آثار ابن خلدون

١

لقد كتب لسان الدين ابن الخطيب ترجمة حياة ابن خلدون الذي كان تعارف وتصادق معه، أولًا في المغرب الأقصى ثم في الأندلس، وذكر في هذه الترجمة مؤلفات صديقه؛ رسالة في المنطق، وأخرى في الحساب، تلخيص لبعض ما كتبه ابن رشد، شرح لقصيدة البردة، تلخيص كتاب فخر الرازي، شرح لرجز في أصول الفقه.

من المعلوم أن هذا الأديب الكبير كان قُتِل خنقًا قبل انتقال ابن خلدون إلى قلعة ابن سلامة؛ ولذلك لم يرد ذكر لكتاب العِبر ومقدمته بين هذه المؤلفات بطبيعة الحال.

ولكن من الغريب أن جميع هذه المؤلفات التي ذكرها لسان الدين ابن الخطيب ليست معلومةً الآن، والأغرب من ذلك أن ابن خلدون نفسه لم يذكرها في ترجمة حياته.

إن ما هو معروف عن العلاقات التي كانت توثَّقت بين لسان الدين ابن الخطيب وبين ابن خلدون لا يترك مجالًا للشك في صحة ما كتبه الأول عن مؤلفات الثاني.

وأمَّا عدم ذكر ابن خلدون لهذه المؤلفات في ترجمة الحياة التي كتبها بنفسه، فلا يمكن أن يُفسَّر إلا بأنها كانت تافهةً في نظره، ويغلب على الظن — والحالة هذه — بأنها كانت بمثابة كُراسات الدرس أو التدريس العارية من الآراء المبتكرة؛ ولذلك لم يتباهَ بها ابن خلدون، فلم يذكرها في ترجمة حاله.

وأمَّا الكتاب الوحيد الذي وصل إلينا من مؤلفات ابن خلدون، فهو كتاب التاريخ الذي كان أسماه باسم طويل:

«كتاب العِبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر.»

إن كتاب العِبر هذا مرتَّب على مقدمة وثلاثة كتب حسب تعبير المؤلف نفسه:

«المقدمة: في فضل علم التاريخ وتحقيق مذاهبه والإلماع بمغالط المؤرخين.»

الكتاب الأول: في العمران، وذكر ما يعرض فيه من العوارض الذاتية من الملك والسلطان والكسب والمعاش والصنائع والعلوم، وما لذلك من العلل والأسباب.

الكتاب الثاني: في أخبار العرب وأجيالهم ودولهم منذ بدء الخليقة إلى هذا العهد، وفيه الإلماع ببعض من عاصرهم من الأمم المشاهير ودولهم؛ مثل النبط، والسريانيين، والفرس، وبني إسرائيل، والقبط، واليونان، والروم، والترك، والإفرنجة.

الكتاب الثالث: في أخبار البربر، ومن إليهم من زناتة، وذكر أوليتهم وأجيالهم، وما كان لهم بديار المغرب خاصةً من الملك والدول (ص٦).

إن الكتاب الذي يُعْرَف الآن باسم «مقدمة ابن خلدون» هو في حقيقة الأمر «المقدمة والكتاب الأول» من كتاب العِبر.

يقع هذا الكتاب في سبع مجلدات؛ الأول منها يتضمَّن ما عُرِف باسم «المقدمة»، الثاني والثالث والرابع والخامس منها يؤلِّف ما سماه ابن خلدون باسم «الكتاب الثاني»؛ ويتضمن — من حيث الأساس — تاريخ العرب، وتاريخ الإسلام، وتاريخ المشرق.

وأمَّا السادس والسابع منها، فيؤلفان ما سماه ابن خلدون باسم «الكتاب الثالث»، فيتضمن أخبار البربر وتاريخ المغرب.

وينتهي المجلد السابع ﺑ «التعريف بابن خلدون مؤلف هذا الكتاب».

إن لكتاب العبر طبعةً كاملةً واحدة، هي طبعة بولاق القديمة، ولكن لمقدمته طبعات عديدة، وللتعريف الذي ينتهي به الكتاب طبعة مستقلة جديدة.

لمَّا كانت المقدمة موضوع بحث هذه الدراسات، لا نرى لزومًا لذكر شيء عنها هنا، ولذلك سنحصر الكلام الآن على سائر أقسام كتاب العبر، وعلى التعريف الذي يختمه.

٢

إن قيمة الأبحاث والأخبار التاريخية المدوَّنة في كتاب العبر تختلف اختلافًا كبيرًا حسب أقسامها المختلفة.

إن أهم وأثمن هذه الأبحاث هي التي تتعلَّق بتاريخ البلاد المغربية؛ لأن المعلومات المدوَّنة في كتاب العِبر عن هذا القسم من التاريخ طريفة وأصيلة، ابن خلدون لم ينقلها من الكتب، بل جمعها بنفسه خلال اتصاله بمختلِف القبائل، وتنقُّله بين مختلِف الدول المغربية، ولذلك يعتبر المجلدان الأخيران من كتاب العِبر المصدر الأصلي لدراسة تاريخ البلاد المذكورة خلال العصور التي مضت بين الفتح الإسلامي وبين الأزمنة الأخيرة. ويقول المؤرخون والمستشرقون الذين تعمَّقوا في دراسة تاريخ المغرب: «لولا كتاب العِبر لما استطعنا أن نعرف شيئًا عن تاريخ البلاد والشعوب المغربية خلال العصور المذكورة.»

ولذلك نجد أن هذا القسم من تاريخ ابن خلدون هو القسم الوحيد الذي تُرجم إلى لغة أوروبية ترجمةً كاملة، فإن ترجمة هذا القسم من التاريخ إلى اللغة الفرنسية نُشرت في الجزائر في مجلدين سنتي ١٨٥٢ و١٨٥٦، كما أنها طُبِعت من جديد في باريس في سنتَي ١٩٢٥ و١٩٢٧.

وأمَّا القسم المتعلق بتاريخ المشرق، فهو يتألف من معلومات اقتبسها وجمعها ابن خلدون من كتب معلومة، ولا يختلف عن تلك الكتب إلا في كيفية التبويب والتلخيص والعرض.

ومما تجدر الإشارة إليه في هذا الصدد أن المؤلف نفسه عندما أقدم على تأليف كتابه حصر قصده بتاريخ المغرب وحده؛ لعدم «اطلاعه على أحوال المشرق وأممه»، إنه أعلن قصده هذا بصراحة تامة في مقدمة المقدمة، حيث قال ما نصه:

«أنا ذاكر في كتابي هذا ما أمكنني به في هذا القُطر المغربي، لاختصاص قصدي في التأليف المغرب وأحوال أجياله وأممه وذكر ممالكه ودوله دون ما سواه من الأقطار؛ لعدم اطلاعي على أحوال المشرق وأممه، وإن الأخبار المتناقلة لا تفي كنه ما أريده منه» (ص٣٣).

وأمَّا كتاب العبر الذي بين أيدينا الآن، فهو يتضمن عن أحوال المشرق وتاريخه أكثر من ضِعْف ما يتضمنه عن أحوال المغرب وتاريخه، وذلك يدل دلالةً قاطعةً على أن ابن خلدون قد أضاف الأبحاث المذكورة إلى كتابه بعد انتقاله إلى مصر، مخالفًا بذلك قصده الأصلي وخطته الأولى.

ولا شك في أن ذلك إنما تمَّ عن طريق الجمع والاقتباس من الكتب المختلفة، ولهذا السبب لا نجد في هذا القسم من كتاب العِبر شيئًا من القيمة والأصالة التي نجدهما في أقسامه الأخرى.

٣

وأمَّا «التعريف بابن خلدون» الذي ينتهي به «كتاب العبر» في طبعة بولاق فإنه يدوِّن ترجمة حياة المؤلف حتى سنة ١٣٩٥ / ٧٩٧، وهي السنة التي أرسل خلالها نسخةً كاملةً من التاريخ إلى سلطان المغرب الأقصى.

ولكن ابن خلدون واصل تدوين ترجمة حياته بعد ذلك أيضًا حتى سنة ١٤٠٥ / ٨٠٧، ومن المعلوم أن السنة المذكورة تسبق تاريخ وفاته عامًا واحدًا فقط.

ويظهر أن ابن خلدون عند مواصلة تدوين هذه الترجمة — فصَّلها — نوعًا ما — من كتاب العبر وغيَّر عنوانها، وجعلها «التعريف بابن خلدون مؤلف الكتاب، ورحلته غربًا وشرقًا.»

إن «التعريف» بمؤلف المقدمة بعد هذه الإضافات الأخيرة كان بقي حتى السنة الماضية مخطوطًا، تحتفظ ببضع نسخ منه بعض المكتبات، ولكن خلال سنة ١٩٥١ طُبِع على نفقة لجنة النشر والترجمة والتأليف في القاهرة بعد التحقيقات التي قام بها، مع الحواشي التي كتبها السيد محمد بن تاويت الطنجي، وأصبح بذلك «التعريف» تحت متناول أيدي القراء والباحثين مثل «المقدمة».

ويتبيَّن مما تقدم أن «كتاب» التعريف بابن خلدون يجب أن يُعتبر مؤلَّفًا من قسمين حسب تاريخ كتابة وقائعه؛ القسم الأول يتألَّف مما كان كُتِب قبل سنة ١٣٩٥ / ٧٩٧، ويشغل ٢٧٨ صفحة، والقسم الثاني يتألف مما كُتِب بعد التاريخ المذكور، ويشغل ١٠٦ صفحات.

وكان القسم الأول ينتهي بالعبارات التالية بعد عبارة: «لهذا العهد الفاتح سبع وتسعين»:

«وقد نجز الغرض مما أردت إيراده في هذا الكتاب، والله الموفِّق لرحمته بالصواب، والهادي إلى حسن المآب، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله والأصحاب، والحمد لله رب العالمين» (كتاب العبر، بولاق ج٧، ص٤٦٢).

ومن الطبيعي أن ابن خلدون حذف هذه العبارات الختامية عندما واصل كتابة ترجمته، وأَلحق ما كتبه بعد ذلك بما كتبه قبلًا.

ومما يلفت النظر أن ابن خلدون في هذا القسم الأخير من كتاباته عاد إلى بعض ما كان كتبه قبلًا وزاده تفصيلًا.

مثلًا إنه كان ذكر توليته التدريس في المدرسة القمحية في القسم الأول من «التعريف» دون تفصيل (ص٢٥٣)، ولكنه بعدما أقدم على إتمام الترجمة عاد إلى هذه الواقعة، ونقل لنا الخطبة التي كان ألقاها يوم جلوسه للتدريس فيها (ص٢٨٥–٢٩٣)، وكذلك دوَّن الخطبة التي أنشأها في مفتتح التدريس في المدرسة الظاهرية (ص٢٨٦–٢٩٣)، مع أنه كان تولَّى التدريس فيها قبل سنة ٧٩٧ / ١٣٩٥، كما أنه تكلَّم عن خطبة الافتتاح التي ألقاها في مدرسة صلغتمش (صرغتمش)، وعاد إلى ذكر توليته منصب القضاء، وتكلَّم عن تعيينه إلى مشيخة خانقاه بيبرس وعزْله منها، وكتب تفاصيل فتنة الناصري التي كانت سببًا لهذا العزل، مع أن كل ذلك كان حدث قبل التاريخ الذي اختتم به كتاب التعريف، عندما أرسل نسخةً من مؤلفه إلى سلطان المغرب.

ونستطيع أن نقول لهذه الأسباب: إن الخاتمة التي ذكرناها آنفًا يجب أن تُعتبر بمثابة «الحد الفاصل» بين ما كتبه قبل سنة ٧٩٧ هجرية، وبين ما كتبه بعدها، لا بين ما حدث قبل ذلك التاريخ وبين ما حدث بعده.

•••

هذا ونحن نلاحظ أن الأبحاث المسرودة في القسم الأول أيضًا لم تُكتب دفعةً واحدة، بل كُتِبت في أوقات مختلفة، كما أن الكتابات الجديدة لم تلحق بالقديمة حسب أوقات كتاباتها، بل إنها أُدخلت في بعض الأحيان بين الفقرات والمباحث المكتوبة قبلًا.

ولذلك نجد في «التعريف» كثيرًا من الأبحاث المتكررة، ونلاحظ أن المؤلِّف يذكر بعض الأمور في محل، ثم يعود إلى نفس الأمور في محل آخر، ويكررها تارةً مع تفصيل، وطورًا مع تلخيص.

ومن أوضح الأمثلة على ذلك ما جاء في كتاب التعريف عن تراجم بعض العلماء؛ فإن ابن خلدون يدوِّن تراجم أحوال هؤلاء؛ أولًا عندما يذكر أسماء الأساتذة الذين درس عليهم، ثم يكرر ترجمة بعضهم بتفصيل أوفى بمناسبة القصيدة التي أنشدها أحد شعراء تونس في حضرة السلطان، ذاكرًا فيها أسماء العلماء الذين وفدوا معه، ولذلك نجد أن ترجمة الآبلي — مثلًا — مذكورة أولًا في ص٢١-٢٢، ثم في ص٣٣–٣٨، كما نجد ترجمة عبد المهيمن مسطورةً أولًا في ص٢٠، ثم في ص٣٨–٤١.

إن أمثال هذه الأبحاث المكررة كثيرة في كتاب «التعريف بابن خلدون».

•••

وأمَّا من حيث المواضع، فنحن نلاحظ أن كتاب «التعريف بابن خلدون» لا يكتفي بتدوين ترجمة حياته، بل إنه يجمع ويسجل كثيرًا من الوثائق والمعلومات التاريخية والأدبية أيضًا، ولا نعدو الحقيقة إذا قلنا إن المعلومات التاريخية والوثائق الأدبية المدوَّنة فيه تشغل حيِّزًا أوسع بكثير من الذي تشغلها الأمور المتعلقة بترجمة حال المؤلف مباشرة.

مثلًا عندما يذكر ابن خلدون — في كتاب التعريف — أسماء العلماء الذين درس عليهم أو التقى بهم، يكتب تراجم أحوال كل واحد منهم بتفصيل، من ذكر محل تولُّدهم إلى تثبيت تاريخ وفاتهم، حتى إنه يذكر كثيرًا من الوقائع التاريخية التي تأثروا منها أو أثروا فيها.

وعندما يذكر بعض الوقائع التاريخية التي اشترك فيها هو أو اتصل بها بصورة من الصور يفصِّل تلك الوقائع تفصيلًا وافيًا، يشمل أولياتهم البعيدة إذا لم يكن قد كتب عنها في فصل من فصول كتاب العِبر نفسه.

ولهذا السبب يجد الباحث بين صحائف كتاب التعريف كثيرًا من الأبحاث التاريخية.

وفضلًا عن ذلك فإن «التعريف» يضم عددًا غير قليل من الوثائق الأدبية أيضًا؛ لأن ابن خلدون يدوِّن في هذا الكتاب بعض الرسائل التي تلقَّاها من أصحابه بنصوصها الكاملة، كما يذكر بمناسبات عديدة طائفةً من أشعارهم وقصائدهم أيضًا.

يتضمَّن كتاب «التعريف» نصوص عدة خطابات صادرة عن قلم لسان الدين ابن الخطيب، وخطابًا واردًا من ابن زمرك كاتب سر السلطان ابن الأحمر، وآخر من علي بن البني قاضي الجماعة في غرناطة، كما أنه يتضمن بعض الخطابات الرسمية أيضًا؛ منها الخطاب العام الموجَّه من سلطان غرناطة إلى عماله لتسهيل سفر ابن خلدون خلال عودته من الأندلس إلى بجاية، ومنها الخطاب الذي أرسله سلطان مصر إلى سلطان تونس، ملتمسًا تسفير عائلة ابن خلدون إلى القاهرة.

وطبيعي أن كتاب التعريف يضم طائفةً من خطابات وخطب ابن خلدون نفسه؛ منها خطاب موجَّه إلى لسان الدين ابن الخطيب جوابًا على إحدى رسائله، ومنها خطاب مرفوع إلى سلطان المغرب لإخباره ما جرى له مع تيمورلنك، ومنها خُطَب الافتتاح التي ألقاها عند جلوسه للتدريس، أولًا في المدرسة القمحية ثم المدرسة الظاهرية، وفي الأخير في مدرسة صلغتمش.

وفضلًا عن ذلك كله نجد بين صحائف «التعريف» طائفةً من أشعار ابن خلدون وقصائده أيضًا، يبلغ مجموع أبيات هذه القصائد ٣٨٠ بيتًا.

ولذلك نستطيع أن نقول إن كتاب التعريف يؤلِّف مجموعة وثائق تاريخية وأدبية تستحق الدرس باهتمام.

•••

ومما يلفت النظر في كتاب التعريف أن ابن خلدون يهتم فيه بتسجيل الوقائع وتفصيلها اهتمامًا كبيرًا، ولكنه لا يُعْنَى بتدوين الأفكار ووصف الانفعالات.

فإن العبارات التي تدل على الانفعالات في الكتاب المذكور محدودة وموجزة جدًّا.

مثلًا يذكر ابن خلدون قضية سجنه بهذه العبارة الوجيزة: «قبض عليَّ، وامتحنني، وحبسني.»

ويذكر النكبة التي أصيب بها عند وفاة والديه بقوله: «كان الطاعون الجارف، وذهب بالأعيان والصدور وجميع المشيخة، وهلك أبواي رحمهما الله.»

وأمَّا واقعة غرق السفينة التي كانت تحمل عائلته فإنه يذكرها بهذه العبارات الوجيزة: «وافق ذلك مصاب الأهل والولد، وصلوا من المغرب بالسفين، فأصاب عاصف من الريح فغرقت، وذهب الموجود والسكن والمولود، وعظم المصاب.»

ويذكر هذه الواقعة في محلين آخرين بمناسبتين مختلفتين، ويضيف هناك — إلى ما تقدَّم — العبارات التالية: «عظم الأسف، وحسن الجزاء، واختلط الفكر.»

وهذا كل ما كتبه عن مصائبه العائلية.

ونستطيع أن نقول إن ابن خلدون كتب ترجمة حياته كأنه يدوِّن وقائع تاريخية، ولم يسجِّل خلال هذه الترجمة انفعالاته وانطباعاته إلا نادرًا وبعبارات مقتضبة جدًّا.

إنه لا يشذ عن هذه الخطة إلا مرتين، وذلك في القسم الأخير من التعريف، مرةً عندما تكلَّم عن عمله في منصب القضاء، ومرةً عندما سرد لقاءه بتيمورلنك.

إنه تكلَّم عن توليه منصب القضاء في مصر في ست صفحات بأسلوب مشبوب بالانفعال، في حين أنه ما كان خصص لذكر ما عمله خلال توليه منصب الحجابة في تلمسان إلا بضعة أسطر.

إنه ذكر تفاصيل ملاقاته مع تيمورلنك في نحو اثنتي عشرة صحيفة، وذلك بعد معلومات وتفصيلات تاريخية أشغلت صحائف كثيرة، في حين أن ما كان ذكره عن ملاقاته بملوك آخرين لم يزد على سطر أو سطرين.

أمام هذه الظاهرة يجب علينا أن نتساءل: لماذا؟ لماذا هذا التفاوت في كيفية سرد الوقائع ووصف الأحوال؟

إني أعتقد أن عوامل هذا التفاوت متعددة؛ منها تفاوت المُدد التي مضت بين تاريخ حدوث الواقعات وبين تاريخ ذكرها في التعريف، ومنها اختلاف شدة تأثر المؤلِّف من الواقعات المختلفة، ومنها تفاوت حالاته النفسية العامة عند اشتغاله بتدوين الواقعات.

من المؤكد أن ابن خلدون كتب ما كتبه عن وقائع حياته في المغرب بعد مرور مدة طويلة على حدوثها، وأمَّا ما حدث له خلال توليه منصب القضاء وخلال ملاقاته مع تيمورلنك، فإنه كتبها بعد مدة وجيزة من حدوثها، وربما عقب حدوثها عندما كان تأثيرها في نفسه لا يزال حيًّا وحادًّا.

وفضلًا عن ذلك، إن الخطة التي سار عليها في القيام بمهمة القضاء خلقت له كثيرًا من المتاعب، وأثارت عليه حسد البعض ومشاغبة الكثيرين، مع أنه كان وصل عندئذٍ إلى منتصف العقد السادس من العمر، فكان من الطبيعي أن يتأثر من هذه المتاعب والمشاغبات تأثُّرًا عميقًا، كما أنه كان من الطبيعي أن تنعكس انفعالاته هذه على كتاباته عندما أَقدم على تدوين هذه الوقائع.

وأمَّا ملاقاته مع تيمورلنك، فكانت وقعت وهو في عتبة السبعين من العمر، ومجرَّدًا عن كل الشواغل، فلا شك في أنه كتبها فور وقوعها، ومما يؤيد ذلك أن أبحاث «التعريف» التي تلي أخبار تيمور لم تشغل إلا صحيفةً واحدة.

•••

إني أعتقد أن ما كتبه ابن خلدون عن الأحوال التي لاحظها، والمتاعب التي لاقاها، والمفاسد التي كافحها عندما تولَّى منصب القضاء يكوِّن وثيقةً هامةً تصوِّر حالة العصر أحسن تصوير بكل ما فيه من فساد وضلال وتضليل وشعوذة.

ومما يلفت النظر أن الانتقادات الشديدة التي كتبها ابن خلدون بهذه المناسبة تتناول شئون الفتيا والأوقاف أيضًا.

ونظرًا لأهمية هذه الانتقادات رأيت من المفيد أن أنقل فيما يلي نص ما كتبه ابن خلدون في هذا المضمار:

«خلع عليَّ (السلطان) بإيوانه، وبعث من كبار الخاصة من أقعدني بمجلس الحكم بالمدرسة الصالحية بين القصرين، فقمت بما دفع إليَّ من ذلك المقام المحمود، ووفَّيت جهدي بما أمَّنني عليه من أحكام الله، لا تأخذني في الحق لومة، ولا يَزَعني عنه جاه ولا سطوة، مسوِّيًا في ذلك بين الخصمين، آخذًا بحق الضعيف من الحكمين، مُعْرِضًا عن الشفاعات والوسائل من الجانبين، جانحًا إلى التثبت في سماع البينات، والنظر في عدالة المنتصبين لتحمُّل الشهادات، فقد كان البَرُّ منهم مختلِطًا بالفاجر، والطيب متلبسًا بالخبيث، والحكام ممسكون عن انتقادهم، متجاوزون عما يظهرون عليه من هناتهم؛ لما يموهون به من الاعتصام بأهل الشوكة، فإن غالبهم مختلطون بالأمراء، معلمون للقرآن، وأئمة في الصلوات، يلبسون عليهم العدالة، فيظنون بهم الخير، ويقسمون لهم الحظ من الجاه في تزكيتهم عند القضاء والتوسل لهم؛ فأعضل داؤهم، وفشت المفاسد بالتزوير والتدليس بين الناس منهم، ووقفت على بعضها؛ فعاقبت فيه بموجع العقاب ومؤلم النكال، وتأدى إليَّ العلم بالجرح في طائفة منهم، فمنعتهم من تحمُّل الشهادة، وكان منهم كُتَّاب لدواوين القضاة والتوقيع في مجالسهم، قد دُرِّبُوا على إملاء الدعاوى وتسجيل الحكومات، واستُخدموا للأمراء فيما يعرض لهم من العقود، بأحكام كتابتها وتوثيق شروطها، فصار لهم بذلك شفوف على أهل طبقتهم، وتمويه على القضاء بجاههم، يدرعون به مما يتوقعونه من عتبهم، لتعرضهم لذلك بفعلاتهم. وقد يسلط بعض منهم قلمه على العقود المحكمة، فيوجد السبيل إلى حلها بوجه فقهي أو كتابي، ويبادر إلى ذلك متى دعا إليه داعي جاه أو منحة، وخصوصًا في الأوقاف التي جاوزت حدود النهاية في هذا المصر بكثرة عوالمه فأصبحت خافية الشهرة، مجهولة الأعيان، عرضةً للبطلان باختلاف المذاهب المنصوبة للحكام بالبلد، فمن اختار فيها بيعًا أو تمليكًا شارطوه وأجابوه، مفتاتين فيه على الحكام الذين ضربوا دونه سد الحظر والمنع حمايةً عن التلاعب، وفشا في ذلك الضرر في الأوقاف، وطرق الضرر في العقود والأملاك.

فعاملت الله في حسم ذلك بما آسفهم عليَّ وأحقدهم، ثم التفتُّ إلى الفتيا بالمذهب، وكان الحكام منهم على جانب من الخبرة؛ لكثرة معارضتهم وتلقينهم الخصوم، وفتياهم بعد نفوذ الحكم، إذا فيهم أصاغر، ببناهم يتشبثون بأذيال الطلب والعدالة ولا يكادون، وإذا بهم طفروا إلى مراتب الفتيا والتدريس فاقتعدوها وتناولوها بالجزاف، واحتازوها من غير مثرب، ولا منتقد للأهلية ولا مرشح. إذ الكثرة فيهم بالغة، ومن كثرة الساكن مشتقة، وقلم الفتيا في هذا المصر طلق، وعنانها مرسل، يتجاذب كل الخصوم منه رسنًا، ويتناول من حافته شقًّا، يروم به الفلج على خصمه، ويستظهر به لإرغامه، فيعطيه المفتي من ذلك ملء رضاه، وكفاه أمنيته، متتبعًا إياه في شعاب الخلاف، فتتعارض الفتاوى وتتناقض، ويعظم الشغب إن وقعت بعد نفوذ الحكم، والخلاف في المذاهب كثير، والإنصاف متعذر، وأهلية المفتي أو شهرة الفتيا ليس تمييزها للعامي، فلا يكاد هذا المدد ينحسر، ولا الشغب ينقطع.

فصدعت في ذلك بالحق، وكبحت أعنَّة أهل الهوى والجهل، ورددتهم على أعقابهم، وكان فيهم ملتقطون سقطوا من المغرب، يشعوذون بمفترق من اصطلاحات العلوم هنا وهناك، لا ينتمون إلى شيخ مشهور، ولا يُعْرَف لهم كتاب في فن، قد اتخذوا الناس هزؤًا، وعقدوا المجالس مثلبةً للأعراض ومأبنةً للحرم؛ فأرغمهم ذلك مني وملأهم حسدًا وحقدًا عليَّ، وخلوا إلى أهل جلدتهم من سكان الزوايا المنتحلين للعبادة، يشترون بها الجاه ليجيروا به على الله، وربما اضطُر أهل الحقوق إلى تحكيمهم؛ فيحكمون بما يلقي الشيطان على ألسنتهم، يترخَّصون به للإصلاح، ولا يزعهم الدين عن التعرُّض لأحكام الله بالجهل. فقطعت الحبل في أيديهم، وأمضيت أحكام الله فيمن أجاروه، فلم يغنوا عنه من الله شيئًا، وأصبحت زواياهم مهجورة، وبئرهم التي يمتاحون منها معطلة، وانطلقوا يراطنون السفهاء في النيل من عرضي، وسوء الأحدوثة عني بمختلِف الإفك، وقول الزور يبثونه في الناس، ويدسون إلى السلطان التظلُّم مني، فلا يصغي إليهم، وأنا في ذلك محتسب عند الله ما مُنِيت به من هذا الأمر، ومُعْرِض فيه عن الجاهلين، وماضٍ على سبيل سواء من الصرامة، وقوة الشكيمة، وتحري المعدلة، وخلاص الحقوق، والتنكب عن خطة الباطل متى دُعِيت إليها، وصلابة العود عن الجاه والأغراض متى غمرني لامسها. ولم يكن ذلك شأن من رافقته من القضاة، فنكروه عليَّ، ودعوني إلى تبعهم فيما يصطلحون عليه من مرضاة الأكابر، ومراعاة الأعيان، والقضاء للجاه بالصور الظاهرة، أو دفع الخصوم إذا تعذَّرت، بناءً على أن الحاكم لا يتعيَّن عليه الحكم مع وجود غيره، وهم يعلمون أن قد تمالئوا عليه.

وليت شعري ما عذرهم في الصور الظاهرة إذا علموا خلافها، والنبي يقول في ذلك: «من قضيت له من حق أخيه شيئًا، فإنما أقضي له من النار.»

فأبيت في ذلك كله إلا إعطاء العهدة حقها، والوفاء لها ولمن قلدنيها، فأصبح الجميع عليَّ ألبًا، ولمن ينادي بالتأفُّف مني عونًا …»

(التعريف بابن خلدون ورحلته شرقًا وغربًا، ص٢٥٤–٢٥٨.)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤