ابن خلدون وعلم الاجتماع

١

  • (١)

    يُعتبر علم الاجتماع أحدث العلوم الأساسية على الإطلاق؛ لأن تأسُّسه على أُسس قويمة لم يتم إلا في الربع الثاني من القرن التاسع عشر.

    وأمَّا شرف تأسيس هذا العلم فيُعْزَى — عادةً — إلى المفكر الفرنسي المشهور «أوغوست كونت» Auguste Conte (١٧٩٨–١٨٥٣)؛ لأن المومأ إليه كان — على ما يُعتقد — أوَّل من اتخذ «الاجتماع» موضوعًا لعلم مستقل، وأول من استطاع تأسيس هذا العلم على أُسس علمية مثبتة، وزيادة على ذلك فإنه كان أول من ابتدع واستعمل كلمة «السوسيولوجيا» La Sociologie لتسمية هذا العلم الجديد.

    ولقد وضع أوغوست كونت علم الاجتماع في المرتبة الأخيرة والعليا من «مراتب العلوم»، التي رتَّبها وشرحها في فلسفته الخاصة، ثم حاول أن يوضح الأسباب التي استوجبت تأخُّر تأسُّس هذا العلم إلى هذا الحد، على ضوء نظريته المشهورة عن مراتب العلوم بوجه عام.

    لقد لاحظ كونت أن العلوم يختلف بعضها عن بعض اختلافًا كبيرًا، من حيث درجة «معضلية مواضيعها» ومبلغ «عمومية مسائلها»، وقال إن العلوم التي تكون بسيطة المواضيع تتأسس قبل التي تكون معضلة المواضيع؛ مثلًا، من الواضح أن الأفاعيل الحياتية أشد إعضالًا من الحادثات الكيماوية، فلا يمكن — والحالة هذه — معرفة قوانين الحادثات الحياتية، قبل معرفة قوانين الحادثات الكيماوية، فكان من الطبيعي أن يتوصل الفكر البشري إلى اكتشاف القوانين الكيماوية قبل اكتشاف القوانين الحياتية، وكان من المستحيل عليه أن يؤسَّس علم الحياة على أُسس علمية مثبتة، قبل أن يؤسَّس علم الكيمياء على مثل تلك الأسس المثبتة.

    وبناءً على هذه الملاحظة رتَّب كونت العلوم الأساسية حسب درجات إعضال مواضيعها، مبتدئًا من الرياضيات، التي هي أقل إعضالًا من جميعها؛ فتوصل إلى السلسلة التالية:

    (١) الرياضيات. (٢) علم الفلك. (٣) علم الفيزياء. (٤) علم الكمياء. (٥) علم الحياة. (٦) علم الاجتماع.

    يلاحَظ أن مواضيع كل حدٍّ من حدود هذه السلسلة، أقل عموميةً وأشد معضليةً من التي قبلها، وأشد عموميةً وأقل معضليةً من التي بعدها، فكل علم من هذه العلوم يحتاج إلى التي قبله، ويمهِّد إلى التي بعده.

    ولهذا السبب كان من الطبيعي أن يتقدَّم علم الفلك — تاريخيًّا — على علم الفيزياء، كما يتقدَّم هذا العلم على علم الكيمياء، وعلم الكيمياء على علم الحياة، وعلم الحياة على علم الاجتماع. وكان من المستحيل أن يتأسَّس علم الاجتماع قبل أن يتأسَّس علم الحياة، وسائر العلوم المتقدمة عليه.

    لم يكن في استطاعة أرسطو — على رأي كونت — أن يتصوَّر علم الاجتماع؛ لأن جميع العلوم الممهدة للعلم المذكور كانت غير معلومة وغير مؤسَّسة في عصره، وما كان في استطاعة مونتسكيو أيضًا أن يوجِدَ علم الاجتماع — على الرغم من العبقرية الفذة التي أظهرها في أبحاثه — لأن علم الحياة لم يكن قد أخذ شكلًا علميًّا بعد زمانه.

    من المعلوم أن علم الحياة تأسَّس في أواخر القرن الثامن عشر، وتقدَّم تقدُّمًا كبيرًا في أوائل القرن التاسع عشر؛ ولذلك كان قد حان — عندئذ — دور تأسيس علم الاجتماع. اعتقد أوغوست كونت بذلك، فأخذ على عاتقه مهمة تأسيس هذا العلم تحت تأثير هذا الاعتقاد، واعتبر هذا العلم الجديد خاتمةً لسلسلة العلوم.

  • (٢)

    إن عددًا غير قليل من المفكرين انتقدوا نظرية كونت في هذا الصدد من وجوه عديدة.

    لقد لاحظوا أولًا أن هذه السلسلة لم تُعْطِ موقعًا ما لعلم النفس؛ لأن كونت كان قد اعتبر العلم المذكور فرعًا من فروع علم الحياة. إن تلاميذ كونت فهموا خطأ أستاذهم في هذا الصدد، واعتبروا علم النفس أيضًا علمًا مستقلًّا، مثل علم الحياة وعلم الاجتماع، وخصَّصوا له مرتبةً جديدةً في سلسلة مراتب العلوم، تقع بين هذين العلمين.

    ثانيًا؛ لاحظ بعض المفكرين «أن تاريخ الاكتشافات من الأمور التي تتأثَّر من عوامل كثيرة ومتنوعة، فمحاولة تفسير تاريخ العلوم وتعليله استنادًا إلى أمر «معضلية المواضيع» وحدها، مما لا ينطبق على الحقائق الراهنة تمام الانطباق.

    نحن لا نرى لزومًا لمناقشة هذه النظرية من وجوهها المختلفة في هذا المقام، بل نكتفي بسردها لنبين رأي أوغوست كونت في تبعية علم الاجتماع لعلم الحياة من جهة، وفي علة تأخُّر علم الاجتماع عن سائر العلوم من جهة أخرى.

    ومهما كان نصيب هذه النظرية من الصحة، فمما لا مجال للشك فيه أن علم الاجتماع لم ينضمَّ إلى مجموعة العلوم البشرية — بشكل فعَّال — إلا بعد الربع الأول من القرن التاسع عشر، بعد أن دخلت العلوم الطبيعية بوجه عام، والعلوم الحياتية بوجه خاص، في الطور العلمي المثبت، بفضل الخطط والطرائق الاستقرائية والتجريبية التي أخذ الباحثون يتبعونها في درس مواضيع العلوم المذكورة.

  • (٣)

    ولكن هذه الحقيقة لا تعني أن المفكرين لم يلتفتوا إلى الحادثات الاجتماعية، فلم يدرسوا شيئًا منها قبل ذلك التاريخ، بل الأمر على عكس ذلك؛ فإنه من الأمور الثابتة أن بعض الحادثات الاجتماعية صارت موضوع أبحاث علمية، حتى إن قسمًا من تلك الأبحاث تقدَّمت إلى درجة تكوين بعض العلوم الخاصة قبل ذلك بمدة طويلة.

    فإن المباحث العلمية التي تُعْرَف باسم علم السياسة، وعلم الأخلاق، وعلم الاقتصاد، وعلم التشريع، وعلم الإحصاء، وعلم البشر، وفلسفة التاريخ، وفلسفة التشريع؛ كانت تكوَّنت قبل التاريخ المذكور بمدد غير يسيرة، ومن المعلوم أن مواضيع هذه العلوم تحوم حول الحياة الاجتماعية البشرية، ولهذا السبب كانت تسمَّى باسم عام، وهو «العلوم الأدبية والاجتماعية» Sciences morales et sociales.

    غير أن جميع هذه العلوم والمباحث الخاصة كانت مشوبةً بنقائص جوهرية؛ كان كل واحد منها يدرس نوعًا واحدًا من الحادثات الاجتماعية، من غير أن يعتبر علاقة هذه الأنواع بعضها ببعض، وبالمجتمع بوجه عام، ولا بأشكال المجتمع بوجه خاص.

    وزيادة على ذلك فإن معظم مباحث هذه العلوم كانت إنشائيةً ودستوريةً Impréiatif, normatif تبحث «عمَّا يجب أن يكون»، أكثر مما تدرس «ما هو كائن»، وتسعى وراء وضع «دساتير عمل»، أكثر مما تهتم باكتشاف و«استجلاء الحقائق».

    إن علماء الأخلاق — مثلًا — كانوا يبحثون عن السلوك الذي يجب أن يسلكه الإنسان، من غير أن يدرسوا «سلوك الإنسان»، ومن غير أن يلاحظوا علاقة هذا السلوك بأحوال المجتمع وأشكاله، وكذلك كان علماء الاقتصاد يبحثون في «الثروة»، من غير أن يهتموا بأحوال المجتمع الذي ينتج هذه الثروة أو يستهلكها، وأمَّا البحث في المجتمع كمجموع، ودرس أحواله على هذا الأساس فكان من الأمور الخارجة عن خطط العلوم المذكورة، وبعيدة عن أنظار العلماء المشتغلين بها.

  • (٤)

    إن هذه الحالة أدَّت إلى حدوث مباحثات كثيرة ومناقشات شديدة بين مؤسسي علم الاجتماع الذي ظهر متأخرًا، وبين أرباب العلوم الاجتماعية التي ذكرناها آنفًا؛ ماذا يجب أن تكون علاقة هذا العلم الأساسي الجديد بتلك العلوم الخاصة القديمة؟

    لقد انقسم المفكرون والعلماء تجاه هذا السؤال إلى معسكرين متخالفين.

    قالت جماعة منهم: إن العلوم الاجتماعية القديمة يجب أن تحافظ على استقلالها، وتواظب على أبحاثها الخاصة، وفق خططها الخاصة ومناحيها الخاصة، وأمَّا علم الاجتماع فيجب أن يقتبس ما يجب اقتباسه من الحقائق التي تكتشفها تلك العلوم، ويركب تلك الحقائق تركيبًا فلسفيًّا، وبتعبير آخر: إن علاقة علم الاجتماع الجديد بالعلوم الاجتماعية القديمة، يجب أن تكون مثل علاقة الفلسفة بسائر العلوم.

    ولكن جماعةً أخرى قالت بعكس ذلك تمامًا: إن علم الاجتماع يجب أن يشمل جميع مباحث العلوم الاجتماعية اشتمالًا مباشرًا، يجب أن تدخل كل هذه العلوم في نطاق علم الاجتماع، فتعتبر فصولًا أو فروعًا لهذا العلم الشامل؛ ذلك لأن اعتبار تلك المواضيع مستقلًّا بعضها عن بعض، ودرسها مستقلًّا عن المجتمع لا بد من أن يؤدي إلى أخطاء كبيرة أساسية؛ فإن البحث في تلك المواضيع لا يمكن أن يوصل إلى حقائق علمية مثبتة إلا عندما يتم على ضوء مناحي البحث التي تتبع في علم الاجتماع.

    إن المناقشات التي احتدمت بين الرأيين لم تنته إلى نتيجة حاسمة تمامًا، ومع هذا أدَّت إلى عدة نتائج عملية هامة.

    فإن علماء الاجتماع أعادوا البحث والنظر في جميع المسائل والمواضيع التي كانت تُعْتَبَر من خصائص العلوم الاجتماعية الآنفة الذكر، فكوَّنوا فروعًا عديدةً لعلم الاجتماع عُرِفت بأسماء جديدة؛ مثل الاجتماع السياسي، الاجتماع الاقتصادي، الاجتماع التشريعي، وهلمَّ جرًّا.

    ولكن المتخصصين في العلوم الاجتماعية القديمة لم يتنازلوا عن استقلالهم، ومع هذا اضطُروا — حينما لاحظوا أهمية النتائج التي توصَّل إليها علماء الاجتماع — اضطُروا إلى إعادة النظر في مباحثهم على أساس ملاحظة أحوال المجتمعات — وفقًا لوجهات نظر علم الاجتماع — فأدخلوا بذلك روحًا جديدةً ونظرات جديدةً في علومهم القديمة.

    وبهذه الصورة أصبح علم الاجتماع يسيطر على جميع العلوم الاجتماعية، سواء أرضي أصحابها أم أبوا، وأخذ ينفخ روحًا تقدميًّا فيها جميعها.

٢

  • (١)

    يتبيَّن مما ذكرناه آنفًا أن الذين اعتبروا أوغوست كونت مؤسِّسًا لعلم الاجتماع لم يقولوا ذلك لزعمهم أنه كان أول من درس الحادثات الاجتماعية، بل إنهم قالوا ذلك لزعمهم أنه كان أول من نظر إلى المجتمع ككل، فاتخذه موضوعًا لعلم مستقل قائم بنفسه.

    لكننا نعتقد — بهذا الاعتبار — أن حق ابن خلدون بلقب «مؤسِّس علم الاجتماع» أقوى من حق كونت؛ لأنه كان قد فعل كل ذلك قبل أن يؤلِّف كونت دروسه في الفلسفة الإثباتية بمدة تزيد على أربعمائة وستين عامًا.

    نحن نعتقد أن مقدمة ابن خلدون لم تكن تلمُّسًا بسيطًا لعلم الاجتماع، ولا تحدُّسًا غامضًا عنه، بل كانت محاولةً ناجحةً لاستحداث علم الاجتماع، محاولةً تستجمع جميع الشروط التي تخوِّلنا حق تلقيبه بلقب «المؤسِّس» لهذا العلم.

  • (٢)
    نحن نعلم أن لقب المؤسِّس لعلم من العلوم لا يجوز أن يُمْنَحَ لأي مفكر أو عالم كان، إلا إذا تحقَّقت في أبحاثه الشروط الجوهرية التالية:
    • (أ)

      يجب أن يكون العالم المذكور قد تصوَّر موضوع العلم مستقلًّا عن مواضيع العلوم المعلومة، وأن يكون قد اقتنع بأن ذلك الموضوع يحتاج إلى درس خاص.

    • (ب)
      يجب أن يكون قد اعتقد أن الحادثات المتعلقة بذلك الموضوع، لم تكن من الأمور التابعة للأهواء والصُّدَف، بل إنها من الأمور التي تحدث وتتكوَّن تحت تأثير أسباب وعوامل معينة، والتي تتعيَّن تعيُّنًا تامًّا بالظروف والأسباب الموجبة لها، وبتعبير أقصر: إنها من الأمور التي تتبع قانون السببية Causalité، وتدخل في نطاق مبدأ التعين والحتمية Déterminisme.
    • (جـ)

      يجب أن يكون قد درس الموضوع دراسةً وافيةً في ساحة لا بأس بها، وتوصَّل إلى اكتشاف بعض القوانين المتعلقة بها.

      لا يشترط في التأسيس دراسة الموضوع بكامله، أو اكتشاف قوانينه بأجمعها؛ لأن ذلك يستحيل على شخص واحد، حتى على رجال قرن واحد. فلو اشتُرِطَ ذلك لما أمكن تسمية أي مفكر كان باسم «المؤسس»، لأي علم كان؛ لأن العلوم تتكوَّن وتتقدَّم شيئًا فشيئًا بوجه عام، حتى إننا نستطيع أن نقول إن بناء العلم يعلو ويتوسَّع دائمًا ولا يتم أبدًا.

      ولهذا السبب إن تأسيس أي علم من العلوم لا يعني اكتشاف جميع حقائقه، بل يعني اكتشاف قسم من حقائقه بعد فهم خصوصية موضوعه، وإدراك تبعية ذلك الموضوع لقانون السببية، ومبدأ التعيُّن والحتمية.

  • (٣)

    إذا أنعمنا النظر في مقدمة ابن خلدون على ضوء هذه المبادئ والحقائق نضطر إلى التسليم بأن مؤلفها المفكر يجب أن يُعتبر مؤسِّسًا لعلم الاجتماع.

    • أولًا: لقد قال ابن خلدون بوجوب اتخاذ «الاجتماع الإنساني» موضوعًا لعلم مستقل، وسمَّى هذا العلم باسم «علم العمران»، وبما أنه قصد من كلمة العمران الاجتماع بوجه عام، بدليل تعريفه للعمران بقوله: «هو التساكن والتنازل في مصر أو حلة، للأنس بالعشير واقتضاء الحاجات» (ص٤١)، نستطيع أن نقول إنه سمَّى العلم المذكور باسم خاص، ينطبق على موضوعه تمام الانطباق.

      لقد قال ابن خلدون عدة مرات بأن موضوع هذا العلم هو «العمران البشري والاجتماع الإنساني»، وصرَّح بأنه يختلف من علم الخطابة ومن علم السياسة، وأكَّد ضرورة اعتباره مستقلًّا عن سائر العلوم.

      وقد قال: «إذا كانت كل حقيقة متعقلة طبيعية، يصلح أن يبحث عما يعرض لها من العوارض لذاتها، وجب أن يكون باعتبار كل مفهوم وحقيقة علم من العلوم يخصه» (ص٣٨). وبما أن العمران البشري، والاجتماع الإنساني حقيقة قائمة بنفسها، وَجَبَ أن يُعتبر من خصائص علم خاص قائم بنفسه.

      ابن خلدون عيَّن مبلغ شمول هذا العلم بوضوح يثير الإعجاب؛ فإنه أدخل «الملك والكسب والصنائع والعلوم» في نطاق موضوع العمران، فاعتبرها كلها من جملة مباحث علم العمران.

      فإنه عندما ذكر هذا العلم في الديباجة قال:

      «الكتاب الأول: في العمران، وذِكر ما يعرض فيه من العوارض الذاتية،١ من الملك والسلطان والكسب والصنائع والعلوم، وما إلى ذلك من العلل والأسباب» (ص٦).

      وكرَّر ذلك في عنوان الكتاب المذكور، حيث قال:

      «في طبيعة العمران في الخليقة، وما يعرض فيها من البدو والحضر، والتغلُّب والكسب والمعاش والصنائع والعلوم ونحوها، وما لذلك من العلل والأسباب» (ص٣٥).

      كما قال في سياق الكلام:

      «ونحن الآن نبيِّن في هذا الكتاب ما يَعْرِض للبشر في اجتماعهم من أحوال العمران في الملك والكسب والعلوم والصنائع بوجوه برهانية» (ص٤٠).

      يتبيَّن من ذلك كله أن ابن خلدون أدرك تمام الإدراك درجة شمول الموضوع الذي تصوَّره لعلم العمران، أي علم الاجتماع.

    • ثانيًا: لقد اعتقد ابن خلدون تمام الاعتقاد بأن الأحوال الاجتماعية تتأتَّى من «علل وأسباب»، وفهم أن هذه العلل والأسباب تعود في الدرجة الأولى إلى «طبيعة العمران»، وبتعبير آخر إلى «طبيعة الاجتماع».

      إن اعتقاد ابن خلدون في ذلك يظهر أولًا من دلالة العبارات التي ذكرناها آنفًا؛ فإنه يشير فيها بصراحة إلى «العلل والأسباب»، وإلى «الوجوه البرهانية»، مما يدل دلالةً واضحةً على أنه أدرك أن الحادثات الاجتماعية تابعة لعلل وأسباب، وأن البحث فيها يجب أن يكون بوجوه برهانية.

      ولكن اعتقاد ابن خلدون في هذا الأمر يظهر بوضوح أكبر من ذلك أيضًا مما كتبه في معظم أبحاثه.

      فإنه يقول مثلًا: «للعمران طبائع في أحواله» (ص٦)، ويبحث عن «طبيعة العمران والأحوال في الاجتماع الإنساني» (ص٩)، ويشير إلى «معرفة طبائع العمران» (ص٣٧).

      كما أنه يكتب عدة مرات مثل هذه العبارات:

      «يجب أن ننظر في الاجتماع البشري الذي هو العمران، ونميز ما يلحقه من الأحوال لذاته وبمقتضى طبعه» (ص٣٧).

      «فإن كل حادث من الحوادث، ذاتًا كان أو فعلًا، لا بد له من طبيعة تخصُّه في ذاته، وفيما يَعْرِض له من أحواله» (ص٣٥-٣٦).

      إن المؤرخ يجب أن يكون «عارفًا بطبائع الحوادث والأحوال في الوجود ومقتضياتها» (ص٣٦).

      «حكم الملك والسلطان إنما يجري على ما تقتضيه طبيعة العمران» (ص٢٢٤).

      حينما يتكلَّم ابن خلدون عن الوظائف الخلافية، ويميِّز بينها وبين الوظائف السلطانية، يقول: «نتكلَّم في ذلك بما تقتضيه طبيعة العمران في الوجود الإنساني» (ص٢٣٦).

      «كلامنا في وظائف الملك والسلطان ورتبته، إنما هو بمقتضى طبيعة العمران ووجود البشر» (ص٢٣٦).

      وقد استعمل ابن خلدون تعبير «طبيعة الملك» في عناوين فصول عديدة:

      «إن من طبيعة الملك الانفراد بالمجد» (ص١٦٦)، «إن من طبيعة الملك الترف» (ص١٦٧)، و«إن من طبيعة الملك الدعة والسكون» (ص١٦٧).

      كما أنه استعمل في عدة مواضع تعبير «طبيعة العمران»، و«طبيعة العصبية»، حتى إنه أشار إلى «طبائع الأكوان»، و«طبيعة الوجود».

      وزيادة على كل ذلك فقد صرَّح ابن خلدون في عدة فصول أن الحوادث الاجتماعية لم تكن نتيجة اختيار، بل إنها نتيجة ضرورية لطبيعة الاجتماع.

      فقد بدأ فصل انتقال الدولة من البداوة إلى الحضارة بقوله:

      «اعلم أن هذه الأطوار طبيعية للدول» (ص١٧٢).

      كما قرَّر في هذا الفصل أن «طور الحضارة في الملك يتبع طور البداوة ضرورة؛ لضرورة تبعية الرفه للملك» (ص١٧٢).

      وقد قال في فصل «انقلاب الخلافة إلى الملك»: «الملك غاية طبيعية للعصبية، وليس وقوعه عنها باختيار، إنما هو بضرورة الوجود وتربيته» (ص٢٠٢).

      كما قال في الفصل نفسه، بعد استعراض ما حصل من الاختلاف في أمر الخلافة حتى عهد معاوية: «ثم اقتضت طبيعة الملك الانفراد بالمجد واستئثار الواحد به، ولم يكن لمعاوية أن يدفع ذلك عن نفسه وقومه، فهو أمر طبيعي ساقته العصبية بطبيعتها» (ص٢٠٥).

      وقال ابن خلدون في الفصل الذي يقرر: «أن الهرم إذا نزل بالدولة لا يرتفع»: «قد قدَّمنا العوامل المؤذنة بالهرم، وأسبابه واحدًا بعد واحد، وبيَّنَّا أنها تحدث للدولة بالطبع، وأنها كلها أمور طبيعية لها، وإذا كان الهرم طبيعيًّا في الدولة، كان حدوثه بمثابة حدوث الأمور الطبيعية، كما يحدث الهرم في المزاج الحيواني، والهرم من الأمراض المزمنة التي لا يمكن دواؤها ولا ارتفاعها؛ لما أنه طبيعي، والأمور الطبيعية لا تتبدَّل» (ص٢٩٣-٢٩٤).

      إن مقدمة ابن خلدون مملوءة بمثل هذه الكلمات والأبحاث التي تدل دلالةً قطعيةً على تفكيره الدائم في «طبيعية الأشياء»، وضرورة الوجود»، و«ترتيب الوجود»، وعلى فهمه الواضح ﻟ «طبيعة الحوادث الاجتماعية وضروريتها»، وبتعبير أقصر: على قوة اعتقاده بتبعية الحوادث الاجتماعية لقانون السببية، ومبدأ التعيُّن والحتمية.

      كان «مونتسكيو» قد عرَّف «القوانين» — في أواسط القرن الثامن عشر — بقوله: «الروابط الضرورية التي تتأتَّى من طبيعة الأشياء»، وتعريفه هذا كان قد نال شهرةً كبيرة. نحن نعتقد أن كل من ينعم النظر في الأمثلة التي ذكرناها آنفًا؛ يُضطر إلى التسليم بأن ابن خلدون كان قد فكَّر في ذلك تفكيرًا واضحًا قبل كتابة التعريف المذكور بقرون عديدة، كما نرى أن بعض تلك العبارات مما يجوز ذكره بين أحسن الأمثلة وأوضح الأدلة، على حتمية الحوادث الاجتماعية.

    • ثالثًا: لم يمرَّ ابن خلدون في المقدمة على المبادئ والمواضيع المذكورة مرًّا سريعًا، كما أنه لم يكتبها كتابةً عَرَضِيَّة، بل إنه عمل بتلك المبادئ عملًا متواصلًا، ودرس تلك المواضيع دراسةً تفصيلية.

      وإذا صرفنا النظر عن بعض الفصول والأبحاث التي تأتي في المقدمة بمثابة معلومات تمهيدية أو استطرادية، يمكننا أن نقول:

      إن الباب الأول بمثابة فصول في الاجتماعيات العامة Sociologie Génerale.
      وإن البابين الثاني والثالث يحتويان على الكثير من أبحاث الاجتماعيات السياسية Socioligie Politique.
      والباب الرابع بمثابة أبحاث في اجتماعيات الأمصار Sociologie Urbaine.
      وأمَّا الباب الخامس فهو في الاجتماعيات الاقتصادية Sociologie économique.
      والباب السادس يحتوي على أبحاث كثيرة في «الاجتماعيات الأدبية» Sociologie morale.
  • (٤)

    بناءً على كل ما ذكرناه آنفًا نعتقد أن ابن خلدون يستحق لقب «مؤسِّس علم الاجتماع» كل الاستحقاق.

    وإذا لاحظنا أنه فكَّر في كل ذلك، وكتب كل ذلك قبل أوغوست كونت بمدة تزيد على أربعة قرون ونصف قرن، وإذا تذكَّرنا في الوقت نفسه بأنه كان أَقْدَم على ذلك قبل تقدُّم علمَي الفيزياء والكيمياء، فضلًا عن تأسُّس علم الحياة في القرن الرابع عشر، حين كان مفكرو أوروبا لا يزالون يتيهون في فيافي التفكير الكلماني الدرساني؛ اضطُررنا إلى التسليم بأن عمله كان عملًا جبارًا، ينمُّ عن تفكير عبقري، يستحق كل تقدير وإعجاب.

    هذا ومما تجب ملاحظته بوجه خاص، أن ابن خلدون يتلقَّى «علم الاجتماع» بمعناه الشامل التام؛ لأنه يعتبر الحياة السياسية والاقتصادية والصناعية والعلمية من مظاهر الحياة الاجتماعية، وينظر إلى الأبحاث المتعلقة بها كفروع لعلم الاجتماع.

    إن موقف ابن خلدون في هذه القضية يرفعه مباشرةً إلى مصافِّ علماء الاجتماع الذين نبغوا في أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل القرن الحاضر.

١  نود أن نَلْفِتَ الأنظار إلى تعبير «العوارض الذاتية» التي استعملها ابن خلدون عدة مرات، ولا سيما خلال تحديد موضوع علم الاجتماع: «ما يعرض في الاجتماع الإنساني من العوارض الذاتية»، و«الحقيقة المتعقلة، وما يعرض لها من العوارض لذاتها».
إن قصد ابن خلدون من هذا التعبير يبدو غامضًا، ومع هذا يتضح تمامًا من فقرة كتبها في فصل العلوم الهندسية، حيث قال: «هذا العلم هو النظر في المقادير وفيما يعرض لها من العوارض الذاتية، مثل؛ إن كل مثلث فزواياه مثل قائمتين، ومثل؛ إن كل خطين متوازيين لا يلتقيان في وجه، ولو خرجا إلى غير نهاية، ومثل؛ إن كل خطين متقاطعين فالزاويتان المتقابلتان منهما متساويتان، ومثل؛ إن الأربعة مقادير المتناسبة ضرب الأول منها في الثالث، كضرب الثاني في الرابع، وأمثال ذلك» (ص٤٨٥).
يتبيَّن من هذه الفقرات بكل وضوح أن ابن خلدون يعني من تعبير «العوارض الذاتية» ما نعنيه نحن الآن من كلمات «الخواص والقوانين» في اصطلاحاتنا العلمية العصرية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤