة من بعض من ينكرون السفور، وهم كثيرون …

فإذا سفرت السيدة أو الفتاة من البيوت المتوسطة التي لا تخشى شوكتها، فقد يصيبها ما يسوءها في طريقها، ولا يتقدم أحد لحمايتها؛ لأنها تستحق ما تلقاه في رأي السابلة من طبقات العامة، ومن يحسبون حسابها.

ونحن لا نتمنى لفلسطين ذلك الشطط الذي تمادى فيه بعض السافرات في بعض الأقطار الشرقية … ولكننا نعتقد أن تيسير الحجاب والتخفيف من قيوده الثقيلة نافعان للمجتمع الفلسطيني في مرحلته الحاضرة، ولعلهما نافعان له جد النفع في مكافحة «تل أبيب» ومغرياتها؛ لأن الفتى الذي يصحب خطيبته أو زوجته في رياضته اليومية يشعر بالأمانة الزوجية ماثلة أمام عينيه في بيته وفي طريقه، وتغنيه هذه الصحبة المشروعة عن تلك الصحبة الموبقة التي تذهله عن كرامته وماله وقضية بلاده.

ولسلطان البادية القوي أثر في السياسة الفلسطينية؛ لأن الزعماء هناك هم — بطبيعة تكوين المجتمع — رؤساء العشائر وعمداء البيوت العريقة في الحواضر، ولهم من النفوذ في السياسة بمقدار ما لهم من الأشياع والأتباع والأقرباء، وأنصار العصبيات، وهم الذين نهضوا بأعباء الحركة في أشدها، وتعرضوا لمخاطر الموت والإبعاد من أجلها …

وقد أضيف إلى هذا العامل الموروث عامل مكتسب من نفوذ الدين، أو نفوذ الرئاسة الرسمية، بل أضيف إليه ما تقضي به أطوار العصر من رعاية البرامج والمبادئ التي تتعلق بها آمال الشعوب في الزمن الحديث …

ولا تخلو فلسطين من ذلك القلق الذي يخامر نفوس الشباب، ويعجلهم عن الصبر والانتظار، ومطاولة الأحوال التي درجت عليها السياسة في أيدي الرؤساء والعمداء …

وقد سألني بعضهم سؤالًا صريحًا في حفل حاشد عن الزعامة السياسية والبرامج الوطنية، فقال موجهًا إليَّ الخطاب: ألا ترى أن ينفرد الشباب بقيادة الحركة القومية دون الرؤساء والعمداء؟

فلمحت على وجوه الحاضرين أن صاحب السؤال ينوب في الحقيقة عن الأكثرين منهم، وأنه يعبر عن خاطر يساورهم ويدور عليه النقاش الطويل فيما بينهم، فقلت: إن الشباب يستطيع أن يسمع صوته فلا يقوى الزعماء على إغفاله، ولا يزال للشباب عمل كثير يضطلع به في خدمة وطنه قبل أن يتصدى لمهمة الزعامة الشعبية، ولكنه إذا رزق الألمعية النادرة التي ترشحه لقيادة قومه، فإن هذه الهبة الفطرية لن تخفى على أحد، ولن تحول الحوائل دونه ودون القيادة التي يستحقها، إذ لا حاجة به يومئذ إلى التوسل والرجاء في طلب الاعتراف له بالكفاءة الممتازة والزعامة الموهوبة؛ لأن الكفاءة الممتازة تفرض مكانتها على من يعرفها ومن ينكرها على السواء.

•••

والفلسطيني وسط بين المصري وبين السوري واللبناني في الإقدام على الهجرة، والتمرس بالمحاولات الاقتصادية في بلاده أو في البلاد الأجنبية … فهو لا يهاجر كما يهاجر السوريون واللبنانيون …

وهو أجرأ على إنفاق المال من أبناء الأمم التي تعودت المحاسبة على الموارد والمصارف، وانتظمت على الموازنة بين الأرباح والخسائر، منذ عهد بعيد …

ولم يزل إلى زمن قريب يعول على تربية الماشية والزراعة، ويعول معها أحيانًا على التجارة الدورية التي تجري في مواسمها على سنة الزراعة والثروة الطبيعية …

وفي طبعه استقلال البدوي الذي تثقل عليه رياضة الحياة المدنية، وتعنته بما فيها من الموانع والقيود …

وقد قال لي رجل من أذكياء السوريين وذوي الغيرة منهم على القضية الفلسطينية: إن إخواننا هنا يتعبون كثيرًا مع جماعة الصهيونية؛ لأنها تحاربهم بسلاح لم يتعودوه.

قال ذلك وقد مررنا بخص من القش على شاطئ البحر في جوار «يافا» يملكه رجل يهودي يطهو فيه الطعام لمن يستريحون لديه في أثناء الطريق، أو لمن يقصدونه في طلب النزهة والاستجمام، وقضاء فترة من الوقت في ضواحي الخلاء … قال الدمشقي الأريب: لو نزل رجل من بلدنا هنا يومًا واحدًا، وتناول هنا وجبة واحدة، لما فارق المكان قبل أن يعيد حسبته في ذهنه، ويقدر نفقات المكان ونفقات الطعام، ومكسب اليوم الواحد ثم مكسب الأيام …

فإذا أعجبه الحال وراقه المكسب، فما هي إلا أيام معدودات حتى يرى اليهودي خصًّا قائمًا إلى جانب خصه يبيع الطعام الذي يبيعه، ويهيئ المائدة التي يهيئها، وينزل عن بعض ربحه في أيامه الأولى؛ ليحول قصاد الخص القديم إلى الخص الجديد …

قال صاحبي الدمشقي: فليت الصهيونية تبتلى في هذه الديار بمن ينافسونها هذه المنافسة وينازلونها بمثل هذا السلاح …

قلت: إن الدرس غير عسير على من يرى الصراع من حوله، ويعلم عاقبة التهاون فيه …

•••

وأحسب أن المصريين والفلسطينيين في مجال الهجرة فرسا رهان، أو فارسان متقاربان …

فمن فلسطين مهاجرون في مصر، ومن مصر مهاجرون في فلسطين، وقد يعيش الفلسطيني في مصر زمنًا ثم يعود إلى بلاده، وقد ترى بينهم من يلقب بالأنشاصي والبلبيسي والطنطاوي، كما ترى بيننا من يلقب بالغزي والرملي والعكاوي، وكأنهم يتسابقون أو يتلاحقون في حلبة واحدة لا يخرجون منها، ولا يسرعون إلى تبديل معالمها، سواء في التقاليد الاجتماعية أو معيشة البيوت … حتى «الملوخية» — وهي صحفة مصرية لا يتقنها الطهاة في غير وادي النيل — قد أكلناها في بيت أبي خضرة كما تؤكل على أفخر موائدنا التي تعتز بتقديمها في بواكيرها أو معقباتها … لأن أبناء هذا البيت على تراثهم القديم منذ كانوا بريف مصر، ولا تزال لهم قرابة فيه …

بين مصر وفلسطين جوار هو أقرب من جوار المكان؛ لأنه كذلك جوار التاريخ وجوار السكان.

مصر والقضية العربية

سألني فنان صهيوني: لماذا يهتم المصريون بمشاكل العرب؟

فاستغربت سؤاله، ولم أكتمه أنه سؤال غريب، فعاد يسأل: وما وجه الغرابة فيه؟

قلت: وجه الغرابة فيه أنك تنتظر الاهتمام من يهود أمريكا بجماعة الوطن القومي في فلسطين، وتحسبه من الأمور الطبيعية التي لا تحتمل السؤال والاستفسار، ولكنك تستغرب من العرب المتجاورين أن يهتم بعضهم ببعض، وهم مضطرون إلى هذا الاهتمام … نعم مضطرون إليه ولو لم ينظروا إلى المسألة من الوجهة الشعورية، أو العلاقة التاريخية الروحية؛ لأن استقرار السلام في الشرق الأدنى يعنيهم جميعًا ويوجب عليهم أن يتداركوا أخطاره قبل وقوعها بشيء من الحيطة والمعاونة، ولا استقرار للسلام في الشرق الأدنى مع تهديد أمة كاملة في استقلالها، ومصالحها ومعالم وجودها.

فلاح عليه أنه كان يتوقع جوابًا غير هذا الجواب …

وكان غيره أصرح منه في السؤال — وهو كاتب في صحيفة «فلسطين بوست» الإنجليزية يراسل بعض الشركات البرقية — فسألني: هل تريد مصر أن تسيطر على سياسة البلاد العربية؟

قلت: كلا … ولو جاءتها السيطرة طيعة هينة بغير سعي منها؛ لأن الأساس الذي قامت عليه الجامعة العربية هو استقلال كل أمة من أمم العرب التي تشترك فيها، وبذل المجهود المستطاع لتمكين الأمم الخاضعة للحكم الأجنبي من بلوغ استقلالها، وليست لمصر مصلحة في التوسع أو زيادة التبعات والأعباء السياسية والعسكرية والاقتصادية، ولكنها ترى المصلحة كل المصلحة في التعاون بينها وبين الأمم التي تقاربها في الموقع الجغرافي، والتراث التاريخي، والوجهة السياسية …

•••

إن الشعوذة السياسية وحدها هي التي تسول لبعض الأدعياء أن ينتحلوا لأنفسهم صفة الزعامة على جميع الأمم العربية، كما ينتحلون لأنفسهم صفة الزعامة المطلقة على الأمة المصرية …

وإنما يخدم أولئك الأدعياء أنفسهم بتلك الشعوذة البغيضة إلى كل من يطلب الحرية، وكل من يؤمن في الشرق بمبادئ الديموقراطية؛ لأنها تضير القضية المصرية كما تضير القضية العربية، ولا تنتهي إلى فائدة مرجوة لغير أولئك الأدعياء فيما يتخيلونه من الأوهام والأحلام …

إنهم يتوهمون أنهم يروجون في سوق المناصب على قدر البضائع التي يعلنون عنها، ويدخلون في روع الأجانب أنهم قادرون على تسليمها …

فهم يبيعون ويشترون في قضية مصر وقضية العرب على السواء، ويخرجون المسألة من حدود التعاون المحمود إلى حدود الزعامة المنكرة، وما وراءها من الدعاوى والشبهات.

ونحمد الله على أن الوقائع قد أفهمت من يفهم ومن لا يفهم أن مصر تبغض هذا النوع من الشعوذة وتتشاءم وتأباه، وأنها تعاف مزاج الدعاة الذين يدقون الطبول وينفخون الأبواق حول أنفسهم، ولا ينزهون مطلبًا من المطالب عن صغائر التهريج والتهييج؛ لأنهم لا يعيشون بغير أجراس المزاد في سوق المساومات.

ليس في ساسة مصر اليوم — بحمد الله — من ينطوي على مثل ذلك المزاج، فهم لا يعملون لمصر ولا لغير مصر؛ ليحتكروا الزعامة الأبدية على هذا الشعب أو ذاك، ولكنهم يعملون لأنهم يعرفون الواجب ولا يتجاوزون به حدوده، ويخدمون القضية العربية خدمة الإخوان أو الأعوان، ولا يخدمونها — ولا يستطيعون أن يخدموها — من طريق الضجة الخاوية التي يعلن بها المعلنون عن تسليم البضاعة في أسواق المطامع الأجنبية.

هذا التعاون على أساس الاستقلال الموفور لكل أمة من الأمم العربية هو قوام الجامعة العربية، ولا قوام لها بغيره …

وينبغي أن يفهم الاستقلال هنا على أوسع معانيه أو على جميع معانيه، فهو يشمل الاستقلال الأدبي كما يشمل الاستقلال في عرف العلاقات الدولية …

فلا افتيات فيه على حق أمة من الأمم في الاعتماد على نفسها، والتوفر على جهودها، وليس من شأنه أن يحمل أحدًا على التواكل، ولا أن يحمل أحدًا على تجاوز الحدود …

لكل أمة عربية أن تنتظر المعونة من أخواتها وجاراتها …

ذلك حق الأخ على أخيه والجار على جاره …

وعلى كل أمةٍ عربية أن تعمل ما في طاقتها لتحقيق مطالبها …

ذلك واجب الإنسان على نفسه، بل واجبه لنفسه …

وقوام الأمر بين الجميع هو استقلالٌ في الرأي والعمل، وتعاون بين إخوان مستقلين في الآراء والأعمال …

فلا سيطرة هناك ولا قيادة، ولا إعفاء من واجب ولا تجاوز في الحقوق …

•••

ومن دواعي الغبطة أنني رأيت دلائل الشعور بهذه التبعة العظيمة — على هذا الأساس القويم — في كل من لقيت من ذوي الرأي والمكانة بين خاصة أبناء الأمم العربية.

فهم — مع إيمانهم بجدوى هذا التعاون الأخوي في تخفيف الأعباء، ومضاعفة القدرة على النجاح — يعتقدون أنه قد ضاعف شعورهم بالتبعة، وتقديرهم للواجب، ورعايتهم للحقوق؛ لأن عمل أمة تسأل عنه أمم، وكلمة فريق من المجاهدين قد تحسب على كل فريق.

قلت للكاتب الصهيوني: إن مصر لا تريد السيطرة على الأمم العربية ولو جاءتها السيطرة بغير سعي منها …

وأحسبني أردد كل رأي رشيد في الأقطار العربية حين أقول: إن الضجة الخاوية التي سولت لبعض الظنون أن تهجس فيها هذه الهاجسة قد ذهبت إلى غير رجعة، وإن العمل الوقور هو العمل الوحيد الذي يليق بخدام هذه القضية الكبرى، وإنه لا يستقيم على أساس كما يستقيم على أساس التعاون الأخوي في حدود الاستقلال المرعي، ومرحبًا بآمال الأمم العربية في الأمة المصرية، ولو طالبتها بالحصة الكبرى من المعونة وتوجهت إليها بالجانب الأكبر من الرجاء … فحبذا مضاعفة الواجب كلما تضاعفت الطاقة، وحبذا أن تزداد القدرة، ويزداد معها التوفيق إلى تحقيق الآمال.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤