الفصل السادس

أسماء في دار الخليفة

أصبح يزيد بعد أن رأى اختلاء محمد بن أبي بكر بابنته يخشى أن يزداد ميلها إليه إذا جاءها مرة أخرى، فيفشل مسعاه لتزويجها مروان، وفكر في حيلة تنجيه من ذلك فاعتزم أن يبغِّضه إليها وقال لها: «أرى محمدًا من الناقمين على الخليفة، فهل تعلمين سبب نقمته؟»

قالت: «وما ذلك؟» قال: «علمت أنه كان طامعًا في ولاية مصر بدلًا من عبد الله بن أبي سرح أخي الخليفة بالرضاع، فلما لم يؤثره الخليفة على عبد الله نقم عليه. وعلمت أيضًا أنه كان قد ولَّاه مصر ووجَّهه إليها ثم رجع عن عزمه وأرجعه فعاد ناقمًا. وقد أشرت إلى ذلك من طرف خفي فلم يجب.»

فساء أسماء ظنه في محمد، وهي تشعر بعطف وميل شديدَين إليه، ولكنها سكتت.

وفكر يزيد بعد ذلك فيما يأمن به خروج أسماء إلى عليٍّ فلم يرَ خيرًا من أن يدخلها دار الخليفة، فتركها وقصد نائلة زوجة عثمان وترامى على قدميها وبكى، فلما سألته عما يبكيه قال: «يبكيني يا سيدتي ما عليه ابنتي من الحزن على فقد أمها، وأخشى إذا بقيت مقيمة وحدها أن تصاب بجنون، وكثيرًا ما أراها تهم بالخروج إلى مدفن أمها في قباء فأمنعها بالحسنى فلا تمتنع، وهي كما تعلمين فتاة صغيرة لم تخبر الدنيا.» قال ذلك وشرق بدموعه مكرًا وخداعًا.

فقالت نائلة: «وماذا ترى أن نصنع؟» قال: «أرى أن تكون عندك تحت جناحك.»

فسُرَّت نائلة لأنها قد أنست بأسماء وارتاحت لحديثها وأُعجِبت بشهامتها، فقالت: «لك عليَّ ذلك، فَأْتِ بها إلينا.»

قال: «أخاف إذا أنا حملتها على المجيء ألا تطيعني لفرط حزنها، ولأنها أصبحت تسيء الظن بي، فإذا رأيت أن تدعيها أنت كانت أطوع لك.»

قالت: «أفعل ذلك حبًّا وكرامة.» وهمت بالنهوض والمسير إليها، فابتدرها يزيد قائلًا: «وأتقدم إليك يا مولاتي برجاء ألا تأذني لها في الخروج من منزلك، لأنها قد تحتال في الخروج لغرض تدَّعيه وقصدها الذهاب إلى قباء.»

قالت: «لن ترى سبيلًا إلى الخروج.» فودعها يزيد وخرج.

أما أسماء فلما خلت إلى نفسها تذكرت مصائبها وتسلط يزيد الغادر عليها فأخذت في البكاء، وبينما هي تبكي إذ دخلت عليها نائلة فلما رأتها على تلك الحال تحققت قول أبيها فأخذت تقبِّلها وتعزيها، وقالت لها: «ما بالك تبكين يا أسماء؟! فقد بالغت في الحزن وقد عهدتك رابطة الجأش، ولا خير يُرجَى من الحزن.» وزادت أسماء بكاء حتى هاجت أشجان نائلة وذكرت حال زوجها والخطر المحدق به فبكت معها.

فلما رأتها أسماء تبكي شكرت مشاركتها لها في مصابها وشعرت بتعزية، وقالت: «ما الذي يبكيك يا سيدتي وأنت زوج أمير المؤمنين مالك رقاب المسلمين؟»

قالت نائلة: «أما شهدت بعينك ما أحاط بنا من البلاء بطيش ذلك الشاب الغر؟»

فانقبضت نفس أسماء عند الإشارة إلى مروان، وتنهدت تنهدًا عميقًا ولسان حالها يقول: «إنه سبب بلائي أنا أيضًا.» ومنعها الحياء.

فلما سكن روع نائلة قالت: «أنت يا أسماء نِعْمَ العزاء لي في هذه المحنة! فإذا كنت تحبينني فتعالي نقيم معًا في دارنا.»

فأثنت أسماء على غيرتها، وخُيِّل إليها أن حب نائلة قد يكون عونًا لها على النجاة من مروان إذا وسَّط الخليفة في تنفيذ مأربه فقالت: «إني طوع إرادتك يا سيدتي، فإن الإقامة في حماك شرف عظيم لمثلي.»

فوقفت نائلة واستنهضت أسماء فنهضت، وسارتا معًا.

قضت أسماء بقية اليوم تفكر تارة في مروان وطورًا في محمد وآونة في أمرها مع يزيد، وقد ندمت لأنها لم تذهب مع محمد إلى منزل علي، ولكنها استأنست بنائلة وارتاحت لمجالستها. وكذلك كان شأن نائلة إذ اتخذت من أسماء تسلية لها في ضيقها، لما آنسته فيها من سداد الرأي وثبات الجأش وحسن الخلق، مع نفور من مروان هما مشتركتان معًا فيه، ولولا قرابته من الخليفة لقرعت له العصا وأوقفته عند حده.

ولما أقبل المساء تناولتا العشاء والخدم والجواري وقوف بين أيديهما، والاضطراب بادٍ على وجوههم على غير المعتاد.

فلما فرغتا من الطعام وذهبتا إلى حجرة الرقاد، نادت نائلة قيِّم الدار فسألته عما لديه من الأخبار، فقال: «إن مولاي الخليفة لم يذق طعامًا في هذا المساء وهو في اضطراب وقلق شديدين، والناس حول الدار وعند الأبواب وقد حاصرونا ومنعوا الماء عنا.»

فبُغِتت نائلة وقالت: «وكيف يمنعوننا الماء قبحهم الله؟!»

قال: «لقد منعوه يا سيدتي ونحن إنما نستقي الآن مما بقي في الآنية من الأمس، ولا ندري كيف نستقي إذا ظل الحصار. وهذا ما دعا أمير المؤمنين إلى القلق.»

فضربت نائلة كفًّا بكف وقالت: «ويلاه! كيف يمنعون الماء عن أمير المؤمنين؟»

فقالت أسماء: «لا تحزني يا خالتي، إني كفيلة بالاستقاء مهما يبالغ القوم في الحصار.»

قالت نائلة: «وكيف تستطيعين ذلك؟»

قالت: «يُحمَل الماء إلى بيت جيرانكم آل حزم، ونحن ننقله سرًّا إلى هذه الدار.»

فاطمأنت نائلة لهذا الرأي، ولكنها بقيت تخشى عاقبة الحصار فصرفت القيِّم وجلست وهي تتنهد وتتأوه وأسماء تهون عليها. ولم تكد تجلس حتى سمعت جلبة ووقع أقدام في الدار، فنهضت مسرعة ولم تكد تفتح الباب حتى لقيها مروان وقد تزمل بعباءته وتقلد سلاحه كأنه على سفر، فلما رآها سلَّم وتقدم إليها فاستعاذت بالله من رؤيته وقالت: «ما الذي جاء بك يا مروان؟»

قال: «إني ذاهب في أمر ذي بال، وقد جئت لوداعك. وهل تلك الفتاة عندك؟»

قالت: «هي عندي، وما غرضك منها؟ اذهب في مهمتك.»

قال: «أريد أن أراها قبل سفري.» قال ذلك ودخل الغرفة، فلما رأته أسماء أجفلت ولكنها لبثت صامتة لا تتحرك، فقال لها وهو يضحك: «ألا تزالين على رغبتك في منازلتي يا أسماء؟»

قالت وهي جالسة لا تعبأ بقوله: «لو كنت رجلًا حرًّا لنازلتني لمَّا دعوتك للنزال.»

قال: «لو لم أكن على سفر لأدبتك وربيتك، وإن ابن أبي بكر لا يغني عنك شيئًا.»

فلما ذكر محمدًا ثارت فيها الحمية وقالت: «أراك تذكر الرجل في غيبته، فإذا حضر سكتَّ!»

فأغرب في الضحك وقال: «سوف ترين وتسمعين ما تندمين عليه حين لا ينفعك الندم، ولسوف يذوق هو مرارة الحرمان من منصب طالما طمح إليه، ونقم من أجله على أمير المؤمنين وأثار المسلمين وحرض على الفتنة.»

فهمَّت أسماء بأن تجيبه، فأشارت إليها نائلة أن تكف وقالت لمروان: «اذهب يا ولدي لعل في السفر راحة لنا ولك، إننا لم نرَ في إقامتك خيرًا.»

فضحك مروان وظنها تمزح، وأمسك بيدها حتى تواريا عن أسماء وهمس في أذنها قائلًا: «احتفظي بها فإني عائد قريبًا للزواج بها. وإنها والله لجميلة، وأراني أحبها وأغار عليها بالرغم مني، ولا أرى في بنات قريش أجمل منها ولا أكمل منها، ولكنها لا تزال صغيرة لا تعرف مقام الرجال.»

فتركته نائلة وعادت إلى الغرفة وهي تعجب لطيشه ونزقه. فلما خلت بأسماء عادت إلى بلبالها وفيما هم فيه من الحصار، فلم ترَ وسيلة لملافاة الفتنة إلا أن يتوسط عليٌّ في ذلك، ثم تذكرت ما قاله بالأمس وتحذيره زوجها من إغراء مروان فرجح عندها أنه لن ينصره، فصبرت لترى ما يأتي به الغد.

أما أسماء فسُرَّت لذهاب مروان من المدينة لعلها تتمكن في أثناء غيابه من وسيلة تصلح بها ما أفسده.

•••

قضت أسماء في دار عثمان ردحًا من الزمن كانت فيه نعم السلوى لنائلة، فالدار محاطة بالرجال ليلًا ونهارًا وقد منعوا الماء عنها، ولولا ما أشارت به من الاستسقاء عن طريق آل حزم لمات أهل الدار عطشًا.

أما نائلة فلم تعد تستطيع صبرًا على تلك الحال، فأصبحت ذات يوم بعد أن قضت ليلتها باكية لما تراكم عليها من الهموم وما آنسته من اضطراب زوجها وقلقه وخوفه، وأخذت تفكر عسى أن ترى مخرجًا فلم ترَ خيرًا من استنجاد عليٍّ، وأسرَّت ذلك إلى أسماء واستحثَّت حميتها. فاستسهلت أسماء كل صعب في سبيل إخماد الفتنة وإنقاذ عثمان من عاقبتها، فقالت لنائلة: «إني أرى رأيًا أرجو أن ينال منك قبولًا.»

قالت: «وما هو؟» قالت: «أذهب أنا إلى علي ومروان غائب وأطلعه على جلية الأمر، لعله يسعى في إخماد الفتنة وهو رجل الخير وبه صلاح هذه الأمة.»

قالت: «لقد أصبت، وإنك بذلك تقلدينني جميلًا لا أنساه.»

قالت: «سأذهب هذا المساء إلى علي، والله ولي الأمر.»

ولما كان الغروب تزمَّلت بلباس الرجال، وتقلدت الحسام تحت العباءة، وغطت رأسها بالعقال وخرجت من دار عثمان إلى بيت بني حزم، ثم خرجت من هناك تخترق الجموع وسارت تلتمس عليًّا.

وكان علي في بيته بعد صلاة المغرب، وعنده طلحة والزبير وأمراء المسلمين القادمون من الأمصار نقمة على عثمان، وكلهم يحرضون عليه الناس. ولكنها لم تجد محمدًا بن أبي بكر بينهم، وشاهدت في فناء البيت الجموع من أهل مصر والكوفة والبصرة في ضجة وغوغاء. فوقفت في جملة الواقفين ولم ينتبه لها أحد، فسمعت الأمراء يلغطون ويضجون وكلهم يقولون بقتل عثمان أو خلعه، وعلي يخفف عنهم ويؤنبهم على ما يبغون من شر ويقول: «والله يا قوم لا أرى في مقتل الخليفة إلا تعاظم الفتنة، إنكم والله ستختلفون على من يلي الخلافة بعده، فأبقوه ذلك خير لكم.»

فانشرح صدر أسماء لشهامة علي وحسن دفاعه، ولم تتمالك أن دخلت وهي في ذلك اللباس ودنت من علي فنظر إليها وقد عجب لجرأتها وهو يحسبها من بعض المتحمسين، فتفرس فيها مستفهمًا والتفت الأمراء إليها فكشفت عن وجهها، فلما رآها علي عرفها فاستغرب دخولها وأنكر كشف وجهها على تلك الصورة، ولكنه لم يسعه إلا أن رحب بها قائلًا: «أهلًا بفتاتنا ومرحبًا، ما الذي جاء بك؟»

فاستغرب الحضور ترحيبه بها وهم لا يعرفونها، ولبثوا ينتظرون ما يبدو منها. أما هي فوقفت بين أيديهم غير هيابة أو وجلة وقالت: «هل تأذنون لفتاة بكلمة في خير المسلمين، تكشف لكم القناع عن كنه ما نحن فيه وقد خبرته بنفسي؟» قال علي: «تكلمي يا بنية»، قالت: «أغلقوا هذا الباب حتى لا يسمع من هم خارج الدار.»

فأمر علي بإغلاق الباب، ودعاها إلى الجلوس فأبت إلا الوقوف بين يديه، ثم قالت: «يا معشر المهاجرين وخيرة أصحاب الرسول، إنكم — والله شاهد — إذا أردتم بأمير المؤمنين شرًّا لظالموه، وهو بريء لا يستوجب قتلًا أو خلعًا، وما أظنكم إذا قتلتموه أو خلعتموه إلا نادمين، ولا ينفع الندم.»

فأصغى الجميع وهم معجبون لتلك الجرأة من فتاة صغيرة بين يدي كبار الصحابة، ولبثوا صامتين فاستأنفت حديثها وقالت: «أما إذا شئتم إخماد الفتنة فاقلعوا أصل الشر، اقتلوا مروان بن الحكم فإنه سبب ذلك البلاء العظيم. إن الخليفة أيها الأمراء بريء مما يتقوله الناس عليه، وهو كما تعلمون من خيرة الصحابة شفوق رءوف، وقد أذعن واعتذر جهارًا على مسمع من المسلمين، ولكن ابن عمه مروان ذلك الغلام الغر هو الذي يفعل ما يفعل من عند نفسه. فلا تقتلوا البريء بالمذنب، اقتلوا مروان بن الحكم فيستقيم الأمر، أما إذا أصاب الخليفة ضيم فستُسألون أمام الديَّان العظيم. قد كفاكم أنكم منعتم عنه الماء أربعين يومًا، ولا يعلم ما يقاسيه من جراء ذلك إلا الذين يعاشرونه.»

فبُهِت الجميع لفصاحة أسماء ورباطة جأشها وجرأتها، ونظر بعضهم إلى بعض متسائلين فالتفت عليٌّ إليهم وقال: «هذا ما أراه يا أصحاب رسول الله، إن عثمان أذعن واستغفر، ولولا ابن عمه لنامت الفتنة. وأرى كلام هذه الفتاة صوتًا من أصوات أهل السماء.»

فقال طلحة: «ولكننا لم نألُ جهدًا في نصحه ليرجع عن مشورة ابن عمه، وهو يصغي إليه ويعمل بقوله. أما سمعت ما قاله مروان على مشهد من المسلمين؟»

فقال علي: «وما أدراكم أن كلامه لم يكن من عند نفسه؟ يكفينا تأنيبًا أن تقف البنات العذارى موقف الواعظين يحرضننا على العمل بسنة المسلمين! ومهما يكن من صبركم ونصحكم فإني أكثركم صبرًا عليه، ولقد نصحت له مرارًا وخرجت من مجلسه آخر مرة وقد عاهدت نفسي ألا أتوسط في أمره. ولكني لما علمت بمنع الماء عنه ركبت مغلِّسًا إلى محاصريه وهم وقوف ببابه وقلت لهم: «يا أيها الناس، إن هذا العمل لا يشبه أمر المؤمنين ولا الكافرين، وإنما الأسير عند فارس والروم يُطعَم ويُسقَى.» فلم ألقَ منهم مصغيًا.» ثم وجه كلامه إلى أسماء وقال: «والله إن كلًّا من هؤلاء الأصحاب قد دافع عن عثمان وسعى في حقن الدماء، حتى إن أم حبيبة زوج الرسول ركبت إليه بغلتها وحملت عليها وعاءً فيه ماء، وادعت أنها تريد أن تكلمه عن وصايا عنده لبني أمية أو تهلك أموال أيتامهم وأراملهم، فقالوا: «لا والله». وضربوا بغلتها فنفرت وكادت تسقط عنها، فذهب بها الناس إلى بيتها. أما أنت فبُورِك فيك يا بنية! والله إنك إنما جئت لخير.» ثم نظر إلى من حوله ونادى الحسن والحسين ابنيه فقال: «اذهبا إلى بيت أمير المؤمنين وادفعا عنه وأرجعا الناس عن بابه. وأنت يا طلحة أرسل ابنك، وأنت يا زبير أرسل ابنك أيضًا.» فنادى كلٌّ منهما ابنه. ثم قال علي: «وأين محمد؟» فقالوا: «وأي محمد تعني؟» قال: «محمد بن أبي بكر، أين هو؟» فجعلوا يتساءلون عنه فلم يعثر عليه أحد، فتأفف وهز رأسه وقال: «والله إني خائف مما في نفس محمد على الخليفة!» فعلمت أسماء أن محمدًا حاقد على الخليفة انتقامًا من مروان، فلبثت تنتظر ما يقال عنه لعلها تعرف مقره. فلما لم يعثر عليه أحد قال علي لابنيه ولسائر أبناء الصحابة: «سيروا في حراسة الله، ولا تألوا جهدًا في الدفاع عن حياة أمير المؤمنين ورد الناس عن بابه. وإذا رأيتم ابن أبي بكر فأنفذوه إليَّ، إني والله خائف مما يضمره.»

فقال طلحة: «أتظنه ينقم عليه عزله عن ولاية مصر؟»

فنظر علي إلى طلحة ولم يجب. فسار أبناء الصحابة وقد هاج الناس وماجوا، وكلهم يلتفت إلى أسماء. أما هي فسارت بين الجموع وخرجت ولم يعد يراها أحد.

•••

وعادت أسماء وهي تفكر في محمد وخافت أن تكون غيرته من مروان قد حملته على مناهضة عثمان، فأرادت أن تتحقق من نيته وهي في دار عثمان فإذا أراد سوءًا بعثمان حولته عن عزمه، لأنها أصبحت بعد سعيها في نجاة عثمان تضن بحياته كثيرًا.

وكانت نائلة قد مكثت في البيت بعد ذهاب أسماء وهي على مثل الجمر والليل قد أسدل نقابه، فجلست تنتظر عودتها وهي تضمر لها كل خير إذا جاءتها بالفرج. وبينما هي في ذلك والغوغاء قد تكاثروا على الدار خطر لها أن تذهب إلى زوجها تستطلع حاله، فخرجت ودخلت عليه في حجرته فرأت مروان خارجًا من عنده فاستعاذت بالله من رؤيته. أما هو فاعترضها قائلًا: «لا تدخلي على الخليفة إنه في شغل شاغل عنده، فارجعي إلى بيتك.» قال ذلك وهو لا يكاد يخفي اضطرابه، فأذعنت لأنه كاتب الخليفة وحامل أختامه، فرجعت وهو يتبعها حتى وصلت إلى حجرتها، فدخل معها ونظر في جوانب الغرفة فلم يرَ أسماء فقال: «وأين أسماء؟» قالت: «ستأتي عما قليل.»

قال: «هل خرجت من الدار؟» قالت: «لا، ولكنها مشغولة ولا تلبث أن تعود. فاصدقني خبر الخليفة، ما باله؟ وما الذي شغله الآن؟»

قال: «لم يشغله شيء ولكنه يصلي والقرآن بين يديه.» فصدقته وصمتت. أما هو فأعاد السؤال عن أسماء فقالت: «قلت لك إنها لا تلبث أن تجيء.» فتركها.

ولبثت هي تنتظر عودة أسماء بصبر نافد، مخافة أن يعلم مروان بخروجها فيصيبها من ذلك سوء. ولم تكد تجلس حتى سمعت ضجيجًا في صحن الدار، فأطلت فرأت جماعة داخلين وفيهم الحسن والحسين وأبناء الصحابة، فخافت أن يكون في قدومهم شر، ولكنها ما لبثت أن سمعت الحسن يكلم أهل المنزل ويهدئ من روعهم ويقول: «لا تخافوا، إننا جئنا للذبِّ عن الخليفة.» فأدركت أنهم إنما جاءوا بمسعى أسماء، وبعد هنيهة رأت أسماء قادمة وهي تخفي نفسها فاستقبلتها باسمة واستطلعتها الخبر، فطمأنتها وقالت: «إن الصحابة أرسلوا أبناءهم للدفاع عن الخليفة وإرجاع الناس عن بابه.»

فسُرَّت نائلة وهدأ روعها وشعرت بفضل أسماء عليها واعتزمت أن تسعى في إنقاذها من مروان، فاحتالت في الدخول على الخليفة فإذا هو جالس والقرآن بين يديه يقرأ أو يصلي صائمًا ولا يلتفت يمينًا ولا يسارًا، فدنت منه بخفة فانتبه لها وقال: «ما الذي جاء بك يا نائلة؟» قالت: «إنما جئت أفتقد أمير المؤمنين وأبلغه أن في الدار الحسن والحسين وجميع أبناء الصحابة، وقد جاءوا بعدتهم يدفعون الناس عن بابنا.»

فقال وهو لا يزال ينظر في صفحات القرآن: «لا حاجة بي إلى من يذب عني، ولا أريد أن يُهرَق من أجلي محجَّب من الدم.» قال ذلك وعاد إلى القراءة فعجبت نائلة لذلك، وأرادت أن تذكر أسماء لديه فلم ترَ سبيلًا إلى ذلك، فعادت إلى غرفتها وقضت تلك الليلة لم يغمض جفناها وأسماء تعزيها وتشجعها، ولولا ذلك لماتت قلقًا ورعبًا فقد كانت تسمع الغوغاء حول الدار عند بابها ولا تجرؤ أن تطل.

أما أسماء فلما علمت بعودة مروان من سفره هرولت إلى حجرتها لئلا تراه. وبات أبناء الصحابة ليلتهم وهم يهددون الواقفين عند الباب طورًا وطورًا يتوعَّدونهم. وكل أهل الدار في اضطراب وقلق إلا عثمان فإنه قضى ليلته يقرأ القرآن ويصلي.

وفي الصباح التالي استيقظت أسماء على صوت مروان في غرفتها ونائلة جالسة بجانبها، فجلست واستعاذت بالله. فقال لها مروان: «ما الذي خرج بك من هذه الدار؟» فقالت: «وما شأنك وخروجي أو دخولي؟»

قال: «كيف لا وأنت امرأتي؟!» فأجفلت أسماء وصاحت: «خسئت يا نذل! لا أعرفك ولا أريد أن أعرفك، دع عنك هذا الهذيان.»

فمدَّ مروان يده إلى جيبه وأخرج رقًّا عليه كتابة، وقال: «هذا كتاب العقد وعليه خاتم الخليفة.» فنظرت أسماء ونائلة فرأتا الخاتم فبُهِتتا، ولكن أسماء تبسمت ولم تعبأ بتهديده وقالت: «قد عرفناك قبل اليوم تزوِّر الكتب على أمير المؤمنين. إن الخليفة بريء مما تعمل وقد أخطأ إذ جعلك كاتبه، أما كفاك ما أيقظت من الفتنة بتزوير الكتب، حتى جئت تفتعل كتاب العقد أيضًا؟ إن هذا البلاء الذي نحن فيه إنما هو من تزوير ذلك الكتاب على لسان الخليفة إلى والي مصر، وكان الناس قد عادوا إلى بلادهم فأرجعتهم وأعدت الفتنة، فأرجع هذا الكتاب إلى جيبك واخرج من هذه الغرفة قبل أن أذيقك الهوان.»

قالت ذلك وهمت به وهي تخرج خنجرها من بين أثوابها وكان لا يفارق جنبها أبدًا، فهمَّت بها نائلة لتجلسها فأفلتت منها وهجمت على مروان تريد قتله ففرَّ أمامها، ثم عاد وقد جرد حسامه وهجم عليها ولكنه سمع ضجة عظيمة في صحن الدار، وصوتًا ينادي: «مروان! مروان!» فخرج مسرعًا والسيف في يده.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤