موضوع التاريخ ومهمة المؤرخ

١

  • (١)

    يقرِّر ابن خلدون رأيه الخاص في موضوع التاريخ وحقيقته في بدء الكتاب الأول بالعبارات التالية:

    «حقيقة التاريخ: أنه خبر عن الاجتماع الإنساني الذي هو عمران العالم، وما يَعْرِض لطبيعة ذلك العمران من الأحوال؛ مثل التوحش، والتأنس، والعصبيات، وأصناف التغلبات للبشر بعضهم على بعض، وما ينشأ عن ذلك من الملك والدول ومراتبها، وما ينتحله البشر بأعمالهم ومساعيهم من الكسب والمعاش والعلوم والصنائع، وسائر ما يحدث في ذلك العمران بطبيعته من الأحوال» (ص٣٥).

    يظهر من ذلك أن موضوع التاريخ في نظر ابن خلدون واسع جدًّا، وهو لا ينحصر بما حدث من الفتوحات والحروب، وما توالى من الدول والملوك في الأزمنة الغابرة، بل يشمل كل ما حدث من التحوُّل في الحياة الاجتماعية — على اختلاف مظاهرها — وفي المؤسسات الاجتماعية — على اختلاف أنواعها — فإن الأخبار المتعلقة بالأحوال الاقتصادية والصنائع والعلوم أيضًا تدخل في نطاق موضوع التاريخ.

    ابن خلدون يتفوَّق بنظرته هذه على جميع المؤرخين الذين سبقوه في الشرق والغرب بوجه عام، وعلى جميع الذين أتوا بعده خلال أربعة قرون على أقل تقدير.

    ومن المعلوم أن هذه النظرة الشاملة والمتوسعة في موضوع التاريخ، من النظرات الخاصة بما يسمى عادةً باسم «تاريخ الحضارة»، وهذا ما حدا ببعض الباحثين إلى أن يعتبروا ابن خلدون «أول من حاول كتابة تاريخ الحضارة» بمعناها الشامل.

  • (٢)

    يلاحظ ابن خلدون أن التاريخ مما يشغف به الخواص والعوام على حد سواء؛ لأن كل الناس يتشوَّقون إلى معرفة أخبار الماضي، ويهتمون بأبحاث التاريخ ويتكلَّمون فيها. غير أنه يجد فرقًا عظيمًا بين مفهوم التاريخ الدارج وبين مفهومه الحقيقي، ويوضح هذا الفرق في الديباجة بالعبارات التالية — بالأسلوب المسجع الذي تختص به الديباجة المذكورة:

    «إن فن التاريخ من الفنون التي تتداوله الأمم والأجيال، وتُشَدُّ إليه الركائب والرحال، وتسمو إلى معرفته السوقة والأغفال، وتتنافس فيه الملوك والأقيال.

    إذ هو في ظاهره لا يزيد على أخبار عن الأيام والدول، والسوابق من القرون الأُوَل، تنمو فيها الأقوال، وتُضْرَب فيها الأمثال، وتُطْرَف بها الأندية إذا غصَّها الاحتفال، وتؤدي لنا شأن الخليقة كيف تقلَّبت بها الأحوال، واتسع للدول فيها النطاق والمجال، وعمروا الأرض حتى نادى بهم الارتحال، وحان منهم الزوال.

    وفي باطنه نظر وتحقيق، وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق، فهو لذلك أصيل في الحكمة وعريق، وجدير بأن يُعَدَّ في علومها وخليق» (ص٣-٤).

  • (٣)

    إن النظر إلى التاريخ بهذا المنهج المدقق الشامل يحتِّم على المؤرخ القيام بمهام وأبحاث شاقة بطبيعة الحال.

    إن هذه المهام تحوم — في رأي ابن خلدون — حول ما يقتضيه الأمران الأساسيان التاليان؛ تمحيص الأخبار، وتعليل الوقائع.

    تمحيص الأخبار؛ لتمييز الحق من الباطل والصدق من الكذب فيها، وللتأكُّد من مطابقتها للوقائع. تعليل الوقائع؛ لمعرفة كيفية حدوثها، وأسباب تزاحمها وتعاقبها.

    إن من يهمل هاتين المهمتين مكتفيًا بنقل الأخبار من غير أن يهتمَّ بتمحيصها، وبسرد الوقائع من غير أن يستقصي عللها، لا يستحق أن يعتبر مؤرخًا بالمعنى الذي يقصده ابن خلدون.

    فإن الذين يستحقون هذا الاسم — على الرغم مما في مؤلفاتهم من المطعن والمغمز — قليلون جدًّا، إنهم «لا يكادون يتجاوزون عدد الأنامل وحركات العوامل» (ص٤)، وأمَّا البقية فهم من «الهمل الذين ليس يُعْتَبر لهم مقال» (ص٥).

    ينتقد ابن خلدون هؤلاء المؤرخين بشدة متناهية، وينعتهم بأقسى النعوت مثل: «بليد الطبع والعقل» (ص٥). ويرى أن فن التاريخ صار على أيدي هؤلاء «واهيًا ومختلطًا»، وأصبح «انتحاله مجهلة» (ص٢٨).

    ولهذا السبب يرى ابن خلدون لزومًا لسلوك مسلك جديد في كتابة التاريخ، ويشرح — بفخر وزهو — الخطة التي ابتكرها هو لهذا الغرض.

٢

فأول الواجبات التي تترتب على المؤرخ — إذن — هو تمحيص الأخبار التي يقرؤها في الكتب، أو يسمعها من الرواة.

ذلك لأن «الغلط والوهم نسيب للأخبار وخليل» (ص٤)، ولأن الأخبار والحكايات «مظنَّة الكذب ومطية الهذر» (ص١٠)، ولأن «الكذب متطرق للخبر بطبيعته» (ص٣٥).

فيجب على المؤرخ أن يتجنَّب الغلط والوهم، وأن يميِّز الكذب من الصدق في الأخبار.

ولكن ما السبيل الذي يجب أن يسلكه للوصول إلى هذا الهدف؟

من البديهي أن تقرير ذلك يتطلَّب — قبل كل شيء — تعيين أنواع الأغلاط والأوهام والأكاذيب التي تتطرَّق عادةً إلى الأخبار، ثم استجلاء الأسباب الداعية إلى كل نوع منها.

ابن خلدون ينعم النظر في كل ذلك في عدة مواضع من المقدمة، ويتوسَّع فيها بوجه خاص في مدخل الكتاب الأول، حيث يقول — بعد تعيين موضوع التاريخ — ما يلي:

«ولما كان الكذب متطرِّقًا للخبر بطبيعته، وله أسباب تقتضيه»:
  • (١)

    «فمنها التشيُّعات للآراء والمذاهب؛ فإن النفس إذا كانت في حالة الاعتدال في قبول الخبر؛ أعطته حقه من التمحيص والنظر، حتى تتبيَّن صدقه من كذبه. وإذا خامرها تشيُّع لرأي أو نِحلة، قَبِلت ما يوافقها من الأخبار لأول وهلة، وكان ذلك الميل والتشيُّع غطاءً على عين بصيرتها عن الانتقاد والتمحيص؛ فتقع في قبول الكذب ونقله.»

  • (٢)

    «ومن الأسباب الداعية إلى الكذب في الأخبار أيضًا؛ الثقة بالناقلين، وتمحيص ذلك يرجع إلى التعديل والتجريح.»

  • (٣)

    «ومنها الذهول عن المقاصد؛ فكثير من الناقلين لا يعرف القصد بما عاين أو سمع، وينقل الخبر على ما في ظنه وتخمينه؛ فيقع في الكذب.»

  • (٤)

    «ومنها توهُّم الصدق وهو كثير، وإنما يجيء في الأكثر من جهة الثقة بالناقلين.»

  • (٥)

    «ومنها الجهل بتطبيق الأحوال على الوقائع؛ لأجل ما يداخلها من التلبيس والتصنع، فينقلها المخبر كما رآها، وهي بالتصنع على غير الحق في نفسه.»

  • (٦)

    «ومنها تقرُّب الناس في الأكثر لأصحاب التجلة والمراتب بالثناء والمدح، وتحسين الأحوال، وإشاعة الذكر بذلك، فيستفيض الإخبار بها على غير حقيقته. فالنفوس مولعة بحب الثناء، والناس متطلِّعون إلى الدنيا وأسبابها من جاه أو ثروة، وليسوا في الأكثر براغبين في الفضائل، ولا متنافسين في أهلها.»

  • (٧)

    «ومن الأسباب المقتضية له أيضًا — وهي سابقة على كل ما تقدَّم — الجهل بطبائع الأحوال في العمران؛ فإن كل حادث من الحوادث، ذاتًا كان أو فعلًا، لا بد له من طبيعة تخصُّه في ذاته، وفيما يعرض له من أحواله؛ فإذا كان السامع عارفًا بطبيعة الحوادث والأحوال في الوجود ومقتضياتها، أعانه ذلك في تمحيص الخبر على تمييز الصدق من الكذب، وهذا أبلغ في التمحيص من كل وجه يعرض» (ص٣٥-٣٦).

(يذكر ابن خلدون هذه الأسباب على التوالي من غير أن يرقمها، ونحن اضطُررنا إلى ترقيمها؛ تسهيلًا لدرسها.)

يلاحَظ أولًا أن بعض الأمور التي يذكرها ابن خلدون في هذه الفقرات من نوع الغلط والوهم «اللاقصدي»، وبعضها من نوع التلبيس والكذب «القصدي»، بالمعنى الذي يُفْهَم عادةً من كلمة الكذب، وبعضها من نوع «عدم التمييز» من جرَّاء عدم التفكير، أو الجهل، أو الانخداع. والمؤلف قد ميَّز هذه الأنواع بعضها من بعض، غير أنه ذكرها تحت اسم عام، وهو «الكذب»، أعني أنه استعمل هذا الاسم للدلالة على كل ما هو مخالف للواقع، سواء أَنَتَجَتْ هذه المخالفة من كذب المخبر وتلبيسه، أم من توهُّمه وغلطه، أم من جهله وانخداعه.

كما يلاحظ أن ابن خلدون قد أوضح بعض هذه القضايا توضيحًا تامًّا، وشرحها شرحًا وافيًا، غير أنه التزم الإجمال في بعضها إجمالًا يحوجها إلى الشرح والتفصيل تارة، ويعرِّضها للغموض والالتباس طورًا.

  • إن السبب الأول: وهو التشيعات للآراء والمذاهب واضح تمامًا، ومشروح شرحًا جيدًا، والفقرات التي تشرحه تتضمَّن ملاحظات نفسيةً دقيقة، وهي تبيِّن كيف أن محاكمات المرء تتأثَّر من «الآراء» التي تكون قد سبقت إلى ذهنه، وكيف أن الآراء المنتشرة في حلقات المجتمع — على شكل نحلة أو مذهب — توجِّه أذهان الأفراد إلى بعض الاتجاهات، وتؤثِّر بذلك على ملاحظاتهم ومحاكماتهم تأثيرًا شديدًا، كما أن هذه الفقرات تشير — ضمنًا — إلى وجوب الحياد في تدوين التاريخ وانتقاده.
  • وأمَّا السبب الثاني: فبعكس ذلك، لم يكن مشروحًا شرحًا وافيًا، ومع ذلك فإن قضية «التعديل والتجريح» المذكورة في هذه الفقرة تدل على أن المقصود منها هو الخطأ الذي قد يقع فيه المرء من جرَّاء ثقته بالناقل والراوي؛ لأن الراوي قد يكون كاذبًا ودساسًا فيما يرويه، فإذا وثق المرء به يكون قد تلقَّى الكذب منه، ونقله إلى غيره، من حيث لا يقصد ولا يدري. ولكي يتجنب المؤرخ مثل هذه الأخطاء يجب ألا يقبل أية رواية كانت قبل أن يتأكَّد من عدالة رواتها، وأمانتهم في القول، وسلامتهم من الكذب، وذلك عن طريق البحث والنقد التي سماها علماء التفسير والحديث باسم «التعديل والتجريح».
  • والسبب الثالث: أيضًا ينطوي على ملاحظة نفسية صائبة مثل السبب الأول، ومع هذا يحتاج إلى بعض التفصيل والتوضيح؛ قد يكون الناقل صادقًا في نقله، ومع ذلك مخطئًا في فهمه؛ إذ من الممكن أن يكون قد نقل ما عاينه وما سمعه بكل أمانة ومن غير تحريف، ولكنه قد لا يفهم ما سمعه حق الفهم، وقد لا يلاحظ ما شاهده تمام الملاحظة، فقد يتوهَّم بعض الأمور، وقد يهيم في وادي التخمينات، وفي الأخير قد يخلط بين مشهوداته ومسموعاته، وبين ظنونه وتخميناته، فإذا نَقَلَ ورَوَى يكون قد نقل وروى ما يخالف الواقع، مع أنه لم يتقصَّد الخروج عن جادة الصدق والأمانة في النقل على ما أداه إليه فهمه.
  • وأمَّا السبب الرابع: فهو غامض جدًّا، ولا سيما والفرق بينه وبين السبب الثاني لم يكن واضحًا أبدًا؛ فإن ابن خلدون ردهما كليهما إلى أمر الثقة بالناقلين، ربما كان القصد من تفريقهما، وذكر كل واحد منهما على حدة؛ هو الإشارة إلى الرواية الاعتيادية من جهة، والرواية المتواترة من جهة أخرى. ومما يقوِّي هذا الاحتمال أن ابن خلدون يبحث في محل آخر في «التناقل» — كما سنذكره فيما بعد — فلا يبعد أن يكون قد أراد بذلك التنبيه إلى عدم جواز الثقة بالناقلين من جراء كثرتهم فقط، وعدم جواز قَبول الخبر من جراء كونه متواترًا فحسب.
  • وأمَّا السبب الخامس: فيحوم حول «دور التصنيع والتلبيس» في الوقائع والأخبار؛ إن بعض الدساسين يتوسلون في بعض الأحوال بوسائل متنوعة للتلبيس على الناس — بقصد الوصول إلى بعض الأغراض، والحصول على بعض المنافع — ويصطنعون بعض الوقائع والأمور، والأشخاص الذين يشاهدون تلك الوقائع المصطنعة، ويطَّلعون على تلك الأمور المدسوسة، قد ينخدعون بها، فلا ينتبهون إلى آثار الدس والتلبيس فيها، فإذا نقلوها كما شاهدوها يكونون قد نقلوا ما هو «على غير الحق في نفسه»، وذلك من غير أن يقصدوا الكذب فيما ينقلونه.
  • وأمَّا السبب السادس: فيشير إلى الأخبار الكاذبة التي يذيعها بعض المتملقين بقصد التقرُّب إلى أصحاب التجلة والمراتب؛ إن هؤلاء المتملقين يحاولون التقرُّب إلى أصحاب الجاه والنفوذ بمدحهم والثناء عليهم، ويسعَون إلى زيادة هذا التقرُّب بإشاعة ذكرهم بين الناس، فيشيعون عنهم من الأقوال والأفعال ما يخالف الواقع مخالفةً كبيرة.
  • وأمَّا السبب السابع والأخير: فهو صريح ومفصَّل تفصيلًا وافيًا؛ إن ما يقرره ابن خلدون في هذه الفقرة يشير إلى طريقة تمحيص الأخبار بقدر ما يبين سبب تباعدها عن الواقع والصواب، وهو من أهم الملاحظات التي حملته على التفكير في طبائع العمران، وعلى كتابة «الكتاب الأول» من التاريخ، ذلك الكتاب الذي عُرِف فيما بعدُ باسم «مقدمة ابن خلدون».

٣

  • (١)

    يعود ابن خلدون إلى ذكر معظم هذه الأسباب في موضع آخر بوسيلة أخرى، هي قضية «الشهرة والصيت». إنه يتطرَّق إلى هذه القضية في آخر فصل الحروب، ويكتب في صددها الملاحظات التالية:

    «الشهرة والصيت، قلَّ أن تصادف موضعها في أحد من طبقات الناس — من الملوك والعلماء والصالحين والمنتحلين للفضائل على العموم — وكثير ممن اشتُهر بالشر وهو بخلافه، وكثير ممن تجاوزت عنه الشهرة، وهو أحق بها وأهلها، وقد تصادف موضعها، فتكون طبقًا على صاحبها» (ص٢٧٨).

    لا يكتفي ابن خلدون بكتابة هذه الملاحظات، بل يوضح أسباب ذلك أيضًا: إن الشهرة تنشأ من الأخبار التي تُنْشَر بين الناس عن أحوال الشخص وأفعاله وأخلاقه؛ ولذلك تكون عرضةً لاحتمال «التباعد عن الحقيقة والواقع» شأن جميع الأخبار والروايات.

    «والسبب في ذلك أن الشهرة والصيت إنما هما بالأخبار، والأخبار يدخلها الذهول عن المقاصد عند التناقل، ويدخلها التعصُّب والتشيُّع، ويدخلها الأوهام، ويدخلها الجهل بمطابقة الحكايات للأحوال؛ لخفائها بالتلبيس والتصنُّع، أو لجهل الناقل، ويدخلها التقرُّب لأصحاب التجلَّة والمراتب الدنيوية بالثناء والمدح، وتحسين الأحوال، وإشاعة الذكر بذلك، «وأين مطابقة الحق مع هذه كلها؟»» (ص٢٧٨).

    يلاحَظ أن ابن خلدون يشير هنا إلى معظم الأسباب التي كان قد ذكرها في مدخل الكتاب الأول بتعبيرات أخرى، فمن المفيد أن نضع هذه التعبيرات أيضًا نُصْبَ أعيننا عندما ندرس رأيه في الأخبار.

  • (٢)

    هذا ومما يجدر بالذكر أن ابن خلدون يشير في موضعين آخرين إلى سببين آخرين، علاوةً على التي ذكرها في مدخل الكتاب الأول.

    أولًا: إنه يشير إلى «نزعة المبالغة» عند الناس خلال نقل الأخبار، «ولا سيما في إحصاء الأعداد من الأموال والعساكر إذا عُرضت في الحكايات» (ص١٠).

    «قد نجد الكافة من أهل العصر إذا أفاضوا في الحديث عن عساكر الدول التي لعهدهم أو قريبًا منه، وتفاوضوا في الأخبار عن جيوش المسلمين أو النصارى، أو أخذوا في إحصاء أموال الجبايات، وخراج السلطان، ونفقات المترفين، وبضائع الأغنياء والموسرين؛ توغَّلوا في العدد، وتجاوزوا حدود العوائد، وطاوعوا وساوس الإغراب. فإذا استكشفت أصحاب الدواوين عن عساكرهم، واستنبطت أحوال أهل الثروة في بضائعهم وفوائدهم، واستجليت عوائد المترفين في نفقاتهم، لم تجد معشار ما يعدونه.

    وما ذلك إلا لولوع النفس بالغرائب، وسهولة التجاوز على اللسان» (ص١١).

    إن السبب الذي يسرده ابن خلدون هنا يمكن أن يعتبر من فروع السبب الثالث الذي ذكرناه آنفًا، ومع هذا فإنه يجب أن يسترعي الانتباه بوجه خاص؛ لدلالته على أن ابن خلدون قد لاحظ أن بعض التوهُّمات يتأتى من «نزوع الذهن إلى المبالغة، وولوع النفس بالغرائب.»

    وقد أشار ابن خلدون إلى هذه الملاحظة نفسها في موضع آخر أيضًا بقوله: «كثيرًا ما يعتري الناس الوسواس في الزيادة عند قصد الإغراب» (ص١٧٢).

    هذا ونحن نرى أن نلفت الأنظار إلى تعبير «التجاوز على اللسان»، الوارد في آخر الفقرة السالفة الذكر؛ لأن هذا التعبير يدل دلالةً واضحةً على أن ابن خلدون قد لاحظ أن الناس لا يتصورون عادةً مفاهيم الأعداد الكبيرة التي يسمعونها أو يلفظونها؛ ولذلك يسترسلون في مثل هذه المبالغات من غير أن ينتبهوا إلى مبلغ فداحتها، وذلك «لسهولة التجاوز على اللسان» في ذكر الأعداد.

  • (٣)

    وأمَّا السبب الأخير الذي يذكره ابن خلدون — من جملة أسباب الخطأ في فهم الأخبار ونقلها — فهو قياس الماضي على الحال قياسًا مطلقًا:

    «ربما يسمع السامع كثيرًا من أخبار الماضين، ولا يتفطَّن لما وقع من تغيُّر الأحوال وانقلابها، فيجريها لأول وهلة على ما عرف، ويقيسها بما شهد، وقد يكون الفرق بينهما كثيرًا؛ فيقع في مهواة من الغلط» (ص٢٩).

    يرى ابن خلدون من الواجب على المؤرخ أن يستفيد من «شهادة الحاضر؛ لأن الماضي أشبه بالآتي من الماء بالماء» (ص١٠)، وعليه أن «يعتبر الحاضر المشاهد والقريب المعروف» (ص١١)، وأن «يقيس الغائب بالشاهد والحاضر بالذاهب» (ص٩).

    غير أنه يلاحظ في الوقت نفسه أن «قياس الماضي على الحال» لا يخلو من محاذير؛ لأن «أحوال العالم والأمم لا تدوم على وتيرة واحدة»، فيترتب على المؤرخ ألا يُذهل «عن تبدُّل الأحوال في الأمم، بتبدُّل الأعصار ومرور الأيام» (ص٢٨).

    ولهذا السبب يوصي ابن خلدون «المماثلة بين الحاضر والغائب» بالبحث عما «بينهما من الوفاق أو الخلاف» (ص٢٨)، ويقرر بأن عدم الانتباه إلى ذلك قد يوقع المؤرخ في «مهواة من الغلط» (ص٢٩).

    إن ما يقوله ابن خلدون في هذا الصدد ينمُّ عن ملاحظة دقيقة وتفكير قيم، ومع هذا فلا حاجة للبيان أن هذا السبب أيضًا مما يمكن ردُّه إلى السبب الثالث من أسباب الخطأ المذكورة في مدخل الكتاب الأول من حيث الأساس.

  • (٤)

    إذا أردنا أن نلخِّص «أسباب الغلط في الأخبار والحكايات» حسب ما لاحظه ابن خلدون، وحلَّله وعلَّله في الفقرات الآنفة الذكر، استطعنا أن نقول إنها كثيرة ومتنوعة، بعضها قصدية، وبعضها لا قصدية.

    الأغلاط القصدية: هي الأخبار الكاذبة التي يضعها ويلفقها ويشيعها الدساسون؛ لترويج مذهب، أو نشر دعوة، أو تأمين منفعة، والوقائع المصطنعة التي يسعى المحتالون إلى التلبيس بها على الناس لأغراض مماثلة لذلك.

    وأمَّا الأغلاط اللاقصدية: فهي الأخبار المخالفة للواقع، التي ينقلها بعض المخبرين والرواة عن حسن نية؛ وذلك لعدم فهمهم، أو عدم ضبطهم لما يسمعونه ويشاهدونه، أو لميلهم إلى المبالغة وولوعهم بالغرائب، أو لاسترسالهم في قياس الماضي على الحاضر قياسًا مطلقًا.

    وهناك نوع ثالث من الأغلاط يختلط فيها القصدية واللاقصدية، وهي التي تحدث حينما ينقل راوٍ صادق أمين، عن مخبر دساس ملفِّق؛ لثقته به، أو لعدم قدرته على تمحيص الأخبار التي يسمعها، أو لعدم إقدامه على التمحيص — على الرغم من قابليته له — وذلك لموافقة الخبر للآراء التي يتشيع لها، والمذاهب التي ينتحلها، أو لعدم معرفته لطبائع الأشياء معرفةً تساعده على التمييز بين الممكن والمستحيل من الأخبار.

    ومن البديهي أن هذا النوع الأخير يكتسب خطوةً خاصةً حينما يتعدد الرواة ويتوالى النقلة، وتتزاحم وتتعاقب «أسباب المخالفة للواقع» في الروايات.

  • (٥)

    يذكر ابن خلدون أمثلةً عديدةً على أغلاط المؤرخين في المقدمة التي خصَّصها لذكر «فضل علم التاريخ وتحقيق مذاهبه، والإلماع لما يعرض للمؤرخين من المغالط» (ص١٠–٣٢) من جهة، وفي مدخل الكتاب الأول (ص٣٦-٣٧) من جهة أخرى.

٤

  • (١)
    وأمَّا تمحيص الأخبار، وتمييز الصحيح من الباطل فيها، فيتطلَّب الاهتمام بالأمرين التاليين:
    • (أ)

      النظر في مبلغ صدق الرواة وأمانتهم.

    • (ب)

      التفكير في درجة إمكان الوقائع المروية.

    إن صدق الرواة وعدالتهم مما يتعيَّن بالتجريح والتعديل، حسب ما قرَّره وفصَّله علماء التفسير ونقلة الحديث قبل ابن خلدون.

    وأمَّا درجة إمكان الوقائع المروية فمما يتعيَّن بمراجعة «علم العمران» الذي وضعه ابن خلدون، وفصَّله في الكتاب الأول من تاريخه.

  • (٢)

    عندما يذكر ابن خلدون «التجريح والتعديل» لا يرى لزومًا لدرسه وتفصيله، بل يكتفي بالإشارة إلى ما قرَّره علماء التفسير والحديث في صدده، ويُظهر بذلك العلاقة التي يلاحظها بين علم التاريخ وبين علم التفسير والتحديث.

    من المعلوم أن هؤلاء العلماء يستندون في أبحاثهم وأحكامهم إلى ما يُرْوَى من الأفعال والأقوال عن سيد المرسلين، ويستقون أخبارهم من روايات الرواة — بالتسلسل — عن الصحابة والتابعين، غير أنهم لا يعتمدون على أي راوٍ كان ما لم يتأكدوا من أنه متصف بالعدالة والضبط، ولهذا السبب يقولون بوجوب تعديل جميع الرواة، أي بوجوب «التثبت من عدالتهم وبراءتهم من الجرح والغفلة» (ص٤٤١).

    فموقف هؤلاء العلماء تجاه الروايات يشبه — من هذه الوجهة — موقف المؤرخين تجاه الأخبار؛ ولذلك يقرنهم ابن خلدون بالمؤرخين في عبارة واحدة في بعض الأحيان، فيقول مثلًا:

    «كثيرًا ما وقع للمؤرخين والمفسرين وأئمة النقل من المغالط في الحكايات والوقائع؛ لاعتمادهم على مجرد النقل، غثًّا أو سمينًا» (ص٩).

  • (٣)

    ومع كل ذلك يرى ابن خلدون اختلافًا جوهريًّا بين طريقة تمحيص الأخبار الشرعية، وبين طريقة تمحيص الأخبار التاريخية، ويقول: إذا كان «التجريح والتعديل» يكفي للحكم على صحة الأخبار الشرعية، فإنه لا يكفي للقول بصحة الأخبار التاريخية بوجه من الوجوه.

    وذلك لأن الأحكام التي تترتب على الأخبار الشرعية إنما هي «أحكام إنشائية»، تعيِّن واجبات المكلفين، وتأمرهم بالعمل أو الترك، وبتعبير آخر: إنها تحتِّم عليهم القيام ببعض الأعمال، والتجنُّب لبعض الأفعال، و«الظن بصحة الخبر» وحده يكفي لتحتيم العمل بمقتضياته — حسب القواعد الشرعية — من غير حاجة إلى حصول اليقين في أمره؛ ولهذا السبب يقولون إن «التجريح والتعديل» وحده يكفي لتوليد الظن بصحة الخبر ولتحتيم العمل بمقتضاه.

    وأمَّا الأحكام التي تنطوي عليها الأخبار التاريخية فهي «أحكام خبرية»١ محضة، لا تأمر شيئًا، ولا تمس الأفعال والتروك بشيء، إنها لا ترمي إلى غاية غير «تقرير الواقع»؛ ولهذا السبب كان من الضروري أن يُنْظَر على الدوام في موافقتها أو عدم موافقتها للواقعات. ولا حاجة للبيان أن ذلك لا يمكن أن يتمَّ بالتجريح والتعديل وحده — أي بالتأكُّد من عدالة المخبرين ونباهتهم وحدها — بل يحتاج إلى نظر أوسع، وبحث أعمق من ذلك.

    ابن خلدون يقرِّر رأيه في كل ذلك في مدخل الكتاب الأول، حيث يقول:

    «إنما كان التعديل والتجريح هو المعتبر في صحة الأخبار الشرعية؛ لأن معظمها تكاليف إنشائية، أوجب الشارع العمل بها متى حصل الظن بصدقها، وسبيل صحة الظن الثقة بالرواة بالعدالة والضبط.»

    «وأمَّا الأخبار عن الواقعات فلا بد في صدقها وصحتها من اعتبار المطابقة (يعني المطابقة للواقعات)؛ ولذلك وجب أن يُنْظَرَ في إمكان وقوعه، وصار فيها ذلك أهم من التعديل ومقدَّمًا عليه.»

    «إذ فائدة الإنشاء مقتبسة منه فقط، وفائدة الخبر منه ومن الخارج بالمطابقة» (ص٣٧).

    إن رأي ابن خلدون في هذه القضية يتضح لنا بصراحة أعظم من بعض الفقرات التي كتبها في الفصل الذي يقرر «أن العلماء من بين البشر أبعد عن السياسة ومذاهبها» (ص٥٤٢).

    يميِّز ابن خلدون في هذا الفصل بين «ما في الذهن» وبين «ما في الخارج»، ويقول إن الأحكام الشرعية أحكام ذهنية يُطلب العمل بموجبها، والعمل إنما هو «حدوث الشيء في الخارج» وفقًا لمقتضيات تلك الأحكام. يتبيَّن من ذلك أن الأحكام الشرعية لا تتقيَّد بما هو «موجود في الخارج»، بل بعكس ذلك تتطلَّب «مطابقة ما في الخارج لها»، خلافًا لما هو الحال في العلوم العقلية التي لا تُعْتَبَر أحكامها صحيحةً ما لم تكن «مطابِقَةً لما في الخارج».

    ولهذا السبب قال ابن خلدون إن التجريح والتعديل وحده يكفي لتمحيص الأخبار الشرعية، غير أنه لا يكفي لتمحيص الأخبار التاريخية.

  • (٤)

    يُفْهَم من التفاصيل الآنفة الذكر أن أول ما يجب عمله على المؤرخ لتمحيص خبر من الأخبار هو — في رأي ابن خلدون — النظر فيما إذا كان الخبر المذكور ممكنًا في حدِّ ذاته أو مستحيلًا. وأمَّا البت في هذا الأمر فمما يتطلَّب معرفة طبائع العمران. يقول ابن خلدون في هذا الصدد:

    «تمحيصه (أي تمحيص الخبر) إنما هو بمعرفة طبائع العمران، وهو أحسن الوجوه وأوثقها في تمحيص الأخبار، وتمييز صدقها من كذبها، وهو سابق على التمحيص بتعديل الرواة، ولا يرجع إلى تعديل الرواة، حتى يُعلم أن ذلك الخبر في نفسه ممكن أو ممتنع، وأمَّا إذا كان مستحيلًا، فلا فائدة للنظر في التعديل والتجريح» (ص٣٧).

    إن الإمكان الذي يشير إليه ابن خلدون في هذه الأبحاث لم يكن الإمكان العقلي المطلق، بل هو الإمكان العادي الطبيعي، كما يصرِّح بذلك في موضع آخر من المقدمة:

    «فلْيرجع الإنسان إلى أصوله، ولْيكن مهيمنًا على نفسه، ومميِّزًا بين طبيعة الممكن والمستحيل بصريح عقله ومستقيم فطرته، فما دخل في نطاق الإمكان قَبِلَه، وما خرج عنه رفضه.»

    «وليس مرادنا الإمكان العقلي المطلق، فإن نطاقه أوسع شيء، فلا يُفرض حدًّا بين الواقعات، وإنما مرادنا الإمكان بحسب المادة للشيء» (ص١٨٢).

    (وبتعبير آخر: بحسب طبيعة الأشياء، أو بالأحرى بحسب طبيعة العمران.)

    «فالقانون في تمييز الحق من الباطل في الأخبار بالإمكان والاستحالة، أن ننظر في الاجتماع البشري الذي هو العمران، ونميز ما يلحقه من الأحوال لذاته وبمقتضى طبعه، وما يكون عارضًا لا يُعْتَد به، وما لا يمكن أن يعرض له. وإذا فعلنا ذلك كان ذلك لنا قانونًا في تمييز الحق من الباطل في الأخبار، والصدق من الكذب بوجه برهاني لا مدخل للشك فيه» (ص٣٧-٣٨).

  • (٥)

    لا يكتفي ابن خلدون بسرد هذه القواعد العامة، بل يطبقها على بعض الأخبار، ويستعرض سلسلةً من الروايات والأخبار المتنوعة عن الأزمنة الماضية (ص١٠–٢٧، و٣٦-٣٧).

٥

وأمَّا تعليل الوقائع — بعد التأكُّد من صحتها — والبحث في «أسباب حدوثها وتزاحمها وتعاقبها»، فابن خلدون يعتبر ذلك من أهم واجبات المؤرخين، ويؤكِّد ضرورتها عدة مرات، غير أنه لا يفكر في تدوين قواعد هذا التعليل، ولا يحاول تعيين طرقه ومناهجه، ومع هذا فإنه يُقْدِم على تعليلات كثيرة في معظم فصول المقدمة، وإذا استعرضنا التعليلات المسطورة في تلك الفصول؛ وجدنا أنها تسير — في الأكثر — على طريقة استقرائية؛ إنها تعتمد على استقراء الوقائع والحادثات، وتشمل استقراءاتها هذه إلى ما يحدث في الحال الحاضر، أو ما حدث في الماضي القريب من جهة، وإلى ما حدث في الأزمنة الغابرة من جهة أخرى.

إن الدراسات التالية ستعطي نماذج عديدةً على التعليلات المذكورة، وستسعى إلى تعيين قيم التعليلات من الوجهة العلمية.

١  نرى أن نشير هنا إلى المشابهة الشديدة الموجودة بين الرأي الذي قرَّره ابن خلدون في الأحكام الإنشائية والأحكام الخبرية، وبين الرأي الذي أبداه الفيلسوف الكبير عمانوئيل كانت في العقل النظري والعقل العملي. قال كانت: إن العقل النظري يوصلنا إلى أحكام واقعية، وأمَّا العقل العملي فيزودنا بالأحكام الإيمانية.
ومن الواضح أن الأحكام الإنشائية التي ذكرها ابن خلدون — في القرن الرابع عشر — لا تختلف كثيرًا عن الأحكام الإيمانية التي أشار إليها «كانت» في أواخر القرن الثامن عشر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤