الفصل العاشر

طلحة والزبير

لم يكد يستتب بهن الجلوس حتى سمعن جعجعة وصهيلًا وجلبة، فقطَّبت عائشة حاجبيها تطلعًا لما يأتيها من أخبار القادمين، وما عتم الخادم أن دخل فقالت: «ما وراءك يا غلام؟» قال: «إن ركبًا قادمين من المدينة وفيهم طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام يستأذنون.» فلما سمعت أسماء ذلك أجفلت وتحفزت للنهوض للعود إلى البيت، لتخلو أم المؤمنين بالقادمين.

فقالت عائشة: «لا أرى ما يدعو إلى دخولك البيت الآن، وإذا رأيتما ألا تحضرا مجلسنا فكونا وراء هذا العريش.»

فنهضتا إلى مقعد وراء العريش جلستا عليه. وقد سُرَّت أسماء ببقائها لعلمها أن طلحة والزبير قادمان من المدينة بعدها ولا بد من خبر جديد جاءا به، أو أنهما جاءا في أمر يهمها الاطلاع عليه لعلاقته بالإمام علي وهي تعلم أنهما بايعا عليًّا مكرهَين. فلبثت مستترة بجانب العريش وأصاخت بسمعها وهي تنظر من خلال الجريد إلى من يدخل العريش.

فأذنت عائشة لطلحة والزبير وأرخت نقابها، فدخلا وهما ما زالا بثياب السفر وقد علاهما الغبار، ومعهما رجال آخرون.

دخل أولًا طلحة بصدره العريض ولحيته البيضاء الكثيفة، وكان قصيرًا، وقد ازداد وجهه احمرارًا من طول السفر وأثر الشمس، وكانت أسماء قد رأته غير مرة في المدينة فلم تستغربه. ثم دخل الزبير وهو يمتاز عن طلحة بخفة عضله وقلة شعر لحيته. ودخل في أثرهما ابناهما. فقالوا: «السلام عليك يا أم المؤمنين.»

قالت: «وعليكم السلام يا أصحاب الرسول ونخبة المهاجرين وحماة الإسلام.» وأذنت لهم بالجلوس فجلسوا مطرقين لا ينظرون إليها إجلالًا لحرمتها. فخاطبت طلحة والزبير قائلة: «من أين أتيتما؟»

فأجابها طلحة: «جئنا من المدينة.»

قالت: «وكيف فارقتماها؟»

قال: «إنا تحملنا هربًا من غوغاء وأعراب، وفارقنا قومًا حيارى لا يعرفون حقًّا ولا ينكرون باطلًا ولا يمنعون أنفسهم.» قال ذلك وعلائم الغضب تبدو من خلال حديثه، والزبير يهم بالكلام كأنه لم يكتفِ بما قاله طلحة.

فقالت: «كيف يُقتَل عثمان وأنتم تنظرون؟!»

قال الزبير: «والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لقد دافعنا عنه بأولادنا وأنفسنا! ولكن الغوغاء غلبت علينا فلم نمنع قدرًا واقعًا.»

قالت: «ثم بايعتم وأنتم راضون!»

قالا بصوت واحد: «لم نبايع إلا والسيف على أعناقنا، وما نحن راضون بهذه المبايعة.»

قالت: «انهضوا إذن إلى هذه الغوغاء وطالبوا بدم ذلك الرجل المقتول.»

قالا: «إنما جئنا لذلك.»

فقالت: «وقد جاءنا أيضًا عبد الله بن عامر ابن خال عثمان وعامله على البصرة ولما سمع بمقتله حمل ما في بيت المال وجاء إلينا، وكذلك يعلى بن منية جاء من اليمن ومعه ستمائة بعير وستمائة ألف درهم وقد أناخ في الأبطح. وقد كانا عندي اليوم.»

•••

ولم تتم كلامها حتى جاءها غلام ينبئها بقدوم ابن عامر وابن منية فقالت: «ليدخلا.» فدخل أولًا ابن عامر وهو شاب في الثلاثين من عمره وعليه جبة حمراء، ثم دخل يعلى بن منية وهو يمشي عرجًا وقد كُسِرت فخذه في طريقه من اليمن، وكان قد سمع بمقتل عثمان فأقبل لينصره فسقط عن بعيره في الطريق فانكسرت فخذه. فجاء برجاله وماله. فلما دخل ابن عامر وابن منية سلما على طلحة والزبير، فقال طلحة لابن منية: «ما لي أراك تمشي عرجًا؟!»

قال: «كُسِرت رجلي وأنا قادم لنصرة عثمان. ولكن معي المال والرجال، قوموا بنا للأخذ بالثأر.»

فقال الزبير: «هلمَّ بنا إلى الشام.»

فاعترضه ابن عامر قائلًا: «ما لنا وللشام وفيها معاوية وهو يكفيكموها؟ ولكني أرى أن تأتوا البصرة فإن لي بها صنائع ولهم في طلحة هوى وهم ميَّالون لمبايعته.» فقالوا: «قبحك الله! إنك تريد الفتنة. ولكن دعنا من ذلك ولنسر إلى البصرة.»

فتم الرأي على أن يسيروا إلى البصرة، يدعون من بها للطلب بدم عثمان وينهضونهم كما أنهضوا أهل مكة.

•••

وكانت أسماء تسمع حديثهم من وراء العريش، فلما علمت بما تم إجماعهم عليه عظم عليها الأمر وتحققت أن الفتنة واقعة لا ريب فيها فأثر ذلك في نفسها، فاضطربت وخفق قلبها وثارت الحمية في رأسها حتى كادت تهم بالنهوض والدخول على الجمع. فأدركت العجوز اضطرابها فأمسكت بيدها فإذا هي ترتعش، فأخذت تهدئ من روعها خوفًا عليها، ولكن هذه قالت لها: «لا صبر لي على ما أسمع، وهم إنما يريدون الانتقاض على الإمام علي بعد أن رأيتهم بعيني يبايعونه ويقسمون على الطاعة!»

وما لبثت أن سمعت صوتًا ارتعدت له جوارحها، وكان صوت مروان وقد أقبل ودخل العريش. وقبل أن يلقي التحية خاطب طلحة والزبير ضاحكًا يقول: «على أيكما أسلم بالإمارة وأؤذن للصلاة؟!» يلمح إلى أن أحدهما سيكون أمير المؤمنين.

فأجابه عبد الله بن الزبير: «على أبي». فاعترضه محمد بن طلحة وقال: «بل على أبي.» فضحك مروان وقال: «بل اجعلوا الخلافة في ولد عثمان لأنكم إنما خرجتم تطالبون بدمه»، فقال طلحة: «كيف ندع شيوخ المهاجرين ونجعلها لأبنائهم؟!» فأجاب وهو يتمتم: «لا أراني أسعى إلا لإخراجها من بني عبد مناف.»

فابتدرته أم المؤمنين قائلة: «أتريد أن تفرق أمرنا يا مروان؟ ليصلِّ بالناس ابن أختي.» تعني عبد الله بن الزبير.

فلما سمعت أسماء كلام مروان لم تعد تستطيع صبرًا، ولا سيما بعد أن رأت عائشة تنتهره، فنهضت وأسرعت إلى العريش واخترقت الجمع وهي ترتجف وقد امتُقِع لونها فلما رآها الناس بُغِتوا، وكان طلحة والزبير يعرفانها. فوقفت غير هيَّابة ولا وجلة ونظرت إلى مروان وقالت: «أما كفاك يا مروان ما أيقظت من الفتنة في المدينة؟! أما كفى أنك السبب في مقتل الخليفة حتى جئت تلقي الشقاق بين بقية الصحابة؟! والله لولا حرمة أم المؤمنين لأرقت دمك بين يديها! فلا أراك براجع عن غيك حتى تفتن المسلمين وتغري بعضهم ببعض!» والتفتت إلى أم المؤمنين لترى ما يبدو منها.

فلما سمع القوم كلامها لاذوا بالصمت وهي ترتجف وتتجلد، فأجابها مروان وهو يضحك وقال: «تذكرين أني قتلت الخليفة، في حين لم يقتله إلا صاحبك محمد ربيب علي، وسوف يلقى كلٌّ منهما جزاء ما قدمت يداه.»

فقالت: «لا تنطق باسم ابن أبي بكر شقيق أم المؤمنين، ولا تلفظ اسم ابن أبي طالب أمير المؤمنين، ووالله لو أنه بيننا لتلعثم لسانك وما نجوت!»

فهمَّ مروان بأن يجيبها فأسكتته أم المؤمنين قائلة: «أتذكر أخي محمدًا يا مروان؟! اسكت. وأنت يا أسماء خففي عنك وأنت مريضة، اذهبي إلى فراشك.»

وكانت العجوز واقفة بجانبها فأمسكتها وخرجت بها من العريش وهي تكاد تقع لفرط اضطرابها، فلما خرجتا من البستان صاحت أسماء بالعجوز قائلة: «اخرجي بي من هنا، إني لا أستطيع البقاء!»

قالت: «وإلى أين يا ابنتي؟» قالت: «إلى يثرب.»

قالت: «كيف نذهب؟ وماذا نفعل إذا افتقدتك أم المؤمنين فلم تجدك؟»

قالت: «لا أدري ما العمل، ولكنني لا أستطيع البقاء هنا ولا بد لي من الذهاب إلى المدينة.» قالت: «لا أستطيع الذهاب إليها الآن.»

قالت: «اذهبي بي إلى منزل آخر غير هذا المنزل.» قالت: «أتذهبين إلى أم الفضل؟»

قالت: «هيا بنا إليها.» قالت ذلك وتناثر الدمع من عينيها غيظًا. فسارت بها العجوز إلى منزل أم الفضل، فلما دخلتا عليها رحبت بهما، وقد استغربت مجيئهما رغم مرض أسماء.

أما أسماء فلم تكد تصل إلى المنزل حتى عاودتها الحمى وأصابها الدوار، فهمَّت بالاستلقاء على المصطبة أمام البيت، ولكن أم الفضل دعتها إلى حجرتها فأبت وقالت وقد توردت وجنتاها من شدة الحمى: «خذوني إلى المدينة، احملوني إلى الإمام علي لأطلعه على ما يكيدون، إنهم تواطئوا على الطلب بدم عثمان. ولو طلبوه من قاتله لعذرناهم ولكنهم يريدون عليًّا وأنا أعلم الناس ببراءته.» قالت ذلك وبكت.

فعجبت أم الفضل لقولها، وشق عليها أمرها وخافت عليها العاقبة، وتاقت لسماع الخبر فقالت: «ما الذي حدث بعد مجيئي؟»

فقصت العجوز عليها ما جرى في العريش، فأجفلت وصاحت: «ويلاه! لقد تقدمت الفتنة، ليت عبد الله ابني هنا! إذن لحمَّلته الخبر إلى علي.» فصاحت أسماء: «دعوني أذهب بالخبر! دعوني أسر إلى الجهاد دفاعًا عن المتهم زورًا! إن عليًّا يا قوم بريء من دم عثمان فكيف يطلبونه منه؟!»

فقالت أم الفضل: «دعي هذا إليَّ، فإني مرسلة رسولًا إلى علي بكل ما وقع.» قالت ذلك ودعت خادمًا فجاءها برجل من جهينة يُدعَى ظفر، فاستأجرته على أن يحمل كتابها إلى عليٍّ بالخبر، فركب الرجل هجينه وسار، وأسماء تشيعه بنظرها وتود أن تكون على رحله.

فلندعها ولنرجع إلى المدينة لنرى ماذا جرى لمحمد.

ودع محمد أسماء عند ركوبها إلى مكة، وعاد وفي نفسه شيء أقلقه لا يدري ما هو، وكان قد خامره شيء من الخوف على أسماء أن تميل عنه إلى الحسن بن علي، ولكنه كان يحبه كثيرًا وقد رُبِّيا معًا في حجر علي. فقضى مسافة الطريق غارقًا في لجة الهواجس، ومما زاده قلقًا إرساله أسماء على هذه الصورة وقد شغلته الغيرة قبل سفرها عن تقدير الأمر حق قدره، فوقع في حيرة لا يدري ما يجيب به الحسن إذا سأله عنها، وكيف يعتذر أو ينتحل سببًا لسفرها. وشعر لساعته بوطأة الحب وشدة سلطانه، فأجال نظره في الطريق الذي سلكته أسماء وتلفت قلبه، فحدثته نفسه أن يعرج على مكان يقضي فيه نهاره قبل الذهاب إلى دار علي، مخافة أن ينم ظاهره عند لقاء الحسن عما في باطنه. ولكنه لم يجد عذرًا لتخلفه يومئذ والناس يتألبون جماعات ووحدانًا من كل صوب، ويؤمون منزل الإمام علي وهم بين آمل وخائف وناصر وناقم، وقد علم محمد أن بعض الناس قد بايع عليًّا وهم يضمرون السوء.

فقضى برهة تتقاذفه الهموم وهو يمشي فلم يشعر إلا وهو بباب علي، ورأى الناس قد تكاثفوا حوله والخيل في بستانه والجمال معقولة إلى جذوع النخل والخدم والعبيد وقوف بينها. فذكر هول ما يشغل عليًّا وبنيه في ذلك الحين من مهام الخلافة، وأحب أن يشارك الحسن في حمل بعض العبء إلى أن تنتهي الأزمة.

فدخل الدار ومشى إلى حيث تقيم أمه وقد عزم على كشف سره لها لعلها تواسيه، فدخل فرآها جالسة وحدها والهمُّ بادٍ على وجهها فهشَّت له فحياها، ورأت في وجهه انقباضًا فابتدرته قائلة: «ما لي أراك مشرَّد الذهن يا محمد؟!»

قال يغالطها: «ليس في نفسي شيء غير ما نحن فيه.»

قالت: «أخائف أنت على مصير هذه الخلافة؟»

قال: «لست بخائف، ولكنني أرى المركب خشنًا، فإن طلحة والزبير لم يبايعا إلا كرهًا والكوفيين والبصريين على رأيهما، فأخشى أن يدعوا الناس إلى نقض البيعة.»

قالت: «لا تخف فقد تم الأمر لأبي الحسن، وحوله نخبة من الصحابة يشدون أزره فإذا أحسنوا الرأي استقام له الأمر بإذن الله.»

قال: «لا تغرنك كثرتهم، وفيهم من يضمر غير ما يظهر. ليت عبد الله هنا (عبد الله بن عباس)! فإن له رأيًا سديدًا، وهو ابن عم أمير المؤمنين.»

قالت: «لعله لا يزال في مكة منذ أن ذهب بالحجيج إليها»، قال: «نعم».

قالت: «ولكن لنا في المغيرة بن شعبة خير مشير، وقد وقع إليَّ أنه دخل على أمير المؤمنين في الصباح وما يزالان مختليَين.»

فقال: «إن المغيرة يا أماه من خيرة الصحابة أصحاب الرأي والدهاء، ولا يخفى عليك أنه أحد دهاة العرب الأربعة.»

فقالت: «ومن هم الثلاثة الآخرون؟»

قال: «معاوية بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، وزياد بن أبيه.»

وما أتم محمد كلامه حتى سمع وقع أقدام عرف أنها خطوات الحسن، فبُغِت وقال: «هذا أخي الحسن، فلعله يخبرنا بما دار بين الإمام علي والمغيرة.»

قالت: «ادعه». فخرج محمد ليدعوه فإذا هو قادم فابتدره محمد بالسلام، فرد الحسن تحيته ولم يزد عليها. فخشي محمد أن يكون في نفسه شيء فقال: «أهلًا بأخي ابن أمير المؤمنين، لقد كنا في حديث الخلافة، وترانا في شوق لمعرفة ما دار بين مولاي أبي الحسن والمغيرة.»

فجلس الحسن على وسادة بالقرب من الباب، وتشاغل بإصلاح عمامته ولم ذيل ردائه وهز رأسه ولم يجب.

فازداد قلق محمد وظهر الاضطراب على وجهه فتقدم إليه وألح عليه أن يطلعه على جلية الخبر، وهو يحاذر أن يسمع منه لومًا أو عتابًا بشأن أسماء، فإذا به قد زفر زفرة وقال: «تسألني عن المغيرة؟! إن حديثه لذو شجون!»

قال محمد: «وماذا عسى أن يكون؟» قال: «إن المغيرة صاحب رأي وحزم، ولكن أبي لم يرضَ أن يعمل بما أشار به. وقد سمعت ما قال وأعجبني رأيه، ولكن أمير المؤمنين رأى غير ما رآه.»

فقال محمد وقد اطمأن من ناحية أسماء: «وما هو الرأي الذي رآه؟»

قال: «أنت تعلم أن بعض الناس بايعونا على دَخَل (يريد طلحة والزبير)، وإن أخشى ما نخشاه ليس من أهل المدينة ولا من أهل مكة، وإنما من عمال الأمصار في مصر والشام والكوفة والبصرة، وأشد هؤلاء دهاءً وأكثرهم عداوة معاوية بن أبي سفيان في الشام وهو كما تعلم ابن عم عثمان، وكذلك ابن عامر في البصرة وهو ابن خال عثمان.» قال محمد: «نعم، ولكن بماذا أشار المغيرة؟» قال: «أشار على أبي بأن يبقي عمال عثمان هؤلاء على أعمالهم ليأمن ثورتهم، ولنرَ ما يكون بعد أن يستقيم لنا الأمر. فلما أصر أبي على رأيه قال له: اعزل من شئت واترك معاوية فإن فيه جرأة وهو في أهل الشام ولك حجة في إثباته. (وكان عمر بن الخطاب قد ولاه الشام قبل عثمان.) فأقسم أبي لا يستعملن معاوية يومين، فخرج المغيرة ولم يزد حرفًا.»

فقال محمد: «أترى المغيرة مصيبًا؟»

قال: «نعم، إنه رأي الصواب، لأن سكوتنا عن معاوية ورفاقه يهدئهم حتى نرى ما تئول إليه الحال.»

فقالت أسماء أم محمد: «تمهل ريثما يأتي ابن أختي عبد الله بن عباس من مكة، فإن الإمام يقدِّر رأيه حق قدره.»

قال الحسن: «لا أظن أبي يلين فقد آنست منه إصرارًا شديدًا، فلنصبر عسى أن يحدث ابن عباس أمرًا!» قال ذلك وسكت هنيهة يفكر ثم انبسطت أسرته فجأة كأنه تذكر أمرًا سرَّه وتبسم وقال: «إن شئون الخلافة شغلتني عن أمر آخر كنت قد ذكرته لك تلميحًا، وكنت قد عزمت على ذكره لأبي اليوم فأمسكني عن ذلك اشتغاله بالمغيرة وحديثه.»

فأدرك محمد أنه يريد خطبة أسماء فكادت البغتة أن تظهر على وجهه، ولكنه تجلد وقال: «وماذا عسى أن يكون ذلك الأمر؟»

قال: «لا أظنك تجهل ما في نفسي نحو أسماء، تلك الفتاة الأموية التي نزلت ضيفة علينا.» ثم حول وجهه إلى أم محمد وقال: «إنها يا خالتي بارعة الجمال وفي وجهها مهابة يندر مثلها في النساء.»

فارتبك محمد في أمره ولم يدرِ بماذا يجيب، ولكنه تجلد وقال: «لماذا لم تبدِ رغبتك قبل سفرها؟» فبُغِت الحسن وقال: «أين سافرت؟» قال: «إلى مكة في صباح هذا اليوم.»

قال: «وكيف ذلك؟! وما الذي حملها على السفر؟! ومن سافر بها وهي وحيدة؟»

قال: «سافرت مع عجوز من قرابتي ورجل من بني الليث من أخوال أختي أم المؤمنين.»

فقطَّب الحسن وجهه وقال: «وما الذي حملها على السفر؟»

قالت: «سمعتها تذكر أنها تؤثر البعد عن المدينة في أثناء هذا الاضطراب، وطالما أرادت التعرف إلى أم المؤمنين فأظنها ذهبت لتقضي عندها بضعة أيام ثم تعود.»

فأطرق الحسن يفكر، ثم قال: «لا بأس من ذهابها الآن، وسأنتهز فرصة يخلو فيها وجه [ابن] أبي طالب فأطلب منه أن يخطبها لي، فإذا لم تكن قد عادت نبعث في استقدامها.» قال ذلك وخرج.

فبُغِت محمد وامتُقِع لونه، ولحظت أمه ذلك فيه فقالت: «لقد أهمك حديث الحسن؟» فتنهد ولم يجب.

فقالت: «ما لك لا تجيب؟» فتردد بين أن يكشف لها سره وبين أن يظل على كتمانه، ولكنه لم يعد يستطيع صبرًا فقال: «لقد أهمني الأمر أكثر مما تظنين بكثير.»

قالت: «ولماذا؟» قال: «إن الفتاة التي أشار إليها الحسن مخطوبة.» قالت: «ولمن؟»

قال: «لي». قالت: «ماذا تقول؟» قال: «هذا هو الصدق.»

قالت: «وكيف يطلبها هو لنفسه؟» قال: «لأنه لا يدري من الأمر شيئًا.»

قالت: «ولماذا لم تطلعني على هذا من قبل؟»

قال: «كنت قد عزمت على ذلك وجئت بها إليك فلم أجدك.»

قالت: «وما العمل الآن؟» قال: «لا أدري، وسأصبر.» قال ذلك وحرق أسنانه.

قالت: «أتغضب أخاك الحسن من أجلها؟» قال: «معاذ الله! فأنت تعلمين حبي له، ولكنني سأرى ما يأتي به القدر.» ثم خرج وقد أخذ القلق منه مأخذًا عظيمًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤