بين الوظيفة والصحافة

معركة الأوقاف

عملت في ديوان الأوقاف … وكان عملي في مكتب السكرتارية أقرب المكاتب إلى دخائل الديوان، ولكنني أعترف اليوم بأن ما علمته في أيام خدمتي بالديوان من خفايا المعركة التي دارت حوله لم يكن غير الفقاقيع التي تطفو على وجه الماء …

كانت معركة حامية تدور وقائعها بين القاهرة ولندن والآستانة، وتشترك فيها حاشية الخديو ودار الوكالة البريطانية وحزب الأمير حليم وأعوانه من رجال تركيا الفتاة، وأناس متفرقون في القاهرة من طلاب الإصلاح.

وكان الخديو يستميت في التشبث بموارد الديوان، ولا يقبل بحال من الأحوال أن تسحب ميزانيته من ميزانية الدولة، وحجته في ذلك أنه صاحب الولاية على الأوقاف بحكم الشرع، وبنصوص الواقفين في كثير من الأحوال …

وكان المحتلون يحاربون السيطرة الخديوية على الأوقاف كما يحاربونها في كل جهة أخرى … ويريدون في حربهم لهذه السيطرة في ديوان الأوقاف — بصفة خاصة — أن يحولوا بين الخديو وبين استخدام أموال الأوقاف في حماية سلطانه ونشر دعوته، سواء كانت مما يخصه ويخص العرش، أو كانت مما يعم الحركة الوطنية لمقاومة الاحتلال …

وكان طلاب الإصلاح في حرج شديد؛ لأنهم يريدون أن يقطعوا دابر الفساد في الديوان وما يتصل به من المعاهد الدينية، ولكنهم يكرهون أن يتوسلوا إلى ذلك بمعونة المحتلين …

ثم حدثت في السنة الأخيرة التي عملت فيها بالديوان حوادث مختلفة بين القاهرة والآستانة غيرت وجوه المسألة، ويسرت ما لم يكن ميسورًا قبل ذلك بسنة واحدة …

الخديو بين نارين

نشأت الجمعية التشريعية بمصر فوجد طلاب الإصلاح منبرًا «قوميًّا» ينادون من فوقه بوجوب الإشراف على ميزانية الدولة كلها، ومنها ميزانية الأوقاف …

وتولى الحكم في الآستانة أناس يكرهون الخديو؛ لأنهم أصدقاء أسرة حليم المنافسة لأسرة إسماعيل؛ لأنهم يذكرون للخديو مصادرته لجماعة تركيا الفتاة تمهيدًا للمطالبة بجزيرة «طشيوز»، التي كانت في حوزة محمد علي الكبير، ثم استولى عليها السلطان عبد الحميد الثاني مدعيًا أنها كانت هبة شخصية لرأس الأسرة، ولم تكن من أملاكه التي تنتقل بالميراث …

واستطاع المحتلون في ذلك العهد أن يكسبوا لهم عضدًا قويًّا بدار الخلافة، وأن يحصلوا على وعد من أقطاب الحكومة التركية بمساعدتهم على تقييد سيطرة الخديو في الديوان، ولو اقتضى الأمر خلعه وإسناد الإمارة إلى أمير في بيت حليم …

وتم أخيرًا تحويل الأوقاف من ديوان إلى نظارة أو وزارة، وكان اسم الوزارات يومئذ — وهو النظارات — مما يسوغ إدماج الأوقاف في عدادها، لاشتهار الإشراف على الوقف باسم النظارة …

أول وزير

واختير للنظارة رجل من أنصار الخديو ترضية له وتغطية لخذلانه، فكان ناظرها الأول في عهدها الجديد «أحمد حشمت باشا» — رحمه الله … وقد كان قبل دخوله الوزارة وكيلًا لحزب القصر بين الأحزاب الثلاثة، وهو حزب الإصلاح على المبادئ الدستورية …

وبعد أيام قليلة من قيام الوزير بعمله في الوزارة، جاءتني بطاقة صغيرة من بطاقات الدعوة إلى مكتبه، محدود فيها للمقابلة ساعة قبيل الظهر من ذلك النهار.

وكدت أجزم بالباعث إلى دعوتي لمقابلة الوزير، وأنا موظف في أصغر درجات الوظائف في سلك الخدمة في الديوان.

وماذا يكون الباعث إلا أنني من المشهورين بإدارة الديوان، وأنني ممن تتجه المظنة إليهم في الكتابة عنه بالصحف والعلم بأسراره من المذكرات، وكتابة المذكرات؟

ليس فيها قولان كما هو ظاهر …

ولكنه في الواقع كان تخمينًا نادرًا يدل على وجوب التردد في قبول التخمينات مهما تبلغ من الرجاحة والقوة، فإن الوزير لم يتعرض لمسلكي في قضية الديوان بغير التلميح من بعيد … وإنما خاطبني في أمر مقالة من مقالاتي نشرتها في الصحف، وذيَّلتها بتوقيعي الصريح، وهي مقالة كتبتها تأبينًا للشيخ علي يوسف صاحب المؤيد — رحمه الله — ونشرتها صحيفة «عكاظ» الأسبوعية التي كنا نخصها برسائلنا النقدية أنا، والمازني، وشكري، وبعض الزملاء …

ومن أضاحيك المصادفة أن الوزير كان صديقًا للشيخ علي يوسف، وكان وكيلًا لحزبه وخصمًا لكثير من خصومه … وكان من أشياعه القليلين الذين مشوا في جنازته، وأشرت إليهم في بعض ما ذكرته عن وفاء المشيعين له بعد الوفاة.

من فصول الشيطنة

وكان الشيخ علي يوسف قد ترك «المؤيد» وهجر الحياة العامة، واصطلحت عليه العلل والنكبات … وقضى نحبه غير مذكور من أقرب المقربين إليه، فلم يسر في جنازته منهم غير آحاد معدودين، بينهم وزير الأوقاف …

وقلت في تأبينه: إن الرجل كان «نفاعًا ضرارًا»، ولكنه كان ينفع ويضر لتمكين نفوذه، واستصلاح الأعوان في مشكلاته وقضاياه … فمن وصلت إليه يد من أياديه لم يكافئه عليها بالمحبة وخلوص النية، ولكنه يحس أنه مدين مطالب بدين يوفيه في يوم من الأيام … فلا جرم يشيعونه غير محزونين، ويمضون في جنازته متحدثين متشاغلين؛ لأنهم في حالة نفسية أشبه بحالة المدين الذي أعفاه موت الدائن من الوفاء له بما عليه …

خاطبني الوزير بلهجة هادئة كأنها لهجة الأستاذ الذي يلوم تلميذه على فصل من فصول الشيطنة، لا يبلغ عنده مبلغ السخط الشديد، ولا يخلو من بعض الرضا، فقال بعد الإشارة إلى مقال التأبين: «كان أحرى بقلمك الناشئ أن يتخذ له في تأبين الموتى منهجًا أطيب من هذا المنهج.

وكان عليك ألا تنسى في هذا المقام قوله عليه الصلاة والسلام:

اذكروا محاسن موتاكم …»

فاجتهدت أن يكون جوابي في لهجة توائم لهجة الوزير، وقلت ما معناه: «إنني لو علمت للشيخ حسنات غير التي ذكرتها لما فاتني أن أذكرها …»

فاقتضب الحديث، مصطنعًا الجد، وقال: «على كل حال، اجعل لقلمك مستقبلًا كمستقبل الشيخ إن استطعت، واستخدمه في عملك، ودع عنك فضول الأقاويل والأحاديث.»

شبح المؤيد

المؤيد … المؤيد … المؤيد …

ما هذا المؤيد الذي يلوح لي أنني ألقى شبحًا منه أينما ذهبت هذه الأيام، حيث أريد وحيث لا أريد …

قبل أسابيع — على ما أذكر — جاءتني تذكرة مطبوعة كتذاكر الدعوة إلى المحافل والمجتمعات يقول كاتبها «سيد كامل»: إنه يتصدى لتحرير المؤيد، ويود لو يستعين بالأقلام الفتية في تجديد حياة «شيخ الصحافة» … أو كلامًا من هذا القبيل …

فمن يكون «سيد كامل» هذا؟

إنني لم أكن أعلم عنه شيئًا، وأشفقت أن يكون مرشحًا للقيام على تحرير المؤيد من قبل الإنجليز … لأنني تبينت من حديثي مع مستر «ستورز» أنهم يهتمون بهذه الصحيفة، ويودون لو يبتعثونها بإشرافهم وتحت رعايتهم، وقال لي الأستاذ «حسين روحي»: إنهم كانوا يظنون أنني «أصلح» لهذه المهمة، ولكنني خيبت رجاءهم …

مولاه

فهل «سيد كامل» هذا ممن حققوا عندهم هذا الرجاء، فاختاروه لتوجيه هذه الصحيفة، ولو من بعيد؟

خطر لي هذا الخاطر لأول وهلة، ولم يفارقني حتى علمت المزيد من تاريخ «الدكتور سيد كامل»، فعلمت أنه أفضل وأصدق في الوطنية وفي الولاء لمولاه من أن يصلح لتلك المهمة من بعيد أو قريب … وقد كان مولاه الذي تولى تعليمه في فرنسا على حسابه بتوصية من صاحب المؤيد هو الخديو عباس الثاني، وهو الذي رشحه للقيام على تحرير المؤيد بعد اعتزال الشيخ علي يوسف لعمله في الصحافة … عسى أن يحتفظ بأمانة التراث الموكول إليه من ولي نعمته، ومن أستاذه الموصى عليه …

وها هو ذا وزير جديد يفتتح خطابه الأول بحديث عن المؤيد وصاحبه وأصحابه، فما هو شأن المؤيد معنا أو ما هو شأننا مع المؤيد؟

أهو «لحظ الغيب» يرانا على مقربة من تلك الصحيفة من حيث لا نراه؟ …

يحق لي — لو أردت — أن أصدق هذه الهواتف الغيبية، فإنها لم تنته عند هذه النهاية، ولم تزل تلاحقني بخبر من هنا وإشارة من هناك حتى عادت بي إلى العمل الصحفي محررًا بالمؤيد … وكان السبب المباشر لعودتي إليه قصيدة نشرها المؤيد … ونظمها شاعر من شعراء السكرتيرية بنظارة الأوقاف، وهو المرحوم عبد الحليم المصري الذي كان يتطلع إلى مكان «شوقي» في القصر الخديو، ووصل إليه ولكن بعد زوال الخديوية …

فضيحة الأدب

نظم عبد الحليم قصيدة من أحسن قصائده عن «الخصيب» أمير مصر في أيام الدولة العباسية، وقال فيها عن شاعر النيل:

وشاعر النيل دون الخلق يشربُهُ
بينا يشق الصدى منه الحشاشات

وما كان يعني في الحقيقة غير الخديو عباس وشاعره أحمد شوقي، وما كان بالقارئ من حاجة إلى البراعة لفهم هذه المواربة المكشوفة … فقد فهمها كل قراء المؤيد من الأدباء، ولم يخف مقصدها على أحد غير محرر المؤيد الأول في تلك الآونة: أحمد حافظ عوض الذي ترك منصبه في قصر عابدين؛ ليشرف على تحرير هذه الصحيفة في أدق مرحلة من مراحلها، وخاتمتها …

أولًا: لم تنشر تلك القصيدة عن الخديو وشاعره إلا في المؤيد دون غيره من الصحف اليومية والأسبوعية؟ …

فضيحة من فضائح الأدب والصحافة لم ينم لها حافظ، ولم ينم لها شوقي، ولم تنم لها نظارة الأوقاف … وأولهم ناظرها في ذلك الحين — محمد محب باشا — وقد كان متهمًا في الحاشية الخديوية بمحاباة الإنجليز …

وحضر «حافظ عوض» ذات يوم إلى ديوان الوزارة، ولقيته في مكتب الوزير، ولا أدري على التحقيق هل دعاني أحد إلى المكتب للقائه، أو ذهبت إلى المكتب بغير دعوة من أحد لسبب من أسباب العمل في مذكرات المجلسين: مجلس الإدارة، والمجلس الأعلى …

ولكنني لقيت حافظًا يبتدرني بالسؤال والسلام، ويقول لي مازحًا: ماذا تصنع هنا؟ إن مكتبك مستعد بدار المؤيد، وإن عملك الذي خلقت له أن تكتب المقالات لا أن تلخص المحاضر والمذكرات.

ثم قال: إن صفحة الأدب في المؤيد تحتاج إلى أديب يتفرغ لها، ولا ينظر في عمل من أعمال الصحيفة غير كتابتها، أو الإشراف على ما يكتب فيها …

قال: ولو أن وقتي كان يتسع للتفرغ لهذه الصفحة لما استغفلني هذا «الولد»، ودرس علينا تلك القصيدة المسمومة التي جعلتنا سخرية المجالس الأدبية.

ولم أتردد في قبول الدعوة إلى تحرير الصفحة الأدبية في شيخ الصحافة العربية، فإنني لم أكن أطمح في الرابعة والعشرين إلى عمل أهم من هذا العمل في الصحافة … فإن كانت لدي بقية من الرغبة في صناعة القلم من طريق الصحف، فلا انتظار إذن لما هو أولى بالقبول من هذه الدعوة بعد أن جاءتني بغير عناء، وبغير طلب … ولا محل للتردد إلا أن يكون عملي في نظارة الأوقاف أحب إلي وأجدى علي من العمل في الصحافة، ولم يكن عملي في النظارة مرضيًا لي في حياتي الأدبية، ولا في حياتي المعيشية، فعلام التردد؟ وفيم البقاء؟ …

العودة إلى الصحافة

وامتلأ مكتبي «الخالي» بدار المؤيد قبل أن ينقضي الأسبوع … ولم يمض أيام حتى عاودني الطالع القديم: ذلك الطالع الذي تحدثت عنه في مذكرة سابقة من هذه المذكرات … لا أدخل عملًا إلا وجدته في مرحلة من أدق مراحل تاريخه، منذ عملت في الوظائف الحكومية، إلى أن عملت في الصحافة، وإلى أن عملت في ديوان الأوقاف، إلى أن عاودت العمل في الصحافة كرة أخرى!

ولا أطيل في شرح تلك المرحلة من حياة المؤيد، فقد يغني القارئ عن شرحها أنها وافقت الشهور الأخيرة من تاريخ الخديوية المصرية قبل الحرب العالمية الأولى، وأنني لم أسلخ في المؤيد شهرًا أو شهرين حتى ماجت الدار بالحركة، التي شغلت رئيس التحرير عن الدار، وعن صفحتها الأدبية وصفحاتها الأخرى، وتركتني فيها بين دسائس القصور، ودسائس الصحيفة التي لزمتها من مخلفاتها التقليدية!

كان الخديو يعلم أن لورد كتشنر يصر على خلعه، ويرشح للخديوية أميرًا من أمراء بيت حليم، وكان يعلم أن كتشنر لن يغلبه بقوة غير قوة الخلافة في الآستانة، أو قوة الرأي العام في مصر، وفي طليعتها قوة المعارضة من قبل الجمعية التشريعية.

فأما قوة الخلافة في الآستانة، فقد احتاط لها الخديو بسفره في تلك السنة إلى الآستانة، وعدل عن زيارة المصائف الأوروبية كعادته في السنوات الخالية؛ ليبقى إلى جوار الخليفة متأهبًا لإحباط المؤامرة عليه.

الخديو يزور سعد زغلول

وأما قوة الرأي فقد احتاط لها برحلة شعبية في الوجه البحري تعمد فيها زيارة الأعيان في قصورهم، وزيارة الفلاحين بين أكواخهم، واستقبال الشعب حول سرادقات الاحتفال حيثما نزل بقرية من قراهم، غير ممنوع منها أحد من الكبار أو الصغار، ولا من الرجال أو النساء، ولج به الحرص على إبراز صداقته للمعارضين في الجمعية التشريعية، فجعل أسماءهم في الصف الأول بين أسماء الأعيان الذين تقع قراهم على خط الرحلة، ودعاهم إلى مصاحبته في غير قراهم، وأولهم سعد زغلول.

ولم يشأ الخديو أن يؤتمن على مراسلة «المؤيد» بأخبار الرحلة أحد أقل من رئيس تحريره، فأخذ حافظ عوض في ركابه، وجاءني حافظ إلى مكتبي قبل سفره يمهد للطلب الذي يريده مني: وهو تنقيح أخبار المراسلين بالصيغة الأدبية، وانتظار الرسائل منه لمراجعتها قبل إثباتها في الصحيفة بالصيغة الأخيرة. وهي الصيغة التي ستظهر بها في الكتاب الذهبي، وكرر كلامه عن الرحلة، وعن الصيغة التي ستظهر بها بعد ذلك في سجل شبيه بالسجلات الرسمية، وانصرف وهو يقول: إنه عمل أدبي خالد على أية حال، وإنه يستحق أن أؤجل من أجله صفحة الأدب إلى حين.

الكتاب الذهبي

وانهالت الرسائل كالمطر المنهمر من المراسلين، وأعيان الأقاليم، وكل من قال له الخديو كلمة أو قال كلمة للخديو، وضاق الوقت عن ملاحقتها بالقراءة والترتيب فضلًا عن التنقيح والتصحيح، ثم انطوى الكتاب قبل أن تنفتح صفحة من صفحاته، ولا يزال منطويًا إلى الآن.

مشترك من مشتركيه الموعودين ضل طريقه إلى حجرتي بدلًا من حجرة المحرر، الذي كان منوطًا بتسلم الرسائل، وتسليمها إلي بقائمة مكتوبة لإيداعها في ملفاتها إلى حين الفراغ من تدوينها، فعلمت من خلال كلام المشترك الموعود أنه أعطى المحرر المنوط بتسلم الرسائل عشرة جنيهات باسمي، وأنه حضر في ذلك اليوم ومعه شيء زهيد على سبيل الهدية: ساعة وسلسلة ذهبية … ولي بعدها هدية على «قد المقام» بعد ظهور الكتاب.

وتركت «الملفات» في أماكنها ريثما يعود رئيس التحرير من الرحلة، وعاد رئيس التحرير، فاستعفيته من العمل في الكتاب وأبلغته ما سمعت، وقلت له: إن محرري «المؤيد» أحرار فيما يأخذونه ويدعونه، ولكنهم لا يملكون أن يزجوا باسمي في معاملاتهم ومبايعاتهم، ويحق لي إذا فعلوا ذلك أن أصحح ظنون الناس، وسأترك له — أي رئيس التحرير — أن يختار طريقته لتصحيح هذه الظنون …

فتجهم رئيس التحرير وتوعد المحرر المسئول بالويل والثبور، ووعدني أن يكتب غدًا في المؤيد كلمة تزيل اللبس، وتبعد الشبهة عني في أمر الكتاب ورسائله واشتراكاته، ورجاني أن أغض النظر عن المسألة، ولا أنقطع عن العمل في الكتاب.

ويعلم أصحاب الأستاذ حافظ — رحمه الله — أنه كانت له مواطن ضعف في تحياته ومقابلاته، ومنها أنه يتشبه بالأمير في مناورات الرضا والغضب والتقريب والإقصاء، وأنه يجعل من زمرة عمله بلاطًا صغيرًا تكثر فيه مناوبات التشجيع والإعراض، ولمحات الابتسام والعبوس، وقد شهدنا في مساء ذلك اليوم تمثيلية وجيزة من هذه التمثيليات، كانت هي فصلها الأخير!

آخر عهدي بالصحافة

في مساء ذلك اليوم زارني الأستاذ المازني والأستاذ محمود سعيد الذي أصبح بعد ذلك مستشارًا في المحاكم الأهلية، ونزلنا إلى باب الدار ننتظر مركبة خالية تمر بنا لنستقلها إلى ندوتنا المعهودة عند دار القضاء «في الوقت الحاضر» … ولم نكد ننادي المركبة العابرة حتى مر بنا الأستاذ حافظ يحيينا بيمناه، ويضع يسراه في إبط المحرر «المتهم» وهو مقبل عليه بالضحك والحديث، ثم صدر المؤيد في اليوم التالي وليس فيه كلمة عن الاشتراكات ولا عن تصحيح الظنون.

وكان هذا آخر عهدي بالمؤيد، وآخر عهدي بالصحافة قبل الحرب العالمية الأولى؛ لأنها نشبت قبل نهاية الصيف!

يجوز

أغلب الظن عندي أن قصة خروجي من نظارة الأوقاف ثم من صحيفة المؤيد كانت «قضاءً وقدرًا» كما يقولون في لغة التحقيقات القانونية.

أما العارفون بتحقيقات الحواشي الملكية، فقد كان لهم رأي آخر في القصة بحذافيرها، وكان من رأيهم أن الخطة وضعت يومئذ في القصر لفصل كل موظف بالأوقاف عرفت عنه المعارضة في نظام الديوان، لا فرق بين أكبر الموظفين وأصغر الموظفين!

وكان أكبر المعارضين من الموظفين لصفقات السمسرة والاستبدال عبد الرحمن فهمي «بك» وكيل النظارة، فخرج محالًا إلى المعاش.

وكنت أنا أصغر المعارضين من الموظفين، ولا حيلة لهم في فصلي بالإحالة إلى المعاش، فليكن فصلي «بصنارة» الصحافة، ثم بمائة سبب ميسور بعد الوصول إلى البر … غير الأمين!

و«يجوز» هي كل ما أقوله في التعقيب على هذه الفكرة القريبة البعيدة، ولولا أنني استقلت من النظارة ورفضت استقالتي قبل ذلك، لرجحت التدبير بفعل فاعل من القناعة «بالقضاء والقدر» في تعبير العارفين بالحواشي الملكية!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤