الحياة الاقتصادية

إن آراء ابن خلدون في «الحياة الاقتصادية» كثيرة ومتنوعة ومهمة، إنها تشغل خمسين فصلًا من فصول المقدمة، فإن فصول الباب الخامس بأجمعها تبحث في «المعاش ووجوهه من الكسب والصنائع»، كما أن مواضيع فصل من فصول الباب الثاني، وعشرة من فصول الباب الثالث، وستة من فصول الباب الرابع أيضًا، تحوم حول أمور الاقتصاد والمال. وفضلًا عن ذلك فإن عددًا غير قليل من الفصول الأخرى أيضًا تتضمَّن بعض الأبحاث التي لا تخلو من صلات وثيقة بالأمور الاقتصادية.

إني كنت عرضت قسمًا من آراء ابن خلدون الاقتصادية في عدة دراسات سابقة بمناسبات مختلفة:
  • (أ)

    في [القسم الثاني: مكانة ابن خلدون في تاريخ فلسفة التاريخ وعلم الاجتماع – ابن خلدون ومونتسكيو – .التاريخ والاقتصاد]

  • (ب)

    في [القسم الثالث: آراء ابن خلدون ونظرياته – طبائع الأمم وسجاياها].

  • (جـ)

    في [القسم الثالث: آراء ابن خلدون ونظرياته – الدولة وتطوُّراتها – أطوار الدولة].

  • (د)

    في [القسم الثالث: آراء ابن خلدون ونظرياته – التربية والتعليم – نظرات عامة].

والآن أود أن أضيف إلى تلك الأبحاث بعض الأمور التي تساعد على إظهار ميزات «تفكير ابن خلدون الاقتصادي» بأجلى مظاهرها.

إن الأبحاث التي تتصل بالأمور الاقتصادية — في البلاد الغربية — لم تأخذ شكلًا علميًّا إلا في النصف الأخير من القرن الثامن عشر.

لأن قبل التاريخ المذكور كانت الأبحاث الاقتصادية لا تخرج عن نطاق «التصوُّرات الطوبائية، والنصائح العملية، والمناقشات الفقهية الدينية»؛ كيف يجب أن توزع الأراضي والأموال بين الأهالي؟ هل يجوز بيع السلع بسعر يزيد على تكاليفها الحقيقية؟ هل يتفق ذلك مع مكارم الأخلاق؟ هل يسوغ أخذ «فائض» على المبالغ التي تُقْرَض إلى الغير؟ هل يتفق ذلك مع تعاليم المسيح؟ ما هي أحسن المسالك التي يجب أن يسلكها الأمراء لزيادة ثروتهم وثروة بلادهم؟

إن كل ما كُتِب عن الأمور الاقتصادية في البلاد الغربية — طول القرون الأولى والوسطى، وخلال عصور الانبعاث — كان بمثابة أجوبة على هذه الأسئلة وأمثالها الكثيرة.

وأمَّا الاعتقاد بأن الأمور الاقتصادية تتبع قوانين ثابتة، مثل سائر الأمور الطبيعية. وأمَّا السعي وراء اكتشاف هذه القوانين وتدوينها، فإن ذلك لم يبدأ إلا في النصف الأخير من القرن الثامن عشر.

ولكن ابن خلدون سبق كُتَّاب الغرب ومفكريهم في هذا الاعتقاد مدةً لا تقل عن أربعة قرون.

•••

ومما يلفت النظر أن علم الاقتصاد تكوَّن ونشأ قبل تولُّد علم الاجتماع بمدة تبلغ نحو نصف قرن، وعندما شرع «كونت» في وضع أسس علم الاجتماع، كان علماء الاقتصاد قد قطعوا أشواطًا كبيرةً في أبحاثهم المختلفة.

ولكن علماء الاجتماع أخذوا يدرسون الأمور الاقتصادية بنظرات جديدة، تختلف عن النظرات التي كان اعتادها علماء الاقتصاد؛ فإن هؤلاء كانوا ينظرون إلى الحادثات الاقتصادية كأنها قائمة بذاتها، ولكن علماء الاجتماع أخذوا ينظرون إليها كمظهر من مظاهر الحياة الاجتماعية، وصاروا يتوسَّعون بوجه خاص في درس تفاعلاتها مع سائر الشئون الاجتماعية.

ولذلك صارت الأبحاث الاقتصادية — في أواخر القرن التاسع عشر — تدوَّن في نوعين من المؤلفات:
  • (أ)
    المؤلفات التي تُعْرَف باسم «علم الاقتصاد السياسي» Economie politique.
  • (ب)
    المؤلفات التي تُعْرَف باسم «الاجتماعيات الاقتصادية» Sociologie économique.

إن الأبحاث الاقتصادية المدوَّنة في مقدمة ابن خلدون تشبه النوع الثاني لا النوع الأول، إنها أقرب إلى مباحث «الاجتماعيات الاقتصادية» منها إلى مباحث «الاقتصاد السياسي».

ونستطيع أن نقول إن مزايا تفكير ابن خلدون في هذا المضمار تظهر — أكثر ما تظهر — في بحثه الأمور الاقتصادية بنظرات الباحث الاجتماعي، وفي اهتمامه بتتبُّع التفاعلات التي تتوالى بين الحوادث الاقتصادية، وبين سائر الأمور والحوادث الاجتماعية.

•••

إن الأمثلة التالية تُظْهِر هذه النزعة الفكرية بكل وضوح وجلاء.

يلاحظ ابن خلدون الدور الذي يلعبه قانون العرض والطلب في الأسواق والأسعار، ويصرِّح بأن الأسعار ترتفع عندما يزداد الطلب، وتنخفض عندما يقل الطلب، ولكنه لا يكتفي بتسجيل هذا القانون الاقتصادي بهذا الشكل المجرَّد، بل يتحرَّى العوامل الاجتماعية التي تؤدي إلى زيادة الطلب، كما أنه يتتبَّع النتائج الاجتماعية التي تنجم عن زيادة الطلب وارتفاع الأسعار.

إنه يقسِّم الأشياء والسلع — من وجهة علاقاتها بالإنسان — إلى ضروريات وكماليات، ولكنه يلاحظ في الوقت نفسه أن الحدود الفاصلة بين هذين الصنفين لم تكن مطلقةً ولا ثابتة، بل هي نسبية ومتحوِّلة؛ فإن ما يعتبر من الكماليات بالنسبة إلى السواد الأعظم من الناس، قد يصبح من الضروريات بالنسبة إلى بعض الناس، كما أنه ما يُعَدُّ من الكماليات في بعض المدن، قد يكون من الضروريات في المدن الأخرى؛ لأن ازدياد العمران واستفحال الترف، يحوِّل الكماليات إلى حاجيات ضرورية.

«إن المصر الكثير العمران يكثر ترفه، وتكثر حاجيات ساكنه من أجل الترف، وتعتاد تلك الحاجات؛ فتنقلب إلى ضرورات، وتصير فيه الأعمال كلها مع ذلك عزيزة، والمرافق غالية، بازدحام الأغراض عليها من أجل الترف» (ص٣٦٥).

«ويعظم الغلاء في المرافق والأقوات والأعمال؛ فتكثر لذلك نفقات ساكنه كثرةً بالغةً على نسبة عمرانه» (ص٣٦٥).

ولكن النتائج التي تتولَّد من زيادة الطلب وازدحام الطالبين لا تنحصر في ارتفاع الأسعار، بل تشمل أمورًا اجتماعيةً أخرى أيضًا، أهمها؛ إقبال الناس على الصناعات التي تنتج السلع المطلوبة، وازدهار تلك الصناعات واستجادتها.

يقرِّر ابن خلدون في فصل خاص «أن الصنائع إنما تستجاد وتكثر إذا كثر طالبها». ويوضِّح رأيه هذا بالتفاصيل التالية:

«إذا كانت الصناعة مطلوبة، وتوجَّه إليها النفاق؛ كانت حينئذ الصناعة بمثابة السلعة التي تنفق سوقها وتجلب للبيع؛ فيجتهد الناس في المدينة لتعلُّم تلك الصناعة ليكون منها معاشهم. وإذا لم تكن الصناعة مطلوبة؛ لم تنفق سوقها، ولا توجه قصد إلى تعلمها، فاختصت بالترك، وفُقِدت للإهمال» (ص٤٠٣).

ويقول ابن خلدون في فصل آخر: «إن الصنائع إنما تستجاد إذا احتيج إليها وكثر طالبها، وإذا ضعفت أحوال المصر وأخذ في الهرم بانتقاض عمرانه وقلة ساكنه؛ تناقص فيه الترف، ورجعوا إلى الاقتصار على الضروري من أحوالهم، فتقل الصنائع التي كانت من توابع الترف» (ص٤٠٣).

بهذه الصورة يربط ابن خلدون مسائل العرض والطلب بالأحوال الاجتماعية العامة، ويبحث في عوامل الأحوال الاقتصادية ونتائجها بنظرات شاملة، لا تتوقف في حدود الاقتصاديات المحضة وحدها، بل تتعدَّاها إلى آفاق الحياة الاجتماعية بمجموعها.

•••

يلاحظ ابن خلدون أن «قيم الأشياء» تتبع — من حيث الأساس — «العمل» الذي يُبْذَلُ لإنتاجها. يقرِّر ذلك في عنوان الفصل الأول من الباب الخامس، حيث يقول: «إن الكسب هو قيمة الأعمال البشرية» (ص٣٨٠).

يكرِّر ابن خلدون رأيه هذا في عدة مواضع من المقدمة بمختلِف العبارات:

«الأعمال هي سبب الكسب» (ص٣٦٥).

«كثرة الأعمال سبب للثروة» (ص٣٦٥).

«إن المكاسب إنما هي قيم الأعمال» (ص٣٦٠).

«لا بد من أعمال إنسانية في كل مكسوب ومتمول.»

«لا بد في الرزق من سعي وعمل، ولو في تناوله وابتغائه من وجوهه» (ص٣٨١).

«الرزق والكسب إنما هو قيم أعمال أهل العمران» (ص٢٨٩).

لكن ابن خلدون لا يكتفي بتثبيت هذه الحقيقة الأساسية، بل يلاحظ في الوقت نفسه أن العمل أيضًا يتبع قانون العرض والطلب، وأن قيمة العمل ترتفع عند زيادة الطلب؛ ولذلك تكون أجور «المتعلمين مرتفعةً — بوجه عام — في المدن المستبحرة في العمران.»

لأن مستوى المعيشة يكون — في تلك المدن — مرتفعًا بوجه عام؛ فيحتاج العامل فيها إلى نفقات أَزْيَد من التي يستطيع أن يكتفي بها أمثاله في المدن الصغيرة والأرياف. ثم إن المترفين في المدن يترفَّعون عن خدمة أنفسهم، فيستخدمون جماعةً من بني جلدتهم لقضاء حاجاتهم. وفي الأخير، إن كثرة المترفين في المدن المذكورة تجعلهم يتنافسون لاجتذاب العمال، ويعرضون عليهم أجورًا مغرية؛ ولذلك كله ترتفع أجور العمل ارتفاعًا كبيرًا.

«إن الصنائع والأعمال أيضًا» تكون غاليةً «في الأمصار الموفورة العمران»، والسبب في ذلك «أمور ثلاثة؛ الأول: كثرة الحاجة لمكان الترف في المصر بكثرة عمرانه. والثاني: اعتزاز أهل الأعمال لخدمتهم وامتهان أنفسهم لسهولة المعاش في المدينة بكثرة أقواتها. والثالث: كثرة المترفين وكثرة حاجاتهم إلى امتهان غيرهم، وإلى استعمال الصناع في مهنهم. فيبذلون في ذلك لأهل الأعمال أكثر من قيمة أعمالهم، مزاحمةً ومنافسةً في الاستئثار بها، فيعتز العمال والصناع وأهل الحِرَف، وتغلو أعمالهم» (ص٣٦٣).

وإذا أردنا أن نلخِّص آراء ابن خلدون هذه، استطعنا أن نقول إن الرزق والثروة نتيجة العمل من حيث الأساس، إلا أن قيمة الأعمال تختلف باختلاف الأحوال الاجتماعية العامة.

•••

ولكن ملاحظات ابن خلدون «الاقتصادية-الاجتماعية» في هذه القضية لا تتوقَّف عند هذا الحد، بل إنه يلاحظ في الوقت نفسه أن بعض الظروف الاجتماعية تجعل بعض الناس يزدادون ثروةً دون أن يعملوا عملًا؛ وذلك يحدث من جراء تملُّك بعض الأراضي والعقارات.

لأن الدولة عندما تأخذ في الانحطاط والانحلال؛ تقل رغبة الناس في امتلاك الأراضي والضياع؛ وذلك يؤدي إلى انخفاض أسعارها؛ فيستطيع عندئذٍ أن يشتريها بعض الأغنياء بأثمان بخسة. ولكن إذا تغيَّرت الأحوال بعد مدة، وتوافرت للمدينة أسباب العمران؛ ارتفعت أسعار تلك الأراضي والضياع، وأصبح من جرَّاء ذلك بعض الملاك من كبار الأغنياء، دون أن يكونوا قد قاموا بعمل يستوجب مثل هذا الغنى.

وهذه هي النصوص الواردة في مقدمة ابن خلدون حول هذه القضية الاقتصادية-الاجتماعية:

«إن تأثُّل العقار والضِّيَاع الكثيرة لأهل الأمصار والمدن لا يكون دفعةً واحدة، ولا في عصر واحد؛ إذ ليس يكون لأحد منهم من الثروة ما يملك به الأملاك التي تخرج قيمتها عن الحد، ولو بلغت أحوالهم في الرفه ما عسى أن تبلغ.»

«وإنما يكون ملكهم وتأثُّلهم تدريجًا؛ إما بالوراثة من آبائه وذوي رحمه حتى تتأدَّى أملاك الكثيرين منهم إلى الواحد وأكثر لذلك، أو يكون بحوالة الأسواق.»

«فإن العقار في آخر الدولة وأول الأخرى عند فناء الحامية وخرق السياج وتداعي المصر إلى الخراب؛ تقل الغبطة به لقلة المنفعة فيها بتلاشي الأحوال؛ فترخص قيمتها، وتتملَّك بالأثمان اليسيرة، وتتخطى بالميراث إلى ملك آخر.»

«ولكن المصر إذا «استجدَّ شبابه» بعد مدة باستفحال الدولة الثانية، وانتظمت له أحوال رائقة حسنة، تحصل معها الغبطة في العقار والضياع لكثرة منافعها حينئذ؛ فتعظم قيمها، ويكون لها خطر لم يكن في الأول. وهذا معنى الحوالة فيها. ويصبح مالكها من أغنى أهل المصر، وليس ذلك بسعيه واكتسابه» (ص٣٦٧).

إن هذه الملاحظة «الاقتصادية-الاجتماعية» مهمة جدًّا؛ لأن «تاريخ الآراء والمذاهب الاقتصادية لم يسجل ملاحظةً مماثِلَةً لها إلا في أوائل القرن التاسع عشر»، حيث وضع «ريكاردو» الإنجليزي نظريته المشهورة في «ريع الأرض» Rente.

•••

يلاحظ ابن خلدون اختلاف مستويات المعيشة بين المدن الكبيرة وبين المدن الصغيرة، وبين هذه المدن وبين القرى، كما يلاحظ تطوُّر هذه المستويات بتطوُّر الحضارة.

في الواقع إن مستوى المعيشة يختلف في المدينة الواحدة أيضًا باختلاف طبقات الناس، ولكن الطبقات المتماثلة في المدن المختلفة تعيش في مستويات تختلف باختلاف عمران المدن المذكورة.

«ما كان عمرانه أكثر وأوفر، كان حال أهله في الترف أبلغ» (ص٣٦١).

يبحث ابن خلدون هذه الأمور على وجه التفصيل في الفصل المعنون بالعنوان التالي:

«في أن تفاضل الأمصار والمدن في كثرة الرزق لأهلها، ونفاق الأسواق إنما هو تفاضل عمرانها في الكثرة والقلة» (ص٣٦٠).

يقرِّر ابن خلدون في هذا الفصل «أن الدخل والخرج يتكافئان في جميع الأمصار؛ متى عظم الدخل عظم الخرج، وبالعكس، ومتى عظم الدخل والخرج اتسعت أحوال الساكن» (ص٣٦٢).

فإننا إذا قارنَّا مختلِف طبقات الناس في مدينة وافرة العمران مع أمثالهم الساكنين في مدينة قليلة العمران؛ وجدناهم «أوسع حالًا وأكثر ترفًا» منهم بوجه عام. نلاحظ ذلك بكل وضوح عندما نقارن «القاضي مع القاضي، والتاجر مع التاجر، والصانع مع الصانع، والسوقي مع السوقي، والأمير مع الأمير، والشرطي مع الشرطي» في مختلِف المدن والأمصار.

يقول ابن خلدون في هذا الصدد ما نصه:

«واعتبر ذلك في المغرب مثلًا بحال فاس مع غيرها من أمصاره، مثل بجاية وتلمسان وسبتة، تجد بينهما بونًا كثيرًا على الجملة، ثم على الخصوصيات؛ فحال القاضي بفاس أوسع من حال القاضي بتلسمان. وهكذا كل صنف مع صنف أهله. وكذا أيضًا حال تلمسان مع وهران أو الجزائر، وحال وهران والجزائر مع ما دونهما، إلى أن تنتهي إلى المدر الذين اعتمالهم في ضروريات معاشهم فقط، ويقصرون عنها.»

«وما ذلك إلا لتفاوت الأعمال فيها، فكأنها كلها أسواق للأعمال، والخرج في كل سوق على نسبته. فالقاضي بفاس دخله كفاء خرجه، وكذا القاضي بتلمسان. وحيث الدخل والخرج أكثر، تكون الأحوال أعظم. وهما بفاس أكثر؛ لنفاق سوق الأعمال بما يدعو إليه الترف، فالأحوال أضخم. ثم كذا حال وهران وقسنطينة والجزائر وبيسكرة، حتى تنتهي — كما قلناه — إلى الأمصار التي لا توفِّي أعمالها بضروراتها، ولا تُعَد في الأمصار؛ إذ هي من قبيل القرى والمدر» (ص٣٦١).

ابن خلدون يُشْمِل ملاحظاته هذه إلى طبقة الشحاذين أيضًا، حيث يقول:

«واعْتَبِرْ ذلك حتى في أحوال الفقراء والسُّؤَّال؛ فإن السائل بفاس أحسن حالًا من السائل بتلمسان أو وهران، ولقد شاهدت بفاس السُّؤَّال يسألون أيام الأضاحي أثمان ضحاياهم، ورأيتهم يسألون كثيرًا من أحوال الترف واقتراح المآكل، مثل سؤال اللحم والسمن وعلاج المطبخ والملابس والماعون كالغربال والآنية، ولو سأل سائل مثل هذا بتلمسان أو وهران لاستُنْكِرَ وعُنِّف وزُجِر» (ص٣٦١-٣٦٢).

ثم يتكلَّم ابن خلدون عن مستوى المعيشة في القاهرة:

«ويبلغنا لهذا العهد عن أحوال القاهرة ومصر من الترف والغنى في عوائدهم ما يُقْضَى منه العجب، حتى إن كثيرًا من الفقراء بالمغرب ينزعون من النقلة إلى مصر لذلك؛ لما يبلغهم من أن شأن الرفه بمصر أكثر من غيرها. ويعتقد العامة من الناس أن ذلك لزيادة إيثار في أهل تلك الآفاق على غيرهم، أو أموال مختزنة لديهم، وأنهم أكثر صدقةً وإيثارًا من جميع أهل الأمصار. وليس كذلك، وإنما هو لما تعرفه من أن عمران مصر والقاهرة أكثر من عمران هذه الأمصار التي لديك؛ فعظمت لذلك أحوالهم» (ص٣٦٢).

أعتقد أن هذه الأمثلة تكفي لتبيين مبلغ نفوذ نظر ابن خلدون وسعة ملاحظاته في الأمور الاقتصادية-الاجتماعية.

ومع هذا أرى أن أسجِّل هنا ملاحظةً «اقتصاديةً-اجتماعيةً» غريبة، صادفتها في فصل من فصول الباب السادس من المقدمة.

يعنون ابن خلدون هذا الفصل الطويل بالعنوان التالي:

«فصل في إنكار ثمرة الكيمياء، واستحالة وجودها، وما ينشأ عن المفاسد في انتحالها» (ص٥٢٤).

ويتكلَّم في هذا الفصل عن «صناعة الكيمياء» التي كانت ترمي إلى تحويل المعادن الخسيسة إلى معادن ثمينة، و«تصيير النحاس والقصدير فضة، والفضة ذهبًا»، حسب تعبيره هو، ويفنِّد آراء القائلين بإمكان ذلك، ويسرد أدلةً وملاحظات كثيرةً للبرهنة على استحالة هذا التحويل. وفي الوقت نفسه يتحرَّى الأسباب التي تحمل بعض المفكرين على الاعتقاد بهذه الصناعة، وتدفع بعض الناس إلى الاشتغال بها، فيقول في مستهلِّ الفصل:

«إن كثيرًا من العاجزين عن معاشهم تحملهم المطامع على انتحال هذه الصنائع، ويرون أنها أحد مذاهب المعاش ووجوهه، وأن اقتناء المال منها أيسر وأسهل على مبتغيه؛ فيرتكبون فيها المتاعب والمشاق، ومعاناة الصعاب، وعسف الحكام، وخسارة الأموال في النفقات» (ص٥٢٤).

ويقول في آخر الفصل: «وأكثر ما يحمل على التماس هذه الصناعة وانتحالها هو — كما قلناه — العجز عن الطرق الطبيعية للمعاش، وابتغاؤه من غير وجوهه الطبيعية؛ كالفلاحة والنِّجَارة والصناعة. فيستصعب العاجز ابتغاءه من هذه، ويروم الحصول على الكثير من المال دفعةً بوجوه غير طبيعية من الكيمياء وغيرها» (ص٥٣١).

ثم يطبِّق ابن خلدون نظريته هذه على العلماء والمفكرين أيضًا، ويذكر بهذه الوسيلة ابن سينا والفارابي، حيث يقول:

«وأكثر من يُعْنَى بذلك الفقراء من أهل العمران، حتى في الحكماء من المتكلِّمين في إنكارها واستحالتها.»

«فإن ابن سينا القائل باستحالتها كان علية الوزراء، فكان من أهل الغنى والثروة. والفارابي القائل بإمكانها كان من أهل الفقر، الذين يعوزهم أدنى بلغة من المعاش» (ص٥٣١).

وإذا أردنا أن نعبِّر عن رأي ابن خلدون في هذه القضية بتعبير آخر، قلنا إن ابن سينا أنكر الكيمياء وقال باستحالتها؛ لأنه كان غنيًّا، ولكن الفارابي اعتقد بالكيماء وقال بإمكانها؛ لأنه كان فقيرًا ومحتاجًا.

إن هذا التعليل على ما فيه من غرابة جدير بالتسجيل والتأمُّل؛ لأنه يدل على شدة ولع ابن خلدون بالبحث عن العلل والدوافع، وهو مما يمكن إلحاقه بالأمثلة الكثيرة التي يذكرها غلاة الماركسية، الذين يحاولون أن يعلِّلوا بالعوامل الاقتصادية حتى الاكتشافات العلمية والتطوُّرات الفكرية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤