التربية والتعليم

في مقدمة ابن خلدون آراء وملاحظات كثيرة عن التربية والتعليم.

إن قسمًا من هذه الآراء مُدوَّن في فصول خاصة في الباب السادس — باب العلم والتعليم — وهذه الفصول الخاصة هي التي تستلفت عادةً أنظار الذين يدرسون المقدمة من وجهة التربية والتعليم. فإن المؤلفات الباحثة في تاريخ التربية بوجه عام، وتاريخ التربية عند العرب بوجه خاص، إنما تشير إلى آراء ابن خلدون في التربية والتعليم، حسب ما جاء في الفصول المذكورة وحدها.

ولكنا نلاحظ أن آراء ابن خلدون في التربية والتعليم لا تنحصر فيما جاء في الفصول المذكورة، حتى إنها لا تتمثَّل تمثيلًا كافيًا بمباحث هذه الفصول؛ لأن ابن خلدون قد دوَّن كثيرًا من الآراء والملاحظات التربوية في ثنايا الفصول المختلفة بصورة عرضية. فإذا أردنا أن نحيط علمًا بكل ما كتبه في التربية والتعليم، يجب علينا أن نقوم بأبحاث واسعة النطاق في سائر فصول المقدمة.

  • (١)

    إن الفصول التي تحوم مواضيعها حول التربية والتعليم بصورة مباشرة تبلغ خمسة عشر، وهي:

    فصل في أن العلم والتعليم طبيعي في العمران البشري (ص٤٢٦)، في وجه الصواب في تعليم العلوم وطرق إفادته (ص٥٣٣)، في تعليم الولدان واختلاف مذاهب الأمصار الإسلامية في مذاهبه (ص٥٣٧)، في أن الشدة بالمتعلمين مُضِرَّة بهم (ص٥٤٠)، في أن كثرة التآليف في العلوم عائقة عن التحصيل (ص٥٣١)، في أن كثرة الاختصارات المؤلفة بالعلوم مخلة بالتعليم (ص٥٣٢)، في أن العلوم الآلية لا تُوسَّع فيها الأنظار، ولا تُفرَّع المسائل (ص٥٣٦)، في أن التعليم للعلم من جملة الصنائع (ص٤٣٠)، في أن الرحلة في طلب العلم ولقاء المشيخة مزيد كمال في التعليم (ص٥٤١)، في تعليم اللسان المضري (ص٥٥٩)، في أن مَلَكة هذا اللسان غير صناعة العربية، ومستغنية عنها في التعليم (ص٥٦٠)، في صناعة الشعر ووجه تعلُّمه (ص٥٦٩)، في أن حصول هذه المَلَكة بكثرة الحفظ، وجودتها بجودة المحفوظ (ص٥٧٨)، في أن الصنائع لا بد لها من التعليم (ص٣٩٩)، فيمن حصلت له مَلَكة في صناعة، فقلَّ أن يجيد بعدها في مَلَكة أخرى (ص٤٥٥).

    وأمَّا الفصول التي تحوي في ثناياها ملاحظات هامةً في التربية والتعليم، فهي أيضًا كثيرة، وأهمها هو؛ فصل في أن الصنائع تُكْسِب صاحبها عقلًا، وخصوصًا الكتابة والحساب (ص٤٤٧)، في أن الخط والكتابة من عداد الصنائع الإنسانية (ص٤١٧)، في أن اللغة مَلَكة صناعية (ص٥٥٤)، في أن الصنائع إنما تستجاد وتكثر إذا كثر طالبها (ص٤٠٣)، في تفسير الذوق في مصطلح أهل البيان (ص٥٦٢)، في أن أهل الأمصار على الإطلاق قاصرون في تحصيل هذه المَلَكة (ص٥٦٤)، في أنه لا تتفق الإجادة في فنَّي المنظوم والمنثور إلا للأقل (ص٥٦٨)، في صناعة الغناء (ص٤٢٣)، في العلوم العددية (ص٤٨٢)، في العلوم الهندسية (ص٤٨٥)، في إبطال الفلسفة (ص٥١٤).

  • (٢)

    إن أهم هذه الفصول — من وجهة كثرة الملاحظات التربوية الواردة فيها — هو فصل «تعليم العلوم» (ص٥٣٣)، ثم فصل «تعليم الولدان» (ص٥٣٧).

    يقرِّر ابن خلدون في فصل تعليم العلوم بعض القواعد العامة التي يجب اتباعها في التعليم بوجه عام، ويعرض في فصل تعليم الولدان الطرائق المتبعة في تعليم الصغار في مختلِف البلدان بوجه خاص، ويقارن بين هذه الطرق ويبين محسناتها ومحاذيرها.

    هذا وإننا نجد من جهة أخرى أنه يتكلَّم في فصل تعليم العلوم عن أصول التعليم، من غير أن يلتفت إلى مواد التعليم، في حين أنه يبحث في فصل تعليم الولدان عن مناهج الدراسة ومواد التدريس، من غير أن يتطرَّق إلى كيفية تعليم وتدريس تلك المواد.

    وفي الأخير نجد أنه يستعمل في فصل «تعليم الولدان» تعبيرَي «التعليم الأول» (ص٥٣٨)، و«التعليم الثاني» (ص٥٣٩)، ويقصد بالتعليم الأول ما يكون في سن الصبا قبل سن البلوغ، وبالتعليم الثاني ما يتم بعد ذلك، أي بعد تعليم الصبا (ص٥٣٩).

    ولذلك نستطيع أن نعتبر الفصلين المذكورين بمثابة العمود الفقري من مباحث ابن خلدون في التربية والتعليم.

  • (٣)
    إذا استعرضنا ما ورد في هذين الفصلين وفي الفصول الأخرى من مقدمة ابن خلدون، من الآراء والمعلومات المتعلقة بالتربية والتعليم؛ استطعنا أن نجمعها في الأنواع والصنوف الثلاثة التالية:
    • (أ)

      المعلومات النفسية التي تقوم عليها وتستند إليها نظريات التربية والتعليم.

    • (ب)

      المعلومات التاريخية التي تبيِّن الطرق المتبعة في التربية والتعليم في البلاد المختلفة.

    • (جـ)

      الوصايا العملية التي ترشد المعلِّمين والمربين إلى القواعد التي يجب اتباعها في التربية والتعليم، والمبادئ النظرية التي تستند إليها تلك الوصايا العملية.

    وبما أننا اتخذنا المباحث النفسية موضوعًا لدراسة خاصة (راجعوا البحث السابق لهذا)؛ فإننا سنحصر نطاق بحثنا هنا في الصفنين الثاني والثالث من المواضيع التربوية التي ذكرناها آنفًا.

    ومع هذا نود أن نشير إلى أن الدراسة الآنفة الذكر — عن النفس الإنسانية — يجب أن تُعْتَبَرَ ممهِّدةً لهذه، فالتفاصيل الواردة في تلك الدراسة يجب أن توضع نُصْبَ الأعين عند مطالعة هذه، ويجب أن يلاحظ بوجه خاص أن المباحث التي تشرح «نظرية الملكات» (ص٨٧)، والتي تبيِّن رأي ابن خلدون في وجوب تمييز العلم النظري البحت من العلم المقرون بالنزوع، وفي وجوب التفريق بين معرفة صناعة من الصنائع علمًا، وبين إحكامها عملًا (ص٩٩)، مما يجب أن يُعْتَبَر جزءًا من هذه الدراسة بقدر ما هو جزء من تلك. ونحن نعتقد بأننا لا نعدو الحقيقة إذا قلنا: إن ما يقرِّره ابن خلدون في هذين البحثين إنما هو بمثابة «سكلجة العلم والتعليم» من أبحاث «التربية والتعليم».

(١) نظرات عامة

١

  • (١)

    لا يحاول ابن خلدون تعريف التربية ولا التعليم، بل يتكلَّم عن ذلك كأنه يتكلَّم عن أمور معلومة لا تحتاج إلى تعريف.

    إنه كثيرًا ما يتكلَّم عن التعليم وحده، يتكلَّم عن تعليم الصنائع، أو تعليم العلوم، أو تعليم اللغة، من غير أن يذكر التربية، ومع هذا فإنه يتطرَّق في بعض الأحيان إلى مسائل التربية أيضًا، وإن لم يسمِّها باسم خاص.

    فإنه يقول مثلًا في فصل «الرحلة في طلب العلم» ما يأتي:

    «إن البشر يأخذون معارفهم وأخلاقهم وما ينتحلون به من المذاهب والفضائل تارةً علمًا وتعليمًا وإلقاءً، وتارةً محاكاةً وتلقينًا بالمباشرة. إلا أن حصول الملكات من المباشرة والتلقين أشد استحكامًا وأقوى رسوخًا» (ص٥٤١).

    يلاحظ أن ابن خلدون — في هذه الفقرات — يقرن المعارف والمذاهب بالأخلاق والفضائل، ويقرِّر أن البشر يأخذون ذلك تارةً علمًا وتعلُّمًا وإلقاءً — يعني عن طرق الفكر — وتارةً محاكاةً وتلقينًا بالمباشرة — يعني عن طرق الفعل — وأنه ينظر بهذه الصورة إلى التربية والتعليم نظرةً شاملةً جدًّا، نظرة تشمل العلوم والأخلاق، وتتناول طرق اكتسابها من التعليم إلى التلقين والمباشرة والممارسة.

  • (٢)

    زد على ذلك، فإن ابن خلدون حينما يتكلَّم عن الصنائع والعلوم في بعض الفصول يبيِّن تأثير العلم في العقل، ويَدخُل بذلك في مباحث تشبه مباحث التربية العقلية شبهًا كبيرًا.

    فإنه يقرِّر في فصل خاص «أن الصنائع تُكسِبُ صاحبها عقلًا جديدًا»، ثم يوضِّح ذلك بقوله:

    «إن اكتساب العلوم والصنائع يؤدي إلى «زيادة عقل» الإنسان، ويفيد «النفس الناطقة عقلًا فريدًا»، والصنائع أبدًا يحصل عنها وعن ملكتها «قانون علمي مستفاد من تلك المَلَكة؛ فلهذا كانت الحنكة في التجربة تفيد عقلًا، والحضارة الكاملة تفيد عقلًا، «والصنائع والعلوم يحصل منها زيادة عقل»» (ص٤٢٨).

    يشرح ابن خلدون رأيه هذا في موضع آخر بوضوح أكبر، إذ يقول في الفصل الذي يقرِّر «أن التعليم للعلم من جملة الصنائع»:

    «كل صناعة مرتَّبة يرجع منها إلى النفس أثر يكسبها عقلًا جديدًا، تستعد به لقَبول صناعة أخرى، ويتهيَّأ بها العقل بسرعة الإدراك للمعارف.»

    «حسن الملكات في التعليم والصنائع وسائر الأحوال العادية يزيد الإنسان ذكاءً في عقله، وإضاءةً في فكره، بكثرة الملكات الحاصلة للنفس» (ص٤٣٣).

    إن ما يظهر على أهل الحضر من آثار الذكاء والكمال في العقل، «إنما هو من رونق الصنائع والتعليم، فإن لها آثارًا ترجع إلى النفس» (ص٤٣٤).

  • (٣)
    لا يكتفي ابن خلدون بتقرير هذا المبدأ العام، بل يتوسَّع في تطبيقه على عدة مواضيع في عدة علوم:
    • (أ)

      يقرِّر في فصل الخط والكتابة «أن الكتابة أكثر إفادةً لزيادة العقل وتقوية ملكات الإدراك والانتقال»، ويعلِّل ذلك بما يلي:

      «لأنها تشمل على العلوم والأنظار، بخلاف الصنائع؛ وبيانه أن في الكتابة انتقالًا من الحروف الخطية إلى الكلمات اللفظية في الخيال، ومن الكلمات اللفظية في الخيال إلى المعاني التي في النفس، ذلك دائمًا؛ فيحصل لها مَلَكة الانتقال من الأدلة إلى المدلولات. وهو معنى النظر العقلي الذي يكسِب العلوم المجهولة، فيُكسِب بذلك مَلَكة من التعقُّل تكون زيادة عقل، ويحصل به قوة فطنة وكيس في الأمور؛ لما تعودوه من الانتقال» (ص٤٢٩).

    • (ب)

      وفي فصل الهندسة يقرِّر ابن خلدون أنها تفيد صاحبها «إضاءةً في عقله واستقامةً في فكره»، ويعلِّل ذلك بما يلي:

      «لأن براهينها كلها بيِّنة النظام، جليَّة الترتيب، لا يكاد الغلط يدخل في أقيستها؛ لترتيبها وانتظامها؛ فيبعد الفكر بممارستها عن الخطأ، وينشأ لصاحبها عقل على ذلك المهيع» (٤٨٦).

      «وقد زعموا أنه كان مكتوبًا على باب أفلاطون: من لم يكن مهندسًا فلا يدخلن منزلنا. وكان شيوخنا رحمهم الله يقولون: ممارسة علم الهندسة للفكر، بمناسبة الصابون للثوب الذي يغسل منه الأقذار، وينقيه من الأوضار والأدران. وإنما ذلك لما أشرنا إليه من ترتيبه وانتظامه» (ص٤٨٦).

    • (جـ)

      يقرِّر ابن خلدون فائدة الحساب أيضًا على هذا المنوال، ويوصي — لذلك — بالبدء بالحساب في تعليم الولدان. فإنه يقول في فصل العلوم العددية ما يلي:

      «هذه الصناعة (صناعة الحساب) حادثة، احتيج إليها للحساب في المعاملات، وألَّفَ الناس فيها كثيرًا، وتداولوها في الأمصار بالتعليم للولدان، ومن أحسن التعليم عندهم الابتداء بها؛ لأنها معارف متضحة وبراهين منتظمة، فينشأ عنها في الغالب عقل مضيء دُرِّب على الصواب، وقد يقال: من أخذ نفسه بتعليم الحساب أول أمره يغلب عليه الصدق؛ لما في الحساب من صحة المباني، ومناقشة النفس، فيصير ذلك خُلقًا، ويتعوَّد الصدق ويلازمه مذهبًا» (ص٤٨٣).

    • (د)

      ويقول ابن خلدون في بحث الفلسفة — بعد أن يوصي بإبطالها:

      «ليس له في علمنا إلا ثمرة واحدة، وهي شحذ الذهن في ترتيب الأدلة والحجج؛ لتحصيل مَلَكة الجودة والصواب في البراهين. وذلك أن نظم المقاييس وتركيبها على وجه الإحكام والإتقان، هو كما شرطوه في صناعتهم المنطقية، وقولهم بذلك في العلوم الطبيعية، وهم كثيرًا ما يستعملونها في علومهم الحكمية — من الطبيعيات والتعاليم وما بعدها — فيستولي على الناظر فيها — بكثرة استعمال البراهين بشروطها — على مَلَكة الإتقان والصواب في الحجج والاستدلالات» (ص٥١٩).

  • (٤)

    يتبيَّن من كل ذلك أن ابن خلدون كان معتقدًا بتأثير العلم «التربوي»، وإن لم يسمِّ ذلك بتعبير خاص؛ ولذلك لا نغالي إذا قلنا إن نظرياته هذه وإن حامت على الأكثر حول التعليم، فإنها لا تخلو من نظرات في التربية أيضًا.

    زِدْ على ذلك، فإننا نفهم من هذه العبارات أن ابن خلدون — خلال كلامه عن التعليم — يلاحظ ما يحصل في نفس المتعلم من «الانتقال» Transfert — حسب تعبير العلم الحاضر — من جرَّاء التعلُّم، ويقرِّر أن تأثير التعلُّم لا ينحصر في العقل وحده، بل يتعدَّاه إلى الأخلاق أيضًا، وبتعبير آخر: إن «الانتقال» من التعلُّم يكون فكريًّا وخُلقيًّا في وقت واحد.

٢

  • (١)

    يبحث ابن خلدون عن منشأ التعليم — بجانب منشأ العلم — ويقرِّر «أن العلم والتعليم طبيعي في العمران البشري» (ص٤٢٩-٤٣٠)، ويعلِّل ذلك بما يلي:

    «إن الإنسان تميَّز عن الحيوانات بالفكر الذي يهتدي به لتحصيل معاشه، والتعاون عليه بأبناء جنسه، والاجتماع المهيئ لذلك التعاون، وقَبول ما جاءت به الأنبياء عن الله تعالى، والعمل به، واتباع صلاح أخراه، فهو مفكر في ذلك كله دائمًا، لا يفتر عن الفكر فيه طرفة عين، بل اختلاج الفكر أسرع من لمح البصر، وعن هذا الفكر تنشأ العلوم وما قدَّمناه من الصنائع.»

    «ثم من أجل هذا الفكر وما جُبِل عليه الإنسان، بل الحيوان، من تحصيل ما تستدعيه الطباع، فيكون الفكر راغبًا في تحصيل ما ليس عنده من الإدراكات، فيرجع إلى من سبقه بعلم، أو زاد عليه بمعرفة أو إدراك، أو أخذه ممن تقدَّمه من الأنبياء — الذين يبلغونه لمن تلقاه — فيلقَّن ذلك عنهم، ويحرص على أخذه وعلمه» (ص٤٢٩-٤٣٠).

    «ثم إن فكره ونظره يتوجَّه إلى واحد واحد من الحقائق، وينظر ما يعرض لذاته واحدًا بعد الآخر، ويتمرَّن على ذلك حتى يصير إلحاق العوارض بتلك الحقيقة مَلَكةً له، فيكون حينئذ علمه بما يَعْرِض لتلك الحقيقة علمًا مخصوصًا.»

    «وتتشوَّف نفوس أهل الجيل الناشئ إلى تحصيل ذلك، فيفزعون إلى أهل معرفته، ويجيء التعليم من هذا.»

    ثم يختم ابن خلدون بحثه هذا بقوله: «فقد تبيَّن بذلك أن العلم والتعليم طبيعي في البشر» (ص٤٣٠).

  • (٢)

    يظهر من هذه الملاحظات بكل وضوح أن ابن خلدون ينظر هنا إلى «التعليم» من زاوية «عمله الاجتماعي»، ويقرِّر بأنه «أُفعولة اجتماعية» حسب تعبيراتنا الحالية.

    من المعلوم أن المفكرين كانوا يعرِّفون التربية والتعليم تارة حسب غاياتها، وطورًا حسب وسائطها، ولكنهم في آخر الأمر صاروا يلاحظون أنها أُفعولة اجتماعية، فأخذوا يعرِّفونها حسب علاقاتها بالحياة الاجتماعية، حتى إن المفكر الاجتماعي المشهور «إميل دوركهايم» عَرَّفَ التربية في أوائل القرن الحالي بقوله: «التأثير الذي يجريه الجيل الراشد في الجيل الناشئ.»

    إن ما كتبه ابن خلدون في هذا الصدد — في الربع الأخير من القرن الرابع عشر — يكتسب خطورةً خاصةً من هذه الوجهة؛ لأنه يدل دلالةً واضحةً على أنه نَظَرَ إلى القضية نظر «المفكر الاجتماعي»، ولاحظ أن الجيل الناشئ يتشوَّق إلى تلقِّي العلوم والمعارف من الجيل الذي سبقه، فرد بذلك منشأ التعليم إلى هذا «الواقع الاجتماعي».

  • (٣)

    يلاحظ ابن خلدون أمرًا مماثلًا لذلك في الصناعات والآداب والتقاليد أيضًا؛ لأنه يقول ما يلي في الفصل الذي يقرِّر «أن التعليم للعلم من جملة الصنائع»:

    «إن الحضر لهم آداب في أحوالهم في المعاش والمسكن والبناء وأمور الدين والدنيا، وكذا سائر أعمالهم وعاداتهم ومعاملاتهم وجميع تصرُّفاتهم، فلهم في ذلك كله آداب يوقَفُ عندها في جميع ما يتناولونه ويتلبَّسون به من أخذ وترك، حتى كأنها حدود لا تُتعدَّى، وهي مع ذلك صنائع يتلقَّاها الآخر عن الأول منهم» (ص٤٣٣).

    ومن الواضح البديهي أن قوله: «يتلقاها الآخر عن الأول»، لا يختلف معنًى ومدلولًا عن قولنا: «يتلقاها الجيل الناشئ عن الجيل الراشد.»

  • (٤)

    يجد ابن خلدون علاقةً قويةً بين العلوم وبين الصنائع، ويستعمل كلمة التعليم بمعنًى شامل، يتناول العلوم من جهة، والصنائع من جهة أخرى:

    إنه يقرِّر في أحد فصول الباب الخامس — الباحث عن أمور المعاش والصنائع — «إن الصنائع لا بد لها من العلم» (ص٣٩٩)، كما يقرِّر في أحد فصول الباب السادس — الباحث عن أمور العلم والتعليم — «إن التعليم للعلم من جملة الصنائع» (ص٤٣٠).

    ويعرِّف ابن خلدون ماهية الصناعة بقوله: «الصناعة هي مَلَكة في أمر عملي فكري» (ص٣٩٩)، كما أنه يوضِّح نظره إلى العلم بقوله: «الحذق في العلم هو بحصول مَلَكة في الإحاطة بمبادئ ذلك العلم وقواعده» (ص٤٣٠). وبما أنه يعتقد أن الملكات كلها — سواء كانت في البدن أو في الدماغ — تفتقر إلى التعليم، يقول:

    «ولهذا كان السند في التعليم — في كل علم أو صناعة — إلى مشاهير المعلِّمين فيها، مُعْتَبَرًا في كل أُفق وجيل» (ص٤٣٠).

٣

  • (١)

    لا يكتفي ابن خلدون بتقرير منشأ التعليم بنزعة اجتماعية — كما يفعله كل مفكر اجتماعي — «بل ينظر إلى تطوُّر التعليم ونشوئه» أيضًا بنزعة اجتماعية مثلها؛ فإنه يلاحظ أن التعليم يتأثَّر بأحوال المجتمع إلى حدٍّ كبير، ويتقدَّم ويتأخَّر مع تقدُّم أو تأخُّر الأحوال المذكورة، وذلك في ميدانَي العلوم والصنائع على حد سواء.

    ولذلك نجده يقرِّر في فصل من فصول الباب الخامس «أن الصنائع إنما تكمل بكمال العمران الحضري وكثرته» (ص٤٠٠)، وفي فصل آخر من الباب نفسه «أن الصنائع إنما تستجاد وتكثر إذا كثر طالبها» (ص٤٠٣)، كما أنه يقرِّر في فصل من فصول الباب السادس «أن العلوم إنما تكثر حيث يكثر العمران وتعظم الحضارة» (ص٤٣٤).

    • (أ)

      يقول ابن خلدون في فصل الصنائع:

      «والسبب في ذلك» أولًا؛ «أن الناس ما لم يستوفِ العمران الحضري، وتتمدَّن المدينة، فإنما همهم في الضروري من المعاش، وهو تحصيل الأقوات. فإذا تمدَّنت المدينة وتزايدت فيها الأعمال، ووفت بالضروري وزادت عليه، صُرِف الزائد حينئذ إلى الكمالات من المعاش.»

      وثانيًا: «أن الصنائع والعلوم إنما هي للإنسان من حيث فكره الذي يتميَّز به عن الحيوانات، والقوت له من حيث الحيوانية والغذائية، فهو مقدَّم عليه لضروريته على العلوم والصنائع، وهي متأخرة عن الضروري. وعلى مقدار العمران تكون جودة الصنائع للتأنُّق فيها حينئذ، واستجادة ما يُطْلَب منها، بحيث تتوفَّر دواعي الترف والثروة. وأمَّا العمران البدوي أو القليل فلا يحتاج من الصنائع إلا البسيط، خاصةً المستعمل في الضروريات. وإذا وُجِدت هذه لا توجد فيه كاملةً ولا مستجادة، وإنما توجد فيها بمقدار الضرورة، إذ هي كلها وسائل إلى غيرها، وليست مقصودةً لذاتها.»

      «وإذا زخر بحر العمران، وطُلِبت فيه الكمالات، كان من جملتها التأنُّق في الصنائع واستجادتها، فكملت بجميع متمِّماتها، وتزايدت صنائع أخرى معها، مما تدعو إليه عوائد الترف وأحواله.»

      «وقد تنتهي هذه الأصناف — إذا استبحر العمران — إلى أن يوجد منها كثير من الكمالات والتأنُّق فيها في الغاية، وتكون من وجوه المعاش في المصر لمنتحلها، بل تكون فائدتها من أعظم فوائد الأعمال؛ لما يدعو إليه الترف في المدينة، مثل الدهَّان، ومعلم الغناء والرقص، ومثل الوراقين الذين يعانون صناعة انتساخ الكتب وتجليدها وتصحيحها. فإن هذه الصناعة إنما يدعو إليها الترف في المدينة من الاشتغال بالأمور الفكرية وأمثال ذلك. وقد تخرج عن الحد — إذا كان العمران خارجًا عن الحد — كما يبلغنا عن أهل مصر؛ إن فيهم من يعلِّم الطيور العجم والحمر الإنسية، ويتخيَّل أشياء من العجائب بإيهام قلب الأعيان، وتعليم الحداء والرقص، والمشي على الخيوط في الهواء، ورفع الأثقال من الحيوان والحجارة، وغير ذلك من الصنائع التي لا توجد عندنا بالمغرب؛ لأن عمران أمصاره لم يبلغ عمران مصر والقاهرة» (ص٤٠١).

    • (ب)

      ويقول ابن خلدون في فصل آخر: «إن الصنائع تُستجاد وتكثر إذا كثر طالبها»، ويعلِّل ذلك بما يلي:

      «والسبب في ذلك ظاهر؛ وهو أن الإنسان لا يسمح بعمله أن يقع مجانًا؛ لأنه كسبه ومعاشه منه، إذ لا فائدة له في جميع عمره في شيء مما سواه، فلا يصرفه إلا فيما له قيمة في مصره؛ ليعود عليه بالنفع. وإن كانت الصناعة مطلوبة، وتوجَّه إليها النفاق، كانت حينئذ الصناعة بمثابة السلعة التي تنفق سوقها وتجلب للبيع، فتجتهد الناس في المدينة لتعلُّم تلك الصناعة ليكون منها معاشهم. وإذا لم تكن الصناعة مطلوبة؛ لم تنفق سوقها، ولا يوجه قصد إلى تعلُّمها، فاختصت بالترك، وفُقِدت للإهمال» (ص٤٠٣).

    • (جـ)

      ويقول في الفصل الذي يقرِّر «أن العلوم إنما تكثر حيث يكثر العمران وتعظم الحضارة»:

      «إن تعليم العلم من جملة الصنائع، وقد كنا قدَّمنا أن الصنائع فإنما تكثر في الأمصار، وعلى نسبة عمرانها في الكثرة والقلة، والحضارة والترف تكون نسبة الصنائع في الجودة والكثرة؛ لأنه أمر زائد على المعاش. فمتى فُضِّلت أعمال أهل العمران عن معاشهم؛ انصرفت إلى ما وراء المعاش من التصرُّف في خاصية الإنسان، وهي العلوم والصنائع. ومن تشوَّف بفطرته إلى العلم ممن نشأ في القرى والأمصار غير المتمدنة، فلا يجد فيها التعليم الذي هو صناعي؛ لفقدان الصنائع في أهل البدو كما قدَّمناه، ولا بد من الرحلة في طلبه إلى الأمصار المستبحرة، شأن الصنائع كلها» (ص٤٣٤).

      ويستشهد على ذلك بأحوال المدن الإسلامية الكبيرة:

      «واعْتَبِرْ ما قرَّرناه بحال بغداد وقرطبة والقيروان والبصرة والكوفة، لمَّا كثر عمرانها صدر الإسلام واستوت فيها الحضارة؛ كيف زخرت فيها بحار العلم، وتفنَّنوا في اصطلاحات التعليم. ولمَّا تناقض عمرانها وانذعر سكانها؛ انطوى ذلك البساط بما عليه جملة، وفُقِد العلم بها والتعليم» (ص٤٣٤).

      ويقرِّر ابن خلدون بعد ذلك أن «العلم والتعليم» كان زاخرًا في عهده في مصر القاهرة، قائلًا: «ونحن لهذا العهد نرى أن العلم والتعليم إنما هو بالقاهرة من بلاد مصر.» ويعزو استبحار العلم والتعليم هناك لأسباب تاريخية واجتماعية واقتصادية:

      «لما أن عمرانها (أي عمران القاهرة) مستبحر، وحضارتها مستحكمة منذ آلاف السنين؛ فاستحكمت فيها الصنائع وتفنَّنت، ومن جملتها تعليم العلم.»

      وأكَّد ذلك فيها وحفظه ما وقع لهذه العصور منذ مائتين من السنين — منذ أيام صلاح الدين بن أيوب — وذلك «أن أمراء الترك في دولتهم يخشون عادية سلطانهم على من يتخلَّفونه من ذريتهم؛ لما له عليهم من الرق أو الولاء، ولما يخشى من معاطب الملك ونكباته؛ فاستكثروا من بناء المدارس والزوايا والربط، وربطوا عليها الأوقاف المغلة، يجعلون فيها شركًا لولدهم ينظر عليها أو يصيب منها، مع ما فيهم غالبًا من الجنوح إلى الخير والتماس الأجور في المقاصد والأفعال. فكثرت الأوقاف لذلك، وعظمت الغلات والفوائد، وكثر طالب العلم ومعلمه بكثرة جريانهم منها، وارتحل إليها الناس في طلب العلم من العراق والمغرب، ونفقت بها أسواق العلوم، وزخرت بحارها» (ص٤٣٤-٤٣٥).

      إننا نجد في القسم الأخير من هذه الفقرات مثالًا بارعًا وقيِّمًا على «عمل الاقتصاد في التاريخ والعلم والتعليم»، وتعليلًا جريئًا لكثرة الأوقاف، تعليلًا يستند إلى إظهار الدوافع النفعية التي كانت تستتر وراء الكثير من المعاملات الوقفية.

    • (د)

      يكرِّر ابن خلدون ويؤكِّد المبادئ المقررة في هذين الفصلين في عدة فصول لمناسبات شتى، أهمها ما جاء في فصول الخط والكتابة (ص٤١٧)، والغناء (ص٤٢٣).

(٢) أصول التعليم

١

لقد خصَّ ابن خلدون فصلًا من الباب السادس لتقرير «وجه الصواب في تعليم العلوم وطريق إفادته» (ص٥٣٣-٥٣٤)، وعرض في الفصل المذكور عدة قواعد تربوية، استنادًا إلى بعض المبادئ النظرية العامة.

  • (١)
    إن المبادئ الأساسية التي يستند إليها ابن خلدون في تقرير قواعد التعليم، والملاحظات الجوهرية التي بنى عليها القواعد المذكورة، تتلخَّص فيما يلي:
    • (أ)

      إن الاستعدادات لقَبول العلم وفهمه تنشأ تدريجًا، ويكون المتعلِّم في أول الأمر عاجزًا عن الفهم بالجملة، إلا في الأقل، وعلى سبيل التقريب والإجمال والأمثلة الحسية.

    • (ب)

      إن المتعلِّم إذا حصل على مَلَكة ما في علم من العلوم؛ استعدَّ بها لقَبول ما بقي، وحصل له نشاط في طلب المزيد والنهوض إلى ما فوق، حتى يستولي على غايات العلم.

    • (جـ)

      إذا عجز الطالب عن فهم ما يُلْقَى عليه في بادئ الأمر — من جرَّاء سوء ترتيب المباحث — حسب ذلك من صعوبة العلم في نفسه؛ فكَلَّ ذهنه عنها وتكاسل عن العلم، وانحرف عن قَبوله، وتمادى في هجرانه.

      وبتعبير آخر: «أدركه الكلال وانطمس فكره، ويئس من التحصيل، وهجر العلم والتعليم.»

    • (د)

      إن المَلَكات إنما تحصل بتتابع الفعل وتكرُّره، وإذا تُنُوسِي الفعل تُنُوسِيت المَلَكة الناشئة عنه.

    • (هـ)

      إن تقسيم البال بين مسألتين مختلفتين يصعِّب الفهم، وبعكس ذلك، إن تفرُّغ الفكر إلى مسألة واحدة، واقتصاره عليها — قبل الانتقال إلى غيرها — يسهِّل الفهم والتحصيل.

  • (٢)

    وأمَّا القواعد الأساسية التي يقرِّرها ابن خلدون، فأولها وأهمها هي هذه القاعدة الجامعة:

    «التدرُّج مع التكرار، والتوسُّع المتمركز، مراعاةً لعقل المتعلم واستعداده.»

    يشرح ابن خلدون هذه القاعدة بتفصيل وافٍ، ويعلِّلها بوضوح تام:

    «إن تلقين العلوم للمتعلمين إنما يكون مفيدًا إذا كان على التدريج شيئًا فشيئًا، وقليلًا قليلًا.»

    «يلقي عليه أولًا مسائل من كل باب من الفن، هي أصول ذلك الباب، ويقرِّب له في شرحها على سبيل الإجمال، وتراعَى في ذلك قوة عقله واستعداده لقَبول ما يرد عليه، حتى ينتهي إلى آخر الفن؛ وعند ذلك يحصل له مَلَكة في العلم، إلا أنها جزئية وضيقة، وغايتها أنها هيَّأته لفهم الفن وتحصيل مسائله.»

    «ثم يرجع به إلى الفن ثانية، فيرفعه في التلقين عن تلك الرتبة إلى أعلى منها، ويستوفي الشرح والبيان، ويخرج عن الإجمال، ويذكر له ما هنالك من الخلاف ووجهه، إلى أن ينتهي إلى آخر الفن؛ فتجود مَلَكته.»

    «ثم يرجع به — وقد شدا — فلا يترك له عويصًا ولا مبهمًا ولا مغلقًا إلا وضَّحه وفتح له مقفله، فيخلص من الفن وقد استولى على ملكته.»

    «وهذا وجه التعليم المفيد، وهو كما رأيت إنما يحصل في ثلاث تكرارات، وقد يحصل للبعض في أقل من ذلك، بحسب ما يخلق له ويتيسر عليه» (ص٥٢٣).

    إن معظم المعلمين لا يراعون هذا المبدأ، ويسلكون مسلكًا يخالفه كل المخالفة. ابن خلدون ينتقد مسلك هؤلاء بشدة:

    «وقد شاهدنا كثيرًا من المعلمين لهذا العهد — الذي أدركنا — يجهلون طرق التعليم وإفادته، ويُحْضِرُون للمتعلم في أول تعليمه المسائل المقفلة من العلم، ويطالبونه بإحضار ذهنه في حلها، ويحسبون ذلك مرانًا على التعليم وصوابًا فيه، ويكلِّفونه رعي ذلك وتحصيله، ويخلطون عليه بما يُلقون له من غايات الفنون في مبادئها، وقبل أن يستعدَّ لفهمها» (ص٥٣٣).

    يؤيد ابن خلدون رأيه في القاعدة الأساسية بملاحظات نفسية هامة:

    «فإن قَبول العلم والاستعدادات لفهمه تنشأ تدريجًا، ويكون المتعلم أول الأمر عاجزًا عن الفهم بالجملة، إلا في الأقل، وعلى سبيل التقريب والإجمال والأمثال الحسية، ثم لا يزال الاستعداد فيه يتدرَّج قليلًا قليلًا «بمخالطة» مسائل ذلك الفن وتكرارها عليه، [والانتقال فيها من التقريب إلى الاستيعاب الذي فوقه حتى تتمَّ المَلَكة في]١ الاستعداد في التحصيل، ويحيط هو بمسائل الفن» (ص٥٣٤).

    ويرى أن النتائج التي تتولَّد من إهمال قاعدة التدريج في التعليم لا تنحصر في تصعيب الفهم فقط، بل تؤدي — في الوقت نفسه — إلى كلال الذهن وتكاسله، وتستوجب الانحراف عن العلم وهجرانه أيضًا:

    «وإذا ألقيت عليه الغايات في البداءات — وهو حينئذ عاجز عن الفهم والوعي، وبعيد عن الاستعداد له — كَلَّ ذهنه عنها، وحسب ذلك من صعوبة العلم في نفسه؛ فتكاسل عنه وانحرف عن قَبوله، وتمادى في هجرانه. وإنما أتى ذلك من سوء التعليم» (ص٥٣٤).

  • (٣)

    يلاحظ أن هذه الآراء والملاحظات قيِّمة جدًّا، وهي مما أقرَّه علماء التربية في القرن الأخير من حيث العموم.

    ومما يستلفت النظر بوجه خاص، أن ما قرَّره ابن خلدون في هذه القاعدة الأساسية، يشبه تمام الشبه الفكرة الأساسية التي سيطرت على تنظيم الدراسة الابتدائية في فرنسا وفي كثير من البلدان الأوروبية منذ أوائل القرن التاسع عشر.

    إذ من المعلوم أن برامج التدريس — رُتِّبت في البلاد المختلفة — في القرن التاسع عشر على أحد النمطين التاليين؛ نمط الدراسة المتسلسلة، ونمط الدروس المتوسعة المتمركزة.٢

    في النمط الأول تتوالى المباحث — من أول الدراسة إلى آخرها — كما تتوالى الزرود في سلسلة واحدة، فكل بحث يتصل بما قبله من جهة، وبما بعده من جهة أخرى، شأن زرود السلسلة. وأمَّا في النمط الثاني فتترتب المباحث على هيئة حلقات متحددة المركز، متدرجة الاتساع، فتدخل الحلقة الأولى في الثانية، والثانية في الثالثة، ويكون المركز — أي مبدأ الأقطار — مشتركًا في كل هذه الحلقات.

    فالمباحث تتوالى — في الترتيب الأول — من غير أن تتكرَّر، ولا أن تتوسَّع، في حين أنها تتكرَّر وتتوسَّع في الترتيب الثاني بقدر عدد الحلقات.

    والدراسة الابتدائية في فرنسا مثلًا لا تزال مقسَّمةً إلى ثلاث دورات؛ أولى، ومتوسطة، وعليا. ففي الدورة الأولى يدرس العلم من أوله إلى آخره على شكل مختصر إجمالي، مقتصرًا على النقاط الأساسية والبسيطة. وفي الدورة المتوسطة تعاد الأبحاث كلها — من الأول إلى الآخر — بمقياس أوسع مع تفصيل أزيد. وفي الدورة الأخيرة والعليا تعاد المباحث للمرة الثالثة على شكل أوسع وأتم من كل ما سبق. فإذا استعرضنا سلسلة كتب الدراسة الابتدائية — من الحساب والقواعد إلى التاريخ مثلًا — نجدها مؤلَّفةً من ثلاث درجات، كل واحدة منها قائمة بنفسها، ولكنها أكثر تفصيلًا، وأوسع نطاقًا من التي تسبقها، وأشد إجمالًا من التي تليها. فنستطيع أن نقول في شأنها ما قاله ابن خلدون في الطريقة التي اقترحها: «هذا وجه التعليم المفيد، وهو كما رأيت إنما يحصل بثلاث تكرارات» (ص٥٣٤).

  • (٤)
    بعد هذه القاعدة الأساسية يقرِّر ابن خلدون ثلاث قواعد عامة أخرى:
    • أولًا: على المعلم ألا يخلط مباحث الكتاب الواحد بكتاب آخر.
    • ثانيًا: عليه ألا يطوِّل الفواصل بين درس ودرس.
    • ثالثًا: عليه ألا يخلط على المتعلم علمين معًا.
    يشرح ابن خلدون كل واحدة من هذه القواعد على حِدَة، ويبيِّن الأسباب الموجبة لها:
    • (أ)

      لا ينبغي للمعلم أن يزيد متعلِّمه على فهم كتابه الذي أكبَّ على التعليم منه بحسب طاقته وعلى نسبة قَبوله للتعليم — مبتدئًا كان أو منتهيًا — وألا يخلط مسائل الكتاب بغيرها، حتى يعيه من أوله إلى آخره، ويحصِّل أغراضه ويستولي منها على مَلَكة بها ينفذ في غيره.»

      «لأن المتعلم إذا حصَّل مَلَكة ما في علم من العلوم استعدَّ بها لقَبول ما بقي، وحصل له نشاط في طلب المزيد والنهوض إلى ما فوق، حتى يستولي على غايات العلم. وإذا خُلِط عليه الأمر؛ عجز عن الفهم، وأدركه الكلال، وانطمس فكره، ويئس من التحصيل، وهجر العلم والتعليم» (ص٦٥٤).

    • (ب)

      «ينبغي ألا تطول على المتعلم في فن واحد بتفريق المجالس وتقطُّع ما بينها؛ لأنه ذريعة إلى النسيان وانقطاع مسائل الفن بعضها من بعض، فيعسر حصول المَلَكة بتفريقها. وإذا كانت أوائل العلم وأواخره حاضرةً عند الفكرة — مجانبةً للنسيان — كانت المَلَكة أيسر حصولًا، وأحكم ارتباطًا، وأقرب صبغة؛ لأن الملكات إنما تحصل بتتابع الفعل وتكرُّره، وإذا تُنُوسِي الفعل تُنُوسِيت المَلَكة الناشئة عنه» (ص٥٣٤).

    • (جـ)

      «ومن الطرق الواجبة في التعليم ألا يُخلط على المتعلم علمان معًا، فإنه حينئذ قلَّ أن يظفر بواحد منهما؛ لما فيه من تقسيم البال، وانصرافه عن كل واحد منهما بالخيبة. وإذا تفرَّغ الفكر لتعلُّم ما هو بسبيله مقتصرًا عليه؛ ربما كان ذلك أجدر لتحصيله» (ص٥٣٤).

٢

إن القواعد التي يضعها، والطرائق التي يقترحها ابن خلدون في التربية والتعليم، لا تنحصر في ما جاء في الفصل الأساسي السالف الذكر، بل إن الفصول الأخرى أيضًا تقرِّر قواعد عديدةً يراها ابن خلدون ضروريةً لنجاح التعلُّم والتعليم.
  • (١)

    يتوسَّع ابن خلدون بعض التوسُّع في شرح مفهوم التعليم وتعيين غايته، في الفصل الذي يقرِّر «أن التعليم للعلم من جملة الصنائع» (ص٤٣٠–٤٣٤).

    إن التعليم لا يستهدف «الفهم والوعي» فقط، فلا يتم ﺑ «الحفظ» وحده، بل إنما يتم بتكوين «مَلَكة التصرُّف في العلم والتعليم» (ص٤٤٢).

    فيجب على الطالب أن يحذق في العلم، ويتفنن فيه، ويستولي عليه (ص٤٣٠)، ويصبح قادرًا على المفاوضة والمناظرة فيه (ص٤٣٢)، وذلك إنما يتم «بحصول مَلَكة في الإحاطة بمبادئ العلم وقواعده، والوقوف على مسائله، واستنباط فروعه من أصوله» (ص٤٣٧).

    يسمي ابن خلدون هذه المَلَكة باسم «المَلَكة العلمية» (ص٤٣٢)، ويقرِّر أنها لا تحصل بمجرد حفظ مباحث العلم، حتى ولا بفهم تلك المباحث ووعيها، بل إنما تحصل «بالمحاورة والمناظرة والمفاوضة في مواضيع العلم»؛ فإن المحاورة والمناظرة هي التي تولِّد «مَلَكة التصرُّف»، و«مَلَكة استنباط الفروع من الأصول».

    ولهذا السبب ينتقد ابن خلدون كثرة الحفظ، ويقول بلزوم اتباع طريقة المحاورة والمناظرة في العلم والتعليم:

    «إن أيسر طرق هذه المَلَكة (أي مَلَكة العلم) فتق اللسان بالمحاورة والمناظرة في المسائل العلمية، فهو الذي يقرِّب شأنها ويحصِّل مرامها» (ص٤٣١).

    «فتجد طالب العلم منهم — بعد ذهاب الكثير من أعمارهم في ملازمة المجالس العلمية — سكوتًا لا ينطقون ولا يفاوضون، وعنايتهم بالحفظ أكثر من الحاجة، فلا يحصلون على طائل من مَلَكة التصرُّف في العلم والتعليم. ثم بعد تحصيل من يرى منهم أنه قد حصَّل؛ نجد مَلَكته قاصرةً في علمه إن فاوض أو ناظر أو علَّم، وما أتاهم القصور إلا من قبيل» رداءة طريقة «التعليم وانقطاع سنده، وإلا فحفظهم أبلغ من حفظ سواهم لشدة عنايتهم به، وظنهم أنه المقصود في المَلَكة العلمية، وليس كذلك» (ص٤٣٢).

    يتبيَّن من ذلك أن الطريقة التي تُتَّبَع في التعلُّم والتعليم تأتي بنتائج هامة حسب جودتها أو رداءتها. يستشهد ابن خلدون على ذلك بمقارنة مدارس تونس بمدارس المغرب:

    «ومما يشهد بذلك في المغرب أن المدة المعينة لسكنى طلبة العلم بالمدارس عندهم ست عشرة سنة، وهي بتونس خمس سنين. فطال أمدها في المغرب لهذه المدة لأجل عسرها من قلة الجودة في التعليم خاصة، لا ممَّا سوى ذلك» (ص٤٣٢).

  • (٢)

    يقرِّر ابن خلدون في فصل خاص «أن الشدة على المتعلمين مضرة بهم» (ص٥٤٠)، ويشرح ذلك بقوله: «وذلك أن إرهاف الحد بالتعليم مضر بالمتعلم، سيما في أصاغر الولد». ثم يعلِّل هذه القاعدة بما يلي:

    إن الشدة على المتعلم تؤدي إلى ثلاث نتائج سيئة:
    • (أ)

      إنها تذهب بالنشاط وتدعو إلى الكسل.

    • (ب)

      إنها تحمل على الكذب والخبث.

    • (جـ)

      إنها تعلِّم المكر والخديعة.

    لا يحصر ابن خلدون ذلك بالمتعلمين وحدهم، بل يشمل ويعم هذه القاعدة على المماليك والخدم أيضًا، إذ إنه يقول:

    «من كان مرباه بالعسف والقهر — من المتعلمين أو المماليك أو الخدم — سطا به القهر وضيَّق عن النفس في انبساطها، وذهب بنشاطها، ودعاه إلى الكسل، وحُمِل على الكذب والخبث — وهو التظاهر بغير ما في ضميره خوفًا من انبساط الأيدي بالقهر عليه — وعلَّمه المكر والخديعة لذلك، وصارت له عادةً وخُلقًا، وفسدت معاني الإنسانية التي له من حيث الاجتماع والتمرُّن وهي الحمية والمدافعة عن نفسه ومنزله، وصار عيالًا على غيره في ذلك.»

    «بل وكسلت النفس عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل، فانقبضت عن غايتها ومدى إنسانيتها، فارتكس وعاد في أسفل السافلين» (ص٥٤٠).

    إن هذه القاعدة تنطبق على أحوال الأمم أيضًا:

    «وهكذا وقع لكل أمة حصلت في قبضة القهر، ونال منها العسف. واعتبره في كل من يملك أمره عليه، ولا تكون المَلَكة الكافلة رفيقةً به، وتجد ذلك فيهم استقراءً» (ص٥٤٠).

    «وانظره في اليهود، وما حصل بذلك فيهم من خلق السوء، حتى إنهم يوصَفون في كل أُفق وعصر بالحرج، ومعناه في الاصطلاح المشهور التخابث والكيد، وسببه ما قلناه» (ص٥٤٧).

    وبعد ذلك يكرِّر ابن خلدون القاعدة ويؤكدها بقوله: «فينبغي للمعلِّم في متعلِّمه، والوالد في ولده، ألا يستبدَّا عليهما في التأديب» (ص٥٤٠).

    ثم يذكر ما قاله محمد بن أبي زيد في الكتاب الذي ألَّفه «في حكم المعلمين والمتعلمين»: «لا ينبغي لمؤدب الصبيان أن يزيد في ضربهم — إذا احتاجوا إليه — على ثلاثة أشواط شيئًا.»

    وفي الأخير يذكر ابن خلدون وصية الرشيد لمعلم ولده وينقل منها العبارة التالية:

    «لا تمرَّنَّ بك ساعة إلا وأنت مغتنم فائدةً تفيده إياها من غير أن تحزنه فتميت ذهنه، ولا تمعن في مسامحته؛ فيستحلي الفراغ ويَألَفه، وقوِّمْه ما استطعت بالقرب والملاينة، فإن أَبَاهُمَا، فعليك بالشدة والغلطة» (ص٥٤١).

    يعتبر ابن خلدون مضمون هذه الوصية «من أحسن مذاهب التعليم».

    وممَّا يجدر بالملاحظة أن هذه الوصية لا تكتفي بالنهي عن الشدة، بل إنها تطلب في الوقت نفسه «عدم الإمعان في المسامحة»؛ لأنها ترى أن في الشدة إماتةً للذهن، وفي المسامحة الزائدة التعويد على الفراغ والبطالة.

    هذا ويقرِّر ابن خلدون في فصل من فصول الباب الثالث الباحث عن الدولة العامة، «أن إرهاف الحد مضر بالملك، ومفسد له على الأكثر» (ص١٨٨). ويبرهن بذلك على أن تأثير القهر والشدة لا ينحصر في أخلاق الأفراد، بل يتعداها إلى الأمم أيضًا.

    «فإن الملك إذا كان قاهرًا باطشًا بالعقوبات، منقِّبًا عن عورات الناس وتعديد ذنوبهم؛ شملهم الخوف والذل، ولاذوا منه بالكذب والمكر والخديعة، وتخلَّقوا بها وفسدت بصائرهم» (ص١٨٨).

  • (٣)

    يقرِّر ابن خلدون في فصل خاص «أن الرحلة في طلب العلم ولقاء المشيخة مزيد كمال في التعليم» (ص٥٤١)، ويشرح ذلك ويعلِّله كما يلي:

    «لأن الرحلة في طلب العلم تمكِّن الطالب من لقاء شيوخ كثيرين، ومن المعلوم أن لكل شيخ من مشاهير الشيوخ — سيما في البلاد المختلفة — اصطلاحات خاصة، ومنهجًا خاصًّا، وطريقةً خاصةً في البحث والنظر والتعليم. فإذا خالطهم الطالب واحدًا بعد آخر، وتلقَّن من كل واحد منهم اصطلاحاته الخاصة، واطلع على الطرائق المختلفة التي يتبعها هؤلاء المشايخ في أبحاثهم وأنظارهم؛ حصل الطالب على مَلَكة علمية أقوى وأتم من التي يستطيع الحصول عليها من شيخ واحد في مدينة واحدة.»

    زِدْ على ذلك أن الطالب يستطيع حينئذ أن يميِّز اصطلاحات العلوم من العلوم نفسها، ويتوصَّل بذلك إلى مرتبة أعلى من الملكات العلمية؛ ولذلك يؤكد ابن خلدون:

    «إن الرحلة لا بد منها في طلب العلم، واكتساب الفوائد والكمال بلقاء المشايخ ومباشرة الرجال» (ص٥٤١).

  • (٤)

    لا يتكلَّم ابن خلدون في العلوم الواجب تدريسها، ولا يحاول تقرير برنامج للدروس حسب مصطلحاتنا الحالية.

    ومع هذا فإنه يقرِّر العلوم التي يجب التوسُّع فيها، ويميِّزها من التي يجب الاقتصار على الضروري منها، إنه يميِّز «العلوم الآلية» من «العلوم المقصودة بالذات» — وفقًا لما كان متعاهَدًا في زمانه — ويبيِّن محاذير التوسُّع في العلوم الآلية، وذلك في فصل خاص يعنونه بالعنوان التالي: «فصل في أن العلوم الآلية لا توسَّع فيها الأنظار، ولا تفرَّع المسائل» (ص٥٣٧).

    يقول ابن خلدون في هذا الفصل:

    «إن العلوم المتعارفة بين أهل العمران صنفان:
    • (أ)

      علوم مقصودة بالذات كالشرعيات من التفسير، والحديث، والفقه، وعلم الكلام؛ وكالطبيعيات والإلهيات من الفلسفة.

    • (ب)

      وعلوم هي وسيلة آلية لهذه العلوم: كالعربية والحساب وغيرهما للشرعيات، وكالمنطق للفلسفة، وربما كان آلةً لعلم الكلام ولأصول الفقه على طريقة المتأخرين» (ص٥٣٧).

    «فإمَّا العلوم التي هي مقاصد فلا حرج في توسعة الكلام فيها، وتفريع المسائل واستكشاف الأدلة والأنظار؛ فإن ذلك يزيد طالبها تمكُّنًا في ملكته، وإيضاحًا لمعانيها المقصودة. وأمَّا العلوم التي هي آلة لغيرها — مثل العربية والمنطق وأمثالها — «فلا ينبغي أن ينظر فيها إلا من حيث هي آلة لذلك الغير فقط»، فيجب الاجتناب من توسيع الكلام وتفريع المسائل بها؛ وذلك للسببين التاليين:
    • (أ)

      «لأن التوسُّع في العلوم الآلية يخرجها عن المقصود، إذ المقصود منها ما هو إلا الاستفادة منها كآلة لا غير.»

      إن العلوم المذكورة كثيرة الفروع والمباحث، غير أن قسمًا كبيرًا من تلك المباحث مما لا حاجة إليها في العلوم المقصودة، فالاشتغال بها يكون من نوع اللغو.»

    • (ب)

      زِدْ على ذلك، فإن التوسُّع في العلوم الآلية يضيِّع أوقات الطلاب، ولم يترك أمامهم مجالًا كافيًا «لتحصيل العلوم المقصودة بالذات، مع أن شأنها أهم.»

      فعلى المعلمين «أن يهتموا بالعلوم المقصودة أكثر من اهتمامهم بوسائلها»، فإنهم «إذا قطعوا العمر في تحصيل الوسائل»؛ لا يجدون متسعًا من الوقت «للظفر بالمقاصد» (ص٥٣٧).

      «لأن العمر يقصر عن تحصيل جميع هذه العلوم على هذه الصورة، فيكون الاشتغال بهذه العلوم الآلية تضييعًا للعمر، وشغلًا بما لا يغني.»

      ولذلك ينتقد ابن خلدون التقاليد السائدة في زمانه في هذا الصدد انتقادًا شديدًا:

      «هذا كما فعل المتأخرون في صناعة النحو وصناعة المنطق وأصول الفقه؛ لأنهم أَوْسَعُوا دائرة الكلام فيها، وأكثروا من التفاريع والاستدلالات بما أخرجها على كونها آلة، وصيَّرها من المقاصد.»

      ولذلك يقرِّر أنه «يجب على المعلمين لهذه العلوم الآلية ألا يستبحروا في شأنها»، وينبِّهوا المتعلِّم إلى الغرض منها، ويقفوا به «عند ذلك الغرض».

      يقول ابن خلدون ذلك بالنسبة إلى طلبة العلم بوجه عام، ولكنه لا ينهى عن التخصُّص في تلك العلوم، وعن التوغُّل في فروعها لجماعة من العلماء؛ لأنه يقول بعد ذلك:

      «فمن نزعت به همته بعد ذلك إلى شيء من التوغُّل، فليَرْقَ له ما شاء من المراقي، صعبًا أو سهلًا» (ص٥٣٧).

٣

إن الطرائق والقواعد التي ذكرناها إلى الآن تعود إلى «تعليم العلوم» بوجه عام، فلا تختص بعلم من العلوم بوجه خاص.

فإن ابن خلدون لا يبحث عن القواعد الخاصة التي تجب مراعاتها في تعليم كل علم على حدة، إلا في موضوع واحد هو موضوع «اللسان المصري». إنه يشرح الطريقة التي يجب اتباعها لتعليم «اللسان المضري» في فصل خاص (ص٥٩)، ثم يوسِّع ويوضِّح الملاحظات التي يُبْدِيها في الفصل المذكور في عدة فصول أخرى:
  • (١)

    إن ما نسميه نحو اليوم باسم «اللغة الفصحى» كان يسميه ابن خلدون في مقدمته باسم «لسان العرب»، و«اللسان العربي»، أو «لغة مضر»، أو «اللسان المضري»، وقد سمَّاه مرةً «اللسان المدون» (ص٥٦) أيضًا. وأمَّا ما نسميه اليوم باسم «اللغة العامية» فكان يشير إليها ابن خلدون بتعبير «لغة الأمصار» بالنسبة إلى الحضر، و«لغة الجيل» أو «لغة العرب لهذا العهد» بالنسبة إلى البدو.

    يقول ابن خلدون: «إن اللسان المدون يختلف عن اللسان الدارج في الإعراب وفي كثير من الموضوعات اللغوية وفي بناء الكلمات» (ص٥٥٨). غير أنه يقرِّر في الوقت نفسه أن الفارق الأساسي الذي يميِّز الثاني من الأول إنما هو وجود أو عدم وجود الإعراب في أواخر الكلم.

  • (٢)

    ثم إنه يبيِّن العامل الأصلي الذي استوجب الاهتمام بلغة مضر، وأدَّى إلى تمسُّك الأدباء والعلماء بها؛ لأن القرآن نزل بلغة مضر، والحديث النبوي نُقِل فيه، فأصبحت معرفة هذه اللغة ضروريةً لفهم «كتاب الله وسنة رسوله»، ومن المعلوم أنهما «أَصْلَا الدين والملة» (ص٥٥٦).

    إن لغة مضر هذه كانت — فيما مضى — دارجةً عند القوم؛ إذ إنها كانت لغة التخاطب فيما بينهم. إنها كانت «مَلَكةً في ألسنتهم، يأخذها الآخر عن الأول، كما تأخذ صبياننا لهذا العهد لغاتنا» (ص٥٤٦).

    غير أن الأحوال تبدَّلت بعد ظهور الإسلام تبدُّلًا كليًّا:

    «لما جاء الإسلام وفارقوا الحجاز لطلب الملك الذي كان في أيدي الأمم والدول» (ص٥٤٦)، واستولوا «على ممالك العراق والشام ومصر والمغرب» (ص٥٥١)، وخالطوا الأمم في هذه البلاد المفتوحة؛ تغيرت مَلَكة اللسان المضري وفسدت؛ فتكوَّنت في الأمصار والبوادي لغات جديدة تختلف عن «لغة مضر» الذي نزل بها القرآن في الإعراب، وفي كثير من الموضوعات «اللغوية وبناء الكلمات» (ص٥٨٢)؛ فأصبحت لغة مُضَر مما لا يمكن اكتسابها بالمعاشرة والمخالطة والمباشرة، وصارت مما يفتقر إلى تعليم خاص.

  • (٣)

    ولهذا السبب يهتم ابن خلدون باللسان المضري، ويقرِّر الطريقة التي تضمن تعليمه.

    من المعلوم أنه يعتبر اللغات بمثابة «مَلَكات في اللسان»، ويلاحظ أن المَلَكات لا تتكوَّن — بوجه عام — إلا بالممارسة والتكرار — [القسم الثالث: آراء ابن خلدون ونظرياته – التربية والتعليم – النفس الإنسانية] — ولذلك يبني نظريته في «طريقة تعليم اللسان المضري» على هذا الأساس:

    «وجه التعليم لمن يبتغي» مَلَكة اللسان المضري «ويروم تحصيلها؛ أن يأخذ نفسه بحفظ كلامهم القديم الجاري على أساليبهم من القرآن والحديث وكلام السلف ومخاطبات فحول العرب في أسجاعهم وأشعارهم، وكلمات المولَّدين أيضًا في سائر فنونهم، حتى يتنزَّل — لكثرة حفظه لكلامهم من المنظوم والمنثور — منزلة من نشأ بينهم، ولُقِّن العبارة عن المقاصد منهم.»

    «ثم ينصرف بعد ذلك في التعبير عمَّا في ضميره على حسب عباراتهم وتأليف كلماتهم، وما وعاه وحفظه من أساليبهم وترتيب ألفاظهم؛ فتحل له هذه المَلَكة بهذا الحفظ والاستعمال، ويزداد بكثرتها رسوخًا وقوة» (٥٥٩).

    ومع هذا يرى ابن خلدون أن هذا «الحفظ والاستعمال» يجب أن يترافق مع «سلامة الطبع» و«التفهُّم الحسن»، فيعقِّب على العبارة الأخيرة بقوله:

    «ويحتاج مع ذلك إلى سلامة الطبع والتفهُّم الحسن لمنازع العرب وأساليبهم في التراكيب، ومراعاة التطبيق بينها وبين مقتضيات الأحوال» (ص٥٥٩).

    «ومن حصل على هذه المَلَكات، فقد حصل على لغة مضر، وهو الناقد البصير بالبلاغة فيها.»

    «وهكذا ينبغي أن يكون تعلُّمها» (ص٥٥٩).

    ثم يختم الفصل قائلًا: «وعلى قدر المحفوظ وكثرة الاستعمال تكون جودة المقول المصنوع نَظْمًا ونثرًا.»

  • (٤)

    يكرِّر ابن خلدون هذه الملاحظات في عدة فصول أخرى بوسائل شتى، ويزيدها وضوحًا خلال هذا التكرار.

    فإنه يوضح في فصل آخر كيفية تولُّد هذه المَلَكة بتشبيه مادي جذاب:

    «إن حصول مَلَكة اللسان العربي إنما هو بكثرة الحفظ من كلام العرب، حتى يرتسم في خياله المنوال الذي نسجوا عليه تراكيبهم، فينسج هو عليه. وينزل بذلك منزلة من نشأ معهم وخالط عباراتهم في كلامهم، حتى حصلت له المَلَكة المستقرة في العبارة عن المقاصد على نحو كلامهم» (ص٥٦١).

    ثم يقرِّر ابن خلدون — في فصل آخر — وجوب الفهم قبل الحفظ من جهة، ووجوب التفطُّن لخواص التراكيب خلال الحفظ والاستعمال من جهة أخرى.

    فيقول في فصل علم الأدب: «يجب ذكر بعض من أيام العرب يفهم به ما يقع في أشعارهم منها، وكذلك ذكر المهم من الأنساب الشهيرة والأخبار العامة.» ويصرِّح بأن «المقصود من ذلك كله ألا يخفى على الناظر فيه شيء من كلام العرب، وأساليبهم، ومناحي بلاغتهم إذا تصفَّحه.» ويعلِّل ذلك بقوله: «لئلا تحصل المَلَكة من حفظه إلا بعد فهمه» (ص٥٧٣).

    ثم يؤكِّد على ذلك قائلًا: «فيحتاج إلى تقديم جميع ما يتوقَّف عليه فهمه» (ص٥٥٣).

    ويقول ابن خلدون في فصل «تفسير الذوق»: «إن هذه المَلَكة إنما تحصل بممارسة كلام العرب، وتكرُّره على السمع، والتفطُّن لخواص تراكيبه» (ص٥٦٢).

  • (٥)

    يتبيَّن من كل ذلك أن سبيل الحصول على مَلَكة اللسان المضري — في نظر ابن خلدون — هو «الحفظ الكثير من كلام العرب مع فهمه، وممارسة ذلك الكلام مع التفطُّن لخواص تراكيبه.»

    يلاحظ أن الطريقة التي يقرِّرها ابن خلدون بهذه الصورة لتعليم اللسان المضري هي من نوع «التعليم بالممارسة والمباشرة»، ومخالفة لطريقة «التعليم بالقواعد والقوانين». إنه يصرِّح بذلك في فصل آخر بتعبير أوضح، حيث يقول: «إن مَلَكة هذا اللسان هي غير صناعة العربية، ومستغنية عنها في التعليم» (ص٥٦١).

    إن المقصود من تعبير «صناعة العربية» المذكور هنا هو «علم النحو»، كما يصرِّح بذلك ابن خلدون في عدة مواضع.

    إنه يشرح أسباب تكوين هذا العلم بإسهاب: حينما أخذت مَلَكة اللغة المضرية تفسد شيئًا فشيئًا، حتى خشي أهل العلوم أن تفسد تمامًا، ويطول العهد بها فتُنْسَى؛ «فينغلق القرآن والحديث على الأفهام»؛ ولذلك قد شعروا بحاجة ماسَّة إلى «تدوين أحكام اللسان المضري، ووضع مقاييسه واستنباط قوانينه»، وأوجدوا بذلك علمًا «ذا فصول وأبواب ومقدمات ومسائل، سمَّاه أهله بعلم النحو وبصناعة العربية» (ص٥٥٦).

    فأصبح هذا العلم «فنًّا محفوظًا وعلمًا مكتوبًا، وسُلَّمًا إلى فهم كتاب الله وسنة رسوله وافيًا» (ص٥٥٧).

    يقرِّر ابن خلدون أن معرفة صناعة العربية لا تضمن حصول مَلَكة اللسان العربي، ويعلِّل رأيه بالملاحظات التالية:

    «والسبب في ذلك أن صناعة العربية إنما هي معرفة قوانين هذه المَلَكة ومقاييسها خاصة.»

    فإن من يتعلَّم هذه القوانين من غير أن يسعى إلى اكتساب هذه المَلَكة يكون «بمثابة من يعرف صناعةً من الصنائع علمًا، ولا يُحْكِمُهَا عملًا» (ص٥٦٠). وتوضيحًا لرأيه هذا يشير إلى الفرق «بين معرفة أصول الخياطة أو النجارة نظريًّا، وبين إحكامها عمليًّا» (راجعوا الصفحة ٤٣٠ من هذه الدراسات). ثم يقول:

    «وهكذا العلم بقوانين الإعراب مع هذه المَلَكة في نفسها، فإن العلم بقوانين الإعراب إنما هو علم بكيفية العمل؛ ولذلك نجد كثيرًا من جهابذة النحاة والمهرة في صناعة العربية المحيطين علمًا بتلك القوانين، إذا سُئِل في كتابة سطرين إلى أخيه أو ذي مودته، أو شكوى ظلامة، أو قصد من قصوده؛ أخطأ فيها عن الصواب وأكثر من اللحن، ولم يجد تأليف الكلام لذلك والعبارة عن المقصود على أساليب اللسان العربي» (ص٦٥٠).

    وبعكس ذلك «نجد كثيرًا ممن يحسن هذه المَلَكة ويجيد الفنَّين من المنظوم والمنثور، وهو لا يحسن إعراب الفاعل من المفعول، ولا المفعول من المجرور، ولا شيئًا من قوانين صناعة العربية» (ص٥٦٠).

    «فمن هذا تعلَم أن تلك المَلَكة هي غير صناعة العربية، وأنها مستغنية عنها بالجملة» (ص٥٦٠).

  • (٦)

    لا ينكر ابن خلدون إمكان اجتماع معرفة قوانين الإعراب مع مَلَكة اللسان المضري، ولكنه يلاحظ أن ذلك يتأتى على الأكثر من الجمع بين الطريقتين، ولا سيما خلال درس كتاب سيبويه.

    لأن سيبويه «لم يقتصر على قوانين الإعراب فقط، بل ملأ كتابه من أمثال العرب وشواهد أشعارهم وعباراتهم، فكان فيه جزء صالح من تعليم هذه المَلَكة، فنجد العاكف عليه والمحصِّل له قد حصل على حظ من كلام العرب، واندرج في محفوظه في أماكنه ومفاصل حاجاته، فتنبه به شأن المَلَكة، فاستوفى تعليمها؛ فكان أبلغ في الإفادة.»

    «ومن هؤلاء المخالطين لكتاب سيبويه من يغفل عن التفطُّن لهذا، فيحصل على علم اللسان صناعة، ولا يحصل عليه مَلَكة» (ص٥٦١).

    ولكن كُتب المتأخرين قد حادَتْ عن سواء السبيل، فاقتصرت على «ذكر القوانين النحوية مجرَّدةً عن أشعار العرب وكلامهم»؛ ففقدت بذلك إمكان الإفادة البتة.

    «أمَّا المخالطون لكتب المتأخرين العارية عن ذلك، إلا من القوانين النحوية مجرَّدةً عن أشعار العرب وكلامهم، فقلَّ ما يشعرون لذلك بأمر هذه المَلَكة أو ينتبهون لشأنها، فتجدهم يحسبون أنهم قد حصلوا على رتبة في لسان العرب، وهم أبعد الناس عنها» (ص٥٦١).

  • (٧)

    يوازن ابن خلدون بين طريقة أهل الأندلس وبين طريقة أهالي سائر البلاد في تعليم صناعة العربية، ويقرِّر أن طريقة الأندلسيين أكثر إفادة؛ وذلك لاهتمامهم بالإكثار من الشواهد والتفقُّه في التراكيب:

    «أهل صناعة العربية في الأندلس ومعلِّموها أقرب إلى تحصيل هذه المَلَكة وتعليمها من سواهم؛ لقيامهم فيها على شواهد العرب وأمثالهم، والتفقُّه في الكثير من التراكيب في مجالس تعليمهم، فيسبق إلى المبتدئ كثير من المَلَكة أثناء التعليم؛ فتنقطع النفس لها، وتستعد إلى تحصيلها وقَبولها.»

    «وأمَّا من سواهم من أهل المغرب وإفريقية وغيرهم، فأجروا صناعة العربية مجرى العلوم بحثًا، وقطعوا النظر عن التفقُّه في كلام العرب، إلا إن أعربوا شاهدًا، أو رجَّحوا مذهبًا من جهة الاقتضاء الذهني، لا من جهة محامل اللسان وتراكيبه، وأصبحت صناعة العربية كأنها من جملة قوانين المنطق العقلية أو الجدل، وبعدت عن مناحي اللسان ومَلَكته، وما ذلك إلا لعدولهم عن البحث في شواهد اللسان وتركيبه وتمييز أساليبه، وغفلتهم عن المران في ذلك للمتعلم، فهو من أحسن ما تفيده المَلَكة في اللسان. وتلك القوانين إنما هي وسائل للتعليم، ولكنهم أجروها على غير ما قُصِدَ بها، وأصاروها علمًا بحتًا، وبعدوا عن ثمرتها» (ص٥٦١).

  • (٨)

    يتبيَّن من كل ما سبق أن ابن خلدون ينتقد طريقة التعليم المستندة إلى قواعد النحو انتقادًا مُرًّا، ويؤكِّد وجوب ترك هذه الطريقة، ويقول بوجوب اتباع طريقة التعليم المستندة إلى تحفيظ كلام العرب وأشعارهم، والتمرين على النسج على منوالهم.

٤

إن هذه الآراء والملاحظات الأساسية لا يحصرها ابن خلدون بقواعد النحو وحدها، بل يعمِّمها على قوانين البيان والعَروض، ويطبِّقها على فنون الأدب — من المنثور والمنظوم — بوجه عام.

  • (١)

    يبيِّن ابن خلدون كيفية تكوُّن مَلَكة البلاغة في فصل «تفسير الذوق» (ص٥٦٢–٥٦٤)، ويشرح كيفيَّة تكوُّن مَلَكة الشعر في فصل «صناعة الشعر ووجه تعلُّمه» (ص٥٦٩–٥٧٧)، ويقرِّر في كلا الفصلين أن ذلك لا يتم إلا بكثرة الحفظ والممارسة.

    وفي الواقع إن العلماء استنبطوا قوانين النحو والبلاغة والعَروض عن طريق النظر في كلام العرب وأشعارهم، فدوَّنوا العلوم المعروفة باسم النحو والبيان والعَروض. ولكن ابن خلدون يعتقد أن تعلُّم وتعليم هذه القوانين وهذه العلوم لا يضمن حصول «مَلَكة البلاغة» ولا «مَلَكة الشعر»، حتى إنه يدَّعي مرةً «بأن تعليم هذه القوانين لا يفيد شيئًا»، ويؤكِّد أن هاتين المَلَكتين لا تحصلان إلا بكثرة الحفظ من كلام العرب — بين منظوم ومنثور — وبكثرة الممارسة والعمل على منوالها، فإن «مخالطة كلام العرب» على هذه الصورة هي التي تكوِّن «الذوق»، وهي التي تُكْسِب «الأسلوب».

    فإن اكتساب الذوق يعني الحصول على مَلَكة البلاغة (ص٥٦٤)، وأمَّا اكتساب الأسلوب فيعني الحصول على المنوال الذي تُنسج عليه التراكيب، أو القالب الذي يُفرَّغ فيه الكلام (ص٥٧٠).

    إن معرفة قوانين البلاغة والنحو لا تكفي لتكوين الذوق (ص٥٧٢)، كما أن معرفة قوانين العَروض — علاوةً على قوانين النحو والبلاغة — لا تكفي لتحصيل مَلَكة الشعر، وهذه المَلَكات إنما تحصل بالممارسة والاعتياد والتكرار لكلام العرب من منظوم ومنثور.

    «لا تقولنَّ إن معرفة قوانين البلاغة كافية لتكوين مَلَكة البلاغة والذوق» (ص٥٧٩).

    واعلم أن «من عرف تلك المَلَكة من القوانين المسطرة في الكتب لا يكون قد حصل عليها، إنما يكون قد حصل على أحكامها فقط» (ص٥٦٣).

  • (٢)

    يتوسَّع ابن خلدون في بحث مَلَكة الشعر، ويتتبَّع عمل الحفظ من جهة، وعمل الممارسة من جهة أخرى في تكوين هذه المَلَكة، فيقول إن كثرة الحفظ تكوِّن في الذهن قالبًا يُبْنَى فيه، ومنوالًا يُنسج عليه؛ لأن الذهن ينتزع من أعيان التراكيب وأشخاصها صورةً ذهنيةً عامةً تصير في الخيال كالقالب أو المنوال. ومؤلف الكلام إنما هو كالبنَّاء أو النسَّاج، والصورة الذهنية العامة كالقالب الذي يُبْنَى فيه، أو المنوال الذي ينسج عليه. فعلى من يريد نَظْم الشعر أن يحفظ الكثير من الأشعار، وأن يُكْثِرَ من النَّظْمِ حتى تستحكم فيه مَلَكة الشعر وترسخ.

    وخلاصة القول: إن تعلُّم الأدب — مثل اكتساب مَلَكة اللسان المضري بوجه عام — لا يكون بتعليم قواعد البلاغة وأمثالها، بل إنما يكون بالإكثار من حفظ كلام العرب وأشعارهم بممارسة النسج على منوالها.

    يكرِّر ابن خلدون هذه المبادئ والقواعد عدة مرات، ويشرحها بتفصيل وافٍ في عدة محلات.

  • (٣)
    ونحن ننقل فيما يلي أهم الفقرات التي تشرح وتؤيد رأي ابن خلدون في هذا الصدد:
    • (أ)

      «إن لفظة الذوق يتداولها المعتنون بفنون البيان، ومعناها حصول مَلَكة البلاغة للسان.»

      وأمَّا البلاغة فإنها «مطابقة الكلام للمعنى من جميع وجوهه، بخواص تقع للتراكيب في إفادة ذلك، فالمتكلم بلسان العرب والبليغ فيه، يتحرَّى الهيئة المفيدة لذلك، على أساليب العرب وأنحاء مخاطباتهم، وينظم الكلام على ذلك الوجه جهده. فإذا اتصلت مقاماته بمخالطة كلام العرب؛ حصلت له المَلَكة في نَظْمِ الكلام على ذلك الوجه، وسهل عليه أمر التركيب، حتى لا يكاد ينحو فيه غير منحى البلاغة التي للعرب. وإن سمع تركيبًا غير جار على ذلك مجَّه ونَبَا عنه سمعه بأدنى فكر، بل وبغير فكر، إلا بما استفاد من حصول هذه المَلَكة» (ص٥٦٢).

    • (ب)

      «إن المَلَكات إذا استقرَّت ورسخت في محلها؛ ظهرت كأنها طبيعة وجِبلَّة لذلك المحل»؛ ولذلك «يظن كثير من المغفلين — ممن لم يعرف شأن المَلَكات — أن الصواب للعرب في لغتهم — إعرابًا وبلاغةً — أمر طبيعي، ويقول: كانت العرب تنطق بالطبع. وليس كذلك. وإنما هي مَلَكة لسانية في نَظْمِ الكلام تمكَّنت ورسخت، فظهر في بادئ الرأي أنها جِبلَّة وطبع، وهذه المَلَكة إنما تحصل بممارسة كلام العرب وتكرُّره على السمع، والتفطُّن لخواص تراكيبه، وليست تحصل بمعرفة القوانين العلمية التي استنبطها أهل صناعة اللسان؛ فإن هذه القوانين إنما تفيد علمًا بذلك اللسان، ولا تفيد حصول المَلَكة بالفعل في محلها» (ص٥٦٢).

      إن «مَلَكة البلاغة في اللسان تهدي البليغ إلى وجود النَّظْم وحسن التركيب الموافق لتراكيب العرب في لغتهم ونَظْمِ كلامهم، ولو رام صاحب هذه المَلَكة حيدًا عن هذه السبل المعينة، والتراكيب المخصوصة لما قدر عليه، ولا وافقه عليه لسانه؛ لأنه يعتاده ولا تهديه إليه مَلَكته الراسخة عنده. وإذا عُرِض عليه الكلام حائدًا عن أسلوب العرب وبلاغتهم في نَظْمِ كلامهم؛ أعرض عنه ومجَّه، وعلم أنه ليس من كلام العرب الذين مارس كلامهم، وربما يعجز عن الاحتجاج لذلك كما يفعل أهل القوانين النحوية والبيانية» (ص٥٦٢).

    • (جـ)

      يرجع في صناعة الشعر «إلى صورة ذهنية للتراكيب المنتظمة كلية — باعتبار انطباقها على تركيب خاص — وتلك الصورة ينتزعها الذهن من أعيان التراكيب وأشخاصها، ويصيِّرها في الخيال كالقالب أو المنوال، ثم ينتقي التراكيب الصحيحة عند العرب — باعتبار الإعراب والبيان — فيرصُّها فيها رصًّا، كما يفعله البنَّاء في القالب والنسَّاج في المنوال» (ص٥٧١).

    • (د)

      «وهذه الأساليب التي نقرِّرها ليست من القياس في شيء، إنما هي هيئة ترسخ في النفس من تتبُّع التراكيب في شعر العرب لجريانها على اللسان، حتى تستحكم صورتها، فيستفيد بها العمل على مثالها، والاحتذاء بها في كل تركيب من الشعر» (ص٥٧٢).

      «إن مؤلف الكلام كالبنَّاء أو النسَّاج، والصورة الذهنية المنطبقة كالقالب الذي يبنى فيه، أو المنوال الذي ينسج عليه» (ص٥٧٢).

      إن الأساليب المستعملة في لسان العرب لا يعرفها «إلا من حفظ كلامهم حتى يتجرَّد في ذهنه من القوالب المعينة قالب كلي مطلق، يحذو حذوه في التأليف، كما يحذو البنَّاء على القالب، والنسَّاج على المنوال» (ص٥٧٢-٥٧٣).

      «نعم، إن مراعاة قوانين هذه العلوم (أي علوم النحو والبيان والعَروض) شرط فيه لا يتم بدونها، فإذا تحصَّلت هذه الصفات كلها في الكلام؛ اختصَّ بنوع من النظر لطيف في هذه القوالب التي يسمونها أساليب، ولا يفيده إلا حفظ كلام العرب نَظْمًا ونثرًا» (ص٥٧٣).

      «إن المحصِّل لهذه القوالب في الذهن إنما هو حفظ أشعار العرب وكلامهم، وهذه القوالب كما تكون في المنظوم تكون في المنثور» (ص٥٧٣).

    • (هـ)

      «اعلم أن لعمل الشعر وإحكام صناعته شروطًا؛ أولها الحفظ من جنسه — أي من جنس شعر العرب — حتى تنشأ في النفس مَلَكة ينسج على منوالها، ويتخيَّر المحفوظ من الحر النقي الكثير الأساليب، وهذا المحفوظ المختار أقل ما يكفي فيه شعر شاعر من فحول الإسلاميين، وأكثرها شعر كتاب الأغاني» (ص٥٧٤).

      «ثم بعد الامتلاء عن الحفظ وشحذ القريحة للنسج على المنوال، يُقْبِلُ على النَّظْمِ، وبالإكثار منه تستحكم مَلَكته وترسخ. وربما يقال من شرطه نسيان ذلك المحفوظ؛ لتُمحى رسومه الحرفية الظاهرة، إذ هي صادرة عن استعمالها بعينها، فإذا نسيها — وقد تكيَّفت النفس بها — انتقش الأسلوب فيها كأنه منوال يؤخذ بالنسج عليه بأمثالها من الكلمات الأخرى» (ص٥٧٤).

    • (و)

      «إن حصول مَلَكة الشعر بكثرة الحفظ، وجودتها بجودة المحفوظ. لا بد من كثرة الحفظ لمن يروم تعلُّم اللسان العربي، وعلى قدر جودة المحفوظ تكون جودة المَلَكة الحاصلة عنه للحافظ.»

      «وعلى مقدار المحفوظ أو المسموع تكون جودة الاستعمال من بعده، ثم إجادة المَلَكة من بعدهما. فبارتقاء المحفوظ في طبقته من الكلام؛ ترتقي المَلَكة الحاصلة؛ لأن الطبع إنما ينسج على منوالها، وتنمو قوى المَلَكة بتغذيتها» (ص٥٧٤).

  • (٤)

    يلاحَظُ أن الآراء التي يُبْدِيها ابن خلدون في هذا الصدد تنطوي على ملاحظات نفسية دقيقة وقيِّمة.

    إننا نود أن نلفت الأنظار — بوجه خاص — إلى الأقسام التالية منها:
    • أولًا: في آخر الفقرة «أ» المنقولة آنفًا، يصف ابن خلدون حالة من يحصل على مَلَكة البلاغة، ويقول إنه إذا سمع تركيبًا غير جار على منحى البلاغة التي للعرب؛ مجَّه بأدنى فكر، بل وبغير فكر.
    • ثانيًا: في آخر الفقرة «ب» المنقولة آنفًا، يتكلَّم ابن خلدون عن صاحب مَلَكة البلاغة، ويقول إذا عُرِض عليه الكلام حائدًا عن أسلوب العرب وبلاغتهم؛ أعرض عنه ومجَّه، مع إنه ربما يعجز عن بيان أسباب ذلك.
    • ثالثًا: في آخر الفقرة «ﻫ» يوضِّح ابن خلدون عمل الحفظ في تكوين مَلَكة الشعر، ثم يقول: «ربما يقال من شرطه نسيان ذلك المحفوظ لتمحى رسومه الحرفية الظاهرة، فإذا نسيها — وقد تكيَّفت النفس بها — انتقش الأسلوب فيها، كأنه منوال يؤخذ بالنسج عليه بأمثالها.»

    يلاحظ أن جميع هذه العبارات تدل على ملاحظة دقيقة في عمل اللاشعوريات في تكوين المَلَكات بوجه عام، ومَلَكة البلاغة ومَلَكة الشعر بوجه خاص. فإن ما يتم «بأدنى فكر، بل وبغير فكر»، يكون مثالًا جيدًا على عمل اللاشعور، وعلى عمل التكرار والممارسة التي تجعل الأمر لا شعوريًّا.

    وكذلك إن الحكم الذي يُصْدِره الإنسان عن أمر من الأمور، من غير أن يتمكَّن من تعليل حكمه، ومن إقامة الحجة عليه، يكون مثالًا بارزًا للتقدير اللاشعوري.

    وفي الأخير فإن الأثر الذي يبقى في النفس من جرَّاء الحفظ — بعد نسيان المحفوظ — من أهم الملاحظات النفسية التي تؤثِّر تأثيرًا عميقًا في نظريات التربية والتعليم.

    ولهذا السبب نحن نعدُّ الفقرة المذكورة من أهم العبارات التي تدل على نفوذ نظر ابن خلدون:

    «ربما يقال من شرطه نسيان ذلك المحفوظ لتُمحى رسومه الحرفية الظاهرة بعد أن تكيَّفت النفس بها.»

    إن هذه الملاحظة تشير أولًا إلى ما يبقى في الذهن وفي النفس من الأثر اللاشعوري من جرَّاء كثرة الحفظ، حتى بعد نسيان المحفوظ، وتقرِّر ثانيًا أن ذلك أوفق لمصلحة الناظم؛ لأن الشعر الذي يبقى في البال بحروفه، قد يحمل على التقليد، ويحُول دون الابتكار. غير أنه إذا نسي — بعد أن تكيَّفت النفس بها، وانتقش الأسلوب فيها — يكون قد ترك أثرًا «تربويًّا» يعمل عملًا ناجعًا في نَظْمِ الشعر على منوال المحفوظ المنسي، فيُفسح بذلك ميدانًا واسعًا للابتكار.

    إن هذه الملاحظة تنطبق على الكثير من أمور التربية في ساحة أوسع من ساحة الشعر، بل إنها تنطبق على كل ما يتعلَّق بأمور الثقافة، وقد عرَّف أحد المفكرين المعاصرين الثقافة بقوله: «هي ما ينساه المرء بعد أن يتعلَّمه.» من المعلوم أن هذا القول ينطوي على حصة كبيرة من الحقيقة، على الرغم من الغرابة التي تبدو عليه عند الوهلة الأولى.

    فنستطيع أن نقول لذلك إن ملاحظة ابن خلدون في هذه القضية كانت ملاحظةً عميقةً ودقيقةً جدًّا.

٥

يتكلَّم ابن خلدون عن «تعليم الصنائع» أيضًا في الفصل القائل «إن الصنائع لا بد لها من العمل» (ص٣٩٩-٤٠٠).

إنه يقرِّر في الفصل المذكور مبدءَين أساسيين لهذا التعليم:
  • (أ)

    إن تعليم الصناعة لا يكون إلا بالمباشرة والممارسة.

  • (ب)

    إن تعليم الصناعة إنما يكون بالتدريج من البسيط إلى المركب.

يوضِّح ابن خلدون كل واحد من هذين المبدءين بتفصيلات وافية:
  • أولًا: «إن الصناعة هي مَلَكة في أمر عملي فكري، وبكونه عمليًّا هو جسماني محسوس، والأحوال الجسمانية المحسوسة فنقلها بالمباشرة أوعب لها وأكمل؛ لأن المباشرة في الأحوال الجسمانية أتم فائدة.

    والمَلَكة صفة راسخة تحصل عن استعمال ذلك الفعل وتكرُّره مرةً بعد أخرى، حتى ترسخ صورته، وعلى نسبة الأصل تكون المَلَكة.

    ونقل المعاينة أوعب وأتم من نقل الخبر والعلم؛ فالمَلَكة الحاصلة [أكمل وأرسخ من المَلَكة الحاصلة] عن الخبر، وعلى قدر جودة التعليم ومَلَكة المتعلِّم [يكون حذق المتعلِّم]٣ في الصناعة وحصول مَلَكته» (ص٢٠٠).
  • ثانيًا: «إن الصنائع منها البسيطة ومنها المركب، والبسيط هو الذي يختص بالضروريات، والمركب هو الذي يكون للكماليات، والمتقدِّم منها في التعليم هو البسيط؛ لبساطته أولًا «لأنه مختص بالضروري الذي تتوفَّر الدواعي على نقله، فيكون سابقًا في التعليم» (ص٤٠٠).

(٣) معلومات تاريخية عن أحوال التعليم

إذا بَحَثْنَا في طيات مقدمة ابن خلدون عن المواد والمباحث التي تهمُّ «تاريخ التربية والتعليم»؛ استطعنا أن نقتطف المعلومات التالية عن أمور المدارس، وأحوال التعليم في عهد كتابة المقدمة:

١

  • (١)

    إن التعليم والتدريس كان حُرًّا، وكان لكل من يجد في نفسه الكفاءة أن يزاول التعليم في المحل الذي يختاره على الطريقة التي يرتئيها، من غير أن يتقيَّد بقيد حكومي وسلطاني، غير القيود التي يقرِّرها ويفرضها العرف والعادة.

    وكان له أن يفعل ذلك في المساجد أيضًا: «للمدرس الانتصاب لتعليم العلم وبثه، والجلوس لذلك في المساجد» (ص٢٢٠).

    ولكن من المعلوم «أن المساجد في المدينة صنفان؛ مساجد عظيمة كثيرة الغاشية، معدَّة للصلوات المشهودة، وأخرى دونها، مختصة بقوم أو محلة، وليست للصلوات العامة. فأمَّا المساجد العظيمة فأمرها راجع إلى الخليفة أو من يفوَّض إليه من سلطان أو وزير أو قاضٍ، وأمَّا المساجد المختصة بقوم أو محلة، فأمرها راجع إلى الجيران، ولا تحتاج إلى نظر خليفة أو سلطان» (ص٢١٩).

    فإذا أراد المدرس التدريس في مسجد من الصنف الأول من المساجد «التي للسلطان الولاية عليها والنظر في أئمتها كما مرَّ، كان لا بد من استئذانه في ذلك»، ولكنه إذا أراد التدريس في مسجد من الصنف الثاني «فلا يتوقَّف ذلك على إذن» (ص٢٢٠). ومع هذا يقرِّر ابن خلدون أنه:

    «ينبغي أن يكون لكل أحد من المفتين والمدرسين زاجر من نفسه، يمنعه عن التصدي لما ليس له بأهل» (ص٢٠٠).

    «ولم يكن هناك شيء يشبه المراقبة الرسمية على المدرسين والمعلمين سوى ما يدخل في وظائف «الحسبة»» (ص٢٢٥).

    من المعلوم «أن الحسبة وظيفة دينية من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»، والموظفون الذين يُعْهَد إليهم بها «يبحثون عن المنكرات، ويعزرون ويؤيدون على قدرها، ويحملون الناس على المصالح العامة في المدينة.»

    يعدِّد ابن خلدون المصالح العامة التي تدخل في نطاق مراقبة الحسبة، ويذكر بينها «الضرب على أيدي المعلمين في المكاتب وغيرها، في الإبلاغ في ضربهم للصبيان المتعلمين» (ص٢٢٥).

  • (٢)

    ومما يجدر بالذكر أن أصحاب الخير من الأغنياء — من السلاطين والأمراء وغيرهم — كانوا يشيدون بعض البنايات المختصة للتدريس، ويربطون لها «الأوقاف المغلة للجراية على معلميها ومتعلميها» (ص٤٣٥ و٤٣٧).

    ومن البديهي أن صلاحية التعليم في تلك المدارس كانت تتعيَّن وفق الشروط التي يشترطها الواقفون.

  • (٣)

    إن مدة الدراسة لم تكن معينةً في المدارس، كبيرةً كانت أو صغيرة، غير أن المدة المعينة «لسكنى طلبة العلم بالمدارس كانت محدودة؛ إنها كانت «ست عشرة سنةً في المغرب، وخمس سنين بتونس» (ص٤٣٢).

    «وهذه المدة بالمدارس على المتعارف، هي أقل مما يتأتَّى فيها لطالب العلم حصول مبتغاه من الملكية العلمية، أو اليأس منها» (ص٤٣٢).

    وأمَّا طول المدة المعينة لذلك في مدارس المغرب، فتأتي من رداءة طرق التعليم المتبعة فيها: «طال أمدها في المغرب لهذه المدة؛ لأجل عسرها من قلة الجودة في التعليم خاصة، لا من سوى ذلك» (ص٤٣٢).

  • (٤)

    إن مهنة التعليم في عهد ابن خلدون كانت من مهن المستضعفين:

    «إن التعليم لهذا العهد من جملة الصنائع المعاشية البعيدة من اعتزاز أهل العصبية، والمعلم مستضعف مسكين منقطع الجذم» (ص٢٩).

    مع أن الأمر لم يكن كذلك في صدر الإسلام وفي عهد الدولتين:

    «ولم يكن العلم بالجملة — حينئذ — صناعة، إنما كان نقلًا لما سُمِع من الشارع، وتعليمًا لما جُهِل من الدين على جهة البلاغ. فكان أهل الأنساب والعصبية الذين قاموا بالملة هم الذين يعلِّمون كتاب الله وسنة نبيه على معنى التبليغ الخبري، لا على وجه التعليم الصناعي» (ص٣٠).

    «وكانوا يحرصون على تبليغ ذلك وتفهيمه للأمة، لا تصدمهم عنه لائمة الكبر، ولا يزعهم عاذل الأنفة.»

    «ولكن حينما استقر الإسلام ووشجت عروق الملة حتى تناولها الأمم البعيدة من أيدي أهلها، واستحالت بمرور الأيام وأحوالها، وكثر استنباط الأحكام الشرعية من النصوص لتعدد الوقائع وتلاحقها؛ فاحتاج ذلك لقانون يحفظه من الخطأ، وصار العلم مَلَكةً تحتاج إلى تعلُّم، فأصبح من جملة الصنائع والحرف.»

    «واشتغل أهل العصبية بالقيام بالملك والسلطان، فدُفِع العلم لمن قام به من سواهم، وأصبح حرفةً للمعاش، وشمخت أنوف المترفين وأهل السلطان للتصدي للتعليم، واختص انتحاله بالمستضعفين، وصار منتحله محتقرًا عند أهل العصبية والملك» (ص٣٠).

٢

  • (١)

    إن تعليم الولدان في البلاد الإسلامية كان يستهدف قبل كل شيء تمكين المتعلمين من قراءة القرآن الكريم، مع حفظه قسمًا أو كاملًا؛ ولذلك اعتُبر القرآن «أصل التعليم الذي ينبني عليه ما يحصل بعد من المَلَكات» (ص٥٣٧) في جميع الأمصار الإسلامية، على اختلاف أقطارها ومذاهبها.

    والسبب في ذلك هو أن أهل الملة متفقون في القول بأن القرآن يجب أن يسبق كل شيء إلى قلوب المتعلمين؛ ليرسخ في نفوسهم الإيمان وعقائده، كما أنهم متفقون في القول بأن ذلك مما يجب أن يتمَّ في الصغر.

    «اعلم أن تعليم الولدان للقرآن شعار الدين، أخذته أهل الملة ودرجوا عليه في جميع أمصارهم؛ لما يسبق فيه إلى القلوب من رسوخ الإيمان وعقائده، من آيات القرآن ومتون الأحاديث، وصار القرآن أصل التعليم الذي ينبني عليه مما يحصل بعدُ من المَلَكات؛ وسبب ذلك أن التعليم في الصغر أشد رسوخًا، وهو أصلٌ لما بعده؛ لأن السابق الأول للقلوب كالأساس للمَلَكات، وعلى حسب الأساس وأساليبه يكون حال ما ينبني عليه» (ص٥٣٨).

    ومع ذلك فقد رأوا في بعض البلاد أن يضيفوا إلى تعليم القرآن؛ (أ) شيئًا من الحديث والفقه، (ب) ثم الخط والكتابة، (ﺟ) ثم أصول الشعر واللغة والأدب، (د) وقد أضافوا إلى كل ذلك في بعض البلاد الحساب أيضًا.

    ولذلك اختلفت مذاهب الأمصار الإسلامية في طرق تعليم الولدان.

  • (٢)

    يميِّز ابن خلدون في هذا المضمار أربعة مذاهب أساسية، اختص بكلٍّ منها أحد الأقطار الإسلامية؛ الأندلس، المغرب «إفريقية»، والمشرق.

    • (أ)

      أهل المغرب «مذهبهم في الولدان الاقتصار على تعليم القرآن فقط، وأخذهم أثناء المدارسة بالرسم ومسائله، واختلاف حملة القرآن فيه، لا يخلطون ذلك بسواه في شيء من مجالس تعليمهم، لا من حديث ولا من فقه ولا من شعر ولا من كلام العرب، إلى أن يحذق فيه أو ينقطع دونه. فيكون انقطاعه في الغالب انقطاعًا عن العلم بالجملة، وهذا مذهب أهل الأمصار بالمغرب ومن تبعهم من قرى البربر أمم المغرب في ولدانهم، إلى أن يجاوزوا حد البلوغ إلى سن الشبيبة. وكذا في الكبر، إذا رجع إلى مدارسة القرآن بعد طائفة من عمره، فهم لذلك أقْوَم على رسم القرآن وحفظه من سواهم» (ص٥٣٨).

    • (ب)
      وأمَّا أهل الأندلس فمذهبهم تعليم القرآن والكتاب حيث هو، وهذا هو الذي يراعونه في التعليم، إلا أنه لما كان القرآن أصل ذلك وأسه، ومنبع الدين والعلوم، جعلوه أصلًا في التعليم، فلا يقتصرون لذلك عليه فقط، بل يخلطون في تعليمهم للولدان رواية الشعر في الغالب والترسُّل، وأخذهم بقوانين العربية وحفظها وتجويد الخط والكتاب، ولا تختص عنايتهم [في التعليم بالقرآن دون هذه، بل عنايتهم]٤ فيه بالخط أكثر من جميعها، إلى أن يخرج الولد من عمر البلوغ إلى الشبيبة، وقد شدا بعض الشيء في العربية والشعر والبصر بهما، وبرز في الخط والكتابة، وتعلَّق بأذيال العلم على الجملة» (ص٥٣٨).
    • (جـ)

      «وأمَّا أهل إفريقية فيخلطون في تعليمهم للولدان القرآن بالحديث في الغالب، ومدارسة قوانين العلوم وتلقين بعض مسائلها، إلا أن عنايتهم بالقرآن و«استظهار» الولدان إياه ووقوفهم على اختلاف رواياته وقراءاته أكثر مما سواه، وعنايتهم بالخط تبع ذلك.»

      «وبالجملة فطريقهم في تعليم القرآن أقرب إلى طريقة أهل الأندلس؛ [لأن سند طريقتهم في ذلك متصل بمشيخة الأندلس الذين أجازوا عند تغلُّب النصارى على شرق الأندلس و]٥ استقروا بتونس، وعنهم أخذ ولدانهم بعد ذلك» (ص٥٣٨).
    • (د)

      «وأمَّا أهل المشرق فيخلطون في التعليم كذلك على ما يبلغنا، ولا أدري بِمَ عنايتهم منها، والذي يُنْقَل لنا أن عنايتهم بدراسة القرآن وصحف العلم وقوانينه في زمن الشبيبة، ولا يخلطون بتعليم الخط، بل لتعليم الخط عندهم قانون ومعلمون له على انفراده، كما نتعلَّم سائر الصنائع، ولا يتداولونها في مكاتب الصبيان، وإذا كتبوا لهم الألواح فبخط قاصر على الإجادة، ومن أراد تعلُّم الخط، فعلى قدر ما يسمح له بعد ذلك من الهمة في طلبه، ويبتغيه من أهل معرفته» (ص٥٢٩).

  • (٣)

    يلاحظ من هذه التفصيلات أن جميع المذاهب تتفق في اعتبار القرآن أساسًا للتعليم، ويضيف إليها أهل المغرب الخط فقط، وأهل إفريقية الحديث والخط مع شيء من قوانين العلوم، وأهل الأندلس الحديث والخط والشعر والترسُّل وقوانين العربية، وأمَّا أهل المشرق فيضيفون إلى القرآن صحف العلم وقوانينه، لا يهتمون كثيرًا بالخط.

    لا يذكر ابن خلدون الحساب خلال وصف هذه المذاهب التعليمية، ولكنه يشير إلى ضرورته في فصل العلوم العددية، كما أنه يذكر الحساب في الطريقة التي يقترحها القاضي أبو بكر بن العربي (ص٥٣٩).

    يقارن ابن خلدون هذه المذاهب بعضها ببعض من حيث النتائج، ويبرز تأثير هذه الطرائق المختلفة في تكوين مَلَكة اللسان العربي. إن أهل الأندلس برعوا في هذه المَلَكة من جرَّاء تفنُّنهم في التعليم، واشتغالهم برواية الشعر والترسُّل، ومدارسة العربية من أول العمر. ولكن أهل المغرب بقوا قاصرين في مَلَكة اللسان جملة؛ لاقتصارهم على تعلُّم القرآن في صغرهم؛ لأن القرآن لا ينشأ عنه في الغالب مَلَكة؛ «لما أن البشر مصروفون عن الإتيان بمثله، فهم مصروفون لذلك عن الاستعمال على أساليبه والاحتذاء بها». وبما أنهم لا يدرسون شيئًا من كلام العرب في صغرهم؛ «فلا يحصل لهم مَلَكة في اللسان العربي»، فيكون حظهم «الجمود في العبارات وقلة التصرُّف في الكلام». وربما كان أهل إفريقية في ذلك أخف من أهل المغرب؛ لما يخلطون في تعليمهم القرآن بعبارات العلوم في قوانينها كما قلناه، فيقتدرون على شيء من التصرُّف ومحاذاة المثل بالمثل، إلا أن مَلَكتهم في ذلك قاصرة عن البلاغة» (ص٥٣٩).

  • (٤)

    يذكر ابن خلدون في نهاية فصل تعليم الولدان المنهاج الذي يقترحه القاضي أبو بكر العربي في كتاب رحلته (ص٥٣٩).

    يقول المشار إليه: إن تعليم العربية والشعر يجب أن يتقدَّم على القرآن وسائر العلوم على الإطلاق، ويجب أن يلي ذلك تعليم الحساب، وأمَّا القرآن فيجب ألا يبدأ بتعليمه إلا بعد ذلك — أي بعد العربية والحساب — وفي الأخير يشرع في تعليم أصول الدين، ثم أصول الفقه، ثم الجدل، ثم الحديث وعلومه.

    يدعم القاضي «أبو بكر بن العربي هذه الاقتراحات بالملاحظات التالية؛ إن اللغة فسدت، فيجب الاعتناء بتعليمها وتقديمها على سائر العلوم، كما هو مذهب أهل الأندلس؛ لأن الشعر ديوان العرب، زِدْ على ذلك فإن الصغير لا يستطيع أن يفهم القرآن، فيجب تأخير تعليمه إلى أن تزداد قابليته للفهم والتعلُّم».

    إن القاضي المومأ إليه يعبِّر عن رأيه الأخير بعبارة واضحة شديدة:

    «ويا غفلة أهل بلادنا من أن يؤخذ الصبي بكتاب الله في [أول أمره]،٦ يقرأ ما لا يفهم، وينصب في أمر غيره أهم ما عليه» (ص٥٣٩).

    ابن خلدون يستحسن هذا المنهاج من حيث الأساس، ولكنه يراه صعب التطبيق بسبب تحكُّم العوائد؛ فإن العوائد تقضي بتقديم تعليم القرآن لسببين هامين؛ أولًا إيثارًا للتبرُّك والثواب، وثانيًا خشية ما يعرض للولد في جنون الصبا، من الآفات والقواطع التي قد تحول دون تعلُّمه القرآن فيما بعد.

    فإن الولد «ما دام في الحجر منقاد للحكم، فإذا تجاوز البلوغ وانحلَّ من ربقة القهر؛ فربما عصفت به رياح الشبيبة فألقته بساحل البطالة» (ص٥٤٠).

    «فيغتنمون في زمان الحجر وربقة الحكم تحصيل القرآن؛ لئلا يذهب خلوًا منه.»

    «ولو حصل اليقين باستمراره في طلب العلم وقَبوله؛ لكان هذا المذهب الذي ذكره القاضي أول ما أخذ به أهل المغرب والمشرق» (ص٥٤٠).

٣

وأمَّا حالة تعليم العلوم والصنائع في البلاد المختلفة، فإن ابن خلدون يتطرَّق إليها غير مرة في فصول كثيرة، حينما يتكلَّم عن العلوم والصنائع بوجه عام من جهة، وحينما يشرح بعض الصنائع والعلوم والكتب بوجه خاص من جهة أخرى.

نحن لا نرى لزومًا لاستعراض كل ما كتبه ابن خلدون في هذا الصدد، ولكننا نرى أن نشير إلى ما كتبه عن حالة تعليم العلوم في الأندلس والمغرب والمشرق بوجه عام.

يعلمنا ابن خلدون أن الاهتمام بالعلم والتعليم كان على وشك الزوال من بلاد المغرب:

«فقد كاد العلم ينقطع بالكلية من المغرب» (ص٤٢٢).

«إن سند تعليم العلم لهذا العهد كاد ينقطع عن أهل المغرب» (ص٤٣٠).

«لقد كسدت لهذا العهد أسواق العلم بالمغرب؛ لتناقص العمران فيه، وانقطاع سند العلم والتعليم» (ص٤٣٦).

وكذلك الأمر في الأندلس: «أمَّا أهل الأندلس فذهب رسم التعليم من بينهم.»

«وذهبت عنايتهم بالعلوم؛ لتناقض عمران المسلمين بها منذ مئين من السنين، ولم يبقَ من رسم العلم فيهم إلا فن العربية والأدب، اقتصروا عليه، وانحفظ سند تعليمه بينهم فانحفظ بحفظه. وأمَّا الفقه بينهم فرسم خلو وأثر بعد عين. وأمَّا العقليات فلا أثر ولا عين.»

«وما ذاك إلا لانقطاع سند التعليم فيها بتناقص العمران، وتغلُّب العدو على عامتها إلا قليلًا بسيف البحر، شغلهم بمعايشهم أكثر من شغلهم بما بعدها» (ص٣٢).

وأمَّا المشرق فكان أرقى البلاد الإسلامية في ذلك العهد من وجهة العلم والتعليم:

«المشرق، والظن به نفاق العلم فيه، واتصال التعليم في العلوم وسائر الصنائع الضرورية والكمالية؛ لكثرة عمرانه والحضارة، ووجود الإعانة لطالب العلم بالجراية من الأوقاف التي اتسعت بها أرزاقهم» (ص٤٣٧).

«يبلغنا عن أهل المشرق أن بضائع هذه العلوم لم تزل عندهم موفورة، وخصوصًا في عراق العجم وما بعده في ما وراء النهر، وأنهم على أبح من العلوم العقلية؛ لتوفُّر عمرانهم، واستحكام الحضارة فيهم» (ص٤٨١).

هذا ونرى من المفيد أن نسجِّل هنا ما أشار إليه ابن خلدون عن حالة تعليم العلوم الفلسفية في أوروبا في ذلك العهد:

«بلغنا لهذا العهد أن هذه العلوم الفلسفية ببلاد الإفرنجة — من أرض روما وما إليها من العدوة الشمالية — نافقة الأسواق، وأن رسومها هناك متجددة، ومجالس تعليمها متعددة، ودواوينها جامعة متوفرة، وطلبتها متكثرة» (ص٤٨١).

(٤) التأليف والتعليم

يتكلَّم ابن خلدون عن الكتب التي يؤلِّفها العلماء والمعلمون، ويدرسها الطلاب والمتعلمون، كلامًا عامًّا في ثلاثة فصول؛ ويقرِّر في أحدها «أن كثرة التآليف في العلوم عائقة عن التحصيل» (ص١٥٣)، وفي الثاني منها «أن كثرة الاختصارات المؤلَّفة في العلوم مُخِلَّة بالتعليم» (ص٥٣٢)، ويعيِّن في ثالثها «المقاصد التي ينبغي اعتمادها بالتأليف وإلغاء ما سواها» (من طبعة كاترمير، ج٣، ص٢٤١).

  • (١)

    «إن كثرة التآليف في العلوم عائقة عن التحصيل»، إن هذه القضية تبدو غريبةً في الوهلة الأولى؛ نظرًا للمعاني التي أَلِفْنَاها الآن، ولكننا إذا تأمَّلنا ما كتبه ابن خلدون في هذا الصدد تأييدًا لقوله هذا، نجد أنه ينتقد حالةً خاصةً — كانت متعاهدةً في عصره — ونُضطر إلى التسليم بأنه كان مصيبًا في نقده هذا؛ وذلك لأن العُرْفَ كان يحتِّم على الطلاب درس وحفظ جميع تلك المؤلفات واحدًا بعد آخر.

    «اعلم أنه مما أضر بالناس في تحصيل العلوم والوقوف على غاياتها كثرة التآليف، واختلاف الاصطلاحات في التعاليم وتعدُّد طرقها، ثم مطالبة المتعلم والتلميذ باستحضار ذلك، وحينئذ يسلم له منصب التحصيل، فيحتاج المتعلم إلى حفظها كلها أو أكثرها، ومراعاة طرقها، ولا يفي عمره بما كُتِب في صناعة واحدة إذا تجرَّد لها؛ فيقع القصور ولا بد دون رتبة التحصيل» (ص٥٣١).

    ويذكر ابن خلدون مثالًا على ذلك ما كان متعارفًا في شأن الفقه في المذهب المالكي، ويشير إلى «الكتب المدوَّنة مثلًا، وما كُتِب عليها من الشروحات الفقهية مثل؛ كتاب ابن يونس، واللخمي، وابن بشير، والتنبيهات، والمقدمات، والبيان، والتحصيل على التنبيه، وكذلك كتاب ابن الحاجب، وما كُتِب عليه». ويعلمنا أن الطالب كان يحتاج إلى دراسة هذه المؤلفات كلها، كما كان يحتاج إلى تمييز «الطريقة القيروانية من القرطبية، والبغدادية والمصرية، وطرق المتأخرين عنهم، والإحاطة بذلك كله»، مع أن مواضيع هذه المؤلفات «كلها متكررة، والمعنى واحد». والمتعلم يطالَب باستحضار جميعها وتمييز ما بينها، والعمر ينقضي في واحد منها. ويقول ابن خلدون لذلك:

    «لو اقتصر المعلمون بالمتعلمين على المسائل المذهبية فقط؛ لكان الأمر دون ذلك بكثير، وكان التعليم سهلًا ومأخذه قريبًا» (ص٥٣١).

    ولكنه يدرك حكم التقاليد في مثل هذه الأمور، فيقول:

    «ولكنه داء لا يرتفع؛ لاستقرار العوائد عليه، فصارت كالطبيعة التي لا يمكن نقلها ولا تحويلها» (ص٥٣٢).

    ثم يذكر ابن خلدون مثالًا آخر من علم العربية:

    «يمثِّل أيضًا علم العربية من كتاب سيبويه وجميع ما كُتِب عليه، وطرق البصريين والكوفيين، والبغداديين والأندلسيين من بعدهم، وطرق المتقدمين والمتأخرين؛ مثل ابن الحاجب، وابن مالك، وجميع ما كُتِب في ذلك. كيف يطالب به المتعلم، ويقضي عمره دونه، ولا يطمع أحد في الغاية منه، إلا في القليل النادر» (ص٥٣٣).

    ولذلك كله يقول ابن خلدون: «فالظاهر أن المتعلم ولو قطع عمره في هذا كله فلا يفي له بتحصيل العلوم العربية — مثلًا — الذي هو آلة من الآلات ووسيلة، فكيف يكون في المقصود الذي هو الثمرة؟» (ص٥٣٣).

  • (٢)

    وأمَّا القاعدة القائلة: «إن كثرة الاختصارات المؤلَّفة في العلوم مُخِلَّة بالتعليم»، فيشرحها ابن خلدون ويعلِّلها كما يلي:

    «ذهب كثير من المتأخرين إلى اختصار الطرق والأنحاء في العلوم، يولعون بها ويدونون منها برنامجًا مختصرًا في كل علم، يشتمل على حصر مسائله وأدلتها، باختصار في الألفاظ، وحشو القليل منها بالمعاني الكثيرة من ذلك الفن؛ وصار ذلك مُخلًّا بالبلاغة، وعسرًا على الفهم. وربما عمدوا إلى الكتب الأمهات المطوَّلة في الفنون — للتفسير والبيان — فاختصروها تقريبًا للحفظ، كما فعله ابن الحاجب في الفقه، وابن مالك في العربية، والخونجي في المنطق وأمثاله. وهو فساد في التعليم، وفيه إخلال بالتحصيل:
    • (أ)

      «وذلك لأن فيه تخليطًا على المبتدئ بإلقاء الغايات من العلم عليه، وهو لم يستعد لقَبولها بعد، وهو سوء التعليم» (ص٥٣٢).

    • (ب)

      «ثم فيه شغل كثير على المتعلم بتتبُّع ألفاظ الاختصار العويصة للفهم بتزاحم المعاني عليها، وصعوبة استخراج المسائل من بينها؛ لأن ألفاظ المختصرات تجدها لذلك صعبةً عويصة، فينقطع في فهمها حظ صالح من الوقت» (ص٥٣٢-٥٣٣).

    • (جـ)

      «ثم بعد ذلك فالمَلَكة الحاصلة من التعليم في تلك المختصرات — إذا تمَّ على سداده ولم تعقبه آفة — فهي مَلَكة قاصرة عن المَلَكات التي تحصل من الموضوعات البسيطة المطولة، بكثرة ما يقع في تلك من التكرار والإحاطة المفيدين لحصول المَلَكة التامة. وإذا اقتصر على التكرار قصرت المَلَكة لقلته، كشأن هذه الموضوعات المختصرة» (ص٥٣٣).

      ولذلك كله يرى ابن خلدون أن هذه الخطة سيئة وخاطئة، فيقول: «قصدوا إلى تسهيل الحفظ على المتعلمين، فأركبوهم صعبًا يعطلهم عن تحصيل المَلَكات النافعة وتمكُّنها» (ص٥٣٣).

١  إن العبارات المحصورة بين قوسين ساقطة من الطبعة البيروتية المصرية.
٢  إننا أشرنا هنا إلى الترتيبات المقرَّرة منذ القرن التاسع عشر فقط، وتركنا الترتيبات التي نشأت في القرن الحاضر، مثل؛ طريقة المشاريع project في أمريكا، وطريقة الوشائج Complexe في روسيا، خارجةً عن نطاق بحثنا.
٣  إن العبارات المحصورة بين قوسين ناقصة في الطبعة البيروتية المصرية.
٤  إن العبارات الواقعة بين قوسين ناقصة في الطبعة البيروتية المصرية.
٥  إن العبارات الواقعة بين قوسين ناقصة في الطبعة البيروتية المصرية.
٦  هذه العبارة مطبوعة على شكل «أوامره» في الطبعة البيروتية المصرية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤