الخط والكتابة

يعنون ابن خلدون أحد فصول الباب الخامس من المقدمة بالعنوان التالي: «فصل في أن الخط والكتابة من عداد الصنائع الإنسانية» (ص٤١٧–٤٢١).

لقد رأينا أن نتخذ الفصل المذكور موضوعًا لدراسة تحليلية خاصة للأسباب التالية:

أولًا: إن الفصل المذكور من الفصول التي تنقصها في طبعات البلاد العربية فقرات عديدة، ومباحث مهمة — بالنسبة إلى طبعة كاترمير الباريسية — فالدراسة التحليلية التي سنكتبها عنه ستعطينا وسيلةً ومجالًا لنقل الفقرات الناقصة بنصوصها الكاملة؛ بغية إتمام الفصل المذكور، وإطلاع القراء على مبلغ تقصير الطبعات المصرية والبيروتية المتداوَلة بين الأيدي.

وزيادة على ما تقدَّم فإن الفصل المذكور من الفصول القائمة بنفسها (أي من التي تدرس الموضوع الواحد بتفصيل وافٍ من وجوهه المختلفة)، كما أنه من أحسن الفصول التي تتجلَّى فيه نزعة ابن خلدون الفكرية، في جمع المعلومات المتعلقة بمختلِف أنواع النشاط البشري، وعرضها بنظرة تاريخية اجتماعية. ونحن نعتقد بأن إظهار آثار هذه النزعة الفكرية الاجتماعية في موضوع ساذج كموضوع الخط — الذي لا يبدو وثيق الصلة بالمسائل الاجتماعية، ولا يظهر كثير الأهمية من الوجهة التاريخية — ممَّا سيساعدنا على إعطاء فكرة واضحة تمامًا عمَّا لابن خلدون من شمول النظر التاريخي، وعمق التفكير الاجتماعي.

١

  • (١)

    يبدأ ابن خلدون الفصل المذكور بتعريف الخط والكتابة، فيقول:

    «وهو رسوم وأشكال حرفية، تدل على الكلمات المسموعة، الدالة على ما في النفس، وهو ثاني رتبة من الدلالة اللغوية» (ص٤٧١).

    لا شك في أن هذا التعريف لا يخلو من التعقيد؛ لأنه يحاول أن يعبِّر عن معانٍ عديدة بكلمات قليلة، على أن قليلًا من إنعام النظر يكفل فهم المعنى المقصود من هذا التعريف الموجز.

    ومع ذلك لقد عبَّر ابن خلدون عن رأيه هذا بتفصيل أوفى في مواضع أخرى من المقدمة، فقد قال — مثلًا — في فصل آخر — وهو الفصل الذي يقرِّر أن الصنائع تُكْسِب صاحبها عقلًا:

    «إن في الكتابة انتقالًا من الحروف الخطية إلى الكلمات اللفظية في الخيال، ومن الكلمات اللفظية في الخيال إلى المعاني التي في النفس» (ص٤٢٩).

    ومن الواضح أننا إذا اعتبرنا «الانتقال من الكلمات إلى المعاني» «الرتبة الأولى من الدلالة اللغوية»؛ نُضطر إلى اعتبار «الانتقال من الحروف الخطية إلى الكلمات اللفظية» الرتبة الثانية منها.

    على أن ابن خلدون قد أوضح ذلك توضيحًا تامًّا في فقرة كتبها في أحد الفصول الناقصة في طبعات البلاد العربية — وهو فصل «المقاصد التي ينبغي اعتمادها بالتأليف» — فقد قال في الفصل المذكور ما يلي:

    «البيان إنما يكون بالعبارة، وهو الكلام المركب من الألفاظ النطقية، يتبيَّن ضمائر المتكلمين بعضهم لبعض في مخاطباتهم، وهذه رتبة أولى في البيان عمَّا في الضمائر.»

    «بعد هذه الرتبة الأولى من البيان رتبة ثانية يؤدَّى بها ما في الضمير لمن توارى، أو غاب شخصه، أو بَعُد، أو لمن يأتي بعده ولم يعاصره ولا لقيه. وهذا البيان منحصر في الكتابة، وهي رقوم باليد، تدل أشكالها وصورها بالتواضع على الألفاظ النطقية — حروفها بحروف وكلماتها بكلمات — فصار البيان فيها على ما في الضمير بواسطة الكلام المنطقي؛ فلهذا كانت في الرتبة الثانية» (طبعة كاترمير، ج٣، ص٢٤٢).

  • (٢)

    بعد تعريف الخط والكتابة على هذا المنوال، يشرح ابن خلدون أهمية الخط والكتابة في الحياة الفكرية والاجتماعية قائلًا:

    «وهو صناعة شريفة؛ إذ الكتابة من خواص الإنسان التي يميَّز بها عن الحيوان.»

    «وأيضًا فهي تطَّلع على ما في الضمائر، وتتأدَّى بها الأغراض إلى البلاد البعيدة؛ فتُقْضَى الحاجات وقد دفعت مئونة المباشرة لها.»

    «ويطَّلع بها على العلوم والمعارف وصحف الأولين وما كتبوه من علومهم وأخبارهم.»

    «فهي شريفة بهذه الوجوه والمنافع» (ص٤١٧).

  • (٣)

    ثم يقرِّر ابن خلدون «تبعة الخط والكتابة للأحوال الاجتماعية»:

    «وعلى قدر الاجتماع والعمران والتناغي في الكمالات والطلب لذلك؛ تكون جودة الخط في المدينة.»

    «إذ هو من جملة الصنائع، وقد قدَّمنا أن هذا شأنها، وأنها تابعة للعمران.»

    «ولهذا نجد أكثر البدو أميين لا يكتبون ولا يقرءون، ومن قرأ منهم أو كَتَب، فيكون خطه قاصرًا، أو كتابته غير نافذة.»

  • (٤)

    وبعد ذلك ينتقل ابن خلدون إلى تعليم الخط:

    «ونجد تعليم الخط في الأمصار — الخارج عمرانها عن الحد — أبلغ وأحسن وأسهل طريقًا؛ لاستحكام الصبغة فيها. كما يُحْكَى لنا عن مصر لهذا العهد أن بها معلمين منتصبين لتعليم الخط، يُلْقُون على المتعلم قوانين وأحكامًا في وضع كل حرف، ويزيدون إلى ذلك المباشرة بتعليم وضعه؛ فتعضد لديه رتبة العلم والحس في التعليم، وتأتي مَلَكته على أتم الوجوه، إنما هذا من كمال الصنائع ووفورها بكثرة العمران وانفساح الأعمال» (ص٤١٨).

  • (٥)

    وبعد هذه المقدمات التمهيدية يبحث ابن خلدون في تاريخ الخط العربي، ويدوِّن معلوماته وملحوظاته حول هذا التاريخ.

    نفهم من مطالعة أبحاثه هذه أن مسألة منشأ الخط العربي كانت مثار خلاف في زمانه؛ إذ كان هناك رأيان مختلفان؛ الرأي القائل بأن الخط العربي نشأ في العراق، والرأي القائل بأنه نشأ في اليمن.

    يستبعد ابن خلدون الرأي الأول، ويرجِّح عليه الرأي الثاني بالاستناد إلى الملاحظات التالية:

    إن العرب في العراق كانوا أكثر بداوةً وأقل حضارةً من أهل اليمن، فالقول بأن الخط العربي نشأ في اليمن ثم انتقل من هناك إلى العراق، أقرب إلى المعقول والممكن، وأَلْيَق من القول بعكس ذلك.

    لأن الكتابة — مثل الصنائع — «لا تبلغ من الإحكام والإتقان والجودة» إلا حيث تتوفَّر «الحضارة والترف»، وأمَّا «إذا وقعت بالبدو، فلا تكون مُحْكَمة المذاهب، ولا ماثلةً إلى الإتقان والتحقيق؛ لاستغناء البدو عنها في الأكثر.»

    «وقد كان الخط العربي بالغًا من الإحكام والإتقان والجودة في دولة التبابعة؛ لما بلغت من الحضارة والترف.» وكان يُعْرَف باسم «الخط الحميري» أو «المسند».

    ومن حِمْيَر تعلَّمت مُضَر الكتابة العربية، إلا أنهم لم يكونوا مجيدين لها.

    «وكانت كتابة العرب بدوية، مثل كتابتهم أو قريبًا من كتابتهم لهذا العهد. أو نقول إن كتابتهم لهذا العهد أحسن صناعة؛ لأن هؤلاء أقرب إلى الحضارة ومخالطة الأمصار والدول. وأمَّا مضر فكانوا أعرق من البدو، وأبعد عن الحضر من أهل اليمن وأهل العراق وأهل الشام ومصر» (ص٤١٩).

  • (٦)

    يهتم ابن خلدون بقضية «الخط العربي لأول الإسلام»، ويقول إنه «كان غير بالغ إلى الغاية من الإحكام والإتقان والإجادة، ولا إلى التوسط؛ لمكان العرب من البداوة والتوحُّش، وبُعدهم عن الصنائع.»

    ثم ينتقد بشدة «ما يزعمه بعض المغفلين» من أن الصحابة «كانوا مُحْكِمين لصناعة الخط» قائلًا: «ما حملهم على ذلك إلا اعتقادهم أن في ذلك تنزيهًا للصحابة عن توهُّم النقص في قلة إجادة الخط، وحسبوا أن الخط كمال، فنزَّهوهم عن نقصه، ونسبوا إليهم الكمال في إجادته، وطلبوا تعليل ما خالف الإجادة من ذلك.» على أن ابن خلدون يرى أن «ذلك ليس بصحيح»؛ لأن «الخط ليس بكمال في حقهم؛ إذ إن الخط من جملة الصنائع المدنية المعاشية، كما رأيته فيما مر، والكمال في الصنائع إضافي، وليس بكمال مطلق؛ إذ لا يعود نقصه على الذات في الدين ولا في الخلال، وإنما يعود إلى أسباب المعاش.»

  • (٧)

    وبعد هذا التأكيد عن «أن الخط العربي كان بعيدًا عن الإجادة والإتقان» في أوائل الإسلام، يصرِّح ابن خلدون بأن هذا الخط ترقَّى وتقدَّم وانتشر بعد الفتوحات الإسلامية، بفضل الفتوحات الإسلامية.

    «ثم لمَّا جاء الملك للعرب، وفتحوا الأمصار وملكوا الممالك، واحتاجت الدولة إلى الكتابة، استعملوا الخط وطلبوا تعلُّمه، وتداولوه؛ فترقَّت الإجادة فيه، واستحكم …» (ص٤٢٠).

    «ترقَّت الخطوط» في بغداد «إلى الغاية؛ لما استبحرت في العمران، وكانت دار الإسلام ومركز الدولة العربية.»

    «وطما بحر العمران والحضارة في الدول الإسلامية في كل قطر، وعَظُمَ الملك، ونفقت أسواق العلوم، وانتُسخت الكتب، وأجيد كتبها وتجليدها، ومُلِئت بها القصور والخزائن الملوكية بما لا كفاء له، وتنافس أهل الأقطار في ذلك وتناغوا فيه» (ص٤٢٠).

    هذا وإذا علمنا أن وفرة العمران وقوة الدول تؤدي إلى تقدُّم الخط، يجب أن نعلم أيضًا أن تناقص العمران وانحلال الدول يؤدي — بعكس ذلك — إلى انحطاطه.

    «ثم لمَّا انحل نظام الدول الإسلامية وتناقصت؛ تناقص ذلك أجمع، ودرست معالم بغداد بدروس الخلافة، فانتقل شأنها من الخط والكتابة، بل والعلم إلى مصر والقاهرة، فلم تزل أسواقه بها نافقةً لهذا العهد، وله بها معلِّمون يرسمون لتعليم الحروف.»

  • (٨)

    يتطرَّق ابن خلدون إلى أنواع الخطوط العربية — خلال هذه المعلومات التاريخية — ويذكر بعد الخط الحميري الخط الكوفي والخط البغدادي، والمشرقي، والإفريقي، والأندلسي، ويتوسَّع بوجه خاص في الخطين الأندلسي والإفريقي.

    عندما «تميَّز ملك الأندلس بالأمويين، فتميَّزا بأحوالهم من الحضارة والصنائع والخطوط، فتميَّز صنف خطهم الأندلسي، كما هو معروف لهذا العهد.»

    وقد تقدَّم هذا الخط بتقدُّم الحضارة في الأندلس، غير أنه انتقل في الأخير إلى إفريقية — عندما هاجر أهل الأندلس إليها — وتغلَّب على الخط الإفريقي الذي كان دارجًا هناك.

    «وأمَّا أهل الأندلس فافترقوا في الأقطار عند تلاشي مُلْك العرب بها، ومن خلفهم من البربر، وتغلَّبت عليهم أمم النصرانية؛ فانتشروا في عدوة المغرب وإفريقية من لدن الدولة اللمتونية إلى هذا العهد، وشاركوا أهل العمران بما لديهم من الصنائع، وتعلَّقوا بأذيال الدولة، فتغلَّب خطهم على الخط الإفريقي وعفى عليه، ونُسِي خط القيروان والمهدية بنسيان عوائدهما وصنائعهما، وصارت خطوط أهل إفريقية كلها على الرسم الأندلسي بتونس وما إليها؛ لتوفُّر أهل الأندلس بها عند الجالية من شرق الأندلس. وبقي منه رسم ببلاد الجريد الذين لم يخالطوا كُتَّاب الأندلس، ولا تمرَّسوا بجوارهم، إنما كانوا يفدون على دار الملك بتونس، فصار خط أهل إفريقية من أحسن خطوط أهل الأندلس.»

    غير أن حال هذا الخط أيضًا فسد مؤخرًا من جرَّاء تناقص العمران.

    «حتى إذا تقلَّص ظل الدولة الموحدية بعض الشيء، وتراجع أمر الحضارة والترف بتراجع العمران؛ نقص حينئذ حال الخط وفسدت رسومه، وجُهِل فيه وجه التعليم بفساد الحضارة وتناقص العمران.»

    «وبقيت فيه آثار الخط الأندلسي تشهد بما كان لهم من ذلك؛ لما قدمناه من أن الصنائع إذا رسخت بالحضارة فيعسر محوها.»

    وفي الأخير يصف ابن خلدون حالة الانحطاط التي وصل إليها الخط في إفريقية والمغرب:

    «ونُسِي عهد الخط فيما بعدُ عن سدة الملك وداره، وكأنه لم يُعرف، وصارت الخطوط بإفريقية والمغرب مائلةً إلى الرداءة، بعيدةً عن الجودة، وصارت الكتب إذا انتُسخت فلا فائدة تحصل لمتصفحها منها، إلا العناء والمشقة؛ لكثرة ما يقع فيها من الفساد والتصحيف وتغيير الأشكال الخطية عن الجودة، حتى لا تكاد تقرأ إلا بعد عسر، ووقع فيه ما وقع في سائر الصنائع بنقص الحضارة وفساد الدول» (ص٤٢١).

٢

هذه هي أهم الآراء والمعلومات المُدْرَجَة في فصل الخط والكتابة في طبعات البلاد العربية، غير أن الطبعة الباريسية من المقدمة تحتوي في هذا الفصل — زيادةً على ما تقدَّم — أربع فقرات هامة، ننقلها فيما يلي بنصوصها الكاملة:
  • (أ)

    في بحث «تعليم الخط» — بعد عبارة «إنما هذا من كمال الصنائع ووفورها بكثرة العمران وانفساح الأعمال» — تأتي فقرة قصيرة، تبيِّن كيفية تعليم الخط في الأندلس والمغرب:

    «وليس الشأن في تعليم الخط بالأندلس والمغرب كذلك في تعلُّم كل حرف بانفراده على قوانين يلقيها المعلم للمتعلم، وإنما بمحاكاة الخط في كتابة الكلمات جملة، ويكون ذلك من المتعلم ومطالعة المعلم له، إلى أن يحصل له الإجادة، ويتمكَّن في بنائه المَلَكة ويسمى مجيدًا» (طبعة كاترمير، ج٢، ص٣٣٩).

    إن هذه الفقرة مهمة جدًّا من وجهة تاريخ التربية والتعليم، فإننا نفهم منها أن المعلمين — في الأندلس والمغرب — كانوا يتبعون في تعليم الخط الطريقة التي تُعْرَف الآن بين علماء التربية باسم «الطريقة المجموعية» globale Méthode، أو الطريقة الجميلة.
  • (ب)

    في خلال البحث عن منشأ الحروف العربية، وترجيح قول القائلين بأن أهل الحيرة اقتبسوا الخط من التبابعة وحمير، وعقب قوله «وهو الأليق من الأقوال»؛ ينقل ابن خلدون فقرةً طويلةً رآها في كتاب التكملة لابن الأبار:

    «ورأيت في كتاب التكملة لابن الأبار عند التعريف بابن فروخ القيرواني الفاسي الأندلسي من أصحاب مالك — رضي الله عنه — واسمه عبد الله بن فروخ عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم، عن أبيه، قال»:

    «قلت لعبد الله بن عباس: يا معشر قريش، خبِّروني عن هذا الكتاب العربي، هل كنتم تكتبونه قبل أن يبعث الله محمدًا ، تجمعون منه ما اجتمع، وتفرِّقون منه ما افترق، مثل الألف واللام والنون؟ قال: نعم. قلت: وممن أخذتموه؟ قال: عن حرب بن أمية. قلت: وممن أخذه حرب؟ قال: من عبد الله بن جدعان. قلت: وممن أخذه عبد الله بن جدعان؟ قال: من أهل الأنبار. قلت: وممن أخذه أهل الأنبار؟ قال: من طارئ طرأ عليهم من أهل اليمن. قلت: وممن أخذه ذلك الطارئ؟ قال: من الخلجان بن قسم، كاتب الوحي لهود النبي ، وهو الذي يقول:

    أفي كل عام سنة تُحدثونها
    ورأي على غير الطريق يُعبَّر؟
    وللموت خير من حياة تسبُّنا
    بها جرهمٌ فيمن يسب وحِمير»

    «انتهى ما نقله ابن الأبار في كتاب التكملة.»

    [يلي ذلك عنعنة هذه الرواية، وسلسلة أسماء نقلتها، لا نرى لزومًا لذكرها في هذا المقام] (طبعة كاترمير، ج٢، ص٣٤٠).

  • (جـ)

    في بحث ترقِّي الخط في بغداد بعد قوله «لمَّا استبحرت في العمران، وكانت دار الإسلام ومركز الدولة العربية»، تأتي فقرة طويلة تشرح كيفية تطوُّر الخط عند انتقاله من الكوفة إلى بغداد، ومن بغداد إلى مصر، وتذكر أسماء بعض الخطاطين المشهورين:

    «وخالفت أوضاع الخط ببغداد أوضاعه بالكوفة، في الميل إلى إجادة الرسوم وجمال الرونق وحسن الرواء، واستحكمت هذه المخالفة في الأعصار، إلى أن رفع رايتها ببغداد علي بن مقلة الوزير، ثم تلاه في ذلك علي بن هلال الكاتب الشهير بابن البواب، ووقف سند تعليمها عليه في المائة الثالثة وما بعدها. وبعُدَت رسوم الخط البغدادي وأوضاعه عن الكوفة، حتى انتهت إلى المباينة، ثم ازدادت المخالفة بعد تلك العصور بتفنُّن الجهابذة في إحكام رسومه وأوضاعه، حتى انتهت إلى المتأخرين مثل ياقوت والولي علي العجمي، ووقف سند تعليم الخط عليهم. وانتقل ذلك إلى مصر، وخالفت طريقة العراق بعض الشيء، ولقنها العجم هنالك، فظهرت مخالِفَةً لخط أهل مصر أو مبايِنَة» (طبعة كاترمير، ج٢، ص٣٤٤).

    نحن نرى في هذه الفقرة مثالًا قيِّمًا ودليلًا جديدًا على رأي ابن خلدون في «التطور التدريجي» في كل ما يتعلَّق بالحياة الاجتماعية وأحوالها المختلفة.

  • (د)

    بعد العبارات التي ينتهي بها فصل الخط والكتابة في طبعات البلاد العربية، يذكر ابن خلدون قصيدةً طويلةً في صناعة الخط.

    «وللأستاذ أبي الحسن علي بن هلال الكاتب البغدادي الشهير بابن البواب، قصيدة من بحر البسيط على روي الراء، يذكر فيها صناعة الخط ومواردها، من أحسن ما كُتِب في ذلك، رأيت إثباتها في هذا الباب من هذا الكتاب؛ لينتفع بها من يريد تعلُّم هذه الصناعة. وأولها:

    يا من يريد إجادة التحرير
    ويروم حسن الخط والتصوير
    إن كان عزمك في الكتابة صادقًا
    فارغب إلى مولاك في التيسير
    أعدِد من الأقلام كل مثقف
    صلب يصوغ صناعة التحبير
    وإذا عمدت لبريه، فتوخَّه
    عند القياس بأوسط التقدير
    انظر إلى طرفيه، فاجعل بريه
    من جانب التدقيق والتخصير
    واجعل لجلفته قوامًا عادلًا
    يخلو عن التطويل والتقصير
    والشق وسِّطه ليبقى بريه
    من جانبَيه مشاكل التقدير
    حتى إذا أتقنت ذلك كله
    إتقان طب بالمواد خبير
    فاصرف لرأي القط عزمك كله
    فالقط فيه جملة التدبير
    لا تطمعنْ في أن أبوح بسره
    إني أضنُّ بسره المستور
    لكن جملة ما أقول بأنه
    ما بين تحريف إلى التدوير
    وأَلْقِ دواتك بالدخان مدبِّرًا
    بالخل أو بالحصرم المعصور
    وأضف إليه مَغرَّةً قد صُوِّلت
    مع أصفر الزرنيخ والكافور
    حتى إذا ما خُمِّرت فاعمد إلى الـ
    ـورق النقي الناعم المخبور
    فاكبسه بعد القطع بالمعصار كي
    ينأى عن التشعيث والتغيير
    ثم اجعل التمثيل دأبك صابرًا
    ما أدرك المأمول مثل صبور
    ابدأ به في اللوح منتصبًا له
    عزمًا تجرِّده عن التشمير
    لا تخجلنَّ من الرديء تخطه
    في أول التمثيل والتسطير
    فالأمر يصعب ثم يرجع هيِّنًا
    ولرب سهل جاء بعد عسير
    حتى إذا أدركت ما أمَّلته
    أضحيت رب مسرة وحبور
    فاشكر إلهك واتبع رضوانه
    إن الإله يجيب كل شكور
    وارغب لكفك أن تخط بنانها
    خيرًا تخلِّفه بدار غرور
    فجميع فعل المرء يلقاه غدًا
    عند التقاء كتابه المنشور
    (طبعة كاترمير، ج٢، ص٣٤٦)
  • (هـ)

    بعد هذه القصيدة يأتي بحث جديد تمامًا، يدوِّن فيه ابن خلدون بعض المعلومات والملحوظات عن «خطوط الدواوين السلطانية»، وعن «الخطوط السرية»:

    ««واعلم» أن الخط بيان عن القول والكلام، كما أن القول والكلام بيان عمَّا في النفس والضمير من المعاني، فلا بد لكلٍّ منهما أن يكون واضح الدلالة. قال الله تعالى: خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ. وهو يشتمل على بيان الأدلة كلها، فالخط المجوَّد كماله أن تكون دلالته واضحةً بإبانة حروفه المتواضعة، وإجادة وضعها ورسمها كل واحد على حدة، متميز عن الآخر، إلا ما اصطلح عليه الكُتَّاب في إيصال حرف الكلمة الواحدة بعضها ببعض، سوى حروف اصطلحوا على قطعها مثل الألف المتقدمة في الكلمة، وكذا الراء والزاي والدال والذال وغيرها، بخلاف ما إذا كانت متأخرة، وهكذا إلى آخرها.»

    «ثم إن المتأخرين من الكُتَّاب اصطلحوا على وصل كلمات بعضها ببعض، وحذف حروف معروفة عندهم، لا يعرفها إلا أهل مصطلحهم، فتستعجم على غيرهم، وهؤلاء كُتَّاب دواوين السلطان وسجلات القضاة، كأنهم انفردوا بهذا الاصطلاح عن غيرهم لكثرة موارد الكتابة عليهم، وشهرة كتابتهم، وإحاطة كثير من دونهم بمصطلحهم. فينبغي أن يعدلوا عن ذلك إلى البيان ما استطاعوا، وإلا كان بمثابة الخط الأعجمي؛ لأنها بمنزلة واحدة في عدم التواضع عليه. وليس يُعْذَر في هذا القدر إلا كُتَّاب الأعمال السلطانية في الأموال والجيوش؛ لأنهم مطلوبون بكتمان ذلك عن الناس، فإنه من الأسرار السلطانية التي يجب إخفاؤها. فيبالغون في رسم اصطلاح خاص بهم يصير بمثابة المعمَّى، وهو الاصطلاح على العبارة عن الحروف بكلمات من أسماء الطيب والفواكه والطيور والأزاهر، ووضع أشكال أخرى غير أشكال الحروف المتعارفة يصطلح عليها المتخاطبون؛ لتأدية ما في ضمائرهم بالكتابة، وربما وُضِع الكتاب للعثور على ذلك، وإن لم يضعوا له أولًا قوانين بمقاييس، استخرجوها لذلك بمداركهم، يسمونها فك المعمَّى. وللناس في ذلك دواوين مشهورة، والله العليم الحكيم» (طبعة كاترمير، ج٢، ص٣٤٧).

    يلاحظ أن جميع هذه الفقرات والأبحاث التي نقلناها عن طبعة باريس، تنسجم تمام الانسجام مع أبحاث الفصل، وخطة المقدمة، وعقلية المؤلف وأسلوبه، فلا نرى مجالًا للشك في أنها من كتابات ابن خلدون نفسه.

    ونعتقد أن عدم وجود مثل هذه الفقرات والمباحث الهامة في طبعات البلاد العربية، من أبرز الدلائل على فداحة تقصير الطبعات المذكورة، وعظم الواجب المُلْقَى على عاتق الدوائر العلمية العربية، أمام تراث هذا المفكر العربي الخالد.

٣

هذه هي الآراء والمعلومات الواردة في فصل الخط والكتابة من المقدمة، وقد سردنا أقسامها الموجودة في الطبعات المصرية والبيروتية تلخيصًا، ونقلنا أقسامها الخاصة بالطبعة الباريسية نصًّا وتمامًا.

غير أن ابن خلدون قد تطرَّق إلى أمور الخط والكتابة في بعض الفصول الأخرى أيضًا، فإذا أردنا أن نحصل على فكرة تامة عن كل ما كتبه عن الخط والكتابة، يجب علينا أن نراجع الفصول المذكورة أيضًا:
  • (١)

    في الفصل الذي يقرِّر «أن الصنائع تُكْسِبُ صاحبها عقلًا، وخصوصًا الكتابة والحساب» (ص٤٢٧–٤٢٩)، يتكلَّم ابن خلدون عن فائدة الكتابة.

  • (٢)

    وفي فصل تعليم الولدان (ص٥٣٧–٥٤٠) يتطرَّق ابن خلدون إلى مسألة تعليم الخط والكتابة بجانب تعليم القرآن، ويذكر مذاهب أهل الأندلس والمغرب وإفريقية والمشرق في هذا الصدد.

  • (٣)

    في فصل «المقاصد التي ينبغي اعتمادها في التأليف» (وهو من الفصول الناقصة في جميع طبعات البلاد العربية)، بعد تعريف الكتابة — حسب ما ذكرناه آنفًا — يستعرض ابن خلدون أنواع الخطوط — من الحميري إلى السرياني والعبراني واللطيني — ويقول فيما يقوله:

    «الكتابة مختلفة باصطلاحات البشر في رسومها وأشكالها، ويسمَّى ذلك قلمًا أو خطًّا.»

    «فمنها الخط الحميري ويسمى المسند، وهو كتابة حمير وأهل اليمن الأقدمين، وهو يخالف كتابة العرب المتأخرين من مضر، كما يخالف لغتهم، وإن كان الكل عربيًّا.»

    «ومنها الخط السرياني، وهو كتابة النبط والكلدانيين، وربما يزعم بعض أهل الجهل أنه الخط الطبيعي لقدمه، فإنهم كانوا أقدم الأمم، وهذا وهم ومذهب عامي؛ لأن الأفعال الاختيارية كلها ليس شيء منها بالطبع، وإنما هو يستمر بالقدم والمران، حتى يصير مَلَكةً راسخة، فيظنها المشاهد طبيعية، كما هو رأي كثير من البلداء في اللغة العربية، فيقولون إن العرب كانت تعرب بالطبع، وتنطق بالطبع، وهذا وهم.»

    «ومنها الخط العبراني … ومنها الخط اللطيني …»

    «ولكل أمة من الأمم اصطلاح في الكتاب يُعْزَى إليها، ويختص بها، مثل الترك والفرنج والهنود وغيرهم.»

    «إنما وقعت العناية بالأقلام الثلاثة الأولى.»

    «أمَّا السرياني؛ لقدمه كما ذكرنا. أمَّا العربي والعبري؛ فلتنزُّل القرآن والتوراة بهما بلسانهما.»

    «وأمَّا اللطيني فكان الروم — وهم أهل ذلك اللسان — لمَّا أخذوا بدين النصرانية وهو كله من التوراة، ترجموا التوراة وكتب الأنبياء الإسرائيليين إلى لغتهم؛ ليقتنصوا منها الأحكام على أسهل الطرق، وصارت عنايتهم بلغتهم وكتاباتهم آكد من سواها.»

    وأمَّا الخطوط الأخرى فلم تقع بها عناية، وإنما هي لكل أمة حسب اصطلاحها» (طبعة كاترمير، ج٣، ص٢٣٤).

  • (٤)

    في الفصل الذي يقرِّر «أن العجمة إذا سبقت إلى اللسان قصرت بصاحبها في تحصيل العلوم عن أهل اللسان العربي» (وهو من الفصول الناقصة في جميع طبعات البلاد العربية)، يتطرَّق ابن خلدون إلى الخط والكتابة خلال تكلُّمه عن الحُجُب التي تقوم بين المعاني والفهم، قائلًا:

    «وأمَّا إذا احتاج التعليم إلى الدراسة والتقييد بالكتاب، ومشافهة الرسوم الخطية في الدواوين بمسائل العلوم، كان هنالك حجاب آخر بين الخط ورسومه في الكتاب، وبين الألفاظ المقولة في الخيال؛ لأن رسوم الكتابة لها دلالة خاصة على الألفاظ المقولة، وما لم تُعْرَف تلك الدلالة تعذَّرت معرفة العبارة، وإن عُرِفت بمَلَكة قاصرة كانت معرفتها أيضًا قاصرة، ويزداد على الناظر والمتعلِّم بذلك حجاب آخر بينه وبين مطلوبه من تحصيل ملكات العلوم أَعْوَص من الحجاب الأول. وإذا كانت مَلَكته في الدلالة اللفظية والحيطة مستحكمة؛ ارتفعت الحجب بينه وبين المعاني، وصار إنما يعاني فهم مباحثها فقط. هذا شأن المعاني مع الألفاظ والخط بالنسبة إلى كل لغة» (طبعة كاترمير، ج٣، ص٣٧٥).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤