المسرح وسيلة للتربية

عندما أتأمل حياة العظماء، من قادة الفكر، أو المكتشفين في العلوم، أو دعاة الثورات، أو الأدباء الراسخين، أتعجب من أن عددًا كبيرًا منهم لم يحصل على تعليم متوسط أو عالٍ يبرِّر تفوقهم البارز، بل إن منهم من لم يحصل حتى على تعليم ابتدائي، وكثير منهم عاشوا في فوضى تعليمية يتقلبون بين دراسة وأخرى بحيث لم يحذقوا واحدة منها، كما تجد مثلًا في هربرت سبنسر، وتشارلس داروين، وبرنارد شو، وعشرات غيرهم.

وعندئذٍ أحتاج إلى أن أبحث عن علة تفوقهم، فأجدها في مئات الكتب التي يكتبها مؤلفون جادون يتعبون في التأليف كي يربوا القراء ويعلموهم، كما أجدها في عشرات المجلات التي تختص في علم أو فن معين وتدرسه، بل إن في عواصم أوربا من المحاضرات المنظمة للشعب ما يكفي لتخريج العامة إلى مثقفين، وأستطيع أن أقول في يقين إن عدد المحاضرات العامة التي يدخلها المستمعون بأجور منخفضة، خمسة أو عشرة قروش، لا يقل عن ثلاثين أو أربعين محاضرة كل يوم في لندن وحدها.

وأخيرًا هناك المسرح، إن المسرح الأوربي للتسلية فقط حين ينحط، وهذا قليل، ولكنه للتعليم حين يرتفع، وهذا هو الغالب عليه؛ فإن المؤلفين للدرامة الأوربية، منذ هنريك إبسن، يعالجون المشكلات الاجتماعية بذكاء نادر كما يجرءون أيضًا على معالجة المشكلات الفلسفية بل الدينية.

الفلسفة على المسرح شيء مألوف في باريس ولندن وبرلين، وقد غذَّى المؤلفون المسارحَ بالفلسفة والدين والأدب والأخلاق، وعاونهم على ذلك حرية فكرية تتَّسع للآراء المتناقضة، بل الآراء المؤلمة، لمن نشأوا على احترام العرف والعادة بلا تفكير، وقَلَّ أن يزور أحدنا مسرحًا أوربيًّا ويستمتع برؤية إحدى الدرامات لكاتب ممتاز دون أن يخرج وفي رأسه طنين من الآراء يبعث على الاجترار والتفكير.

وهذه الأشياء الأربعة: الكتب الجديدة، والمجلات المتخصصة، والمحاضرات المدروسة، وأخيرًا المسارح التي تعلم وتنير، هي التي تُعلم العامة من أبناء الشعب الذين لم يحصلوا على تعليم منظم في مدرسة أو جامعة، وهي التي يُعزى إليها التبريز الذي نجده في أمثال داروين وسبنسر وشو.

وعندما أذكر برنارد شو وأتأمل مؤلفاته التي لم يفتني منها كتاب أو مقال، أحس أنها تكفي لتخريج المثقفين في الموضوعات المعقدة التي عالجها وهي عشرات، كتبها جميعًا في لغة بعيدة عن البهارج التي تشغل القارئ أو المستمع وتحول بينه وبين التفكير المتزن، وهذه المؤلَّفات كلها تقريبًا درامات تُمَثَّلُ، وتتناول كل منها مشكلة فلسفية أو اجتماعية بل أحيانًا مشكلة دينية، ولكنه كان حين يخرجها كتبًا مطبوعة، يكتب لكل منها مقدمة قد تزيد أحيانًا في عدد صفحاتها على الدرامة نفسها، وهو يشرح فيها موقفه بأكثر إسهابًا من المشكلة التي عالجها في الدرامة، وساعده على إخراج دراماته — بما تحويه من فهم عميق — مناخ من الحرية الفكرية يحيا فيه المفكر وينمو ولا يجد عائقًا من تقاليد مشئومة تقول له: قف هنا ولا تفكر، التفكير ممنوع.

ولذلك لم يصطدم إلا في الأقل بالقانون أو العرف حين منع تمثيل بعض دراماته، ولكن لم تمض سنوات على المنع حتى أجيز تمثيلها ثانيًا، حدث ذلك في درامة ألَّفها بشأن الكسب الحرام من المواخير، حين حمل على النظم التجارية الأخرى لأنها تجيز الخسة والدناءة والاستغلال السافل كما يحدث في المواخير سواء، وحدث مرة أخرى في درامة تتصل بالإيمان بالله، جعل فيها أحد الأشخاص ينتقد الله في حماقة ويسب ويهاتر، ولكن أجيز التمثيل بعد مدة من المنع.

وكل ما أقصد إليه أن مناخ الحرية يُجَرِّئُ على التفكير؛ لأن مصير الانحراف إلى الإهمال والتلاشي، ويبقى بعد ذلك الناضج الذي يؤدي إلى الرقي، وهذا هو ما يجعل من المسرح مدرسة بل جامعة.

ومع أننا نضحك كثيرًا ونقضي الساعات ونحن نستمع إلى الحوار الذكي والنكات الصارخة التي تخرج من أفواه الممثلين؛ فإننا نجدنا في موقف قد وضعنا فيه المؤلف، يحملنا على أن نسأل ونرتبك ونحاول أن نفهم ونتغير، بل قد نحزن كثيرًا على الرغم من الكلمات والنكات التي أضحكتنا كثيرًا.

وبرنارد شو أديب الأفكار. وهنا أقف كي أعرب عن الأسف بأن أدب الأفكار لا يكاد يوجد في الأقطار العربية، وإني أسأل لماذا لا يكون عندنا مثلًا معجم للأفكار التي أثارت الثورات وحرَّكت العقول وغيَّرت المجتمعات، كما أن عندنا معاجم كثيرة للألفاظ؟

ولأن أدب برنارد شو هو أدب الأفكار فإنه — مثل فولتير — عني بالعلم عناية كبيرة، فقد يجهل القراء أن فولتير أديب أوربا العظيم وصاحب الدعوات التحريرية، قد انغمس في دراسة العلوم حتى إنه ألف مجلدين تبلغ صفحاتهما نحو ١٠٠٠ صفحة كبيرة يبحث فيها، على قدر عصره، مشكلات العلم المادي.

وكذلك فعل برنارد شو؛ فإنه ناقش نظرية داروين والمعاني المنبثقة منها بشأن التنازع والتعاون في الطبيعة، كما ناقش عوامل الوراثة وعوامل الوسط وتأثيرهما في التطور، بل ناقش الأطباء في حكمة العلاج والدواء، وهذا إلى بحوثه العميقة في معاني التربية وأهدافها.

لقد عني برنارد شو كما عني فولتير بالعلم لأن العلم أفكار وليس ألفاظًا.

•••

إن العبرة التي نحتاج إلى تأملها أن المسرح الأوربي لا يزال يحيا قويًّا، يتسع للبحوث الفلسفية الاجتماعية، في حين أن مسرحنا يكاد يكون لغوًا نسيًا لا نأبه به ولا نكاد نذكره، وهذا الاختلاف بين المسرحين يجب أن يهمزنا إلى البحث عن العلة وإلى طلب العلاج؛ إذ نحن بإهمال مسرحنا تنقصنا مدرسة بل جامعة.

لقد أنشأنا الأوبرا منذ أيام إسماعيل، لكن حكم المستعمر الأجنبي، يؤيِّده الخائن المصري، كان يحمل الحكومة على معاونة التمثيل الأجنبي دون التمثيل المصري، بل لم تكن هناك أية محاولة جدية لإيجاد الفنون المسرحية العربية.
figure
شارلوت زوجة برنارد شو، في أخريات أيامها.
figure
برنارد شو في أربعينيات عمره.
figure
شو في شبابه في ١٨٧٩.
figure
برنارد شو في تسعينات القرن الماضي.

ثم جاء التمثيل السينمائي، وهو في أحسن ظروفه لَهْوٌ أكثر مما هو فن، وكان يمكن أن يكون فنًّا عظيمًا لولا أن المجتمع التجاري الذي نعيش فيه وتعيش فيه أوربا وأمريكا أيضًا، يطلب المال أكثر مما يطلب الفن؛ ولذلك اتجهت القصص السينمائية في مصر إلى اللهو الذي يجذب الجمهور ويستخرج نقود أفراده بدلًا من أن يتجه إلى الفن الذي يُربِّيهِم.

ولا يمكن التمثيل المسرحي أن يزاحم التمثيل السينمائي، ما دام هذا الأخير يتجه نحو العامة الذين لا يحاول المؤلف أن يرفعهم إلى مقام الشعب ويعلمهم التفكير، وما دمنا على هذه الحال فإننا لن نطمع في أن نجد برنارد شو في مصر، بل إني أعتقد أنه لو مُثِّلَتْ درامات برنارد شو على مسرح في القاهرة فإن الجمهور سيصد عنها لأنه لم يتعود الحديث الذهني والاشتغال بالمشكلات الفلسفية العلمية والاجتماعية؛ ولذلك يكون مصيرها الإهمال.

ولم يؤثر التمثيل السينمائي على المسرح الأوربي إلا تأثيرًا طفيفًا؛ لأن المخترعات السينمائية جاءت بعد أن كان المسرح قد ثبت، بل رسخ، في المجتمعات الأوربية وأصبح بعض مؤسساتها المحترمة.

ومشكلتنا الآن هي: كيف نحيي المسرح؟

أعتقد أن أول ما يجب علينا هنا هو أن نترجم المسرحيات العظيمة كي تُقرأ أولًا، وهي متى قرئت وعرفت قيمتها عند جمهور المفكرين استطعنا أن نشرع في تمثيلها على قياس صغير لا يكلفنا إرهاقًا، حتى إذا تذوقها الجمهور وتربَّى بها بعض التربية أقبل عليها في التمثيل بعد القراءة، وأنا أقصد بعبارة «المسرحيات العظيمة» تلك التي تعالج المشكلات الإنسانية من اجتماعية إلى فلسفية إلى علمية، ولا أقصد ذلك اللهو الذي يكاد يكون سينمائيًّا.

ومن هنا قيمة برنارد شو لنا؛ فإننا لو ترجمناه إلى لغتنا لوجدنا فيه جامعة تعلِّم وتلهم وترشد نحو الخير والبر والشرف والقوة، نجد ذلك حين نقرأه قراءة الدراسة والتأمل، ثم يبقى لنا بعد ذلك الأمل الذي أرجو ألَّا يكون بعيدًا وهو أن نراه ممثَّلًا.

•••

نحتاج هنا إلى تذكُّر الخصائص التي يمتاز بها برنارد في مسرحياته، وأول هذه الخصائص أنه لا يبالي القواعد المسرحية، مثل «وحدة الزمان والمكان» أي إن الدرامة كلها فصل واحد أو تكاد تكون كذلك كما كان يفعل هنريك إبسن، ومثل «الحبكة» أي إننا يجب أن نجد الحوادث مرتبطة تدور حول نقطة، ومثل «الذروة» حين يخلق لنا المؤلف نقطة يزداد فيها التوتر حتى يصل إلى الذروة التي ينتظرها المتفرجون وأنفاسهم معلقة، وأخيرًا «الحركة» على المسرح.

وبرنارد شو يخالف كل هذه القواعد، حتى لقد اتُّهِمَ لهذا السبب بأنه حَطَّ المسرح الإنجليزي ولم يرفعه، بل هناك من يعلِّل صدود الجمهور الفرنسي عن دراماته بإهماله لهذه القواعد بزعم أن الفرنسيين أدق إحساسًا بالفن من غيرهم.

ولكن برنارد شو هنا مقنِع في رده؛ إذ هو يقول إنه ينقل الحياة إلى المسرح، وليس في الحياة حبكة، وإن يكن جمهور المتفرجين يرتاحون إليها، كما أن الحوادث لا تصل على الدوام إلى الذروة، أما عن وحدة الزمان والمكان فليست واقعية.

ولكن الذي لا يشك فيه أن برنارد شو يقصر في «الحركة»؛ فإن بعض دراماته تكاد تكون أحاديث لا أكثر، بل إن هناك موقفًا في درامة «الإنسان والسبرمان» يتكون من أربعة أشخاص يتحدَّثون نحو ساعة بلا أدنى حركة أو تغيير، ومع أن هذا يحدث في الحياة؛ فإن الفن يقتضي طرد السأم عند المتفرجين من مثل هذا الموقف؛ لأن المسرح إمتاع كما هو تعليم.

والواقع أن برنارد شو، قبل أن يكون مؤلِّفًا مسرحيًّا أو أديبًا إنما هو فيلسوف؛ إذ هو لا يبالي أن يضحي بفنه من أجل فلسفته، فنحن نفهم أن الحب هو موضوع الدرامة في أكثر أحوالها وأقربها إلى أذهان الجمهور، ولكن الحب هو أبعد الموضوعات عن ذهن برنارد شو الذي قلَّ أن يعرض له؛ إذ إن موضوعه بل جميع موضوعاته فلسفية، ونحن معه إزاء رجل يعلمنا، وهو يسلينا، أي إن التسلية وسيلة الفلسفة، وقد عِيبَ عليه إهماله للحب، فكان جوابه أنه ليس هو الشأن الأعظم في حياتنا. وأشخاص دراماته البارزون لهذا السبب فلاسفة أو ينزعون إلى آراء فلسفية بشأن المجتمع.

ومع خلو درامات برنارد شو من «قواعد» التمثيل فإن براعته في الحوار الفلسفي تسحرنا، حتى لننسى القواعد ونحن نصغي إلى تبادل الأحاديث بين أشخاص الدرامة، ودرامة «جان دارك» لا تخلو من الحركة والحبكة، ولكننا مع ذلك نلتفت إلى الأحاديث ونحن مسحورون بمعركة الأفكار فيها، وهي معركة تمس قلوبنا حتى لنحس أننا نحن نمثل فيها، ونشترك مع أشخاص الدرامة وإن لم نكن على المسرح معهم.

ليس برنارد شو ممَّن يؤلِّفون الدرامة للدرامة أو يمارسون الفن للفن، وهو أيضًا لا يكتب ما يريده العامة، ولو كان قد فعل لكان قد اكتسح جميع الذين ألَّفُوا المسرح، وإنما هو معلم يتَّخذ المسرح وسيلة وليس هدفًا، والاعتبار الأول عنده هو المناقشة الفلسفية بشأن الدين والفلسفة والأخلاق والعلم، كي يغير المتفرجين، ويحملهم على أن يتطوروا وعلى أن يعتمدوا على العقل والذكاء وليس على العادات والمعتقدات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤