صديقٌ جديد عجيب

على كورنيش النيل بالمعادي … جلس «محب» و«نوسة» يأكلان «الجيلاتي» ويتحدَّثان، الجو حارٌّ جدًّا، ومياه النيل ساكنة كأنها مرآةٌ ضخمة لا أثَر لموجةٍ واحدة فيها … والساعة تقرب من الثانية بعد الظهر.

قالت «نوسة»: لم يكن هناك داعٍ لأكل «الجيلاتي»؛ فموعدُ الغداء قد حانَ.

محب: بالنسبة لي هذه مشكلة … فليس لي أي رغبةٍ في الطعام … وستغضَب الوالدة طبعًا إذا قلتُ لها إنني لن آكل.

نوسة: أفضل حلٍّ أن نتغذَّى بِطِّيخًا مثلَّجًا وجُبنًا أبيض.

محب: حاولي إقناع الوالدة بذلك.

انتهيا من التهام «الجيلاتي» … وقرَّرا العودة إلى البيت … فقفز كلٌّ منهما إلى دراجته، وانطلقا عائدَين … وما إن تركا الكورنيش واتجها إلى داخل المعادي حتى وقع بصرهما معًا على دراجة تسبقهما، يركبها ولدٌ يحمل خلفه صندوقًا متوسِّط الحجم، يُحاول أن يقود الدرَّاجة بيدٍ واحدة، وبالأخرى يسند الصندوق الذي خلفه.

كان واضحًا أن المحاولة فاشلة؛ فقد كانت الدراجة تتلوَّى به في الشارع، ويكاد يسقط بين لحظةٍ وأخرى. أكثر من هذا كان يُعرِّض نفسَه للسيارات المندفعة؛ فلو انثَنى يمينًا أو يسارًا بشكلٍ مفاجئ لصدَمتْه إحدى السيارات.

صاحت «نوسة»: إن الولد يُعرِّض نفسه للخطر!

اندفع «محب» بدرَّاجته حتى حاذى الولد وصاح به: ماذا تفعل؟ … إنك تُعرِّض نفسك للموت، قف فورًا.

توقَّف «محب» قبل الولد … ثم ركَن درَّاجتَه وأسرع إليه يسنده حتى يقف.

كان العرق يغمُر وجه الولد الأسمر الذي لوَّحَته الشمس، وقد بدا مُتعَبًا من أثَر المجهود الذي بذله … فقال له «محب»: إلى أين أنت ذاهب؟

الولد: إلى شارع ٣٥.

محب: ما زال الطريق أمامك طويلًا، ومن الأفضل أن تربط الصندوق إلى دراجتك.

الولد: ليس عندي قطعةُ دوبارة لهذا الغرض.

محب: عندي قطعة من السلك القوي.

وأسرع «محب» إلى دراجته، وفتح المحفظة الجلدية الصغيرة المعلَّقة خلف الكرسي، وأخرج قطعة من السلك وعاد إلى الولد … وقام بربط الصندوق ربطًا محكمًا على المقعَد الخلفي للدراجة.

ابتسم الولد وهو يُجفِّف عَرقَه قائلًا: أشكرك … لقد تطوَّعتَ بمساعدتي دون أن تعرفني.

محب: إن المساعدة لا تحتاج إلى معرفة.

الولد: يَسرُّني أن نتعرَّف!

محب: اسمي «محب»، وهذه أختي «نوسة».

الولد: اسمي «نبيل أمين» …

محب: سنسير خلفك حتى تصل إلى منزلك … فقد يقع الصندوق.

نبيل: شكرًا … إنَّ هذا فضلٌ منكما.

وقفَز الولد إلى درَّاجته، وانطلَق «محب» و«نوسة» خلفه … وبعد عدة شوارع، وصل الولد إلى الشارع الذي يسكن فيه، ثم توقَّف أمام منزله، ومَرَّ به «محب» و«نوسة» ورفعا أيديهما بالتحية، ولكن «نبيل» صاح بهما: إلى أين؟

محب: إلى المنزل!

نبيل: تعاليا لحظةً واحدة … إنكما لم تشاهدا ما في الصندوق!

ردَّ «محب» مبتسمًا: ولماذا نعرف؟

نبيل: إني سعيد جدًّا؛ فقد حصلتُ على شيء تمنَّيتُه طول عمري!

محب: مبروك.

نبيل: لا بد أن تأتيا ولو للحظاتٍ قليلة.

دافِع المغامرة وحبُّ الاستطلاع في «محب» دفَعاه إلى قبول دعوة «نبيل»، وقال ﻟ «نوسة»: هيَّا نرى.

نزلا أمام حديقةٍ رائعة التنسيق … بها حمَّام سباحة … وحول الحمَّام كانت عشراتٌ من العصافير المغرِّدة تتقافز في أقفاصها الزاهية الألوان.

أسرع «نبيل» بإنزال الصندوق بمساعدة «محب»، وجلس الثلاثة قُرب حمَّام السباحة الذي لفت انتباه «محب» و«نوسة»، فقال «نبيل»: يُسعدني في أي وقتٍ أن تأتيا للسباحة معي … إنني أقضي أغلب أوقاتي في العَوْم.

نوسة: لا بد أنك سبَّاحٌ ماهر!

نبيل: ليس هذا فقط … إنني أهوى الغوص … وفي هذا الصندوق ملابس للغوص أرسلها لي خالي من أمريكا.

وأسرع «نبيل» يفتح الصندوق ويُخرج منه ملابسَ زرقاء داكنة للغوص وجهازًا للتنفُّس.

وصاح «نبيل» وهو يفرد الملابس بيدَيه: يا لها من شيءٍ رائع!

شارك «محب» و«نوسة» «نبيل» فرحته … وأسرع «نبيل» يدخل إلى الفيلَّا الفاخرة التي يسكُن فيها، وعاد بعد لحظاتٍ وخلفه رجلٌ أسمر يحمل صينيةُ عليها زجاجتا عصير … وأخذ «نبيل» يتحدَّث بحماس عن هوايته: إنني أهوى الغوص والتصوير والصيد في الأعماق، إن عالم البحار عالمٌ مدهش، والناس عادةً لا يَرَون من البحر إلا سطحه، أما أعماقه فشيءٌ آخر … شيءٌ مثير!

نوسة: إننا نُشاهِد في التليفزيون برنامج «عالم البحار» الذي يُقدِّمه الدكتور «جوهر»، وهو برنامجٌ رائع يكشف الكثير من أسرار الأعماق البعيدة للبحار وما فيها من مخلوقات!

نبيل: لقد سجَّلتُ أكثر حلقات هذا البرنامج على أشرطة «فيديو»، وأتفرج عليها يوميًّا تقريبًا … إن شرح الدكتور «جوهر» يجعل من عالم البحار كتابًا مفتوحًا لسكان الأرض في أسلوبٍ علمي مبسَّط.

محب: وكيف أحببتَ البحر إلى هذا الحد؟

نبيل: أحبَبتُه من خلال رجلٍ عجوز، تصادقنا منذ زمنٍ بعيد، لقد كان يعمل عند أجدادي، وهم جميعًا من البحَّارة، وكانوا يملكون سفنًا ضخمة تحمل البضائع بين موانئ البحر المتوسط … لقد كان جدي قبطانًا عظيمًا!

محب: إذن فقد وَرِثتَ حب البحر عن أجدادك.

نبيل: إذا كان مثل هذا الشعور يُورث فقد وَرِثتُه عنهم بالتأكيد.

محب: وأين هذا الرجل العجوز؟

نبيل: إن «عم سالم» يعيش في العجمي بالإسكندرية … إنه مخلص لحبه الوحيد … البحر … وهو لا يستطيع أن يفارقه. وبالمناسبة، سوف أسافر بعد أيامٍ قليلة إلى هناك لأزور «عم سالم» وأقضي هناك إجازتي.

محب: وحدك؟

نبيل: نعم … فوالدتي ووالدي مسافران لقضاء الإجازة في سويسرا.

نوسة: ولماذا لا تذهب معهما؟

نبيل: إنني أُفضِّل الإسكندرية على أي مكانٍ في العالم، حيث أستطيع ممارسة هوايتي في العَوم والغَطس والحديث إلى «عم سالم» والاستمتاع بسماع ذكرياته عن البحر … وعن أجدادي.

نوسة: لا بد أنه عجوز جدًّا.

نبيل: نعم … لقد تجاوَز التسعين، ولكنه ما زال قويًّا ونشيطًا، إن هؤلاء الناس الذين يعيشون على الشواطئ يتمتَّعون بالصحة الجيدة ويُعمِّرون طويلًا.

محب: إن هذا الرجل يشبه الأسطورة.

نبيل: حقيقة هو أسطورة؛ فقد عاش حياةً حافلة بالمغامرات والأحداث، إنه تاريخٌ متحرك.

نوسة: كم أَودُّ أن أراه … إنني أُحبُّ هذا النوع من البشر!

نبيل: هذه مسألةٌ سهلة جدًّا … لماذا لا تأتيان معي؟

نظر «محب» و«نوسة» كلٌّ منهما للآخر … ثم قال «محب»: كنا نودُّ أن نأتي معك، ولكن نحن مجموعة من الأصدقاء، اعتَدنا أن نقضي الإجازة معًا، و…

وقبل أن يُكمِل «محب» جُملتَه قال «نبيل»: إنني أدعوكُم جميعًا لهذه الزيارة … إن لدينا فيلَّا كبيرة عيبها الوحيد أنها بعيدة عن العمران، وربما لا تروق لكم الحياة فيها و…

محب: شكرًا لكَ … وسوف أَعرِض الأمر على أصدقائي، وسآخذ رقم «تليفونك»، وأتحدَّث إليك هذا المساء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤