أبحاث المقدمة

  • (١)

    إن الكتاب الذي يُعْرَف الآن باسم «مقدمة ابن خلدون» يتألَّف في الحقيقة من «المقدمة» و«الكتاب الأول» من تاريخه المسمى «كتاب العِبر».

    يعنون ابن خلدون الكتاب الأول بالعنوان التالي:

    «في طبيعة العمران في الخليقة، وما يعرض فيها من البدو والحضر، والتغلُّب، والكسب، والمعاش، والصنائع، والعلوم، ونحوها، وما لذلك من العلل والأسباب» (ص٣٥).

    وبعد ذلك يقسم الكتاب المذكور إلى ستة فصول رئيسية:
    • الأول: في العمران البشري على الجملة، وأصنافه، وقسطه من الأرض.
    • الثاني: في العمران البدوي، وذكر القبائل والأمم الوحشية.
    • الثالث: في الدول والخلافة والملك، وذكر المراتب السلطانية.
    • الرابع: في العمران الحضري والبلدان والأمصار.
    • الخامس: في الصنائع والمعاش والكسب ووجوهه.
    • السادس: في العلوم واكتسابها وتعلمها.
  • (٢)

    قد قسَّم ابن خلدون كل واحد من هذه الفصول الرئيسية إلى عدد من المقدمات والفصول.

    وبما أنه استعمل كلمة «الفصل» في التقسيمات الرئيسية والتقسيمات المتفرعة منها على حد سواء، كثيرًا ما يغلط القراء في تحديد أقسام الكتاب ومباحثه.

    ولدفع هذا المحذور لقد سمَّى المترجم الفرنسي «البارون دو سلان» كل فصل من الفصول الرئيسية المذكورة باسم «القسم»، كما سمَّت بعض الطبعات العربية — مثل طبعة مصطفى محمد في مصر — كل واحد من هذه الفصول الرئيسية باسم «الباب»، وإن لم تُشِرْ إلى أنها فعلت ذلك تسهيلًا لمراجعة القراء ودفعًا للالتباس، ونحن سنقتفي في هذه الدراسات إثر تلك الطبعات، وسنسمي الفصول الأساسية باسم «الأبواب»، وعندما نُضطر إلى ذكر عنوان الفصل بنصه الأصلي سنضيف إليه كلمة «الرئيسي»؛ تمييزًا له من الفصول الفرعية.

  • (٣)

    أمَّا عدد هذه المقدمات والفصول فهو كما يلي:

    في الفصل الرئيسي الأول — أي في الباب الأول — ست مقدمات، في الباب الثاني ٢٩ فصلًا، في الباب الثالث ٥٣، في الباب الرابع ٢٢، في الباب الخامس ٣٣، في الباب السادس ٥٠ فصلًا.

    لقد ذكرنا هذه الأعداد بالنسبة إلى طبعة بيروت وطبعة مصطفى محمد المصرية المشتقة منها، غير أن طبعة بولاق تحتوي على فصل زائد على ذلك في الباب السادس، وكذلك طبعة مصطفى فهمي.

    وأمَّا طبعة باريس التي كان تولَّى أمرها المستشرق «كاترمير»، فتحتوي على فصل زائد في الباب الثالث، وعلى عشرة فصول زائدة في الباب السادس.

    وبما أن نسخ طبعة باريس نادرة وبعيدة عن متناول أيدي معظم الذين يقرءون المقدمة، سندرج في ذيل هذا البحث فهرستًا كاملًا لعناوين هذه الفصول الزائدة، كما أننا سنكتب دراسةً تحليليةً لأحدها، وإجمالًا وافيًا لبعضها، وسننقل بعضها بنصوصها.

  • (٤)

    إن بعض الطبعات المتداولة في البلاد العربية — مثل طبعة مصطفى فهمي في مصر القاهرة — وضعت أرقامًا بجانب عناوين الفصول؛ تسهيلًا للبحث والمراجعة، غير أن بعضها — مثل طبعة بيروت، وطبعة مصطفى محمد في مصر — تجاوزت ذلك إلى ترتيب الفصول ترتيبًا عدديًّا، بقولها: الفصل الأول، الفصل السادس، الفصل الثاني والعشرون، وهلمَّ جرًّا.

    ومما يجب ألا يغرب على البال أن الفصول الفرعية لم تكن مرقمةً في أصلها، فالطابع الذي يقدم على ترقيم الفصول وترتيبها بهذه الصورة يتحمَّل مسئوليةً معنويةً كبيرة؛ لوجود بعض الفصول في بعض النسخ دون غيرها؛ مثلًا الفصل القائل بأن «العلم والتعليم طبيعي في العمران البشري»، يكون أول الفصول من الباب السادس في النسخ التي اعتمدت عليها طبعات البلاد العربية، في حين أنه يكون الفصل السادس في النسخ التي اعتمدت عليها طبعة باريس.

    ونحن نعتقد لذلك أن ترتيب الفصول بهذه الصورة ترتيبًا نهائيًّا — قبل درس نسخ المقدمة درسًا وافيًا — مما يخالف الأصول العلمية، ومما يشوِّش الأمر على القراء والباحثين.

  • (٥)

    ومما تجب ملاحظته هذه الفصول والأبواب، تختلف اختلافًا كبيرًا من حيث الطول؛ فإن أطول الأبواب هو الباب السادس (الباحث عن العلم والتعليم)، ثم يليه في الطول الباب الثالث (الباحث عن الدول)، فالباب الأول (الباحث عن العمران البشري على الجملة)، فالباب الخامس (الباحث عن الصنائع والمعاش)، فالباب الرابع (الباحث عن الأمصار)، فالباب الثاني (الباحث عن العمران البدوي).

    وإذا أحصينا عدد الصحائف المخصصة لكل واحد من الأبواب الستة المذكورة، وقارنَّا بعضها ببعض؛ وجدنا أن طول الباب السادس يقرب من سبعة أمثال الثاني، كما أن طول الباب الثالث يناهز ستة أمثال الباب المذكور.

    وأمَّا الفصول التي تنقسم إليها الأبواب فهي أيضًا تختلف اختلافًا كبيرًا من حيث الطول؛ إن أطول الفصول هو الباحث عن جغرافية الأرض (٣٣ صفحة)، ويليه في الطول الفصل الباحث عن النبوة والكهانة (٢٨ صفحة)، ويأتي بعد ذلك الفصل الباحث عن مراتب السلطان وألقابها (٢٢ صفحة)، فالفصل الباحث عن الفاطمي المنتظر (١٩ صفحة).

    لقد انخدع بعض الكُتَّاب والباحثين بعدد الصحائف المخصصة في المقدمة لكل فصل من الفصول، وظنوا أن ابن خلدون يعزو أهميةً كبيرةً إلى البيئة الجغرافية، كما زعموا أنه يعتبر الدين من أهم عوامل الاجتماع، في حين أن الحقيقة تخالف هذا الزعم مخالفةً كبيرة، كما سنشرح ذلك في فصول خاصة عندما نُقْدِم على تحليل آراء ابن خلدون وشرح نظرياته.

    فنحن نرى أن أهمية الفصول في المقدمة لا يجوز أن تقدَّر بعدد الصحائف المخصصة لها؛ لأن بعض المباحث المسرودة في بعض الفصول ما هي إلا معلومات تمهيدية أو استطرادية، يُقْصَد منها تارةً إعطاء بعض المعلومات الممهدة، وطورًا بعض المعلومات المتممة؛ بغية إعداد الأذهان لفهم الموضوع في بعض الأحوال، وزيادة المعلومات المتعلقة بالموضوع في أحوال أخرى، ولذلك نجد أن أهمية المباحث المسرودة في الفصول المختلفة لا تتناسب مع أطوالها بوجه من الوجوه.

    إن المباحث الاستطرادية أو التمهيدية محتشدة في الدرجة الأولى في الباب السادس، فالباب الأول، فالباب الثالث، وأمَّا الأبواب الثلاثة الأخرى فيقل، بل يندر فيها مثل هذه المباحث التمهيدية أو الاستطرادية.

    مثلًا الباب الأول، يقع في ثمانٍ وسبعين صفحة، غير أن أكثر من ثلاث أرباع هذه الصحائف مخصَّصة لمعلومات استطرادية عن تقسيمات الأرض ومسألة النبوة والكهانة.

    والباب الثاني يقع في ثلاث وثلاثين صفحة، غير أن الصحائف المذكورة تكاد تكون خاليةً من المباحث الاستطرادية أو التمهيدية.

  • (٦)
    يظهر من التفاصيل الآنفة الذكر أن المباحث المدرجة في المقدمة تنقسم إلى نوعين أساسيين:
    • الأول: المباحث الأساسية التي تدخل في نطاق أغراض المؤلف الأصلية، فتحوم حول «علم العمران»، و«أسس التاريخ» مباشرة.
    • والثاني: المباحث الاستطرادية التي تأتي عَرَضًا، وتستهدف سرد بعض المعلومات العامة تمهيدًا للأبحاث الأصلية أو إتمامًا للفائدة.

    إن أبحاث المقدمة مهمة جدًّا من كلتا الوجهتين:

    أولًا من وجهة المباحث الأصلية؛ اعتبر بعض الباحثين والكُتَّاب موضوع المقدمة بمثابة «علم التاريخ» أو «فلسفة التاريخ»، واعتقد بعضهم أنها بمثابة «علم الاجتماع» أو فلسفة الاجتماع، «أمَّا أنا فأرى أن كل واحد من هذين الرأيين وجيه من جهة وقاصر من جهة أخرى، وأعتقد بأن أحسن تعبير نستطيع أن نعبر به عن حقيقة المقدمة، هو القول بأنها «مدخل اجتماعي للتاريخ» Introduction sociologique à l’histoire.
    وأمَّا من وجهة المباحث الاستطرادية؛ فإن المقدمة بمثابة موسوعة Encyclopédie ثمينة جدًّا، فهي تجمع كميةً كبيرةً من المعلومات القيِّمة عن الجغرافية والتاريخ، ورسوم الحضارة، وأصناف العلوم، وأحوال الصنائع، وأصول التعليم، وعن أهم المؤلفات العلمية والأدبية، والآراء السياسية والدينية والفلسفية.

    إنني أعتقد بأن دراسة المقدمة دراسةً علميةً دقيقةً تتطلَّب تفريق مباحثها الأصلية عن مباحثها الفرعية باهتمام، ودرس كل قسم منها على حِدَة حسب ما تتطلَّبه طبيعتها.

    إن عمل ابن خلدون في النوع الثاني من مباحث المقدمة لا يتعدَّى حدود «النقل، والجمع، والعرض، والتلخيص، والترجيح، والتسجيل»، وأمَّا قدرته الابتكارية وعبقريته الحقيقية، فلا تظهر إلا في النوع الأول من مباحث المقدمة.

    فجهود الباحثين يجب أن توجَّهَ — قبل كل شيء — إلى تفريق هذه المباحث من غيرها، وتمييز المبتكر وتبريز الطريف منها.

ذيل

الفصول المنسية والمهملة

لمقدمة ابن خلدون فصول منسية في الطبعات المصرية والبيروتية المتداولة بين الأيدي.

ندرج فيما يلي عناوين هذه الفصول مع تعيين مواضعها من الفصول المعلومة في الطبعات المتداولة، معتمدين في ذلك على طبعة باريس:
  • (أ)

    في الباب الثالث بعد الفصل الباحث عن «طروق الخلل للدولة»، فصل في اتساع نطاق الدولة أولًا إلى نهايته، ثم تضايقه طورًا بعد طور، إلى فناء الدولة واضمحلالها (المجلد الثاني، ص١١٤–١١٧).

  • (ب)

    في أول الباب السادس قبل الفصل القائل بأن «العلم والتعليم طبيعي في العمران البشري».

    فصل في الفكر الإنساني (المجلد الثاني، ص٣٦٤).

  • (جـ)

    في الباب نفسه، بعد الفصل الآنف الذكر:

    فصل في أن عالم الحوادث العقلية إنما يتم بالفكر.

  • (د)

    بعد ذلك:

    فصل في العقل التجريبي وكيفية حدوثه.

  • (هـ)

    بعد ذلك:

    فصل في علوم البشر وعلوم الملائكة.

  • (و)

    بعد ذلك:

    فصل في علوم الأنبياء عليهم السلام.

  • (ز)

    بعد ذلك:

    فصل في أن الإنسان جاهل بالذات وعالم بالكسب.

    «إن هذه الفصول الستة تشغل ١٢ صفحةً من المجلد الثاني: ٣٦٤–٣٧٦.»

  • (ﺣ)

    في الباب السادس، بعد فصل علم الكلام:

    فصل في كشف الغطاء عن المتشابه في الكتاب والسنة، وما حدث لأجل ذلك في طوائف السنة والمبتدعة من الاعتقادات (المجلد الثالث، ص٤٤–٥٩).

  • (ط)

    في الباب نفسه، بعد الفصل الذي يقرِّر «أن كثرة التآليف في العلوم عائقة عن التحصيل»:

    فصل في المقاصد التي ينبغي اعتمادها بالتأليف وإلغاء ما سواها (المجلد الثالث، ص٢٤١–٢٤٨).

  • (ي)

    في الباب المذكور، بعد الفصل القائل «إن حَمَلة العلم في الإسلام أكثرهم العجم»:

    فصل في أن العُجْمَة إذا سبقت إلى اللسان قصرت بصاحبها في تحصيل العلوم عن أهل اللسان العربي (المجلد الثالث، ص٢٧٤–٢٧٨).

  • (ك)

    في الباب السادس أيضًا، بعد الفصل القائل: «إن حصول مَلَكة الشعر بكثرة الحفظ»:

    فصل في بيان المطبوع من الكلام والمصنوع، وكيفية جودة المصنوع وقصوره (المجلد الثالث، ص٣٥١–٣٥٧).

•••

هذا ومما يجب الانتباه إليه أن طبعة باريس تحتوي على فقرات كثيرة — زيادةً على الفصول الآنفة الذكر — لا توجد في الطبعات المصرية والبيروتية.

أهم هذه الفقرات تقع في فصول الخط، والتصوُّف، والسيمياء، واللغة.

كما أن فصل الحديث في طبعة باريس يختلف اختلافًا كليًّا عمَّا هو معروف في الطبعات المذكورة، من حيث التفصيل من جهة، ومن حيث الترتيب من جهة أخرى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤