إصلاح الهجاء الإنجليزي

لأول مرة ينهزم برنارد شو هزيمة منكرة، فقد حكمت محكمة تشانسري في لندن بأن الوصية التي كان قد كتبها بشأن وقف نحو ربع مليون جنيه من تركته لإصلاح حروف الهجاء في اللغة الإنجليزية، هذه الوصية ملغاة، ويجب لذلك أن تُقسم التركة بين الورثة الشرعيين، وصدر هذا الحكم في فبراير ١٩٥٧.

وكان برنارد شو عند وفاته في ١٩٥٠ قد ترك نحو سبعمائة ألف جنيه خَصَّ منها نحو ربع مليون لإصلاح الهجاء الإنجليزي، فطعن الورثة في صحة الوصية، ودخلوا في تفاصيل عديدة احتاجت إلى نحو خمس سنوات من الدرس والمرافعة، وانتهت بفوز الورثة وإلغاء الوصية؛ أي انتهت بهزيمة شو لأول مرة في حياته الثانية بعد وفاته.

وكان برنارد شو كبير العناية باللغة كبير التقدير لقيمتها في ثقافة الشعب، وتكوين الشخصية، والارتقاء الذهني لكل إنسان. وكانت له كلمة جارحة صادقة بشأن أرلندا وطنه الأصلي، فقد حمل على الوطنيين الأرلنديين لأنهم يحيون لغتهم الميتة ويكتبون بها، بدلًا من الكتابة باللغة الإنجليزية، لغة المستعمرين. وكان يقول إنه على الرغم مما أنزله المستعمرين الإنجليز بالأرلنديين فإنهم أسدوا فضلًا كبيرًا بتعميم اللغة الإنجليزية بينهم؛ ذلك لأن هذه اللغة تحتوي من ألوان الثقافة العصرية ما لا يستطيع الأرلنديون أن يحصلوا على مثله بلغتهم التي لا تتسع للتعابير العلمية، أو للتأليف على الأبعاد الرحبة في الثقافة كما هي الحال في بريطانيا، وهو هنا يشبه — في حماسته للغة الإنجليزية — نهرو؛ فإن هذا الزعيم العظيم أيضًا يدعو إلى التخفيف من النعرة الوطنية الهندية وإبقاء اللغة الإنجليزية في الهند، كلغة الثقافة والعلم، واللسان المشترك بين أبناء الهنود الذين تختلف لهجاتهم بل لغاتهم، وهذا على الرغم من أنها لغة المستعمرين الذين أذلوا الهند أكثر من مائتي سنة ونهبوها وأفقروها.

والحق أن اللغة العظيمة التي تتسع للعلم والثقافة العصريين تعد من أعظم الوسائل للارتقاء الفني والاجتماعي، بل السياسي والحربي، وأيما شعب يهمل لغته، ويتسامح في وجود بعض النقائص في تعبيرها أو هجائها، إنما يهمل بذلك عاملًا خطيرًا من عوامل حياته في موكب التطور، وكما يتخلف الشعب لإهمال القوة الصناعية أو القوة الحربية، ويتعرض بذلك للهزيمة في موكب التطور، كذلك يمكن أن يتخلف وينهزم إذا كانت لغته ناقصة.

وأيما إنسان درس التطور البشري يعرف قيمة اللغة، بل القيمة العظمى لها في تكبير الدماغ وترتيب المعارف وتوجيه الحضارة، وكان برنارد شو يكثر من ذكر الحكمة القائلة بأن اللغة جعلت المكان جغرافيًّا والزمان تاريخيًّا.

أي إننا بلا لغة لا يمكن أن يكون لنا جغرافية أو تاريخ.

وذلك لأن اللغة عينت، بالكلمات، المعاني، وهي التي نقلتنا من الخصوص إلى العموم، ومن الفكرة الإحساسية إلى التفكير التصوري.

وقد ذكرت الآنسة باتش سكرتيرة برنارد شو أنه كان كبير العناية باقتناء المعاجم، فما هو أن كان يظهر معجم جديد في إحدى اللغات حتى كان يشتريه ويقرأ فيه كما يقرأ أحدنا كتابًا عن موضوع معين.

والواقع أن قراءة المعاجم الكبيرة، التي تتحدث عن الكلمة حديثًا تاريخيًّا، هو متعة ذهنية كبيرة عند المستعدين لها؛ أي عند أولئك الذين يجدون الدلالة التاريخية أو الأنثروبولوجية في تاريخ الإنسان، وكثيرًا ما عثرتُ أنا في قراءة الزمخشري أو ابن منظور على مواد ثمينة في هذا الباب.

وكان من اهتمام برنارد شو باللغة تلك الدرامة «بيجماليون» التي جعل بطلها أستاذًا متخصصًا في درس اللهجات، بحيث كان يستطيع وهو يستمع إلى أشخاص القصة أن يعين الإقليم الذي نشأوا فيه في إنجلترا، على أنه كان للمؤلف غاية أخرى في هذه الدرامة؛ فإن الحوار كان يجري على هذا الموضوع بشأن تعليم إحدى الفتيات لهجة أخرى غير لهجتها الوضيعة التي نشأت عليها وذلك كي يرفعها باللهجة الجديدة إلى مقام اجتماعي عالٍ.

وكان برنارد شو يجد في هجاء اللغة الإنجليزية عيوبًا كثيرة، والقارئون لمؤلَّفَاتِهِ يجدون له أسلوبًا آخر في هجاء بعض الكلمات، لا يتبعه غيره، يختلف من الهجاء المألوف، وقد دعا إلى إصلاح الهجاء ووقف مقدارًا كبيرًا من ثروته لإيجاد مؤسسة تدرس هذا الإصلاح وتدعو إليه، حتى يقنع الرأي العام ويأخذ به، وهذا الإصلاح هو الموضوع الذي ناقشته المحكمة وانتهت إلى إلغاء الوصية.

وكان برنارد شو يهدف من إصلاحه إلى جملة أشياء تستطيع أن نلخصها فيما يلي:
  • (١)

    حروف العلة التي تتحرك بها الكلمة ست فقط، مع أن هناك ١٢ صوتًا لغويًّا، فيجب أن يكون في اللغة الإنجليزية ١٢ حرفًا للعلة حتى لا يؤدي حرف أكثر من صوت واحد.

  • (٢)
    ضرورة الاستغناء عن الحروف الثلاثة COX لأنها زائدة، ويمكن الحروف الأخرى أن تؤدي عملها.
  • (٣)

    يجب ألا يُنطق الحرف، ساكنًا كان أم متحركًا، إلا بصورة واحدة.

هذه هي أهم التغييرات التي طلبها شو، وهنا نحتاج إلى أن نقول إن الأمريكيين قد أخذوا ببعض الإصلاحات للهجاء الإنجليزي، وحاول تيودور روزفلت — حين كان رئيسًا للجمهورية في ١٩٠٦ — أن يغير الهجاء لنحو ٣٠٠ كلمة، وبعث بجدول لهذه الكلمات المصلحة إلى إدارات الحكومة ومكاتبها للأخذ بها في المراسلات الرسمية، ولكن الرأي هاج فسارع إلى سحبها.

ما الذي يجعل الناس يكرهون إصلاح اللغة أو إصلاح هجائها؟

إن الجواب على هذا السؤال لا يختلف من جوابنا على نفور الناس من تغيير عاداتهم، فالكلمات عادات وطرق الكتابة عادات، وتغيير العادة هو صدمة تؤلمنا، ونحتاج إلى بذل جهد كي نقبل هذا التغيير، والصدمة تكون بالطبع أوقع عند الكُتَّابِ الذين يمارسون الكتابة كل يوم، وهي كذلك أكثر من صدمة عند الخطاطين، إذا كان هذا التغيير يتناول الحروف؛ لأنه يكون عندئذ بمثابة قطع العيش.

ومع أن هذه الحركة لإصلاح الهجاء قد وقفها حكم المحكمة، فإن هناك من سوف يستأنفون هذا الكفاح؛ لأن القضية التي تبناها شو صادقة، تعمل للاقتصاد في العلم لأبناء الإنجليز كما تيسر هذا التعلُّم لأبناء الشعوب غير الإنجليزية، وفي العالم الآن ثلاث أو أربع لغات يحتاج إلى تعلم واحدة منها جميع المثقفين في أنحاء العالم كله، وعلى قدر الصحة في نطق الكلمات، والقدرة على التعبير، والخدمة للعالم، والاقتصاد في الوقت والجهد للأجانب في التعلم، على قدر هذا كله يكون التفوق لإحدى هذه اللغات حتى تغدو لغة عالمية.

والآن أرجو القارئ العربي أن يذكر أن شو أراد من إصلاح اللغة الإنجليزية أن يكون بها ١٢ حرفًا للعلة — أي حرفًا حركيًّا — بدلًا من ستة حروف، فماذا نقول نحن وليس عندنا غير ثلاثة فقط؟

ولكن صعوبتنا لا تنحصر في علة الحروف الحركية وإنما هي في الانفصال عن الحركة العالمية الثقافية؛ لأننا لا نستعمل الحروف اللاتينية التي أخذ بها ٦٠٠ مليون صيني قبل شهور، الحروف التي تستعمل مقاطعها لتأليف الكلمات العلمية والتي نتعب نحن عبثًا في ترجمتها أو كتابتها بحروفنا العربية، ماذا نقول في هذا؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤