الفصل التاسع

المطالبة بدم عثمان

لم تكد أسماء تخرج من المدينة حتى أشرفت على قباء فهاجت أشجانها وتذكرت أمها، فترجلت عند المسجد فلقيها خادمه الشيخ فدعا امرأته فرحبت بأسماء ومن معها، فطلبت أسماء أن تزور قبر أمها، فزارته وبكت بكاءً مرًّا حتى كاد يُغشَى عليها لو لم ينهضها الرفاق. ولما رآها ابن أبي سلمة على تلك الحال أسرع في الترحال فشدوا الأحمال وركبوا قاصدين إلى مكة، وكان قد تأثر لما رآه من حزن أسماء فأراد أن يواسيها، فلما شارف جبل أحد وهو على أربعة أميال من المدينة غربًا أحب أن يشغلها بالحديث فقال لها: «انظري إلى هذا الجبل فإنه أُحُد الذي وقعت عنده الوقعة بين المسلمين ومشركي قريش على عهد النبي .» وقص عليها حديث الغزوة.

وقضوا في سفرهم ثلاثة أيام حتى شارفوا جبال مكة عند قرية يقال لها «سرف» على ستة أميال من مكة، فرأوا ركبًا قد وصل وفيه ناقة عرف عبيد أنها ناقة عائشة لما رأى هودجها وعليه رداء أحمر يجلله كله، فترجل وترجلت أسماء والعجوز واشتغل العبيد في عقل النوق.

وسُرَّت أسماء برجوع عائشة على عجل لعلها ترجع معها إلى المدينة فتلقى محمدًا، فقالت للعجوز: «وأين أم المؤمنين؟ ولمَ أسرعت في الرجوع من مناسكها؟» فالتفتت العجوز يمنة ويسرة حتى استقر بصرها على فسطاط كبير مبطَّن بالحرير الأحمر عند بابه بدويان واقفان، فقالت: «هذا هو فسطاطها، وقد وقف الخدم عند بابه.»

فقالت: «وهل نذهب إليها الآن؟»

قالت: «تمهلي لنرى ما يكون من ابن أبي سلمة.» ثم سارت العجوز إليه وكان يعقل ناقته ويصلح حاله قبل الدخول إلى الفسطاط، فازدادت أسماء تهيبًا من الدخول على أم المؤمنين وقالت للعجوز: «وهل تنوي الإقامة بهذا المكان؟»

قالت: «يلوح لي أنها على سفر.» ثم دنت من قائد جملها فسألته عن سفر أم المؤمنين فقال: «إنها شاخصة إلى المدينة.»

فقالت أسماء: «وما العمل الآن، هل نرجع معها أم نظل في طريقنا إلى مكة؟»

قالت: «سنرى في ذلك متى التقينا بها، فإذا أمرتنا بالرجوع معها رجعنا وإذا أرادت أن ندخل مكة دخلنا.»

قالت: «هل ننتظر رفيقنا لندخل معه أم نسبقه إليها؟»

قالت: «أرى أن ندخل فسطاطها قبله، مخافة أن تكون هي مسرعة في القيام فلا نتمكن من التكلم معها.»

قالت: «وهل تعرفينها من قبل؟»

قالت: «أعرفها جيدًا وقد عشت في بيت أبيها — رحمه الله — وكثيرًا ما حملتها على عاتقي وهي طفلة، ولهذا أحن إليها حنين الوالدة.»

قالت: «فلندخل عليها»، قالت: «هلم بنا». ومشت أمامها فتبعتها أسماء حتى دنت من الفسطاط، فاستأذنتا في الدخول فأُذِن لهما، فدخلتا وكلتاهما هائبة الوقوف بين يدَي زوج النبي.

أما أسماء فكانت على شجاعتها وثبات جأشها قد شعرت عند دخولها الفسطاط باضطراب وازداد خفقان قلبها واحمرَّت وجنتاها، ثم امتُقِع لونها رهبة من لقاء أم المؤمنين.

وكانت عائشة جالسة الأُربُعاء على وسادة من الخز في صدر الخيمة، فنظرت أسماء إليها فإذا هي ربعة ممتلئة الجسم تتلألأ الصحة والذكاء من عينيها، وفوقهما حاجبان متقاربان يشيران إلى ما أودعه الخالق فيها من الأنفة والمهابة، وقد تجلببت بجلباب من الحرير يغطي كل أثوابها فوقه نقاب يكسو رأسها فيزيدها جلالًا ووقارًا.

فاستأنست أسماء برؤيتها لشدة ما أشبهت محمدًا حتى لا يشك الناظر إليها أنها أخته، وكانت قد علمت أنها قاربت الثالثة والأربعين من عمرها، فلما رأتها خُيِّل إليها أنها دون الثلاثين لما في وجهها من إشراق وصحة وشباب.

فلما دخلتا حيَّتاها، وهمَّت العجوز بتقبيل يدها فمنعتها عائشة وقالت: «أهلًا بك يا خالة، أهلًا بك»، وأمرتها بالجلوس فجلست. وتقدمت أسماء في خَفَر واحتشام وقبَّلت يدها ووقفت متأدبة حتى أذنت لها في الجلوس، فجلست مطرقة لا تتكلم وقد ذهبت عنها جرأتها لتهيبها اللقاء.

فنظرت عائشة إلى العجوز وابتسمت كأن في نفسها أمرًا تخشاه أو كأنها مشتغلة بأمرها، وقالت: «مرحبًا بك يا خالة، ما الذي جاء بك إلينا؟ كيف فارقت محمدًا؟»

قالت: «فارقته في خير وعافية، وقد بعثني إليك بهذه الفتاة أودعها عندك لتكون في كنفك حتى يجيء.» قالت ذلك وتبسمت.

فنظرت عائشة إلى أسماء فأعجبها ما فيها من الجمال والكمال، وأدركت مما علا وجهها من ظلال الحياء عند ذكر محمد أنها تحبه، فتبسمت ورنت إلى العجوز بعينيها مشيرة إشارة أثبتت ظنها.

فقالت لأسماء: «أهلًا بالضيفة العزيزة وديعة أخي فأنت إذن أختي.»

فتوردت وجنتا أسماء خجلًا ولم تجب.

فقالت عائشة: «أظنكما جئتما لتقيما عندي بمكة؟» قالت العجوز: «نعم يا مولاتي.»

قالت: «ولكنني شاخصة الآن إلى المدينة فاذهبا إلى بيتي بمكة حتى أعود، أو تعاليا معي إلى المدينة.» ثم التفتت إلى أسماء وقالت: «وما بالك لا تتكلمين؟»

فرفعت أسماء رأسها وقالت: «تلعثم لساني بين يدَي أم المؤمنين زوج الرسول.»

فابتدرتها عائشة قائلة: «ولكنك ستكونين من ذوات قربانا بإذن الله فلا تتهيبي. أهلًا بك ومرحبًا.»

فقالت العجوز وهي تريد أن تداعب أسماء: «لتعلم مولاتي أن أسماء بنت يزيد من بني أمية، قدمت المدينة من قبل منذ بضعة أشهر فقط، وكانت مقيمة بالشام فلا تعرف عادة أهل الحجاز.»

فقالت عائشة: «مهما يكن من أمرها فلن تلبث حتى تصير حجازية.»

•••

وسكتت عائشة هنيهة وهي مقطبة الوجه، ثم استأنفت الحديث فقالت: «وهل جئتما في رفاق أم مع قافلة؟»

قالت: «جئنا مع عبيد بن أبي سلمة أحد أخوالك.»

فلما سمعت عائشة اسمه أجفلت وقالت: «وأين هو؟!» قالت: «آتٍ عما قليل.»

فلم تصبر عائشة ونادت بعض من على بابها وأمرته أن يأتي به، وأرخت النقاب ولبثت صامتة، وهما صامتتان هائبتان، حتى دخل عبيد وهمَّ بتقبيل يد عائشة فمنعته، وقالت: «أهلًا بالخال، قل ما وراءك، كيف فارقت المدينة؟»

قال: «فارقتها وقد قُتِل عثمان وبقي ثمانية.»

فلما سمعت ذلك قطبت حاجبيها وظهر الغضب على وجهها، فتفرست في عبيد والشر يكاد يتطاير من حدقتيها، وأسماء تراقبها من خلال النقاب وقد ذُهِلت لما بدا منها.

أما عائشة فلم تصبر حتى يتم حديثه، فقالت وكأنها تتحفز للنهوض: «ثم صنعوا ماذا؟»

فلم يستغرب عبيد ما بدا منها، ولعله كان يتوقعه فقال: «أجمعوا على بيعة علي.»

فهبت عائشة من مجلسها، ثم وقفت وأطرقت وقد أمسكت طرف نقابها كأنها تصلحه، ثم رفعت رأسها بغتة وأشارت بيدها إلى السماء ثم إلى الأرض وقالت: «ليت هذه انطبقت على هذه إن تم الأمر لصاحبك!» قالت ذلك وخرجت مسرعة وهي تقول: «ردوني، ردوني إلى مكة! قُتِل والله عثمان مظلومًا! والله لأطالبن بدمه!»

فبُغِتت أسماء لما رأت من اهتمام عائشة بالأمر إلى هذا الحد، وساءها ما سمعته من التعريض بعلي، ولكن التهيب منعها من الكلام.

أما عبيد فبقي رابط الجأش، وربما كان على بينة مما سيبدو من أم المؤمنين فأعد لكل خطاب جوابًا، فاستوقفها وقال لها: «ولمَ؟ والله إن أول من أمال حرفه لأنت، ولقد كنت تقولين: اقتلوا نعثلًا فقد كفر! ألم تخرجي قميص رسول الله وشعره لما علمت بأعمال عثمان وتقولي: هذا قميصه وشعره لم يبلِ وقد بلي دينه …؟!»

فلما سمعت عائشة قوله أدارت وجهها إليه وقالت: «إنهم استتابوه ثم قتلوه، وقد قلت وقولي الأخير خير من قولي الأول.» قالت ذلك وأمرت رجالها أن يهيئوا الأحمال للرجوع إلى مكة. فنظر إليها عبيد وهي خارجة وأنشد:

فمنك البداء ومنك الغير
ومنك الرياح ومنك المطر
وأنت أمرت بقتل الإمام
وقلت لنا إنه قد كفر
فنحن أطعناك في قتله
وقاتله عندنا من أمر
ولم يسقط السقف من فوقنا
ولم تنكسف شمسنا والقمر
وقد بايع الناس ذا تُدْرَإٍ
يزيل الشَّبَا ويقيم الصَّعَر
ويلبس للحرب أثوابها
وما من وفى مثل من قد غدر

فلم تعبأ عائشة بقوله، فتركها وانصرف.

أما أسماء فلبثت هي والعجوز وكأن على رأسيهما الطير لا يفقهان حديثًا، وكانت أسماء قد همت بأن تجيب عائشة ولكنها خافت غضبها، فرأت من الحكمة والتعقل أن تؤجل ذلك إلى فرصة أخرى.

فلما تهيأت الأحمال بعثت عائشة إلى العجوز وأسماء فركبتا معها، وسار الجميع قاصدين البيت الحرام، وأسماء صامتة وقد أدهشها ما رأته من تغير عائشة بغتة لأمر لم تكن تتوقعه. على أنها مالت لمعرفة الدليل على صحة قولها في مقتل عثمان وهو الأمر الذي كان يقض مضجعها، وكانت من جهة أخرى تخشى أن يثبت قتله ظلمًا فيحدث ما يدعوها إلى البعد عن محمد وهذا ما لا تطيقه، فقضت مسافة الطريق هائمة الفكر حتى أطلت على مكة وأشرفت على الكعبة، وهي في وسطها كأنها ملك والأبنية حولها جنود. ولم يمضِ قليل حتى وصل ركبهم إلى الكعبة فترجلت عائشة وترجل الجميع، وسارت توًّا إلى الحجر فاستترت فيه، وهو مصطبة محوطة بحائط إلى ما دون الصدر، منه ما تركت قريش من الكعبة واقتصرت في بنيان الكعبة عنه، ويقال إن فيه قبر سارة. فلما رأتها أسماء تدخل الحجر دخلت في أثرها والعجوز معها، ولكنهما لم يتكلما لتهيبهما من غضبها.

•••

ما كادت عائشة تدخل الحجر حتى اجتمع الناس حولها وفي مقدمتهم عبد الله بن عامر الحضرمي عامل عثمان على مكة، ورأت أسماء بينهم جماعة من بني أمية ممن غادروا المدينة بعد مقتل عثمان ولم يكن مروان معهم. ولم يكد يستقر بالناس المقام حتى وقفت فيهم عائشة وقالت وهم سكوت يصغون إليها، وكانت جَهْوَرِيَّة الصوت: «أيها الناس، إن الغوغاء من أهل الأمصار وأهل المياه وعبيد أهل المدينة، اجتمعوا على هذا الرجل المقتول ظلمًا ونقموا عليه استعمال من حدثت سنه وقد استعمل أمثالهم من كان قبله، ومواضع من الحمى حماها لهم، فتابعهم ونزع لهم عنها. فلما لم يجدوا حجة ولا عذرًا بادروا بالعدوان، فسفكوا الدم الحرام وأخذوا المال الحرام. والله لإصبع عثمان خير من طباق الأرض أمثالهم، ولو أن الذي اعتدوا به عليه كان ذنبًا لخلص منه كما يخلص الذهب من خبثه أو الثوب من درنه!»

فما أتمت كلامها حتى هاج الناس وماجوا، ثم تصدى عبد الله بن عامر الحضرمي وقال والناس يسمعون: «ها أنا ذا أول طالب.» وكان هو أول من أجاب الدعوة إلى المطالبة بدم عثمان.

وكانت أسماء تزداد حيرتها ولا تفقه لهذا الأمر سببًا معقولًا، فالتفتت إلى العجوز فرأتها صامتة مطرقة وقد امتُقِع لونها وارتجفت شفتاها. فأدركت أن في الأمر سرًّا لا تستطيع أن تبوح به.

وأذنت الشمس بالمغيب فأشارت عائشة إلى الناس أن ينصرفوا فتفرقوا، وخرجت هي إلى منزلها وأسماء في أثرها وقد هالها ما رأته في يومها من المدهشات.

وجاء القوم إلى منزل عائشة في العشاء فأُطعِمُوا، ولم تجرؤ العجوز ولا أسماء أن يجلسا معها تلك الليلة، فباتتا وأسماء تنتظر الغد لترى عائشة وتستطلعها الخبر اليقين. فلما أقبل الصباح نهضت أسماء والعجوز، وقالت أسماء: «لقد أدهشني أمر لم يبقَ لي صبر على السكوت عنه، وليس لي من يفرج كربتي سواك.»

قالت: «سلي ما تريدين؟»

قالت: «لقد سمعت من أم المؤمنين ما جهرت به في شأن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وهو كما تعلمين ابن عم الرسول وهي زوجه، فما بالها تعمل عليه وكان أولى بها أن تكون معه؟!»

ففهمت العجوز وجالت بعينيها ونهضت كأنها تقول: «لا يعنيني هذا ولا أريد البحث فيه.» وكانت ملامح وجهها تنم عن تكتمها، فتوسلت إليها وألحت عليها فقالت: «إن في الأمر سرًّا قلَّ من يعرفه سواي، ولكنني أخاف أن أبوح به.»

فازدادت أسماء شوقًا لسماع السر، وجرَّت نفسها على البساط حتى التصقت بها وقالت: «بالله عليك فرجي كربتي بكلمة، ولن أبوح بشيء مما تقولين!»

فالتفتت العجوز يمنة ويسرة تحاذر أن يسمعها أحد وأدنت شفتيها من أذن أسماء وهمَّت بالكلام، ثم أجفلت بغتة وابتعدت عنها وأصغت فإذا بوقع أقدام خفيفة ثم بقارع يقرع الباب وجارية تناديها، فنهضت وفتحت الباب فدخلت جارية حبشية حيَّتها وقالت: «إن مولاتي أم المؤمنين تدعوكما إليها.»

•••

فسُرَّت أسماء لهذه الدعوة على أمل أن تتمكن من الاطِّلاع على شيء مما ترومه، ودخلتا على عائشة فإذا هي جالسة على طنفسة من السجاد الثمين وقد خلعت الجلباب فبانت أثوابها الزاهية، وبان معصماها وعنقها، وعليها الدمالج والأساور والعقود مما زادها مهابةً وجمالًا. فلما دخلتا قبَّلتا يديها وجلستا على وسائد من الدِّمَقْس الملون بالقرب منها، فلبثت برهة لا تتكلم ثم وجهت خطابها إلى العجوز وقالت: «كيف قتلوا عثمان يا خالة؟»

قالت: «دخلوا عليه عنوة وقتلوه في داره بعد أن أحرقوا الباب والسقيفة.»

قالت: «من قتله؟ وكيف كان ذلك؟»

فسكتت العجوز برهة ثم قالت: «لا أظنني أستطيع وصف الحادثة كما تصفها أسماء فقد شهدتها بنفسها وكانت في داره ساعة مقتله.» فالتفتت عائشة إلى أسماء وقالت: «هل كنت في الدار ساعة القتل؟» قالت: «نعم يا مولاتي.»

قالت: «وكيف كان ذلك؟» فشَقَّ على أسماء أن تقص الواقعة كما جرت لأنها تمس محمدًا، ولكنها لم ترَ بدًّا من الجواب فقالت: «يطول الحديث لو أردت بسطه، ولكني أوجزه فأقول: إنهم استتابوه فتاب ثم رجع، ولقد نصح له علي بأن يصم أذنيه عن سماع مشورة كاتبه وابن عمه مروان فلم يصغِ، وعاد إلى ما كان عليه. وعلم الثائرون ذلك فطلبوا إليه أن يسلمهم مروان فيعودوا، فلما أبى دخلوا منزله عنوة وقتلوه.»

قالت: «ومن قتله؟» قالت: «اثنان لا أعرفهما ولكنهما من صعاليك العرب، وليسا من الصحابة ولا من أبنائهم.»

فتأوهت عائشة وحرقت أسنانها وقالت: «كيف يقوى الصعاليك على قتل الخليفة وكبار الصحابة ينظرون ولا يدفعون عنه بسيف أو لسان؟!»

فقالت أسماء: «إنهم دافعوا عنه جهدهم، إن عليًّا أرسل ابنيه الحسن والحسين إلى الدار، وكذلك فعل الصحابة. رأيتهم هناك يدفعون الناس عن بابه حتى تلطخ وجه الحسن بالدم. ولكن عثمان — رحمه الله — منعهم.»

فتبسمت عائشة ابتسامًا إنكاريًّا، وقالت: «أتصدقين أن عليًّا أراد أن يدفع الناس عن عثمان فلم يستطع؟!» وسكتت كأنها ضاقت ذرعًا بالخوص في تفاصيل الموضوع، وكادت تهم باستئناف الحديث فابتدرتها قائلة: «اسمحي لي يا مولاتي أن أؤدي شهادة لا أستحي أن أصرح بها أمام الديَّان العظيم: إن عليًّا بريء من دم عثمان، بل هو أول ناقم على هذه الفتنة ويراها مضعضعة الإسلام لا سمح الله!»

قالت: «أراك يا بنية تنظرين إلى ظواهر الأمور دون بواطنها، أيُعقَل أن عليًّا وهو صاحب الكلمة التي لا تُرَد في أهل المدينة قصد إلى الدفاع عن عثمان وأنه غُلِب على أمره؟!»

قالت: «عرفت يقينًا أنه أول غاضب على القائمين بهذه الفتنة، ولقد سمعته اتفاقًا ذات ليلة وهو يناجي رسول الله عند قبره، يشكو إليه ما أصاب أمته من التشتت بعده، فسمعت كلامًا يتفتت له الصخر يتخلله البكاء حزنًا على الإسلام. إن عليًّا يا مولاتي مخلص في قوله وفعله ولا لوم عليه، ولعلك إن وجهت اللوم إلى القاتلين أو المحرضين وجدت القول ذا سعة، وأما إلى علي فلا.» قالت ذلك وهي ما زالت تتهيب موقفها بين يدي أم المؤمنين، فما أتمت كلامها حتى تصبب العرق من جبينها. فتحركت عائشة في مجلسها وقالت وقد أخذ منها الغضب مأخذًا عظيمًا: «إن أولئك القتلة قد اقترفوا إثمًا عظيمًا وأكثرهم لا يشعرون، وإنما حرضهم على هذا المنكر شيوخهم ورؤساؤهم، فإنك تجهلين أمورًا أعلمها ولا أجهل شيئًا تعلمينه!» وسكتت برهة وأسماء مطرقة وقد تحيرت كيف تجيب. فاستأنفت عائشة الحديث وقالت: «لقد وقع إليَّ أن أخي محمدًا كان في عداد المغرورين»، ثم خفضت صوتها وقالت وهي تلقي يدها على الوسادة لتتكئ عليها: «ولكنه غير ملوم.»

فلما سمعت أسماء ذلك ثارت ثائرة حبها محمدًا وهمت بأن تدرأ عنه التهمة، وخشيت أن يؤدي بها الدفاع إلى الكذب فلبثت صامتة، ونظرت إلى العجوز فرأتها ترتعش خوفًا ورهبة. وظل الجميع برهة لا تفوه إحداهن بكلمة حتى عادت عائشة إلى الكلام، فنظرت إلى أسماء وقالت وهي تحاول إخفاء غضبها: «لا أنكر أن عثمان أخطأ في تصريفه أمور الخلافة، ولكنه خطأ لا يدعو إلى القتل.»

فأحبت أسماء أن تسمع رأي عائشة فيما ارتكبه عثمان من الخطأ فقالت: «هذا ما سمعته من أخيك محمد، ولكنه يرى أن خطأه أعظم من أن يُغتفَر.»

قالت وقد عاودها غضبها: «إن محمدًا لا يعرف ما أعرفه، ولو جاءني الآن لجادلته وأقنعته بضلاله!» ولم تكد تتم كلامها حتى دخلت إحدى الجواري تقول: «إن بعض الأمراء بالباب.» فلما سمعت أسماء ذلك نظرت إلى عائشة فرأتها توقفت عن صرف الجارية، فأدركت أنها راغبة في مقابلة القادمين فنهضت واستأذنت في الانصراف إلى حجرتها فأذنت لها، فخرجت والعجوز في أثرها وكلتاهما صامتة تفكر فيما سمعته.

•••

وأحست أسماء عقب خروجها بقشعريرة شديدة، فأوت إلى الفراش والبرداء تعمل في أحشائها، فتبعتها العجوز وجلست إلى جانبها وجست يدها فإذا هي باردة كالثلج، فدثَّرتها وأكثرت في غطائها وهي تنتفض بردًا. فقلقت العجوز وسألتها عما بها فقالت: «أحس بارتخاء في أعضائي ورعدة في أحشائي.» قالت ذلك وأسنانها تصطك، فأرادت العجوز أن تخفف عنها فقالت لها: «لا بأس عليك، إن ما أُصِبت به من أثر التعب الذي قاسيناه في الطريق.»

وظلت العجوز تخفف عنها حتى خفت البرداء واحمرَّ وجهها احمرارًا شديدًا، فجستها العجوز فإذا هي محمومة فخففت من دثارها وخرجت تستشير أهل الدار في علاجها، فأشارت عليها بعض النساء بعسل تشربه ممزوجًا بالماء، فجاءتها بقدح من مزيجه فلم تتناول منه شيئًا. فتقدمت إليها وقبَّلتها وتوسلت إليها أن تشرب العسل فلم تجبها، ثم ما لبثت أن رأت دموعها تهمي وهي تحاول إمساكها، فألحت عليها أن تشرب فازدادت أسماء بكاءً وشهيقًا وقد احمرَّت عيناها وذبلت أجفانها، واشتدت عليها الحمى اشتدادًا عظيمًا.

فحارت العجوز في أمرها وحدثتها نفسها أن تنبئ أم المؤمنين بما حدث فتذكرت اشتغالها بمن قدم إليها من الأمراء، فلبثت بجانب الفراش تنظر إلى أسماء ولا تتكلم.

ثم سكتت أسماء وأغمضت عينيها كأن النعاس غلب عليها ففرحت العجوز لنومها، فتركتها وخرجت لعلها تلقى من تستشيره في علاجها، ولم تكد تخرج حتى سمعت أسماء تتكلم فظنتها تدعوها فأسرعت إليها، فإذا هي تهذي وقد انكشف الغطاء عنها وانحسر درعها وقميصها عن صدرها وانكمشت أكمامها لفرط تقلبها. فهمَّت العجوز بأن تغطيها وتصلح أثوابها فخافت أن توقظها، فدنت من الفراش لترفع الغطاء إلى صدرها فرأت الحجاب في عنقها ورسم الصليب على معصمها، فبُغِتت وتأملت في وجهها فراعها أن رأت لمحة من غير ملامح العرب الغرباء، وتفرست في رسم معصمها فإذا هو رسم الصليب وتحققت أن الحجاب من أحجبة النصارى فاستغربت الأمر، ثم تذكرت أن أسماء قلَّما كانت تبالي التحجب في حديثها مع محمد أو غيره، فقالت في نفسها: «لعلها كانت نصرانية ورُبِّيَت بين النصارى في الشام.»

وكانت أسماء ساكنة استغرقت في النوم وقد أطبق جفناها وتورَّدت وجنتاها وأسرع تنفسها من الحمى، فكانت تلهث وفمها مفتوح فأزاحت العجوز الغطاء إلى صدرها خوف البرد، فسمعتها تهذي فأصغت لهذيانها فإذا هي تقول: «أماه! يا أماه! يا مريم! آه يا علي يا أبا الحسن، كيف ضاع السر؟! تعالَ يا حبيبي يا محمد! لا، لا، إذا كنت قد قتلت عثمان فابعد عني! لا، لا، بل تعالَ يا منيتي ورجائي! إن اسمك كان آخر ما نطقت به أمي! آه يا أماه! من هو أبي؟! أخبريني، قولي، أحيٌّ هو أم سبقك إلى العالم الآخر؟!» ثم خفضت صوتها وتلجلج لسانها فلم تعد تفهم العجوز شيئًا منه، ثم سكتت سكوتًا تامًّا واستغرقت في النوم، فجلست العجوز بالقرب من الفراش وهي تهم بأن تجسها لتتحقق الحمى، وخافت أن توقظها فعاذت بالصمت تفكر فيما سمعت منها وتعجب لجهلها أباها.

وفيما هي في ذلك إذ جاءتها جارية تسعى وتقول: «إن أم الفضل جاءتك زائرة.»

فلما سمعت اسم أم الفضل تحفزت لملاقاتها وقد سُرَّت بقدومها، وبعد هنيهة أقبلت أم الفضل تمشي لا يُسمَع لمشيها صوت، وكانت في نحو الستين من عمرها. فهمَّت العجوز بها وحيتها وقبَّلتها ودخلت بها إلى حجرة أسماء ودعتها للجلوس على البساط.

فقالت أم الفضل وهي لم تنظر أسماء بعد: «إني أشم في هذه الحجرة رائحة الحمى»، والتفتت إلى الفراش وقالت: «من هو المريض عندك؟»

قالت: «لقد جئتني في ساعة حرجة فعسى أن تخففي عني.»

قالت: «إنما جئت لأسألك عن قتل الخليفة — رحمه الله — وما آل إليه الأمر بعده، فقد أهمني أمره كثيرًا، وسمعت بقدومك فأسرعت إليك، فأخبريني أولًا من هذا المريض عندك؟»

قالت: «هي فتاة جئت بها من المدينة بإيعاز من ابن أختك محمد بن أبي بكر، لتقيم بضعة أيام عند أم المؤمنين حتى نرى ما يكون.»

قالت: «وما شأن ابن أختي وشأنها؟»

فالتفتت العجوز إلى فراش أسماء حذر أن تستيقظ فتسمعها، ودنت من أم الفضل وهمست في أذنها فقالت: «إنه ينوي أن يعقد قرانه بها.»

وأرادت أم الفضل أن تسأل العجوز عن تفصيل مقتل عثمان، فإذا بأسماء تتأوه وأدارت رأسها نحوها وفتحت عينيها، فنهضت العجوز وجست يدها فإذا هي مبللة بالعرق وقد خفت الحمى قليلًا فقالت لها: «كيف أنت الآن يا بنيتي؟»

فأشارت برأسها وعينيها أنها في راحة، ثم رأت أم الفضل فاستحيت منها وهمت بالجلوس، فنهضت أم الفضل إليها ودنت منها وهي تقول: «لا تزعجي نفسك يا ابنتي.»

فتوسطتهما العجوز وقالت: «أظنك تستأنسين بلقاء أم الفضل لبابة خالة محمد بن أبي بكر أخت أمه، وأزيدك علمًا بأنها أول من أسلم بعد خديجة، وهي أيضًا زوج العباس عم النبي، وأخت ميمونة زوج النبي. ومن ولدها عبد الله بن العباس من خاصة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، بل هو ابن عمه وابن عم الرسول، وأظنك رأيته غير مرة في مجلس علي، أو لعلك رأيته في دار عثمان فقد كان يتردد إليه وهو محاصَر حتى انتدبه ليحج بالناس.» فلما سمعت أسماء أن أم الفضل خالة محمد استأنست بها، ولما علمت أنها زوج عم النبي وأم عبد الله بن العباس زاد احترامها لها، فجلست وهي تمسح العرق عن جبينها ورحبت بها، فأسرعت أم الفضل وقبَّلتها وقالت: «أهلًا وسهلًا بك، كيف فارقت محمدًا؟»

فتعجبت أسماء لسؤالها عن محمد وهي لا تحسبها تعرف علاقتها به، فلما رأت العجوز استغرابها ضحكت وقالت: «لا تستغربي يا أسماء، فإنها عالمة بكل شيء ولا يلبث المسك أن يضوع.»

فأطرقت أسماء خجلًا ولم تجب.

فجلست أم الفضل إلى جانب العجوز بالقرب من الفراش وقالت لها بصوت منخفض كأنها تحاذر أن يسمعها أحد: «هل اجتمعت بأم المؤمنين؟ وكيف وجدتها؟»

قالت: «وجدتها ناقمة على قتلة عثمان، ولا أدري ما هي عازمة عليه.»

قالت: «علمت أنها يوم وصولها إلى مكة دعت الناس إلى المطالبة بدم عثمان، وكان أول من أجابها منهم عامل هذه المدينة.»

قالت: «نعم، وقد سمعت كلامها وكلامه ومعي أسماء، ولكنني لا أظنها تقرن القول بالفعل.»

فابتسمت أم الفضل استغرابًا وقالت: «وما الذي حملك على هذا الظن؟!» والتفتت إلى أسماء فرأتها تلتحف وقد أحست بقشعريرة على أثر جلوسها، فأدنت أم الفضل فمها من أذن العجوز وخفضت صوتها وقالت: «هل تجهلين ما في نفسها على أمير المؤمنين؟»

فعضت العجوز شفتها وأشارت بعينيها كأنها لا تريد الخوض في هذا الأمر أمام أسماء، وقالت: «إذن تظنينها مقدمة على الأمر؟»

فتطاولت أم الفضل بعنقها نحو الباب حتى أطلت على الدار مخافة أن يسمعها أحد وقالت: «لا بد لها من ذلك فإن أهل مكة يد واحدة في هذا الأمر، وفيهم بنو أمية الذين هربوا من المدينة. وقد وقع إليَّ أن الزبير وطلحة قادمان أيضًا وكلٌّ منهما يريد الخلافة. وقد سار قوم لاستنصار أهل البصرة، وآخرون للكوفة، وغيرهم لتحريض أهل اليمن، وآخرون إلى الشام.»

فابتدرتها العجوز قائلة: «أما أهل الشام فليسوا في حاجة إلى من يحرضهم، وفيهم معاوية ابن عم عثمان، وقد حملوا إليه قميص عثمان الملطخ بالدم وأصابع نائلة ليهيجوا أهل الشام على القاتلين.»

فتنهدت أم الفضل وتأوهت وقد عظم عليها ما تتخوفه من تفاقم الفتنة حتى تناثر الدمع من عينيها وسكتت.

•••

كانت أسماء تسمع حديث أم الفضل والعجوز وهي مضطربة لا تقوى على جواب، فلما رأت أم الفضل تبكي تذكرت بكاء عليٍّ عند قبر النبي في الليلة التي رأت فيها محمدًا لأول مرة، فانتقل ذهنها إلى محمد وما يعترض آمالها فيه من أمر اتهامه بقتل عثمان، وكانت لمَّا سمعت من قبل كلام عائشة انقلبت على محمد وكادت تتحقق ما سمعته لو لم يقم في قلبها برهان حبه، على أنها لم تزل على رغبتها في سماع دفاعه أو دفاع من يقول بقوله ويرى قتل عثمان. فلما رأت سعة علم أم الفضل وقد رافقت الإسلام في كل أطواره، كلمتها بصوت مختنق من تأثير الحمى فقالت: «إن في نفسي شيئًا لا صبر لي عليه.» قالت: «ما هو؟»

قالت: «لقد شهدت مقتل عثمان — رحمه الله — وسمعت دعوى الناس عليه، ولكنني تحققت مما وقع من حوادث كثيرة أنهم ظلموه، وأن الذنب ليس ذنبه ولكنه ذنب مروان ابن عمه فقد كان يصرف شئونه كيف يشاء. لكن ابن أختك (تريد محمدًا) يزعم أنه يستوجب القتل، وقد جادلته في الأمر فوعد بأن يقنعني ويجيئني بالبرهان.»

فلما سمعت أم الفضل كلامها تنهدت وقالت: «وقعتِ على خبير، فإني أعرف عثمان قبل إسلامه وأعرف ترجمته وما استتر منها وما ظهر، وهي لا تخلو مما يهيج الأحزاب عليه ويبعث الضغائن، وأظنه لو وُفِّق إلى وزير أو مشير عاقل أو كاتب غير مروان لما بلغ الأمر حده. وإليك ما صنعه عثمان مما أثار الصحابة عليه:
  • أولًا: إنك قد تعلمين أن الصحابة هم الذين قاموا بنصرة الإسلام وتأييد دعوته منذ ظهوره، فهم أولى من سواهم بولاية الأمصار وتولي الأعمال، وكانوا كذلك على عهد أبي بكر وعهد عمر بعده، فلما تولى عثمان عزل الصحابة وولى آخرين من ذوي قرابته كما فعل بعمرو بن العاص في ولاية مصر، وهو الذي فتحها وغرس الإسلام فيها فعزله وولى مكانه عبد الله بن أبي سرح أخاه من الرضاعة. وقد كان عبد الله هذا في جملة من ارتدوا بعد إسلامهم ولحق بالمشركين فأهدر النبي دمه، فأخذ له عثمان الأمان بعد فتح مكة.
  • ثانيًا: أسرف عثمان إسرافًا شديدًا في بيت المال، فكان يعطي منه أناسًا من قرابته طردهم النبي . ولا يغرنك ما يقال عن تقشفه وزهده في طعامه.
  • ثالثًا: أساء إلى جماعة من أعلام الصحابة وذوي المكانة في الإسلام، منهم عبد الله بن مسعود وأبو ذر الغفاري، فنفاهم من أوطانهم. وانتهك حرمة كعب بن عبدة البهري وحرمة الأشتر النخعي في أمور يطول شرحها.
  • رابعًا: أكثر من الضرائب على الأسواق، وحمى سوق المدينة في بعض ما يباع ويُشرَى، فأمر ألا يشتري منها أحد النوى حتى يفرغ وكيله هو من شراء ما يحتاج إليه. وحمى البحر من أن تجري فيه سفينة إلا في تجارته.
  • خامسًا: أقطع أصحابه إقطاعات كثيرة من بلاد الإسلام مما لم يكن له فعله.

    وهناك أمور أخرى نسبوها إليه كمخالفة الجماعة في إتمام الصلاة بمنى، وانفراده بأقوال شاذة ونحو ذلك. ولكن لأصحابه حججًا يدفعون بها عنه، وهي طويلة لو أردت ذكرها لطال بنا الكلام.

وكانت أم الفضل تتكلم بصوت منخفض، وأسماء تمد عنقها وكلها آذان مصغية فاطمأن قلبها لأنها وجدت لمحمد عذرًا وافق هواها، كأنها ألقت عن ظهرها حملًا ثقيلًا، وكان الإعياء قد بلغ منها مبلغه فاستلقت ونامت. وخرجت العجوز وأم الفضل إلى بستان فيه نخلات متقاربة فجلستا تتبادلان الحديث وأسماء نائمة، وأم المؤمنين في شاغل عنهما بمن عندها من الأمراء.

وأخيرًا قالت أم الفضل: «رحم الله عثمان، وأيَّد عليًّا! فإني لا أرى خيرًا منه للقيام بأمر المسلمين لقرابته وعلمه وفضله وشجاعته وسبقه إلى الإسلام. على أن ابني عبد الله (عبد الله بن عباس) يرى أنه ضعيف الرأي ولكنه يؤثره على كل من سواه، وقد رأيته فرحًا بخلافته عندما لقيته بالأمس.»

قالت: «أوَلَا يزال هنا منذ أن جاء للحج؟»

قالت: «حينما حاصروا عثمان أمره أن يحج بالناس، فلما جاءه نبأ قتل عثمان وولاية علي أسرع ليكون بين يديه.»

وتذكرت العجوز حال أسماء فقالت: «ماذا ترين أن أفعل بأسماء ومرضها؟» قالت: «أظنها تشفى غدًا، اسقيها العسل.»

فقالت: «سأحمل أم المؤمنين على أن تسقيها إياه.»

وبينما هما في الحديث رأتا الغلمان في حركة وهم يهيئون الخيل ويعدون الجمال للركوب، فعلمتا أن الأمراء أوشكوا على الخروج من عند أم المؤمنين، فنهضت أم الفضل وودعت العجوز وانصرفت.

وسمعت العجوز جلبة، ثم رأت جماعة خارجين من الدار معظمهم من بني أمية وعلى وجوههم سمات الظفر، ولم تجد بينهم أحدًا تعرفه فانزوت حتى انصرفوا، ودخلت حجرة أسماء وهي في قلق لئلا تكون قد أفاقت في أثناء غيابها فوجدت الحجرة مفتوحة وعند بابها خف عرفت أنه خف أم المؤمنين، فعلمت أنها جاءت تتفقد أسماء فأسرعت فرأتها واقفة عند رأس أسماء، فأشارت أم المؤمنين إليها بأناملها وشفتيها أن تمشي الهوينى وألا تخاف. فأبطأت في خطاها حتى دنت من أسماء فوجدتها نائمة وقد كلل العرق جبينها، فسألتها عائشة عن حالها فقالت: «إنها شعرت بالبرداء عندما خرجنا من عندك ثم أصابتها الحمى.»

قالت: «اسقيها العسل».

قالت: «جئت إليها بقدح منه فلم تشرب.»

قالت: «إليَّ به، أنا أسقيها فإنه فيه شفاء.» والتفتت إلى أسماء فرأتها تحركت وأخذت تمسح العرق عن وجهها بكفيها فدنت من فراشها، ففتحت أسماء عينيها ولما رأت أم المؤمنين أجفلت ونهضت وقد توردت وجنتاها، فقالت لها عائشة: «لا تزعجي نفسك يا بنية.» وجست يدها فإذا هي لا تزال حارة وقد ذبلت عيناها واحمرَّتا من شدة الحمى.

فقالت لها عائشة: «ألم تشربي العسل يا أسماء؟»

فقالت: «لا أشتهي طعامًا يا مولاتي ولا حلواء.»

قالت: «إنما هو دواء فيه شفاء للناس وقد سمعت رسول الله يقول: «الشفاء في ثلاث: شربة عسل، وشرطة محجم، وكية نار. وأنهى أمتي عن الكي»، وكان يحب الحلواء والعسل.» قالت ذلك ودفعت القدح إلى أسماء فأخذته وشربته، ولم يمضِ قليل حتى أحست برطوبة حلقها، وأوصتها عائشة بأن تشرب شيئًا من لبن الإبل فأطاعت. وبعد شرب اللبن انتعشت فجلست في الفراش، ورجت من أم المؤمنين أن تمكث عندها لأنها استبشرت بها خيرًا.

فقالت عائشة: «بل أرى أن ننزل إلى البستان بالعريش لأني مللت الخباء، وقد تزاحم الناس عليَّ اليوم.» فنهضن هن الثلاث ومشين حتى وصلن إلى البستان وهو محاط بسور من سعف النخل وفي وسطه عريش مصنوع من الجريد يُستظَل به وقد نصبوا فيه مقاعد من الجريد والخشب، فدخلنه وجلسن فيه وأم المؤمنين صامتة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤