الفصل الحادي والعشرون

عمرو يعود إلى القاهرة

مر بنا ما كان من اجتماع دعاة عثمان في مصر وعزل قيس بن سعد عنها بما دبره معاوية من الحيلة حتى أفسد ما بينه وبين علي، ثم ما كان من تولية محمد بن أبي بكر، فلما تولاها محمد بعث رجلًا من خاصته لحرب أهل خربتا القائمين بدعوة عثمان، فقتلوه وتعاظم أمرهم وفسدت مصر كلها على محمد. فبلغ ذلك عليًّا فقال: «ما لمصر إلا أحد الرجلين.» يعني قيسًا أو الأشتر، وكان قد عزل قيسًا فلم يرجع إليه، فبعث إلى الأشتر وكان قد عاد بعد صفين إلى عمله في الجزيرة، فلما جاءه أخبره خبر مصر وقال: «ليس لها غيرك فاخرج إليها، فإني لو لم أوصك اكتفيت برأيك.» فخرج الأشتر شاخصًا إلى مصر، وأتت عيون معاوية إليه بذلك فعظم الأمر عليه، وكان قد طمع في مصر لكثرة خيراتها ليستعين بها على أعماله وحروبه، وعلم أن الأشتر إن قدمها فسيكون أشد عليه من محمد بن أبي بكر.

وكان على حدود مصر يومئذٍ بلدة اسمها القلزم بالقرب من مكان السويس، يغلب أن يمر بها القادم من الشام إلى مصر، وكانت القلزم هذه في حوزة معاوية.

فبعث معاوية إلى صاحب خراجه في القلزم يخبره بمسير الأشتر إلى مصر، وقال له: «فإن كفيتنيه لم آخذ منك خراجًا ما بقيتُ وبقيتَ.»

فلما مر الأشتر بالقلزم استقبله صاحب خراج معاوية فعرض عليه النزول فنزل عنده، وأتاه بطعام فلما أكل أتاه بشربة من عسل قد جعل فيها سمًّا فلما شربها مات، فظلت مصر بإمرة ابن أبي بكر. فازداد طمع معاوية فيها وهو يرجو منها خيرًا، فاستشار ابن العاص فقال: «عليَّ بها، إني فاتحها الأول، ومن أولى بها مني؟» وجرد جيشًا كبيرًا وسار قاصدًا مصر، فلما علم محمد بحملته بعث إلى الإمام يستنجده، وعلمت أسماء بذلك فسارت إليها كما تقدم.

وكان محمد لم يرَ أسماء منذ افترقا في البصرة يوم خرج مع أخته أم المؤمنين إلى مكة، على أنه علم بما دار بينها وبين الإمام علي على أثر وقعة الجمل في شأن خطبتها للحسن، إذ أخبره الحسن نفسه بذلك وهو لا يدري أنه مناظره عليها. وقد سُرَّ محمد مما قاله الإمام علي من أن غموض نسبها يمنع الحسن من زواجه بها، كما سره تحققه من بقاء أسماء على عهده، وأخبره الحسن أيضًا أنها سارت إلى بيت المقدس لمعرفة اسم أبيها. ولكنه نظرًا إلى اشتغاله بإمارة مصر وما أحاط بها من المشكلات وما قام فيها من الثورات المتوالية، التي أضرم نارها دعاة عثمان في خربتا وغيرها؛ لم يتمكن من مكاتبتها. ولكنه كان يسأل عنها ويتحسس أخبارها، فكان تارة يعرف مقرها وطورًا لا يعرفه، وآخر ما علمه أنها كانت في مجلس الإمام علي يوم خالفه أصحابه في قبول التحكيم، وسمع ما أظهرته هناك من الحمية، فتذكر حديثها وتصورها أمامه تشير بيدها وتتكلم وتتهدد، فارتاح لتلك الذكرى واشتاقت نفسه للقياها.

على أنه عاد فتذكر ما رآه الإمام علي من حيلولة غموض نسبها دون اقتران الحسن بها، فقال في نفسه: «إذا عرفت أباها كان أمرها إشكالًا فإن الحسن لا يتخلى عنها، وإذا أرادها الحسن وطلبها له أبوه فكيف أطلبها أنا؟» فلما تخيل ذلك عظم عليه الأمر، وتمنى لو بقيت على جهلها نسبها فتكون أقرب إليه، وصورت له الغيرة أن حرمانهما معًا منها خير من أن يأخذها أحد غيره.

وما زال يردد هذه التصورات في ذهنه حتى جاءه كتاب منها بموت القسيس وضياع السر، وقد أشارت فيه إلى رغبتها في المعيشة معه بوصفها أختًا أو صديقة، فتحقق صدق مودتها وبقاءها على العهد فسُرَّ سرورًا عظيمًا، ولبث ينتظر عودتها وهو يكرر تلاوة الكتاب وقد استأنس به لأنه هاج أشجانه بعد أن طال زمن الفراق، وكان كلما تلا الكتاب تصور أسماء واقفة بين يديه تخاطبه ويخاطبها. ولكن استئناسه بوجودها لم يطل لاشتغاله بمهام الحرب، فبينما هو ذات يوم في الفسطاط عاصمة الديار المصرية في ذلك الحين إذ جاءته عيونه بخبر أهل الشام، وأنهم حاملون عليه بقيادة عمرو بن العاص.

وكان عمرو قد كاتب محمدًا يطلب إليه التسليم، فأرسل محمد الكتاب إلى علي يستنجده فكتب إليه علي أن يجمع شيعته ويندبهم للقتال ووعده بإنفاذ الجيوش لنجدته. فأخذ محمد في التأهب بمن عنده من الرجال، فجهز كنانة بن بشر في ألفين وسار هو في أثره بألفين.

أما عمرو فإنه دخل مصر من الشرقية وجعل يسرح الكتائب كتيبة بعد كتيبة وكنانة يلقى كتائبه ويفرقها، حتى كاد الفشل يحيط بجنود الشام لو لم تأتهم نجدة قوية بقيادة معاوية بن حديج فاشتد أزرهم.

أما جند مصر فلم تأتهم نجدة لتقاعد العراق عما دعاهم إليه علي، ولكنهم حاربوا حربًا شديدة دافعوا فيها دفاع الأبطال، ونزل كنانة عن فرسه وما زال يقاتل حتى قُتِل.

•••

سارت أسماء من الكوفة وكانت كلما تقدمت نحو مصر ازداد قلقها على محمد، وكانت قادمة وحدها على جوادها فاضطرها ذلك إلى المسير بجوار المدن استئناسًا بالناس ومخافة العطش، فسارت على ضفاف الفرات ثم تحولت إلى الشام حتى وصلت إلى دمشق، فسمعت هناك بمسير حملة عمرو فسألت عما حدث بعد ذلك، فعلمت أنه بعث يستنجد معاوية وأن جيش مصر غالب فسُرَّت، ولم تمكث في دمشق إلا ريثما استراحت وركبت تطوي الصحراء إلى مصر. ولما دنت من العريش وقيل لها إنها على حدود مصر، تذكرت ما قاله رئيس دير البصرة عن أمها وأنها ولدتها في مصر حيث عرفت يزيد هناك، فهاجت أحزانها ولكن تفكيرها في محمد شغلها عن كل ذلك.

ولما دخلت مصر مرت أولًا بالفرما، وهي مدينة كانت فيما يجاور بورسعيد الآن، وما كادت تصل إليها حتى أخذت تسأل عن أمر الحرب بين محمد وعمرو، فأخبروها أن ابن العاص جاءته النجدة بعد أن كاد يفشل. ولحظت من خلال حديث القوم أنهم على دعوة عمرو وأنهم ميالون إلى معاوية، فانقبضت نفسها وخرجت من الفرما لا تلوي على شيء، وبحثت عن مكان القتال فقالوا إنه في ضواحي الفسطاط فجدَّت في السير. وكانت في كل سفرها لا تنام في الليل إلا قليلًا حتى وصلت إلى بلبيس، فرأت أهلها في هرج ورأت جماعة من الناس يدخلونها وفيهم من ربط يده أو شد زنده أو عصب رأسه، فعلمت أنهم عائدون من القتال فاضطربت وسألت في ذلك فقالوا: «إن جنود الشام تكاثروا بمن انضم إليهم من أهل مصر الذين هم على دعوة عثمان وقد بايعوا معاوية وهو بعيد، وإن كنانة بن بشر قُتِل وتشتت جند مصر.» فسألت عن محمد فلم ينبئها بخبره مخبر، فاختلج قلبها في صدرها وقالت: «ومتى كان ذلك؟!» قالوا: «كانت الوقعة أول من أمس، وقد دخل عمرو الفسطاط.»

وكانت الشمس قد مالت إلى المغيب فلم تستطع صبرًا، فركبت وقصدت إلى مكان الوقعة وعيناها تحدقان فيما أمامها لا تبالي ما يهددها من الخطر.

وسدل الليل نقابه فلم تعد تستطيع النظر إلى بعيد، وخافت أن تضل الطريق ففكرت في الأمر وهي سائرة الهوينى وقد تهيأت للدفاع بسلاحها إذا اعترضها عدو، فلما لبثت أن رأت القمر قد بزغ فتلقته بالترحيب وأحست عند رؤيته بانفراج الأزمة، ولكنها رأت بعضه ناقصًا وهو قبيل ربعه الأخير، فخُيِّل إليها لفرط انشغالها بأمر الحرب أنه خارج من المعمعة وقد شطب وجهه بالسيف.

ولما طلع القمر استنارت وجَدَّت في السير تلتمس الفسطاط، وكانت لما خرجت من بلبيس ترى بعض المارة قادمين إليها أفرادًا وأزواجًا، ولكنها لم تكد تبعد عنها حتى خلت الطريق من الناس، فظنت نفسها سائرة في طريق لا تؤدي إلى الفسطاط، فوقفت وتبينت الجهات جيدًا فرأت أنها أخطأت الجهة والتفتت فلم ترَ أمامها إلا صحراء قاحلة، فرجعت يمينًا حتى أصبحت في أرض زراعية وسارت نحو الجنوب، والقمر إلى يسارها يعلو رويدًا رويدًا حتى أصبح يريها الأشباح عن بعد، ووادي النيل أرض منبسطة لا جبال فيها ولا أودية.

ومضى معظم الليل وهي جادة في سيرها حتى تعبت وجاعت وأحست بالبرد يقرسها، وهو شديد في مصر بعد منتصف الليل حتى في إبان الصيف. فترجلت ومشت لتدفأ، وقادت جوادها والجو هادئ والأرض خالية من الناس لا تسمع غير وقع حوافر جوادها وصهيله.

وبينما هي ماشية تفكر في شأنها إذ سمعت جوادها يصهل وقد أجفل، فالتفتت إلى ما أجفله فرأت شبحًا منطرحًا أرضًا وشمت رائحة منتنة، فدنت من الشبح فإذا هو جثة قتيل جائفة فخفق قلبها وعلمت أنها على مقربة من مكان الوقعة، فتجلدت وقد شعرت منذ رأت تلك الجثة بارتعاش نسبته إلى البرد، وما هو في الحقيقة إلا نتيجة ما طرق ذهنها من التصورات المرعبة عن محمد.

ومشت والجواد وراءها والروائح تتعاظم، ثم رأت جوادها أجفل ثانية إجفالًا عظيمًا من جيفة جواد وراءها جيف كثيرة تطايرت عنها الكواسر، وقد حلَّقت في الجو وصفَّقت في طيرانها تصفيقًا زاد الفرس إجفالًا، فارتبكت في أمرها. وهي تود البحث بين الجيف مخافة أن يكون محمد بينها والجواد يمنعها بإجفاله وصهيله، فعمدت إلى شجرة ربطته إليها وعادت وقلبها يخفق وركبتاها ترتعدان وعيناها تحدقان في تلك الساحة وفيها الجثث مبعثرة هنا وهناك، وبين القتلى من استلقى على ظهره وبسط ذراعيه كأنه يستقبل شيئًا يستغيث به وقد جعله البلى جلدًا على عظم وأكلت بعضه النسور، ومنهم من انبطح على بطنه وقد قبض بإحدى يديه على رمح وبالأخرى على التراب، ورأت هناك رءوسًا مدحرجة وجثثًا بلا رءوس تراكم بعضها فوق بعض.

وواصلت سيرها وهي تجر نفسها جرًّا بين تلك الجيف، وتحاذر أن تدوس على يد أو رجل أو رأس وقلبها يخفق خفقانًا شديدًا تكاد تسمعه، ولو تأتَّى لها أن تنظر إلى وجهها في مرآة لرأته أشد امتقاعًا من تلك الجثث. وتعبت من التفرس في الوجوه والثياب وأثَّرت تلك الرائحة الكريهة في رأسها مع ما كانت فيه من التعب والجوع، فأصابها دوار وخافت أن تسقط فوق القتلى فتداركت نفسها وتنحَّت إلى الشجرة التي ربطت جوادها إليها، وجلست هناك وأسندت رأسها إلى جذعها تلتمس الراحة، ولكن أفكارها ظلت تائهة ولم تبرح صورة محمد مخيلتها. ولم تكد تلقي رأسها حتى غلب عليها النعاس فأغمضت جفنيها، فتمثل لها محمد مقتولًا فارتعدت فرائصها ونهضت مذعورة. وبينما هي تنهض رأت الفرس يمد رأسه إلى الأرض فالتفتت فرأته لفظ شيئًا مضغه بين أسنانه، فسمعت له صوتًا كصوت القصبة إذا كُسِرت بين الأضراس، ثم ما لبثت أن رأت الفرس يلفظ تلك الهناة فلمحت فيها شيئًا أبيض، فتناولته فإذا هو قصبة فيها رق فتبينته فإذا هو كتابها إلى محمد ما زال في قصبته كما أرسلته إليه. فهاجت شجونها وتحققت أن محمدًا كان في الوقعة والقصبة معه فسقطت من ثيابه في أثناء القتال، وساءلت نفسها: «أين هو؟!» وكانت قد يئست من وجوده هناك، وفي ذلك اليأس فرج لأنها تحققت نجاته من تلك الوقعة، فلما وجدت كتابها خافت أن يكون محمد قد قُتِل هناك فعادت إلى الجثث تبحث فيها.

وكان القمر قد تكبد السماء وصفا الجو وظهر ما أمامها جليًّا واضحًا كأنها تنظر إليه في رابعة النهار، وكانت لا تحتاج في بحثها عن محمد إلى إمعان نظر، فلو لمحت طرف ثوبه أو بعض عمامته عن بعد لعرفته لأن صورته نصب عينيها، ولكن الأثواب والعمائم تتشابه فلا تسل عن خفقان قلبها كلما رأت شبحًا يشبهه.

•••

وما زالت على تلك الحال حتى لاح الفجر وتبينت الوجوه فدارت بين القتلى تجدد البحث، فطلع الفجر وهي تجول وتتفرس فلم ترَ أثرًا لمحمد فتحققت أنه لم يُقتَل في تلك المعركة. فلما سكن روعها أحست بالتعب والنعاس والجوع فالتفتت إلى ما حولها، فرأت بيوتًا تكاد تتوارى لبعدها فعلمت أنها منازل أهل القرى، فاتجهت إليها تلتمس طعامًا وعلفًا لجوادها فوصلت إلى أحدها وحيَّت أهله. فرأت امرأة معها صبيان عراة يحومون حولها وهي تحلب لهم لبنًا من نعجة، فلما رأى الصبيان أسماء قادمة على فرسها صاحوا بأمهم ففزعت وفزعوا جميعًا، فتركوا النعجة ودخلوا الكوخ فنادتهم أسماء وطيَّبت خاطرهم فعادوا، فقالت لهم: «عندكم علف لهذا الجواد؟» قالوا «نعم» واعتذروا من خوفهم بأنهم قاسوا أهوالًا كثيرة من المحاربين.

وأكرموا وفادة أسماء وجاءوها باللبن وللجواد بالعلف، والتمست حصيرًا تتكئ عليه فنهض صاحب الدار فأخذ الفرس وشده إلى وتد، وجاء بحصير كان قد خبأه تحت فراشه أعوامًا حرصًا عليه، فاتكأت أسماء على ذلك الحصير في ظل الكوخ ونامت نومًا عميقًا لم تُفِق منه إلا قبيل الغروب.

ولم تفتح عينيها حتى رأت رسولها الذي أنفذته بكتابها إلى محمد واقفًا عند رأسها، فصاحت فيه: «أين كنت؟! وأين هو محمد؟!»

فعض على شفته وأشار بعينيه أن تسكت مخافة أن يسمعها أحد من أهل البيت، فنهضت ونفحت أهل الكوخ بما تيسر لها وسلمت الفرس إلى الرجل ومشت إلى جانبه، وسألته عما يعلمه عن محمد ومكانه وما الذي جاء به إلى ذلك المكان.

فقال: «أبشري يا مولاتي إن محمدًا قد نجا من هذه الوقعة.»

فقالت: «وأين هو؟! وماذا تم له؟! أخبرني!»

قال: «إني فارقت محمدًا منذ جئته بكتابك، وقد آنست فيه عطفًا عليَّ لا أدري سببه، وحيثما توجه سرت في ركابه إما راجلًا أو راكبًا. ولما كانت الوقعة منذ يومين في هذا السهل وقُتِل كنانة بن بشر قائد مقدمته، تفرق رجاله حتى أصبح وحيدًا فألححت عليه أن يخرج من المعمعة خيرًا من أن يُقتَل.»

فلما وصل الرسول إلى هذا الحد امتُقِع لون أسماء وشخصت ببصرها لسماع تتمة الحديث، فقال: «وأما هو فعزم على البقاء في ساحة القتال إلى الموت، ولكني ألححت عليه في الخروج فأطاعني، فمشينا حتى انتهينا إلى خربة جنب الطريق بالقرب من هذا الجبل (وأشار إلى المقطم) فأوينا إليها وقضينا يومين بلا طعام ولا ماء، فلما رأيت ظمأ سيدي استأذنته في الخروج لآتيه ببعض الماء والطعام، فأوصاني بأن أبحث عن كتابك فقد كان معه في أثناء المعركة وفُقِد منه.»

فقالت: «أما الكتاب فقد وجدته بل وجده هذا الجواد. وأين محمد الآن؟ هلمَّ بنا إليه ومعنا الماء.»

فقال: «إنه حيث قلت لك على مسافة قصيرة من هنا.»

قالت: «احمل له الطعام والماء وهلمَّ بنا.»

قال: «أمَا من خوف علينا؟» قالت: «إن الشمس لا تلبث أن تغيب ويخيم الظلام فلا يرانا أحد، وأرى أن نبقي هذا الجواد هنا لئلا يدل علينا.» فأخذ الرجل الجواد وعاد إلى الكوخ، وبعد قليل رجع بقربة مملوءة ماء وبأرغفة وشيء من الجبن.

وسارت أسماء ورسولها وقد خيم الظلام، وكان يمشي أمامها يدلها على الطريق وهي تكاد تتعثر بأذيالها للهفتها وسرعتها، وقضت مسافة الطريق لا تتكلم لشدة اضطرابها لما تتوقعه من الانفعال عند لقيا محمد.

وقضيا ساعة سائرَيْن لا يكادان يميزان الطريق لو لم يكن جبل المقطم ظاهرًا أمامهما في الأفق، فجعلاه وجهتهما ظنًّا بأن محمدًا مختبئ بالقرب منه. وكانا يمران تارة بين خيام وآونة بأعشاش وأكواخ صغيرة، حتى وصلا إلى جانب المقطم فتقدم الرجل وسارت أسماء في أثره، ومشى هو يلتمس الطريق بين أنقاض الخرائب وهي تتبعه وقلبها يدق توقعًا للبغتة التي ستصيبها عند اللقاء بعد طول الغيبة.

وبعد هنيهة اختفى الدليل في ظلمة مدلهمة هناك، فنادته بصوت منخفض فقال: «لقد وصلنا»، فدخلت في أثره إلى بيت خرب لم يبقَ منه إلا الجدران وبعض السقف، ولم تكد تدخل حتى سمعت الرجل يقول: «أين أنت يا مولاي؟» فلم يجبه أحد، فقالت أسماء: «لعله كان هنا»، قال: «نعم، تركته في هذه الخربة.»

قالت: «فلنبحث عنه في غيرها فقد تشابهت الخرائب عليك.» وأخذا يفتشان كل الأماكن المجاورة فلم يقفا له على أثر حتى تعبا وملَّا التفتيش، فقالت أسماء: «ما قولك في غيابه؟» قال: «لا أدري، وأخشى أن يكون عمرو قد عرف مكانه فبعث من قبض عليه وهو أعزل.»

فلما سمعت ذلك رجف بدنها وقالت: «وكيف العمل الآن؟!» قال: «إني طوع أمرك»، قالت: «عد بنا إلى حيث كنا، نلبث هناك إلى الصباح ثم نسير نستأنف البحث عنه.»

وعادا حتى أتيا الكوخ وعرفاه من صوت الجواد، فإنه حالما اشتم رائحة القادمَين صهل ورفس الأرض بحافره، وباتت أسماء عند ضاحية الكوخ. وبكر الرجل في الصباح للبحث عن محمد ومكثت هي في انتظاره.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤