الفصل الخامس عشر

وقعة الجمل

قضت أسماء في الدير أيامًا تتقلب على فراش الوجع والقلق، ولا تدري إذا هي شُفِيت هل تسير إلى دمشق لمقابلة القسيس أم إلى أم المؤمنين لأداء مهمتها. وكانت تتململ لانحباسها في الدير فلم تستطع الوقوف والخروج إلى فناء الدير إلا لتتمرن على المشي.

وصعدت ذات يوم إلى سطح الدير فأطلت منه على سهل واسع رأت في آخره مما يلي البصرة معسكرًا فيه الخيام والأعلام وحوله الجمال ترعى في بعض المغارس ومعها العبيد، فعلمت أنه معسكر أم المؤمنين في ضاحية البصرة. وكان الوقت أصيلًا فجعلت تفكر فيما تنويه من مخاطبة أم المؤمنين، وما تتوقع أن تسمعه من دفاعها وتهيئ الرد عليه. وبقيت غارقة في تصوراتها حتى مالت الشمس إلى المغيب، فنظرت إليها وقد كبر جرمها وتكوَّرت ومالت إلى الاحمرار، فاشتغلت بالنظر إلى الأفق والتمتع بذلك المنظر البديع، ولم تكد تغيب الشمس حتى أحست بالبرد فدخلت تلتمس الدفء في الفراش، فباتت تلك الليلة وهي تتوقع أن تصبح ناقهة فتنظر هل تسير إلى معسكر أم المؤمنين أم إلى الشام.

فلما أصبحت شعرت بنشاط، ولكنها لم تأنس من نفسها القدرة على ركوب الجمل أو الجواد، فلم ترَ بدًّا من الاصطبار حتى يتم التئام الجرح وتتقوى، فالتمست من رئيس الدير أن يأذن لها في الخروج للرياضة في بساتين الدير، فأذن لها فخرجت وحدها إلى البستان تمشي الهوينى، فابتعدت عن الدير مسافة طويلة وهي لا تدري، فانكشف لها من الأفق قسم كان مستترًا وراء التلال، فرأت فيه خيامًا وأعلامًا وجمالًا وعبيدًا. وما كادت تتفرس في ذلك الحشد العظيم حتى علمت أنه معسكر الإمام علي فخفق قلبها، ومشت قليلًا حتى دنت من أكمة صعدت إليها وجعلت تتأمله ونفسها تحدثها بالذهاب إليه لعلها ترى محمدًا فيه أو تسمع شيئًا عنه. على أنها تشاءمت من قدوم جيش الإمام لأنه نذير الحرب.

وبينما هي هكذا إذ سمعت صوت رجل يزجر جملًا على مقربة منها، فالتفتت فإذا ببعير سائب يعدو ورجل يركض في أثره يستنجد الناس ليعينوه على القبض عليه، فلم يسع أسماء السكوت مع ضعفها فاعترضت الجمل ليرجع، وكان قد جمح ولكنه ظل مسرعًا في سبيله فركضت نحوه وتعلقت بعنقه لأنه لم يكن له رسن، فظل راكضًا وأسماء ممسكة عنقه بذراعيها كأنها تحاول الصعود إلى ظهره، ولكنها ما لبثت أن شعرت بخور قواها وأحست كأن شيئًا تمزق في مكان الجرح، واشتد بها الألم حتى لم تعد تستطيع صبرًا عليه. وكان البعير في أثناء ذلك قد قلَّل سرعته فأدركه صاحبه وأمسك بعنقه حتى أناخه، فسقطت أسماء إلى الأرض لا تعي شيئًا من شدة الألم.

وكان صاحب البعير شابًّا من عبد القيس إحدى القبائل التي أنجدت عليًّا وجاءت معه للحرب، فلما رأى أسماء ساعدته في القبض على بعيره ثم رأى ما ألمَّ بها من التعب حتى سقطت خائرة القوى، شعر بأنه السبب فيما أصابها فدنا منها وأجلسها وقد بهره جمالها وأعجبته هيئتها فكلمها فأفاقت ويدها على جنبها تتقي الألم. ولما رأت ذلك الغريب بجانبها علمت أنه صاحب البعير، أما هو فحالما نظرت إليه هابها ولم يسعه إلا الاعتذار عما أصابها بسببه.

أما هي فتجلدت وضغطت جنبها بيدها واغتنمتها فرصة لاستطلاع أمر ذلك الجند، فقالت له: «ممن أنت؟» قال: «من عبد قيس.»

قالت: «ومن هؤلاء الجند الذين أمامنا؟»

قال: «أما سمعت بما قام بين الإمام علي وأم المؤمنين؟»

قالت: «سمعت وعلمت، وهل هذا الجند هو جند الإمام علي؟»

قال: «نعم، ونحن في نجدته لاعتقادنا فضله على سائر الناس.»

قالت: «وكم عدد رجاله؟»

قال: «عشرون ألفًا بين راجل وفارس.»

قالت: «أتعلم عدد جند أم المؤمنين؟»

قال: «أظنهم ثلاثين ألفًا.»

فبُهِتت وهي تفكر في الفرق بين الجيشين، والألم يمنعها من مواصلة الكلام، على أنها تشددت وقالت: «ولمن ترى الغلبة؟»

فابتسم الشاب وقال: «لقد قُضِي الأمر أمس.»

قالت: «ماذا تعني؟» قال: «لقد تم الصلح وانصرف العداء.»

فبُغِتت أسماء ولم تصدق مقاله فقالت: «وكيف ذلك؟! اصدقني الخبر.» وشعرت مذ سمعت خبر الصلح بنشاط ساعدها على النهوض، فمشت وهي تخاطب الرجل حتى جلست على حجر تحت شجرة، وأسندت ظهرها إليها وضغطت الجرح بكفها فوق أثوابها. فأراد الرجل أن يشرح لها أصل العداء لظنه أنها خالية الذهن منه، فابتدرته قائلة: «لا تشرح القصة فإني أعلمها، ولكن أخبرني كيف تداعوا إلى الصلح.»

فعجب الرجل لعلم أسماء وود لو يعرف من هي، ولكنه أجابها عن سؤالها قائلًا: «وصل جيشنا إلى هنا أمس، فلما تقابل الجيشان خرج من جيش أم المؤمنين طلحة والزبير على فرسيهما يطلبان المبارزة، فخرج إليهما الإمام علي حتى اختلفت أعناق دوابهم ونحن ننتظر عاقبة ذلك الملتقى، لأنه سيكون قاضيًا إما علينا وإما لنا، فتجاولوا مدة ونحن ننظر إليهم لنرى ما يبدو منهم، فإذا هم وقوف يتخاطبون. وعلمنا بعد رجوع الإمام أنه لما لقيهما قال لهما: «لعمري قد أعددتما سلاحًا وخيلًا ورجالًا! إن كنتما أعددتما عند الله عذرًا فاتقيا الله ولا تكونا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثًا. ألم أكن أخاكما في دينكما تحرِّمان دمي وأحرِّم دمكما؟ فهل من حدَث أحل لكما دمي؟» فقال طلحة: «ألَّبْتَ على عثمان.» قال علي: «يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ يا طلحة، تطلب دم عثمان فلعن الله قتَلة عثمان! يا طلحة، أجئت بعِرْس رسول الله تقاتل بها وخبَّأت عِرْسك في البيت؟! أما بايعتني؟!» قال: «بايعتك والسيف على عنقي.» قال عليٌّ للزبير: «ما أخرجك؟» قال: «أنت، ولا أراك لهذا الأمر أهلًا ولا أولى به منا.» فقال له علي: «ألستُ له أهلًا؟! قد كنا نعُدُّك من بني عبد المطلب حتى بلغ ابنُك ابنُ السُّوء ففرق بيننا.» وذكَّره أشياء وقال له: «أتذكر يوم مررت مع رسول الله في بني غَنْم فنظر إليَّ فضحك وضحكتُ إليه، فقلتَ له: لا يدع ابن أبي طالب زهوَه. فقال لك رسول الله : ليس بمُزْهٍ، لتقاتلنه وأنت ظالم له؟» فقال الزبير: «اللهم نعم، ولو ذكرتُ ما سرت مسيري هذا، والله لا أقاتلك أبدًا!»

وهكذا عاد الإمام إلينا بالخبر، وتوسمنا خيرًا من ندم أولئك على عملهم. ثم علمنا أن الزبير لما رجع من ساحة المبارزة سار توًّا إلى أم المؤمنين فقال لها: «ما كنت في موطن منذ عقلتُ إلا وأنا أعرف فيه أمري غير موطني هذا!» فقالت له: «ما تريد أن تصنع؟» قال: «أريد أن أدعهم وأذهب.» فوبَّخه ابنه عبد الله وقال: «جمعتَ بين هاتين الفئتين، حتى إذا حدَّد بعضهم لبعض أردت أن تتركهم وتذهب؟! ولكنك خشيت رايات ابن أبي طالب وعلمت أنها تحملها فتية أنجاد، وأن تحتها الموت الأحمر، فخفتَ!» فاعتذر الزبير بأنه حلف ألا يقاتل عليًّا. ثم تفاوضوا بعد ذلك مع طلحة وغيره فتم الاتفاق على الصلح، وبتنا ليلتنا البارحة والقلوب هادئة وكلٌّ فرح بما حقن من دماء المسلمين.»

فلما سمعت أسماء كلام الرجل أشرق وجهها وأبرقت أسرتها ونسيت ألمها وضعفها، وقالت: «بشرك الله بالخير يا أخا عبد القيس!» وأرادت الاستفهام عن محمد ومقامه فقالت: «وهل جاء أهل الكوفة لنصرة الإمام؟»

قال: «لقد جاءوا بعد أن ترددوا كثيرًا!»

قالت: «كيف يترددون في نجدة أمير المؤمنين؟!»

قال: «ذهب إليهم أولًا محمد بن أبي بكر ومحمد بن جعفر، فلقيا أبا موسى الأشعري عامل الكوفة فكلماه ففضل القعود على المسير، فعادا بذلك إلى الإمام فأرسل الأشتر وابن عباس، فعادا ولم ينالا وطرًا. فأرسل ابنه الحسن وعمارًا بن ياسر فجاءا الكوفة، وكانت عائشة قد أرسلت رسلها تدعو الناس إلى نجدتها، وظل أبو موسى يحرض الكوفيين على القعود فلا يسيرون مع هؤلاء ولا مع هؤلاء، فجادلهم الحسن حتى أقنعهم بأن يقوموا لنصرة أمير المؤمنين فجاء منهم تسعة آلاف.»

فأدركت أسماء من حديثه أن محمدًا في معسكر الإمام علي، وكانت قد تعبت من الجلوس على الحجر فنهضت تلتمس الدير لمداواة الجرح لأنها شعرت وهي قابضة عليه أن الدم يسيل منه. فأحس الرجل بمرادها فأراد مساعدتها في المشي فأبت فرافقها حتى دنت من الدير، فودعها وعاد بجمله يطلب المعسكر.

أما هي فالتمست حجرتها فلقيها الرئيس عند الباب فسألها عن حالها فقصت عليه حديث الجمل ووقوعها، فهم بالجرح فأعاد تضميده وبشرها بألا خوف منه. فلبثت تفكر فيما سمعته وكانت كلما تمثَّل لها وقوع الصلح يكاد قلبها أن يطير فرحًا لنجاتها من مصائب كثيرة وحقن دماء الناس. على أنها وهي في وسط هذه المسرات تذكرت ما سمعته من الرئيس عن أبيها، فانقبضت نفسها مخافة أن يضيع خبره، فصممت عزمها على أن تسافر إلى دمشق حالما تستطيع الركوب لتقابل القسيس الشيخ وتعرف منه من يكون أبوها.

•••

قضت أسماء أيامًا وهي تتوقع في كل يوم أن ترى محمدًا آتيًا إلى الدير لمشاهدتها، لعلمها أن مسعودًا قد أطلعه على ما أصابها، فلا بد من مجيئه ولا سيما أنه على مقربة منها، فلما مضت أيام ولم يأتِ أيقنت أن مسعودًا لم يره بعد ذهابه من الدير. وكان الجرح قد التأم فلم ترَ بدًّا من لقاء محمد لتخبره بعزمها على المسير إلى دمشق، وتسأله دابة تركبها وخادمًا يسير في ركابها. ولكنها تذكرت الحسن وما لحظت منه يوم كانت في المدينة، فخافت ألا يرضى محمد بذهابها إلى المعسكر، فعزمت على استقدامه إليها فكتبت ورقة بذلك واستأذنت رئيس الدير في إرسال أحد خدمه بها، فجاءها ببعضهم فاختارت أحدهم وأفهمته كيف يسير وإلى من يسلم الورقة ودلَّته على الجهة التي يلقى فيها جيش الإمام علي.

فخرج وجلست هي في فراشها تنتظر رجوعه ومحمد معه، وكلما تصورت لقاءها محمدًا اختلج قلبها في صدرها وأعدت عبارات تخاطبه بها تسفر عما في نفسها. وقد أهمها من الصلح انقضاء تأجيل الزواج فأخذت تعد نفسها بالسعادة المستقبلة، ولا سيما إذا تمكنت من معرفة اسم أبيها الصحيح.

قضت ساعة وبعض الساعة في مثل هذه الهواجس، وهي كلما سمعت سعال رجل أو وقع أقدام أو جعجعة بعير أو صهيل فرس ظنت رسولها عائدًا ومعه محمد، ولم تعد تستطيع صبرًا على الانتظار فصعدت إلى سطح الدير تستطلع قدومه عن بعد. ولم تكد تخطو خطوتين فوق السطح حتى رأت رسولها راجعًا يعدو ويلتفت وراءه فاضطربت ولبثت تنتظر وصوله، فما عتم أن وصل وهو يلهث من شدة الجري فقالت: «ما وراءك؟!» قال: «خرجت من الدير إلى الجهة التي رسمتِها لي، فما وصلت إلى المكان حتى رأيت النبال تتطاير في الجو، فلما أشرفت على المعسكر رأيت الحرب محتدمة …»

فبُغِتت أسماء وقطعت كلامه قائلة: «الحرب؟! بين من ومن؟!»

قال: «سألت بعض العبيد ممن كانوا يلتقطون النبال المتساقطة خارج المعسكر، فأخبرني أن قد نشب القتال بين الإمام علي وعائشة، وكانوا قد أبرموا صلحًا فنقضوه.»

قالت: «لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم! ومن نقضه؟!»

قال: «لا أدري، ولكن العبد أخبرني أنهم باتوا على الصلح، فأصبحوا فإذا بجيش عائشة على الحرب.» فقالت: «ألم تلقَ محمدًا؟»

قال: «وكيف ألقاه وأنا لم أستطع الدنو من المعركة مخافة أن تصيبني النبال فأموت ولا يبقى من يرجع إليك بالخبر؟» فثارت الحمية في رأس أسماء ولم ترَ بدًّا من العدول عن دمشق إلى معسكر أم المؤمنين، لتكلمها في الرجوع إلى الصلح قبل أن يتفاقم الخطب.

فسألت رئيس الدير عن دابة تركبها، فقال: «إن خادمك الأول ترك هنا جملك الذي جئت عليه.»

قالت: «أين هو؟» فأمر الرئيس بإعداده للركوب، وذهبت أسماء إلى حجرتها وجعلت ثيابها على شكل مشابهٍ ثياب الرجال، وشدت وسطها بمنطقة عريضة والتفَّت بعباءة وغطَّت رأسها بكوفية، وتقلدت حسامًا كان قد أعطاها إياه محمد يوم سفرها مع مسعود. وركبت الجمل وولت وجهها نحو معسكر أم المؤمنين، وكان الوقت ضحى وهي للهفتها لم تودع الرئيس، حتى إذا بعدت عن الدير تذكرت ذلك فالتفتت إليه وأشارت بالسلام بيدها ورأسها. ولم تبعد عن الدير قليلًا حتى أطلت على المعركة، فرأت السهام تتطاير من كل جانب حتى كادت تحجب أشعة الشمس بدلًا من الغبار، لأن الجو كان قد أمطر في ذلك الصباح فتماسك التراب. ووقفت هنيهة ريثما تعرف الطريق الذي يؤدي إلى أم المؤمنين، فرأت الرجال يُهرَعون يمينًا وشمالًا وفيهم المشاة والفرسان، وسمعت النساء من وراء الجمع يحرضن الرجال على الثبات، وكان الجو صافيًا لا غبار فيه فجعلت تتفرس في الرجال عساها أن ترى محمدًا فلم تره، ولكنها أدركت أن النصر للإمام علي لأنها رأت رجاله يتقدمون والآخرين يفرون أمامهم، ويعثر بعضهم بجثث جرحاهم وقتلاهم. فأجالت بصرها لعلها ترى فسطاط عائشة لتسرع إليها وتخاطبها في الكف عن القتال، فلمحت مروان بن الحكم على فرسه يتعقب فارسًا آخر علمت أنه طلحة وقد رماه مروان بسهم في رجله فشكَّها في صفحة الفرس، ثم رأت طلحة حوَّل عنان جواده نحو البصرة وترك الجيشين يقتتلان، فعلمت أنه إنما ذهب إليها لجرح بليغ أصابه، فتأكدت فشل جند مكة. ولكنها عجبت لما فعله مروان بطلحة وهما من جند واحد، على أنها أوَّلت فعله بطمعه في الخلافة لبني أمية وعلمه بأنها إذا خرجت من يد الإمام علي فلن تكون لغير طلحة أو الزبير، فإذا قُتِل هذان فلا يبقى من يتنافس فيها [مع] بني أمية.

•••

وبينما هي تتأمل حركات الجيش وتسمع ضجيج الناس ومقارعة السيوف والرماح وصهيل الخيل، رأت في معسكر أم المؤمنين فسطاطًا كبيرًا علمت أنه فسطاطها، ولكنها لم ترَ ازدحامًا فارتابت في أمره، ثم لمحت جمعًا متكاثفًا حول هودج فوق بعير فعلمت من لون الهودج وشكله أنه هودج أم المؤمنين، فساقت جملها إليه ولكنه لم يسعفها. ثم رأت فرسًا تائهًا خارج المعركة فأسرعت إليه وركبته وسارت تلتمس الهودج، ولم تكد تصل إلى وسط المعركة حتى رأت فارسًا خارجًا منها يطلب عرض البر لا يلتفت وراءه، فعرفت أنه الزبير وتذكرت أنه أقسم ألا يحارب عليًّا فقالت في نفسها: «قد فرَّ الزعيمان ولا إخال أم المؤمنين إذا علمت ذلك إلا آمرة بالكف عن القتال.» فاخترقت المعركة لا تبالي ما يتساقط عليها من النبال أو يعترض فرسها من جثث القتلى والجرحى، ولم تدنُ من الهودج حتى سمعت أم المؤمنين تصيح بصوتها الجهوري وتنادي أحد رجالها، وقد مدت يدها من الهودج وفيها المصحف وهي تقول: «إليك يا كعب، ادع الناس إلى هذا المصحف!» فلم يكد الرجل يتناوله حتى أُصِيب بنبل فقُتِل. وكانت أسماء قد وصلت إلى الهودج فرأت الرجال حائمين حوله وعائشة تقول: «أيها الناس، العنوا قتلة عثمان وأشياعهم!»

فترجلت أسماء وأقبلت إلى الجمل فرأت الهودج قد أصبح كالقنفذ لكثرة ما غُرِس فيه من السهام المتساقطة، وأرادت التسلق على الجمل لتلقى عائشة في الهودج فاعترضها بعض الرجال، فأزاحت لثامها ونادت أم المؤمنين فعرفت صوتها فأذنت لها، فقال قائل من الوقوف: «هبي أننا أذنَّا لك بالصعود على الجمل تسلقًا فهل تستطيعين ذلك؟» فتذكرت ما أصابها من تسلق جمل الأمس، فعادت إلى فرسها واتصلت منه بالهودج وأم المؤمنين تعجب لوجودها هناك. أما أسماء فترامت على قدمَي أم المؤمنين وهي تقول والدمع ملء عينيها: «أشفقي يا أماه على أولادك! احقني دماءهم! ارحمي أبطالًا يوحدون الله! لقد كفى ما أصابهم من البلاء فمري بالكف عن القتال، إن السلام بين شفتيك وأنت أم المؤمنين وزوج رسول رب العالمين. ثم إن طلحة والزبير اللذين أضرما نار الفتنة قد فرَّا من المعركة، فانهضي وأطلي على الجندَيْن وانظري القتلى من الفريقين!»

وكانت أسماء تتكلم بخشوع وتذلل وهي جاثية عند قدمي عائشة، وكانت عائشة في إبان اضطرابها لا تملك وقتًا للنظر في الأمر والناس حول هودجها يتلقون ما يتساقط عليه من السهام، حتى قُتِل عند خطام الجمل أكثر من أربعين رجلًا. فنظرت إلى أسماء وقد أثَّر فيها كلامها مع ما توسمته من فشل جندها، وقالت: «لقد كنا على موعد للصلح، فلا ندري ما حملهم على نقضه!»

فقالت أسماء: «إنهم يقولون بأنكم الناقضون.»

قالت: «كلا، لقد بتنا مصالحين فأصبحنا وإذا هم يقاتلوننا.»

قالت أسماء: «إن في الأمر دسيسة، فلعل بعض الأعداء سعى فسادًا فأوقع الشقاق بينكم، وعلى كل حال إن الصلح قريب وتكفي كلمة منك لحقن الدماء.»

قالت أم المؤمنين: «لقد قُضِي الأمر ولم يعد الرجوع مستطاعًا، فلا تلتمسي ذلك مني.» قالت ذلك وفي لهجتها وملامحها ما يزجر أسماء عن الكلام فصمتت، وعادت عائشة إلى استنهاض القبائل حتى أصبح كل من بقي من رجالها يدافع عن جملها.

وهمَّت أسماء بالنزول من الهودج ولكنها لم تجسر تهيبًا من عائشة، ثم سمعت صوت علي يقول: «اعقروا الجمل، فإنه إن عُقِر تفرقوا.» ولم يكد يتم أمره حتى أحست أسماء بسقوط الجمل وهو يهدر من الألم، فعلمت أنهم عقروه فهمت بالخروج من الهودج، ولكنها أطلت قبل ذلك فرأت كل من حوله من الرجال تفرقوا وعليًّا يقول لرجاله: «أرسلوا من ينادي في الناس ألَّا يتَّبعوا مدبرًا ولا يجهزوا على جريح ولا يدخلوا الدور.» ثم قال: «احملوا هذا الهودج من بين القتلى»، فحملوه وهي ما زالت فيه مع أم المؤمنين وهذه غافلة عنها لعظم ما ألمَّ بها، وكانت أسماء تنظر إليها وهي متهيبة خشية أن تنتهرها وربما لا تستطيع جوابًا. ثم سمعت عليًّا يقول: «يا محمد يا ابن أبي بكر، اضرب على أختك قبة، وانظر هل وصل إليها شيء من جراحة.»

فلما سمعت ذكر محمد وما أمره به علي، لبثت تنتظر أن تراه مطلًّا من الهودج وقلبها يخفق، أما هو فلما أدخل رأسه في الهودج ورأى أسماء مع أخته ذُهِل، ولكنه تجلد ولم يكد يتكلم حتى سمع أخته تقول: «من أنت؟» قال: «أخوك».

قالت: «الحمد لله الذي عافاك!»

وأشار محمد إلى أسماء أن تخرج، فخرجت ونظرت إلى ما حولها فرأت الأرض قد خلت من الناس غير من قُتِل أو جُرِح جرحًا بليغًا فلا يستطيع المسير، وسمعت أنين الجرحى ورأت الدم جاريًا قنوات، والخيل والنوق سارحة بعضها يعرج وبعضها يهدر من الجراح، ورأت في بعض تلك الدواب سهامًا لا تزال مغروسة في رقابها أو أعجازها. وكان المنظر رهيبًا محزنًا مؤثِّرًا. وفيما هي تنظر في ذلك إذ رأت عليًّا دنا من هودج أم المؤمنين وقال: «كيف أنت يا أماه؟»

قالت: «بخير.»

قال: «يغفر الله لك!» قالت: «ولك!»

ثم أمر أخاها أن يدخل بها البصرة لتستريح.

وفيما هو يتكلم رأى أسماء واقفة فعرفها، فلما رأته ينظر إليها همَّت بيده فقبلتها وقد علتها البغتة واحمرَّت وجنتاها خجلًا، فقال: «أين كنت يا أسماء؟»

ثم سمع صوت أم المؤمنين تقول من داخل الهودج: «أكرموا هذه الفتاة، فوالله إني ما رأيت أكثر غيرة منها على الإسلام ولا أصدق لهجة في الدفاع عن الحق! وهي إنما خاطرت بحياتها وأتتني تحت النبال المتساقطة تلتمس الكف عن القتال.»

فخجلت أسماء لهذا الإطراء وأطرقت، فقال لها علي: «بُورِك فيك يا بنية! إني توسمت فيك هذا الخير منذ رأيتك للمرة الأولى. تعالي.»

ثم سار وسارت في أثره وهي مطرقة، وهو في شاغل بأمر الجرحى والأمر بدفن القتلى. ثم علم أن طلحة والزبير قُتِلا، فأخبرته أسماء بما رأته من مروان فقال: «لا تعجبي ممن كان سبب هذه الفتنة أن يفعل مثل ذلك.»

وظلوا سائرين إلى البصرة حتى دخلوها، فنزل عليٌّ في دار العامل بقرب المسجد، وتواردت الناس لمبايعته وقد سلم الأمر له وخلا له الجو.

ونزلت أسماء في تلك الدار مع بعض النسوة ممن جئن مع الإمام، وكانت عرفتهن أثناء إقامتها بالمدينة. وظلت أيامًا تحاول أن ترى محمدًا دون أن تستطيع ذلك، إذ شغله الإمام علي بأمر العناية بأخته أم المؤمنين فلم يكن يستطيع التخلي عنها، فرأت أن تسير هي إليه بحجة زيارة أم المؤمنين.

فلما التقيا سألته عما أقعده عن زيارتها مع علمه أنها كانت جريحة في الدير، فاستغرب قولها وأكد لها أنه لم يعرف عنها شيئًا، لأن مسعودًا لم يعد إليه وهو لا يعرف مقره، ثم قال: «ها قد انقضت الحرب وانتصر الإمام والحمد لله، وآن لنا السكون والاجتماع.»

فسكتت أسماء وقد أدركت أنه يشير إلى الزواج، ثم قالت: «ولكنني على أهبة السفر إلى الشام.»

قال: «ولماذا؟» قالت: «لأعرف اسم أبي.»

قال: «وكيف ذلك؟ ومن يخبرك عنه؟» فقصت عليه خبر رئيس الدير، فعجب وأصبح أكثر منها اشتياقًا لمعرفة أبيها، وارتفع مقامها في عينيه لمَّا علم أنها ابنة أحد كبار الصحابة في المدينة، فقال لها: «لا يبعد أن تكون بيننا قرابة قبل القرابة التي نسعى فيها اليوم.»

فعاودها الخجل، وغيرت مجرى الحديث فقالت: «وكيف أم المؤمنين؟»

قال: «هي في خير، وقد أمرني الإمام بإعداد ما يلزم لسفرها إلى مكة. وها إني أعد ذلك، وقد جهزت لها أربعين امرأة من نساء البصرة المعروفات ليسرن معها، فإذا سافرت …»

ولم يتم كلامه حتى رأى الناس في هرج يصيحون: «جاء أمير المؤمنين.» ثم وصل عليٌّ، وكانت عائشة قد تهيأت للسفر وأُعِد لها الهودج، وجاء الناس لوداعها فخرجت لوداعهم. فلما رأت عليًّا قالت وهي تنظر إلى الناس: «يا بني، لا يعتب بعضنا على بعض، إنه والله ما كان بيني وبين علي في القديم إلا ما يكون بين المرأة وبيت أحمائها! وإنه على مَعْتَبي لمن الأخيار.»

فقال عليٌّ: «صدقت والله، ما كان بيني وبينها إلا ذاك، وإنها زوجة نبيكم في الدنيا والآخرة.» ثم قال لمحمد: «سر يا محمد مع أختك إلى مكة.»

فلما سمعت أسماء هذا الأمر اضطرب قلبها ونظرت إلى محمد ونظر هو إليها، ففهم كل منهما ما في ذهن الآخر.

•••

وكان الحسن قد جاء مع أبيه لوداع أم المؤمنين، فرأى أسماء وقد علم بما أظهرته من الغيرة على الإسلام فازداد حبه لها وصمم على خطبتها وهو لا يعلم ما بينها وبين محمد. ثم علم أن أباه عازم على السير إلى الكوفة لأخذ البيعة كما أخذها في البصرة.

وكانت أسماء لما ودعت محمدًا عادت إلى عزمها على التوجه إلى الشام لملاقاة القسيس مرقس وسؤاله عن أبيها، وقد أصبح هذا الأمر شغلها الشاغل، فأتت عليًّا بعد سفر محمد لتودعه وتخبره بعزمها وتسأله رفيقًا ودابة فلم تستطع مقابلته لكثرة المبايعين، فصبرت حتى سار ومن معه إلى الكوفة فسارت مع السائرين.

وقضت في الكوفة أيامًا كأنها على جمر الغضا، حتى أصبحت يومًا وقد ملت الانتظار فصممت على الاستئذان في السفر، فسألت عن علي فقيل لها إنه في مجلسه وحده، فاستأذنت في الدخول عليه فأذن لها. فدخلت فإذا هو جالس في قاعة واسعة ليس فيها أحد سواه، فلما رآها هشَّ لها ورحب بها، فهمت بتقبيل يديه وهي تقول: «نحمد الله على ما أولانا من نعمة في إحقاق الحق، ونشكره على ما أولاك من النصر.»

فتنهد وقال: «كنت أود أن تنتهي الفتنة ولا يُسفَك فيها دم، ولكنها أبت أن تنام إلا على فراش من الدماء.» قال ذلك وسكت، ثم قال: «وكنت عازمًا على استقدامك إليَّ لأشكرك على سعيك في هذا الأمر، فقد سعيت فيه سعيًا حميدًا.» فأطرقت ولم تجب.

فقال لها: «ولنا فوق ذلك اقتراح نقترحه عليك عساه أن ينال موافقتك.»

فقالت: «إني أَمة إذا أمرت أطعت.»

قال: «إننا نود استبقاءك عندنا فتكونين بمنزلة ولدنا.»

فأدركت أسماء ما وراء ذلك فأجفلت، مخافة أن يتحقق ظنها لعلمها ما في نفس الحسن، ولكنها لم تستطع غير إظهار الاستحسان فقالت: «إني أحقر من أن أحظى بهذا الشرف العظيم.»

قال: «لا، بل أنت أهل لأفضل منه، ولا أخفي عليك أن ولدي الحسن راغب فيك لما آنسه من غيرتك على الإسلام ورغبتك في إعلاء كلمته، فهل ترضين به خاطبًا؟»

فلم تستطع إخفاء عواطفها بما ظهر على وجهها من الاحمرار السريع، ولكنها تجلدت وقالت وهي تشكر: «إني لا أستحق هذا الإكرام يا مولاي، لأنه فوق ما تتوقعه فتاة يتيمة غريبة مثلي، كيف لا وفيه التقرب من أعظم رجال هذه الأمة وابن عم النبي؟ ولكنني جئت إلى مولاي الإمام الآن في أمر أهمني كثيرًا، وهو يدعوني إلى سفر قريب لا أرى منه بدًّا، فجئت أستأذن أمير المؤمنين في شأنه.»

قال: «وما ذلك؟» قالت: «لا أظن مولاي أبا الحسن يجهل أمر أمي يوم قدومها المدينة، وما ظننا أننا فقدناه من السر بوفاتها.»

قال: «لا أجهله»، قالت: «ولعلك تعلم يا سيدي أن يزيد الذي كان معنا في ذلك اليوم المشئوم ليس أبي.»

قال: «ظننت ذلك به منذ رأيته، ثم سمعت أنه ليس أباك.»

قالت: «وكنت أنا أيضًا أعلم هذا فقد أخبرتني به أمي، ووعدتني أن تذكر لي أبي الصحيح عند وصولنا إلى المدينة، فقضى الله بوفاتها قبل وصولنا، وظننت أن سر أبي ذهب معها إلى القبر فأسفت وبكيت، ولكن المقادير ساقتني بالأمس إلى دير بجوار البصرة بعد جرح أصابني في أثناء سفري، فأقمت به أيامًا أعالج الجرح. وهناك رأيت راهبًا عرفته، وكنت قد رأيته في كنيسة دمشق قبل سفري، فأخبرني خبرًا أعاد إليَّ آمالي.» فقال علي: «وهل ذكر لك اسم أبيك؟» قالت: «لا، ولكنه أخبرني أن قسيس كنيسة دمشق يعرفه، لأن أمي اعترفت له به دون سواه.» ثم قصت أسماء ما أخبرها به رئيس الدير، ولم تكد تتم كلامها حتى ظهرت الدهشة على وجه الإمام لما سمع من أن والدها من كبار المسلمين في المدينة، وأن أمها جاءت المدينة للبحث عنه، فعاد يسألها: «ألم يخبرك عن اسمه؟»

قالت: «إنه لا يعرف اسمه، وهذا ما حملني على الإسراع إلى دمشق لأستطلع الخبر.» فأمر لها بجواد وخادم أمين وقال لها: «تنتظرين قافلة سائرة من الكوفة إلى الشام تذهبين معها، لأنه يعسر سلوك الطريق على شخصين منفردين.»

فشكرت، وودعته وخرجت وهي تود أن تطير إلى دمشق لمقابلة القسيس، وصممت على الإسراع ما استطاعت دون أن تنتظر قافلة ولا ركبًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤