ابن خلدون وفلسفة التاريخ

  • (١)

    إن مقدمة ابن خلدون من نوع المؤلفات التي عُرِفت في أوروبا باسم «فلسفة التاريخ» في القرن الثامن عشر، وباسم «علم التاريخ»، أو «المدخل إلى التاريخ» في القرن التاسع عشر.

    في الواقع إنها تتضمن في الوقت نفسه آراء ومباحث ونظريات اجتماعيةً هامة، فيجب اعتبارها من هذه الوجهة من نوع المؤلفات المتعلقة ﺑ «الفلسفة الاجتماعية»، وﺑ «علم الاجتماع» أيضًا.

    غير أنه يجب ألا يغرب عن البال بأنها تتألَّف في حقيقة الأمر من «المقدمة والكتاب الأول»، من سِفْر تاريخي كبير، وترمي — قبل كل شيء — إلى «تمييز الحق من الباطل في الأخبار» عند تدوين التاريخ، وتسعى إلى إيجاد «معيار صحيح يتحرَّى به المؤرخون طريق الصدق والخطأ فيما ينقلونه من الأخبار والوقائع»، كما صرَّح بذلك المؤلف نفسه، حينما عقَّب على العبارة الآنفة الذكر بقوله: «هذا هو غرض هذا الكتاب الأول من تأليفنا.»

    ولهذا السبب يجب أن ننظر إلى مقدمة ابن خلدون — قبل كل شيء — كمؤلف في فلسفة التاريخ، فيجب أن نقارنها بأمثالها من المؤلفات التي حامت حول فلسفة التاريخ قبل أن نُقْدِم على مقارنتها بالكتب الباحثة عن الفلسفة الاجتماعية، أو علم الاجتماع.

  • (٢)

    إن فلسفة التاريخ تبحث في الوقائع التاريخية بنظرة فلسفية، فتسعى لاكتشاف العوامل الأساسية التي تؤثِّر في سير الوقائع التاريخية، وتعمل على استنباط القوانين العامة التي تتطوَّر بموجبها الأمم والدول على ممر القرون والأجيال.

    إن تعبير «فلسفة التاريخ» هذا لم يُسْتَحْدَث إلا في القرن الثامن عشر، غير أن «التفلسف في التاريخ» قد بدأ فعلًا قبل ابتكار هذا التعبير بمدة طويلة.

    ونستطيع أن نقول إن البذور الأولى لفلسفة التاريخ قد ظهرت في الكتب الباحثة عن «السياسة المدنية»؛ لأن كل نظرية سياسية تستند بطبيعتها — ضمنًا أو صراحةً — إلى نظرية في طبائع الأمم والدول، وفي شروط تقدُّمها وكيفية تطوُّرها.

  • (٣)

    إن تعبير «فلسفة التاريخ» انتشر كثيرًا في مؤلفات النصف الأول من القرن التاسع عشر، غير أن استعماله أخذ يقل منذ النصف الثاني من القرن المذكور.

    وأمَّا أسباب ذلك فتعود إلى تطوُّر معنى العلم، ومفهوم الفلسفة بوجه عام.

    إن البحث عن الأسباب والقوانين العامة لم يكن من خصائص الفلسفة وحدها، بل هو من الغايات التي ترمي إليها، وتنزع نحوها جميع العلوم التي تبحث في الحادثات، طبيعيةً كانت أم تاريخيةً واجتماعية. وحينما يتحرَّى المؤرخون الأسباب والقوانين في الوقائع التاريخية يكونون قد قاموا بعمل علمي بحت، فلا محل لتسمية الأبحاث التي يقومون بها في هذا السبيل باسم الفلسفة، نظرًا للمعاني المفهومة من كلمتَي العلم والفلسفة في عصرنا الحاضر.

    ومما تجب ملاحظته في هذا الصدد أن مباحث «الفيزياء» نفسها كانت تسمى قبل بضعة قرون باسم «الفلسفة الطبيعية»، ومعظم كتب الفيزياء التي نُشِرت في إنجلترا حافظت على هذا العنوان حتى القرن التاسع عشر، غير أن عناوين مثل هذه الكتب تجرَّدت بعد ذلك من كلمة الفلسفة بوجه عام، وتركت محلها إلى اسم «علم الفيزياء»، أو «الفيزياء» على وجه الإطلاق.

    فكان من الطبيعي أن يتطور تعبير «فلسفة التاريخ» أيضًا على هذا المنوال؛ إذ إن المباحث التي نحن بصددها تُعَدُّ من عناصر البحث العلمي في كل «تاريخ»، فيجب أن تُعتبر من مواضيع «علم التاريخ».

    في الواقع إن الفلسفة لم تنقطع عن التأمُّل في الوقائع والحادثات الطبيعية والتاريخية، فهي لا تزال تتناول التاريخ أيضًا بالنظر والتمحيص، غير أن النظر الفلسفي يمتاز عن البحث العلمي الاعتيادي بالإقدام على أوسع التركيبات، وبالبحث عن أشمل القوانين وأعمق الأسباب.

    figure

    ومما تجب ملاحظته في هذا الصدد أن «أشمل القوانين وأعمق الأسباب» في تطوُّر الأمم لا يمكن أن تُكتشف بدرس الوقائع التاريخية وحدها، بل إن اكتشاف مثل هذه القوانين الشاملة والأسباب العميقة يتطلَّب ملاحظة أحوال الأمم الحاضرة مثل ملاحظة الأمم البائدة، ودرس الحادثات الاجتماعية الحالية مثل درس الحادثات الماضية، ومن البديهي أن هذه الأبحاث تتعدَّى حدود «التاريخ» البحت، وتدخل في نطاق الاجتماعيات العامة، فتكون حينئذ من مواضيع «الفلسفة الاجتماعية»، أو «علم الاجتماع» بوجه عام.

    ولهذه الأسباب صارت المؤلفات المتعلقة بفلسفة التاريخ تقل شيئًا فشيئًا تاركةً محلها للمؤلفات التي تحمل عنوان «علم التاريخ»، أو «أصول التاريخ» من جهة، وللأبحاث التي تدخل في نطاق علم الاجتماع، أو الفلسفة الاجتماعية من جهة أخرى.

  • (٤)
    إذا استعرضنا أهم المؤلفات التي تتعلَّق بفلسفة التاريخ مباشرة، أو التي تمت بصلة قوية إلى بعض أبحاث هذه الفلسفة، وحصرنا استعراضنا هذا فيما صدر منها خلال القرون الأربعة التي تلت تاريخ كتابة مقدمة ابن خلدون (أي من سنة ١٣٧٧ إلى سنة ١٧٧٧)؛ وجدنا أنها تنحصر في الكتب العشرة التالية حسب تواريخ نشرها:
    • (أ)
      الأمير (سنة ١٥٢٠)، تأليف ماكيافللي Machiavelli الإيطالي.
    • (ب)
      الجمهورية (سنة ١٥٥٧)، تأليف «جان بودن» Jean Bodin الفرنسي.
    • (جـ)
      خطب في التاريخ العام (سنة ١٦٨١)، تأليف «بوسسوئة» Bossuet الفرنسي.
    • (د)
      الحكومة المدنية (سنة ١٦٩٠)، تأليف «جون لوك» J. Lock الإنجليزي.
    • (هـ)
      العلم الجديد (سنة ١٧٢٥)، تأليف «جان باتيستا فيكو» J. B. Vico الإيطالي.
    • (و)
      روح القوانين (سنة ١٧٤٨)، تأليف «مونتسكيو» Montesquein الفرنسي.
    • (ز)
      خطب في الصوربون (سنة ١٧٥٠)، تأليف «تورغو» Turgot الفرنسي.
    • (ﺣ)
      طبائع الأمم وفلسفة التاريخ (سنة ١٧٥٦)، تأليف فولتير Voltaire الفرنسي.
    • (ط)
      تاريخ المجتمع المدني (سنة ١٧٦٥)، تأليف «فركوسن» Fergusson الإنجليزي.
    • (ي)
      آراء فلسفية في تاريخ البشرية (سنة ١٧٧٢)، تأليف «هردر» Herder الألماني.
    وأمَّا إذا وسَّعنا ساحة بحثنا وأشملناها كل ما كُتِب قبل مقدمة ابن خلدون أيضًا، فلا نجد بينها إلا ثلاثة مؤلفات، تمت ببعض الصلة إلى بعض الأبحاث من فلسفة التاريخ، وهي:
    • (أ)
      الجمهورية، لأفلاطون Platon (القرن الرابع قبل الميلاد).
    • (ب)
      السياسة، لأرسطو Aristotelis (القرن الرابع قبل الميلاد).
    • (جـ)
      مدينة الله، للقديس أوغسطين St Augustin (القرن الرابع بعد الميلاد).

    إن تعيين منزلة مقدمة ابن خلدون في «تاريخ فلسفة التاريخ»، لمما يتطلَّب مقارنتها بالكتب والمؤلفات التي ذكرناها آنفًا.

  • (٥)
    إن أشمل الدراسات عما كُتِب في فلسفة التاريخ قام بها «روبرت فلينت» R. Flint، الذي كان أستاذًا في جامعة إدينبرة، فقد نشر المومأ إليه أولًا — سنة ١٨٧٤ — كتابًا بعنوان «فلسفة التاريخ في فرنسا وألمانيا»، يُعْتَبَر من أمهات الكتب في هذا الموضوع.

    يبدأ فلينت فصول كتابه ببحث عن «جان بودن»، ولكنه يُقَدِّم على ذلك مقدمةً طويلةً يستعرض فيها بذور فلسفة التاريخ، مبتدئًا من أفلاطون وأرسطو، ومتوسِّعًا في القديس أوغسطين. إن اسم ابن خلدون لم يُذْكَر في هذه المقدمة؛ مما يدل على أن المؤلف لم يكن قد اطلع عليها بعدُ عندما نشر الكتاب المذكور.

    غير أن روبرت فلينت واصل أبحاثه في هذا المضمار بعد نشر الكتاب المذكور أيضًا، إنه درس ما نُشِر عن فلسفة التاريخ في سائر البلاد، وفي الأخير نشر مؤلفًا آخر تحت عنوان «تاريخ فلسفة التاريخ»، وذلك بعد مرور عشرين عامًا على نشر كتابه الأول.

    يظهر من مطالعة مقدمة هذا الكتاب أن المؤلف كان قد اطلع خلال هذه المدة على مقدمة ابن خلدون، وأُعجب بها إعجابًا شديدًا، فكتب عن ابن خلدون ما يلي:

    «من وجهة علم التاريخ أو فلسفة التاريخ، يتحلَّى الأدب العربي باسم من ألمع الأسماء، فلا العالم الكلاسيكي في القرون القديمة، ولا العالم المسيحي في القرون الوسطى، يستطيع أن يقدِّم اسمًا يضاهي في لمعانه ذلك الاسم.»

    «إذا نظرنا إلى ابن خلدون (١٣٣٢م/١٤٠٦ب.م.) كمؤرخ فقط؛ وجدنا من يتفوق عليه حتى بين كُتَّاب العرب أنفسهم، وأمَّا كواضع نظريات في التاريخ فإنه منقطع النظير في كل زمان ومكان، حتى ظهور «فيكو» بعده بأكثر من ثلاث مائة عام. ليس أفلاطون ولا أرسطو ولا القديس أوغسطين بأنداد له، وأمَّا البقية فلا يستحقون حتى الذكر بجانبه.»

    «إنه يستحق الإعجاب بما أظهره من روح الابتكار والفراسة والتعمُّق والإحاطة.»

    «كان رجلًا منقطع النظير بين أهل دينه ومعاصريه في موضوع الفلسفة التاريخية، كما كان «دانتي» في الشعر، و«بايكن» في العلم بين أهل دينهما ومعاصريهما» (فلينت، تاريخ فلسفة التاريخ، ص٨٦).

    ولهذا السبب يفرد فلينت في كتابه هذا بحثًا خاصًّا لاستعراض آراء ابن خلدون، فيقول ما يلي:

    «إن أول كاتب بحث في التاريخ كموضوع علم خاص كان ابن خلدون. أمَّا هل يجب أن يُعَدَّ أو لا يعد — لهذا السبب — «مؤسس علم التاريخ»، فذلك سؤال قد يثير خلافًا في الآراء.»

    «غير أن كل من يقرأ مقدمته بإخلاص ونزاهة لا يستطيع إلا أن يعترف بأن حق ابن خلدون في ادعاء هذا الشرف — شرف التسمية باسم مؤسس علم التاريخ وفلسفة التاريخ — أقوى وأثبت من حق كل كاتب آخر سبق فيكو» (ص١٥٧ من تاريخ فلسفة التاريخ).

    إن المؤلف المشار إليه لا يغفل نقائص ابن خلدون وأخطاءه، ولكنه يُرْجِع جميع هذه النقائص والأخطاء إلى سبب رئيسي هام، وهو قلة اطلاعه على تاريخ الغرب وعلى حضارة أوروبا. فيقول لذلك:

    «لو عرف ابن خلدون العالمين الكلاسيكي والمسيحي، وبحث وعمم فيهما أيضًا بعين الاستقلال الفكري ونفوذ النظر؛ لجاءت رسالته من أعظم وأثمن الرسائل في الأدب العالمي. وعلى كل حال، فإن الكتاب الذي تركه لنا له من العظمة والأهمية ما يكفي للاحتفاظ باسمه وشهرته إلى آخر الأجيال» (ص١٧١ من الكتاب المذكور).

  • (٦)

    يظهر من الفقرات التي نقلناها آنفًا أن روبرت فلينت يعتبر ابن خلدون متفوقًا تفوُّقًا أكيدًا على جميع من كتب في فلسفة التاريخ، ليس قبله فحسب، بل خلال القرون الثلاثة التي تَلَتْ وفاته أيضًا.

    ومما يستلفت النظر في هذا المضمار أن روبرت فلينت لم يكن من المستشرقين الذين يحملون شغفًا خاصًّا بالأمور والمؤلفات الشرقية، بل كان من رجال الدين، وكان قد أظهر نزعته الدينية الشديدة في مواضع عديدة من مؤلفاته.

    فإن صدور مثل هذه الكلمات التقديرية من المؤلف المشار إليه بالرغم من نزعته الدينية الشديدة؛ يدل دلالةً واضحةً على شدة إعجابه بمقدمة ابن خلدون عند اطلاعه عليها، بعد انكبابه على درس جميع المؤلفات التي تحوم حول فلسفة التاريخ، منذ بدء التفكير في العالم القديم، حتى أواخر القرن الأخير.

    إن شهادة روبرت فلينت في هذا الصدد تغنينا عن مقارنة مقدمة ابن خلدون بالمؤلفات التي كُتِبت ونُشِرت قبل كتاب فيكو.

    ولهذا السبب رأيت أن أكتفي بتسجيل حكم الباحث المشار إليه فيما يخص من سبق فيكو في هذا المضمار، وأن أتخذ فيكو نفسه مبدأً لدراساتي ومقارناتي؛ لإظهار منزلة ابن خلدون في تاريخ فلسفة التاريخ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤