قلم يشق طريقه

صحيفة مطبوعة بعد المخطوطة

أصدرت صحيفتي المخطوطة — التلميذ — وأنا تلميذ في الثانية عشرة، لم أبرح المدرسة، ولم أملك في يدي مبلغًا من المال يكفي للتفكير في طبع ورقة إن وجدت المطبعة، حيث كنت في الصعيد الأقصى … وهي غير موجودة! …

لكنني الآن موظف حكومة، تخرجت من المدرسة الابتدائية، واشتغلت بالقسم المالي في مديرية الشرقية، وعرفت لي مبلغًا من المال أقبضه في أول كل شهر: خمسة جنيهات!

ومن هذه الجنيهات الخمسة أستطيع أن أدخر جنيهًا في كل شهر، وأن أجمع من هذه الجنيهات المدخرة مبلغًا يكفي للإنفاق على العددين الأولين من صحيفة مطبوعة، ثم لا حاجة بعد ذلك إلى المال؛ لأن الصحيفة تباع وتأتي بتكاليفها عددًا بعد عدد، أو عددين بعد عددين …

وكنت قد عرفت شيئًا عن تكاليف الطباعة في مدينة الزقازيق عاصمة الشرقية؛ لأنني اشتقت إلى بلدتي بعد أن فارقتها يافعًا لأول مرة، فنظمت قصيدة على وزن قصيدة «المعري» التي يقول في مطلعها:

عللاني فإن بيض الأماني
فنيت والظلامُ ليس بفانِ

فقلت في مطلع قصيدتي:

ذكراني نعيمها ذكراني
حبذا لو علمتما ما أعاني

وقلت منها أذكر أسوان:

لست أرجو عودًا إلى أسوان

ولا يحضرني الآن الشطر الأول من البيت …

وراقت القصيدة من سمعوها من الزملاء المتأدبين، فاقترحوا عليَّ طبعها ليحتفظ كل منهم بنسخة منها … وتكفل أحدهم بتقديمها لمطبعة المدينة، فلم تكلفنا ورقًا وطبعًا أكثر من ثلاثين قرشًا لمائتي نسخة، وقيل لنا: إنها تكلفنا أقل من خمسين قرشًا إذا طبعنا منها مائتي نسخة أخرى، فعرفنا السعر وعرفنا الفرق بين تكاليف طبع القصيدة وتكاليف طبع الصحيفة، وهي في تقديرنا تقع في ثماني صفحات بدلًا من صفحتين.

حسبة ميسورة مشجعة، ومرتب شهر واحد يكفي للبدء في طبع الصحيفة على بركة الله!

وماذا يبقى بعد الطبع مما يحتاج إلى التدبير والاستعداد؟

لا شيء!

فالتحرير مضمون بغير كلفة؛ لأنني محرر الصحيفة الوحيد …

والتوزيع مضمون لا خوف عليه، وكيف لا يكون مضمونًا وهؤلاء قراؤنا يتهافتون على اقتناء الطبعة الأولى، ويستنفدون منها مائتين في يوم أو يومين؟

•••

ومن البديهي أنني لا أصدر الصحيفة وأنا موظف بالحكومة … ولا أطبعها، من ثم، في الزقازيق حيث طبعت القصيدة.

إلا أنها عقبة هينة لا يصعب علينا تذليلها، فليس أهون من الانتقال إلى القاهرة بعد الاستقالة من الوظيفة، وليس أبناء القاهرة بأقل من أبناء الزقازيق إقبالًا على قراءة المنظوم والمنثور … وكنت أذهب إلى القاهرة مرة في كل أسبوع أو أسبوعين، أشهد التمثيل في مسرح الشيخ سلامة حجازي، وأزور حي الأزهر باحثًا عن الكتب الأدبية القديمة بثمن رخيص …

فذهبت إلى القاهرة، وأحببت أن أحقق وأدقق، وأستوفي المعلومات اللازمة قبل الشروع في العمل … ووقع اختياري — لاستقصاء البحث في المسألة — على صاحب مكتبة عتيقة عظيم الخبرة بالمطبوعات القديمة والحديثة، كثير الاتصال بالصحفيين والأدباء، تعودت أن أشتري منه ما أجده عنده، وأن أوصيه باستحضار الكتب النادرة من الطبعات المرجوعة.

والواقع أن «الاستقصاء» الذي عولت عليه لم يكن ليعوقني عن المضي فيما نويت، وإنما هو مسألة شكلية على حكم العادة في الاستشارة والاستخارة … وليقل صاحبنا ما يقول، فإنني أعددت الصحيفة كتابةً وتقسيمًا وتبويبًا وتسمية وإخطارًا للحكومة، ولم يبق من معداتها شيء غير الطبع والتوزيع …

•••

وكنت أتردد بين اسمين: اسم «البيرق» واسم «رجع الصدى»، ولا أحسبني يومئذ قصدت الفرق بين الاسمين، وعنيت ما فيه من الدلالة على الصحيفة التي تقود الآراء، ويلتف بها الشعراء كما يلتفون بالبيرق، أو عنيت ما فيه من الدلالة على الصحيفة التي تردد أصداء الآراء، ولا تزيد على عرض الحوادث والأنباء.

لا أحسبني قصدت إلى هذه التفرقة، ولكنني انتهيت على غير قصد مني إلى تفضيل اسم «رجع الصدى» على اسم «البيرق» … وكتبت العنوان بخطي؛ ليخرجه الحفار كما كتبته، بدعة من بدع التجديد في العناوين!

ولست أنسى نظرة الكتبي العتيق إليَّ من تحت نظارته الملحومة في موضعين أو ثلاثة:

«ماذا؟ تترك خدمة «الميري» وتشتغل بالغزازيط والجرانيل؟ إن كنت لا تدرك ما أنت مقدم عليه، فانتظر هنيهة لترى مائة من هؤلاء «الصائعين» الضائعين يتمنون التراب تحت قدميك في وظيفتك ولا يصلون إليه … لا يا صاحبي … لا … إنني أراك أعقل من هذا يا بني … فلا تخيب أملي فيك …!»

ولم يقنعني كلامه؛ لأنني لم أسمع منه جديدًا عن خدمة «الميري» وقداستها في عرف أبناء جيله، ولم يزحزحني تحذيره قيد شعرة عن نية المضي في الاستعداد والتنفيذ …

وإنما زحزحني عن هذه النية قيد فرسخ — لا قيد شعرة وحسب — منظر أو منظران من المناظر التي كانت تتكرر في كل حلقة صحفية، ولا يستغربها أحد من المتفرجين؛ لأنها من أدوات المهنة المتفق عليها ومن أدوارها التي تعاد في كل قصة، فلا يجهلها إلا الذين يجهلون الصحف والصحفيين، أو الجرنالجية وجماعة الغزازيط، وتجار التجريس والتنبيط!

كانت بجوار المكتبة مطبعة صغيرة تطبع فيها الصحف الأسبوعية، وكان «مدير» إحدى الصحف يرجو صاحب المطبعة أن يعجل بإصدار العدد، ويأبى صاحب المطبعة أن يخرج العدد، ما لم يحصل على أجرته وأجرة العدد السابق الذي صدر قبل أسابيع، ووقف المدير ينتظر وكيلًا له أرسله إلى المشتركين للتحصيل، وعاد الوكيل على صورة يقصر عنها أمل المتسول الذي يريد أن يبالغ في إثبات صناعة التسول، واستدرار شفقة المحسنين والمسيئين! فصاح به المدير: ما وراءك؟

فأخرج له الوكيل إيصالًا معادًا من أحد المشتركين، وقال: إن الاشتراك مسدد قبل الآن …

فسأله المدير: وأين الإيصال الآخر؟

قال الوكيل: إن الرجل قطعه ورماه في خلقتي!

فهم المدير بضربه، وهو يقول مختنقًا من الغيظ: رماه في خلقتك؟ مستحيل … إن فضيحة بيته معروفة ويخشى من الإشارة إليها بكلمة، فلا تقل: إنه قطع الإيصال ورماه في خلقتك الشريفة، بل قل: إنك سكرت بالاشتراك كعادتك، وجئتنا برائحة الخمر تفوح من فمك …

وكان هذا أول الأدوار التقليدية المحفوظة، ولم يكن آخرها ولا أقبحها، وفي واحد منها الكفاية للعدول على الأقل عن الخطوة الأولى، وقد عدلت عنها إلى الآن.

ولكن لم أحتقر الصحافة

إن هذه المناظر المخجلة حقرت في نظري طائفة من المتطفلين على الصحافة، ولكنها لم تحقر صناعة الصحافة، ولا نزلت بأعلامها النابهين إلى منزلة أولئك المتطفلين، ولست أعتقد أنني كنت مستطيعًا أن أحتقر هذه الصناعة من أجل ذلك المنظر المخجل، ولو كنت من المستخفين بها والزاهدين فيها؛ لأن قوة الدعوة القلمية في تلك الفترة قد بلغت في القاهرة مبلغًا لا يدانيه ما بلغته في عاصمة من عواصم المشرق والمغرب، ولا إخالها تبلغه اليوم، على عظم الفارق بين صحافة اليوم وصحافة مصر والشرق قبل خمسين سنة …

كانت القاهرة مركزًا لكل دعوة تهتم بها دول العالم ذوات المطامع في الشرقين: الأدنى والأقصى، ومركزًا لكل دعوة يديرها دعاة الجامعة الإسلامية، ودعاة الوحدة العربية ودعاة تركيا الفتاة، ودعاة الإصلاح في إيران وأواسط آسيا، ودعاة الحركات الوطنية في مصر نفسها، وفي سائر الأقطار الأفريقية من شمالها في بلاد المغرب إلى جنوبها في بلاد السواحل وزنجبار.

وكانت قوة هذه الدعوة تخيف الملوك والساسة على عروشهم، وعلى أرواحهم وأبدانهم، ولا تمهلهم أن يتجاهلوها أو يغفلوا طرفة عين عن أخطارها وعواقبها، وقد حدث أن حركة في القاهرة زلزلت عرش عبد الحميد في الآستانة، وأن رجلًا شهرته دعوة القلم واللسان ذهب إلى إيران لإتمام هذه الدعوة، فطرده الشاه وأهانه اثنان من وزرائه، فقتل الثلاثة جميعًا، وقال قاتلوهم: إنهم قضوا عليهم بالحق انتقامًا لذلك الداعية الطريد: جمال الدين.

كانت هذه الحقيقة من وقائع الحال الغنية عن المقال، ومن طرائفها المروية أن السلطان عبد الحميد كان ينام في يلدز، وعيناه في شارع محمد علي بالقاهرة، واتفق يومًا أن المويلحي الكبير — صاحب «مصباح الشرق» — دخل مكتب «المؤيد»، ووجد فيه نخبة من كتاب عصره وفضلائه، فتوقف عند الباب وقال وهو يرفع يديه إلى سقف الحجرة: قادر أنت يا رب أن تسقط هذا السقف على من تحته، فيستريح عبد الحميد! قال محمد عبده، وكان من زوار الحجرة: نعم … لو تقدمت أنت خطوتين! وتلك نادرة من نوادر الفكاهة التي تخلقها الحقيقة الواقعة، وما يكون لها أن تخلقها لو كانت محض مزاح …!

تهيأت القاهرة لاجتماع هذه القوة فيها؛ لامتيازها بين عواصم الشرق بمركزها التاريخي، ومركزها الحديث، ولم تتهيأ لها مدينة أخرى على مثالها من الآستانة عاصمة الخلافة إلى ما دونها من عواصم الولايات المتحدة والحكومات، ولم تكن القاهرة عاصمة الدعوة الكبرى مصادفة، ولا لعلة من العلل العارضة …

فالآستانة هي عاصمة الخلافة، ومركزها بهذه الصفة أهم المراكز في العالم الإسلامي، وعالم السياسة الشرقية على إجماله … ولكن قيام الدعوات القلمية أو اللسانية فيها أمر لا يخطر على بال الدعاة لشدة الحجر فيها على الأقلام والألسنة، وحظر الاجتماع فيها وتأليف الجماعات للمقاصد السياسية …

وعواصم الشرق الأدنى مهمة بشهرتها وموقعها، ولكنها لم تكن قط مركزًا يتلقى منه العالم الشرقي دعوة عامة على نطاق واسع، وحكمها حكم الآستانة في حرية الدعوة والاجتماع …

أما القاهرة فقد كانت، منذ بنيت في أيام الفاطميين، مركز داعي الدعاة، أستاذ الأساتذة في فنون الدعوة بالقول والإشارة، أي: بالخطب والرسائل والرموز السرية والموالد والزفات!

ثم أصبحت مركز الإعلان الاقتصادي والسياسي في الحقبة التي اشتدت فيها المنافسة بين أصحاب التجارة من طريق البحر الأحمر، وأصحاب التجارة من طريق رأس الرجاء …

ثم جعلها الخديو إسماعيل قطعة من أوروبا بمحاكمها المختلطة، وامتيازاتها الأجنبية، واشتباك المصالح المتعارضة فيها بين الدول، وتلاطم التيارات حولها من داخل البلاد العثمانية في شئون الحكم، أو شئون الثقافة …

ثم انطلقت فيها حرية الصحافة وحرية الاجتماع، فتمت فيها معدات الدعوة، وترادف عندها نمط الدعوة القديم، ونمط الدعوة الحديث …

تاريخ الشرق مرتبط بصحافته

وفيما تقدم من العوامل والمهيئات كفاية، ولكننا نحسب أنها لم تكن لتفعل فعلها بين أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين لو لم تكن الدعوة في هذه الفترة مطلوبة من كل صوب، ولو لم تكن بلاد الشرق متعطشة الأسماع إلى كل صوت ينادي بكلمة الأمل، أو كلمة النصيحة والتحذير …

ولا ننسى سحر «الكلمة المطبوعة» في جدتها قبل أن تبتذلها كثرة التداول، وتدخلها الألفة في عداد اليوميات الرتيبة، التي تنتظر في أوقاتها، ولا تحتاج إلى لهفة الانتظار …

وإن تعجب لسر من أسرار تلك الدعوة في نفاذها، وبعد مداها، فاعجب للبون الشاسع بين ضخامة أثرها وضآلة وسائلها، وانظر إلى البون الشاسع مثلًا في صحيفة كصحيفة «العروة الوثقى» أو «أبو نضارة» أو «اللطائف» أو «الأستاذ». وريقة ذات مقال وبضعة أخبار من قبيل الأخبار البوليسية أو البرقيات المقتضبة، وتحاول أن تتبع أثرها إلى أقصى مداه فلا تستقصيه؛ لأنك قد تسمع صداه في تخوم الصين وعلى متون الرمال في جوف الصحراء …

ولا محل للمقارنة من الوجهة الفنية بين تلك الصحافة وصحافتنا اليوم، ولكن لا محل كذلك للمقارنة بين دعوة يطلبها الناس ويتشوقون إليها، ودعوة تطلبهم وتحتال عليهم بأفانين الترغيب والتقريب.

إن منظر الحساب بين مدير الصحيفة الأسبوعية ووكيلها قد يصح أن يثنيني عن طبع العدد الأول من صحيفتي المطوية، وأن يضعف أملي في تحصيل تكاليفها بعد عدد أو عددين …

ولكن هل تراه يذهلني عن هذه القوة الهائلة، وأنا أحسها من حولي كالدوامة المدوية في لجة البحر الموار بالأمواج والرياح؟

إن ألف دجال باسم الطرق الصوفية لا يمسحون من الضمائر قداسة الدين، وإن ألف دجال باسم الصحافة لا يمسحون قداسة «الكلمة» الحية بين أناس يحتاجون إلى الكلمة حاجتهم إلى العمل في ساعة اليقظة من سباتهم الطويل …

إن الصحف التي تستغل مخاوف الملوك وفضائح الدول لا تستطيع أن تملأ الجو من أعلاه إلى أدناه، ولا أن تستوعبه بجميع زواياه …

فإذا وجدت هذه الصحف، فهي الشفاعة المقبولة، أو غير المقبولة لوجود طبقات في الجو الصحفي إلى جانبها، تنزل من الملك إلى الوزير ومن الوزير إلى الرئيس الصغير، ومن الرؤساء إلى عمد القرى ومشايخ الحارات، ومن هؤلاء إلى ما دون ذلك في طبقات ذلك الجو الفسيح …

وليقل العائب العاتب ما شاء، فإنه لن يستطيع أن يقول في النهاية شيئًا عن تاريخ الشرق الحديث، دون أن يقول معه شيئًا عن الدعوة القلمية، وعن الصحافة والصحفيين.

صحيفة الدستور

كانت صحيفة «الدستور» التي أصدرها الأستاذ «محمد فريد وجدي» منذ نصف قرن، أول صحيفة يومية عملت في تحريرها …

ولا أقول: إنه كان «عمل ضرورة».

ولا أقول كذلك: إنه كان عمل اختيار.

ولكنه كان ضرورة مختارة بين ضرورات، إذا صح هذا التعبير، وأبادر فأقول: إنه صحيح غاية الصحة؛ لأننا في أعمالنا التي نعدها من معالم حياتنا لا نستطيع أن نقول عن عمل واحد: إنه كله اختيار، أو إنه كله اضطرار …

وكان في وسعي قبل العمل في تحرير الدستور أن أعمل في تحرير «اللواء»، أو في قلم الترجمة باللواء على الأصح … لأنني علمت أنهم يطلبون مترجمين يعرفون الإنجليزية أو الفرنسية، بعد تفكيرهم في إنشاء «لواءات» غير «اللواء العربي» تصدر باسم «الاستاندرد» و«ليتندار».

التحرير أو الترجمة

وكانت الترجمة الصحفية من أعمال تلك الفترة التي كان أمثالي يستطيعونها، وكانت ظروف التعليم والنشأة «الأسوانية» مما يرشحني لأدائها، ويجعلني من المفضلين في «امتحاناتها».

فقد كنا نتعلم دروسنا المهمة باللغة الإنجليزية، ومنها دروس الجغرافيا والمعلومات العامة «أو الأشياء».

وكانت صحف المدارس المقروءة في إنجلترا بين «المطالعات» الإضافية المقررة علينا في السنة الرابعة الابتدائية.

وإلى هنا نتساوى جميعًا في مدارس القطر كله، ثم يأتي دور النشأة الأسوانية بمزية تنفرد بها مدينة أسوان، ولا تشاركها فيها سائر المدن في الوجهين.

كانت المكتبات الإفرنجية تفتح في موسم الشتاء؛ لبيع الكتب والمجلات والصحف الأجنبية المحلية، وكان كبار الزوار لا ينقطعون عن زيارة المدرسة خلال الموسم الذي كان يمتد من ديسمبر إلى مارس، وتتبع زيارتهم أحيانًا دعوات خاصة نجلس فيها مع أبنائهم وبناتهم، ولا نتكلم أثناءها بغير اللغة الأجنبية.

وتضاف إلى ذلك حالتان طارئتان على أسوان — في ذلك الحين — لم تجتمعا لبلد من بلدان السياحة، وهما حملة السودان وبناء الخزان …

ففي أثناء حملة السودان، كان الحاكم العسكري، ومحافظ المدينة، وقاضي المحكمة، وقادة الفرق الموزعون على المصالح، طائفة من الإنجليز العسكريين أو المدنيين لا يعرفون العربية، وكان كل بيت فيه «ولد من أولاد المدارس» مرجعًا نافعًا لقراءة الأوراق الرسمية، أو ترجمة العرائض إلى «الحكام» على حسب الاجتهاد، وكان «نصف الفرنك» نفحة سخية يحصل عليها «الولد» المترجم الذي يستطيع أن يخط في الورق بضعة سطور تدل على معنى من المعاني مفهوم بالإشارة أو بالتخمين … فأما «الولد» الذي تتكرر الشهادة له بحسن الترجمة، فنصف الفرنك قد يصعد في معاملته إلى نصف ريال، ويزداد التقدير مع زيادة القرابة أو الجوار …

أما بناء الخزان فقد جلب إلى المدينة مئات من المهندسين والخبراء والمفتشين يقرءون الصحف الإفرنجية طوال العام، ويدفعنا حب الاستطلاع إلى النظر في هذه الصحف وفي صحف السائحين، فلا يفوتنا — مع تتابع النظر — أن نعرف أقسام الصحيفة وعناوينها، وأماكن البرقيات والأخبار منها، وأن نختطف عبارة هنا وتعليقًا هناك، فلا يخفى علينا معناها بالمقابلة بعد المقابلة، أو التصحيح بعد التصحيح.

مع مصطفى كامل

فلما علمت أن «اللواء» يطلب مترجمين يعرفون الإنجليزية خطر لي أن أستقيل من وظيفتي، وأن أرشح نفسي للعمل فيه.

ولكني ترددت، وطال التردد حتى أحجمت، ثم فضلت ترك هذه «الفرصة» وانتظار فرصة غيرها لسببين: «أولهما» أنني إذا أقدمت على هجر الوظيفة الحكومية مفضلًا عليها الصحافة، فليكن ذلك لأكتب لا لأترجم، فإنني ما أحببت الصحافة لأنها مورد رزق أفضل من موارد الوظائف الحكومية؛ ولكنني أحببتها لأنها مجال للكتابة أو صناعة القلم بغير وساطة من صناعة النقل أو الترجمة!

والسبب الثاني شخصية مصطفى كامل — رحمه الله — فإن محادثتي الأولى له لم تشجعني على مزاملته في عمل دائم، وصورته لي رجلًا معتدًّا بذاته، ضيق الحظيرة، لا يسمح حتى للفكاهة أو «للقافية» أن تفتح عليه بابًا لتصحح قولة قالها أو رأيًا ارتآه …

كنت أتبرع بالتعليم في المدرسة الإسلامية بأسوان، وحضر مصطفى كامل متفقدًا للمدرسة، ومعه الكاتبة الفرنسية مدام «آدم جولييت» وسيدة إنجليزية، وكانت الحصة حصة محفوظات ولغة … فأملى مصطفى كامل على التلاميذ هذا البيت لأبي العلاء:

والمرء ما لم تفد نفعًا إقامته
غيمٌ حمى الشمس لم يمطر ولم يسر

وترجمه للسيدتين بطلاقة وإيقاع، ثم طلب من التلاميذ أن يشرحوه ويعلقوا عليه، فاضطربوا ولم يحسنوا الشرح أو التعليق …

والتفت مصطفى كامل إليَّ، وإلى الأستاذ «محمد شلبي عيد» متسائلًا، فأدركته قائلًا: إن التلاميذ معذورون … لأنهم في أسوان يعلمون أن الغيم الذي يظلل الرءوس شيء نافع لا يضربون به المثل لقلة النفع … فلعله أنفع لهم من شعاع الشمس ومن المطر …

«حسن تخلص» كنت أقدر من «خطيب» مثله أن يتقبله بالاستحسان والارتياح، ولكنه تجهم وزوى وجهه، وبدا لي أن الاستدراك عليه — ولو من باب الفكاهة — أمر كثير على طاقته الفكرية والنفسية، وأرى الآن أنها لم تكن منه فلتة عارضة في زيارة عاجلة؛ لأن حياة الرجل كلها لا تعرض لنا لمحة واحدة فيها شيء من سماحة الفكاهة، أو سماحة التوفيق بين الآراء …

فريد وجدي … والدستور

ولم يطل بي الانتظار حتى أعلن الأستاذ فريد وجدي عن عزمه على إصدار «الدستور».

ولم يكن اسم «فريد وجدي» غريبًا عني، ولا عن قراء ذلك الجيل من طلاب الثقافة الإسلامية الفلسفية … فقد كانت له كتابات ضافية يرد بها على كتاب الغرب وفلاسفته المنكرين لحقوق المسلمين، وفضائل الإسلام، وكانت له شهرة بالاطلاع على ثقافة الدين، وثقافة العصر الحديث، فلما لقيته وحادثته لم يكن أيسر من الاتفاق معه على العمل في صحيفته، وخرجت أقول لنفسي: إن أكبر خلاف بيني وبين كاتب كهذا لن يعوقني عن العمل معه؛ لأنني عجبت لحرية فكره، مع اشتهاره بالتعصب والمحافظة، بل بالتزمت والخرج في شئون الدين والدنيا …

فما من فكرة كان يرى أنها قضية مسلمة، وأنها لا تقبل المناقشة.

وأظن اليوم أن فرط الثقة بقوة الحجة، والقدرة على الإقناع هو الذي كان يسوغ له أن يسمع كل رأي، ويقبل كل تحد، ويجيب عن كل سؤال، ودام عملي في صحيفة الدستور من عددها الأول إلى عددها الأخير إلا أشهرًا قليلة فارقتها فيها، ثم عدت إليها … فأكاد أقول: إن ما خالفته فيه أثناء هذه المرة أكثر مما وافقته عليه، ولكنه لم يغير كلمة واحدة كتبتها لمخالفة رأيه.

كان شديد الإيمان بالجامعة الإسلامية على منهج قريب من مناهج الرسميين، ولم يكن كغيره من طلاب الكسب والجاه من وراء هذه الدعوة، بل كان يخسر الكثير في أحرج أوقات الحاجة إلى المال، ومن ذلك أنه رفض الاتفاق مع حزب تركيا الفتاة اعتبار «الدستور» لسان حالٍ للحزب في سياسته العثمانية، بعد أن تكفل الحزب بالإنفاق على الصحيفة وسداد ديونها؛ لأن الحزب كان يشترط أن ترفع من عنوان الصحيفة كلمة «لسان حال الجامعة الإسلامية» … ولم تمض أسابيع حتى كان الرجل يبيع كتبه بثمن يضارع ثمن وزنها من الورق؛ ليؤدي مرتبات الموظفين والعمال.

وعلى هذا التشبث بهذه الدعوة كنت أخالفه فيها، وأرى أنها تعمل لنفسها، ويعمل لها الزمن أضعاف ما يعمله المنقطعون لها من دعاتها المخلصين وغير المخلصين، فلم يحاول قط أن يفرض عليَّ رأيًا في قضية من قضاياها بغير الإقناع أو السكوت …

وكانت صحيفة «الدستور» لسانًا ثانيًا للحزب الوطني بعد «اللواء»، وكان موقف الحزب الوطني معروفًا من سعد زغلول، وبخاصة بعد قيام الشيخ جاويش على تحرير اللواء، ولكنني كنت أؤيد سعدًا وأرد على ناقديه في الدستور، فلم يمنع كلمة واحدة مما كتبته في هذا الموضوع.

وكان من غلواء الأستاذ وجدي في محاربة الاختلاط الجنسي أنه كان يشجع الهواة على إنشاء فرق تمثيلية، يتم فيها التمثيل بغير ظهور النساء على المسرح، وهذه حذلقة تغري بالسخرية حتى في تلك الآونة … ولم يكن الرجل على جهل بتاريخ التمثيل في الغرب الحديث أو القديم، فكان إذا لمح مني بادرة من بوادر السخر الخفية لم يزد في حدته على أن يقول: «لقد أجازها شكسبيركم لضرورة من ضروراته … فهل وقفت ضرورات الدنيا كلها عند شكسبير!»

الغاضبون

وأعتقد أن اختيار اسم الصحيفة وحده كان ميزانًا لنزاهة هذا الرجل، ولحريته الفكرية والدستورية، يغني عن كثير من الموازين.

وماذا في «اسم» على رأي شكسبير أيضًا؟

فيه كثير وكثير، ولا سيما في العصر الذي سميت فيه الصحيفة باسم الدستور.

كان اسم «الدستور» يغضب قصر «يلدز»، ويغضب قصر عابدين، ويغضب «قصر الدوبارة».

وكان الحزب الوطني يطلب الدستور، ولكنه يتحرج من الدعوة العامة إليه؛ لأنه ينكر مقاصد المطالبين به من رعايا الدولة العثمانية، ويشفق من غضب السلطان عبد الحميد، ويراجع القارئ اليوم صحيفة «اللواء»، فيرى أنها كتبت عن المطالبين بالدستور في تركيا، قبل إعلانه هناك بيوم واحد، فقالت: إنهم قوم يسبحون في الخيال …

وكان الخديو يحرض على طلب الدستور سرًّا كلما أراد بالتحريض عليه إحراج الإنجليز، والحد من سلطة المندوب البريطاني والمستشارين، ولكنه كان يرفض الإصغاء إلى هذا الطلب كلما ثاب إلى شيء من الوفاق بينه وبين المحتلين … ولهذا كان حزب القصر يسمي نفسه «حزب الإصلاح على المبادئ الدستورية» … ولا يخفى الفارق بين الدستور، وإصلاح الدواوين على مبادئ الدستور!

وكان حزب «الأمة» كما يدل عليه اسمه يعارض الحكم المطلق للعرش في مصر، وللعرش في عاصمة الدولة العثمانية، وكان ينادي بالاستقلال التام فيهدده «المؤيد» بحكم القانون أن السيادة العثمانية مقررة فيه، ولكن حزب الأمة على مناداته بحصر الحقوق كلها في الأمة لم يخل من أقطاب مخلصين كانوا يحسبون الطفرة في الحكم النيابي خطرًا حقيقًا بالحذر والاجتناب.

فإذا ظهر من بين هذه الصفوف رجل لا سند له من أصحاب العروش، ولا من جمهرة الأحزاب، فاختار كلمة «الدستور» دون غيرها اسمًا لصحيفته الوليدة، فهو اسم يدل على كثير، وإن غضب صاحبنا شكسبير!

صحافة المتطوعين

في هذه الصحيفة بدأت عملي الأول، فماذا كان عملي الأول هذا؟ أو بماذا نسميه في «تقاسيم» الصحافة الأخيرة؟

لا يوجد له اسم واحد، وقد يحيط به على الجملة أنني كنت نصف هيئة التحرير برمتها؛ إذ لم يكن في قلم التحرير غير كاتبين اثنين، أحدهما أنا والآخر صاحب الصحيفة!

ولا نبخس في هذا المقام فضل «التطوع» في تحرير صحيفة الدستور، ولا في تحرير غيرها من صحف تلك الفترة … فقد كان قوام المقالات الصحفية من «تحرير المنازل»، وكانت أشهر الفصول على الإطلاق في ذلك العهد فصولًا كتبها المحررون المتطوعون، وكل حامل قلم في البلد محرر متطوع ما عدا الجالسين على مكاتبهم في دور الصحف المحدودة، وهم معدودون على الأصابع.

ولقد كان نصيب «الدستور» من التطوع أوفى نصيب، إذ كان فيها «محرر متطوع» دائم يكاد ينهض بعمل الترجمة الفرنسية وحده، ويكتب إلى جانبها التعليقات، وحواشي الأخبار والمتفرقات …

كان الأستاذ «أحمد وجدي» شقيق الأستاذ فريد صاحب الصحيفة هو ذلك المحرر المتطوع الدائم، وكان — رحمه الله — شابًّا ألمعي الذكاء كريم الخلق مستقيم الذهن مجتهدًا في كل عمل تولاه، وقد تولى عملًا قليلًا في الصحافة، ثم تولى عمله في المحاماة أمام محكمتي الزقازيق والمنصورة، فاشتهر في الإقليمين أيما شهرة، وقامت شهرته على الذمة والعفة، كما قامت على البراعة والبلاغة، ولو أمهلته المنية بضع سنوات لما عرفت مصر اسمًا أشهر من اسمه في عالم المحاماة.

وكان زملاء الأستاذ «أحمد وجدي» يتطوعون معه بالكتابة والترجمة من حين إلى حين، ولكنهم أضربوا جميعًا — أو كادوا — بعد الخلاف الذي حدث بين فريد وجدي ومصطفى كامل … وكان فحوى هذا الخلاف أن صاحب الدستور اعترض في مجلس إدارة الحزب على اختصاص وزارة الخارجية البريطانية بالاحتجاج على الاحتلال، وقال: إن هذا الاختصاص ربما أعطاها الصفة «الاستثنائية» التي تدعيها في مصر، ولا ضرر من تعميم الاحتجاج على صيغة من الصيغ إذا كانت الصيغة المكتوبة لا تسمح بتوجيهها إلى أكثر من دولة واحدة، فأعرض مصطفى كامل عن اقتراحه وأعرض معه أكثر الأعضاء، وكتب فريد وجدي خلاصة المناقشة في الدستور، فحسبه المؤيدون الآليون منشقًّا على الحزب، وقاطعوه، ومنهم بعض أولئك الطلبة «النجباء» الذين كانوا يتطوعون للكتابة في صحيفة الحزب الثانية!

إلا أننا — نحن هيئة التحرير — المؤلفة من صاحب الصحيفة ومني، كنا نعمل في التحرير والترجمة والتصحيح، وتهذيب الرسائل والأخبار … وكان الأستاذ وجدي قليلًا ما يبرح داره، فكنت أنوب عنه في أعمال الصحيفة الخارجية، ومنها الحصول على الأخبار وعلى الأحاديث، وبينها أول حديث للوزراء المصريين …

والأخبار لم يكن خطبها في ذلك العهد بالأمر العسير …

كان لها مكتب بديوان الداخلية ترسل إليه النشرات من جميع الدواوين، ومعظمها عن التعيينات والتنقلات، وصرف الأموال في المشروعات العامة … ولم تكن هناك حاجة بالمخبرين إلى استطلاع النيات والتقاط الأسرار، فإن السياسة الكبرى كانت في علم المندوب البريطاني ومستشاريه ومفتشيه، وليس لأحد من الصحفيين صلة بهؤلاء غير أصحاب «المقطم»، وبعضهم وكلاء الصحف الأوروبية، وصلاتهم جميعًا لا تفيدهم شيئًا من أسرار السياسة العليا، ولا تطلعهم على أخبار الميزانية قبل أوانه.

فالمخبر البارع، والمخبر العاجز، في النهاية على حد سواء، إلا أن طائفة من المخبرين كانت تساوم «الإدارة» على تكاليف المهنة، وتوهم وكلاء الحسابات فيها أنها تحصل على أخبار النقل والتعيين والاعتمادات المالية من قصاصات «المسودات» في سلال المكاتب المهملة، وظلت هذه الحيلة تروج عند بعض الصحف إلى ما بعد أيام الثورة في أعقاب الحرب العالمية، ورأيت بعيني واحدًا من هؤلاء المخبرين يبسط هذه القصاصات، ويجمع متفرقاتها ويلصقها ليزعم بعد ذلك أنه قد جاء بالخبر المضنون به على غير المجتهد الأريب.

•••

كنت أذهب إلى مكتب الأخبار الصحفية بديوان الوزارة، فأرى هناك على التناوب عشرين أو ثلاثين صحفيًّا من مندوبي الصحف العربية …

وليس من هؤلاء جميعًا واحد فرد يذكر اليوم، أو يعرفه السامعون إذا ذكر، ولكن القارئ قد يعجب لاختلاف مقاييس النظر والتقدير إذا علم أنني كنت في نظرهم جميعًا فضوليًّا متطفلًا على الصناعة، وسمعت أحدهم يتكلم عن «عمر منصور» مندوب المؤيد، و«عبد المؤمن الحكيم» مندوب الأهرام، و«سامي قصير» مندوب المقطم، و«جورج طنوس» مندوب الوطن … فإذا هو يشيعني بالإشارة الساخرة، وهو يسب الزمن؛ لأنه قضى عليه بالعمل في الصحافة مع أمثالي: «يحرق دين ها «البريس» Press ما عاد غير ها الزعران يسود ورقاتها!»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤