الصداقة حبٌّ على مستوى عالٍ

الصداقة حب على المستوى الإنساني العالي، وهي لذلك تتجاوز الحب الجنسي في القيم الإنسانية؛ لأن هذا قد ينبعث بالاشتهاء الجنسي أولًا فيكون حافزه انفراديًّا، ثم يتسامى إلى الصداقة، وليس في هذا بالطبع ما يعيب الحب، بل ليس هناك ما يعيب الاشتهاء الجنسي؛ إذ كيف نعيب شيئًا تطالبنا به الطبيعة في نُخاع عظامنا بل يطالبنا به الخلود البشري؟

ولكن الصداقة، حين تنشأ بين رجل ورجل أو بين رجل وامرأة، ويكون حافزها اجتماعيًّا وليس انفراديًّا، تكون بلا شك أسمى من الحب، بل نحن حين يستولي علينا حب عظيم، بل حب جنسي عظيم، نكاد نفقد غريزة الاشتهاء، ألسنا نستطيع أن نقول أحيانًا في بعض تجاربنا: «إن حبي لها كان أعظم من أن أشتهيها؟»

والصداقة ميزة للممتازين من الناس؛ إذ ليس كل إنسان قادرًا على أن يصادق، ذلك أننا حين نصادق نحتاج إلى قدرة تؤاتينا على اختيار من يستحق الصداقة، وإلى قدرة أخرى تؤاتينا على أن نضحي من أجله، وبين هاتين القدرتين: فضائل لا تُحصى من الإيثار والشرف والشهامة والنجدة، وهذه خصال نادرة.

ونحن نجد في الحياة ألوانًا من الاستمتاعات كالثقافة، والطبيعة، والحب الجنسي، والأبوة، والهناء العائلي، والفلسفة، والإنسانية، ونحو ذلك. ولكن يجب أن نعد الصداقة في مقدمة هذه الاستمتاعات، وهي بلا شك استمتاع نادر لأن القادرين عليها — كما قلنا — نادرون، وهم نادرون لأن المجتمع قد ربَّانا وأنشأنا على الانفرادية الأنانية التي تعوق الصلات الاجتماعية، والصداقة صلة اجتماعية قبل كل شيء.

وكثيرًا ما تلتبس علينا القرابة بالصداقة، حتى إننا لنتحمل القريب مهما خطر وفدح ايذاؤه لنا، أو حين تقطع الظروف بيننا وبينه، فلا تكون هناك مشاكلة أو مقاربة في منهج عيشنا أو أهدافنا أو ثقافتنا. ومع ذلك نتكلف له «الصداقة» الجوفاء التي لا تزيد على أن تكون فرضًا اجتماعيًّا نتأفَّف منه في أعماقنا ولكننا لا نصرح به، مع أن التصريح به هو خير ما نفعل؛ لأن القرابة مصادفة عمياء قضت بها الطبيعة ولكن الصداقة اختيار وتفعل.

وتبادل الصداقة بين كفئين هو تربية إنسانية عالية كما هو سعادة عظمى أكاد أقول إنها لا تدانيها أية سعادة أخرى، ولست تجد عظيمًا لهذا السبب إلا وله صديق أو أصدقاء آزروه على أن يبلغ عظمته.

ونحب هنا أن نذكر أصدقاء برنارد شو، فقد كان شخصية فذَّة وكان له لذلك أصدقاء أفذاذ اختاروه للمشاكلة في الأهداف.

وكان أعظم أصدقائه في هذه الدنيا شارلوت زوجته «التي كان حبه لها أكبر من أن يشتهيها» وقد عاش معها ٣٥ سنة لم ينفصل عنها يومًا واحدًا، بل لم ينفصل عنها بعد موته؛ فقد أحرق جثمانها وحفظ الرماد في زجاجة، فلما مات هو أوصى بإحراق جثمانه ثم خلط رماده برمادها، وأنفذت الليدي أستور هذه الوصية، ونحن نحس هنا الوفاء في هذه الصداقة الفريدة، بل جمال الفكرة في هذه الأسطورة التي تحمل إلينا في معانيها رمزًا إنسانيًّا نكاد نتذوق جماله ونتنهد لإنسانيته، ونحب أن نقول إنهما كانا يحييان معًا بعد الموت في زجاجة على الرغم ممَّا في هذا القول من لغو؛ إذ هو لغو محبَّب إلى نفوسنا.

ومنذ تزوج برنارد شو انقطع عن أقاربه، بل أقاربه الحميمين، إذ لم يجد فيهم أصدقاء؛ فقد كانت أهدافه غير أهدافهم وأسلوب عيشه غير أسلوبهم. ومن السخف أن يتكلَّف الصداقة لهم ويرهق نفسه بها في مثل هذه الأحوال، وانقطع أقاربه الحميمون، مثل أمه وأخته، عن زيارته عقب زواجه إلى وفاتهما، ومع أنه كان مثابرًا على معونتهما بماله فإنه لم يستطع أن ينسى أنهما سوَّدتا عيشه معهما حين كان لا يزال كمًّا مهملًا في هذه الدنيا يعجز عن كسب لقمته.

ولسنا نعرف كثيرًا عن علاقته بزوجته سوى الهناء الذي كانا ينعمان به كما كان يبدو عليهما أمام الزائرين والأصدقاء، وكانت هي أديبة غير صغيرة لها بعض المترجمات من الدرامات الفرنسية التي وضع برنارد شو مقدمة لها، وقد عرفته عن طريق صديقيه سيدني ويب وزوجته بالجمعية الفابية، ولزمت فراشه حين كُسِرَتْ ساقه وهو أعزب، وكانت تعنى به وتمرضه إلى أن برئ حين عقد زواجهما.

وأقرب الأصدقاء إليه بعد زوجته هو وليم آرتشر الأديب الناقد الذي ترجم درامات إبسن من اللغة النرويجية إلى اللغة الإنجليزية، وكان آرتشر عضوًا عاملًا في جمعية «العقليين» وهي جمعية تناهض الأديان جميعها وتنشر على الجمهور كتبًا علمية بأثمان تافهة بل غاية في التفاهة، فقد كانت تبيع كتاب «أصل الأنواع» لداروين بخمسة وعشرين مليمًا، ونشرت المئات من كتب العلم بهذا الثمن أو بأقل، وعمَّمت التفكير العلمي بين طائفة كبيرة من القراء، ولعل مما يستغربه القارئ المصري أن ج. م. روبرتسون الذي كان صديق مصطفى كامل والذي دافع عن مصر أيام حادث دنشواي، هذا الرجل كان من أقطاب هذه الجمعية وكان داعية الإلحاد في إنجلترا.

ويبدو من الكثير الذي كتبه برنارد شو عن وليم آرتشر أنه عرفه منذ أيام شبابه الأولى، وأنه هو الذي وجَّهَهُ في حياته الأدبية، أو كان له أكبر تأثير عليه، وكان هبوط برنارد شو على إبسن من أعظم الحظوظ التي لقيها؛ فإنه هو الذي فتح ذهنه لدلالة الدرامة الاجتماعية التي احتضنها شو بعد ذلك وجعلها رسالة حياته.

واشترك الاثنان في التأليف المسرحي، ولكنهما لم يفلحا في ذلك؛ لأن التأليف هنا شخصي، فردي، يستند إلى مزاج وعاطفة كما يستند إلى عقل، وبلغ من دالة شو على صديقه أن وبَّخه ذات مرة على تقصيره وتخلُّفه وعزا ذلك إلى زواجه، وكان آرتشر قد تزوج فتاة ذكية تعلَّق بها كثيرًا، وفهم آرتشر من هذا التوبيخ أن شو يدعوه إلى الطلاق أو الانفصال، أو على الأقل النسك، حتى يستعيد كفاءته الأدبية، وغضب وأرسل خطابًا إليه يمنعه فيه عن زيارته، وبقيت هذه الجفوة بينهما مدة، ولكنهما عادا إلى الصفاء.

وحدث أن احتاج وليم آرتشر في سنة ١٩٢٤ إلى إجراء عملية جراحية خطيرة، وكان وقتئذٍ في نروج وفي مثل هذه الظروف يذكر الإنسان دنياه التي قد تزول فجأة إزاء المجهول في التردُّد بين الحياة والموت؛ ولذلك كتب قبل إجراء العملية بساعات هذا الخطاب إلى برنارد شو:

عزيزي برنارد شو

عرفت، بعد أن كتبت إليك خطابي الأخير أني محتاج إلى إجراء عملية جراحية هذه الأيام، وسأذهب إلى المستشفى غدًا، ولست أعرف إذا كانت هذه العملية خطيرة جدًّا أم لا، والواقع أني أحس الصحة الكاملة، وظني أني سأنهض منها معافًى، ولكن مع ذلك قد يحدث غير ما ننتظر، هنا أجد العذر لأن أقول لك كلمة أرجو واؤمل أنه لم يدخلك شك قط بشأنها، وهي أني على الرغم من بعض مواقفي نحوك وأني كنت أخاطبك وأعاملك أحيانًا بلهجة اللوم والتأنيب، فإني لم أتردد قط في إعجابي بك وحبي لك ولم أكف عن الإحساس بأن الأقدار قد حابتني حين جعلتك صديقًا لي وجعلتني أعيش في هذه الصداقة سني حياتي، إني أشكرك من قلبي لأربعين سنة أمضيتها في زمالتك، ومهما قيل عني فلن يقال إني لم أعش في مجتمع حسن.

تناولت غذائي اليوم مع ملك نروج والأمير أولاف.

تحياتي وتسليماتي إلى زوجتك وهنيئًا لكما.

المخلص و. آرتشر
عام ١٩٣٥

ووصل الخطاب إلى برنارد شو بعد وفاة آرتشر.

ونحن نتنهد في شجن لهذه الصداقة السامية التي ربطت هذين الأديبين، فلقد اختار كل منهما الآخر لِمَا فيه من سمات عالية يجد فيها ما يرفعه ويرقيه، وارتقى كل منهما بهذه الصداقة واستمتع بها بأكثر مما يستمتع الحبيبان بحبهما.

وكلمة الحب تذكرنا بصداقة أخرى مارسها برنارد شو، وأنت بعدما تقرأ ما سأقوله عنها ستتساءل: هل كانت هذه صداقة أم حبًّا؟

ففي الربع الأخير من القرن الماضي اكتسحت المسرح الإنجليزي ممثلة عظيمة تدعى إلين تري، وكان جمال وجهها لا يساويه إلا فصاحة لسانها، وهذا إلى ذكاء نادر وثقافة واسعة.

وأَحَبَّهَا برنارد شو وكتب إليها رسالة حب.

ورَدَّتْ إلين تري على الرسالة برسالة تستجيب فيها لحبه، وكان برنارد شو يراها كل مساء على المسرح فلا يحاول لقاءها، وكانت هي تنظر من خروق الستار إليه وهو في الصف الأول بين المتفرجين.

وتُبُودِلَتْ رسائل الحب بينهما سنين ولكن بلا لقاء، هل كان حبهما أكبر من أن يشتهي أحدهما الآخر؟

إن في برنارد شو نسكًا عجيبًا، إذ كان يعزف عن اللحم في الطعام ولا يشرب الخمر ولا يدخن، وقد عاش مع زوجته شارلوت نحو نصف قرن لم يحدث فيه بينهما اتصال حميم، فهل كان هذا العزوف عن اللقاء بينه وبين إلين تري نسكًا؟

ألا يمكن أن نفسر هذا العزوف بأنه وسيلة لاستبقاء الحب حتى يبقى مشتعلًا لا ينطفئ باللقاء؟ بل، ألا يمكن أن نقول إن هذا العزوف كان وسيلة لزيادة الحب واحتدامه؟

إني أكاد أسمع همسات القارئ هنا بأنه لم يكن هناك حب، أو إذا كان هناك حب فإن في برنارد شو علة أو عللًا حالت دون الوصول به إلى غايته الحميمة.

ولكن علاقات برنارد شو خارج الزمام كانت فاضحة، على الرغم مما عُرِفَ عنه من التعقل في سلوكه، ومما يُذكر عنه أنه «اشتهى» إحدى الممثلات، وتعقَّبها في رواحها وغُدُوِّهَا حتى فرت من الفندق في أحد المصايف، وتركت المصيف كله هروبًا منه.

لكأن برنارد شو يقول: «من أحببناه هجرناه».

إن الموقف سيكولوجي دقيق يحتاج إلى التحليل، وليس عندنا من التفاصيل ما يكفي لهذا التحليل؛ ولذلك نتركه كي يعبر به القارئ ويتأمله ويجترُّه، يحاول أن يحله وفق ما يحس ويعقل، والتفكير هنا ينفع كثيرًا.

ولكن صداقة العمر التي استمتع بها برنارد شو أكثر سني حياته هي صداقته لسدني ويب وزوجته بياترس ويب، فقد كان هؤلاء الثلاثة كالشخص الواحد أكثر من ستين سنة، لهم هدف موحَّد ووسائل موحدة يستجيبون لأحداث العالم وتطوراته وكأنهم على خطة لا تتغير.

عرفهما برنارد شو قبل أن يبلغ الثلاثين، وتزوج شارلوت بإيحائهما، ولما ماتت شارلوت تركت في وصيتها ألف جنيه هدية وتقديرًا لبياتريس ويب، وبياتريس ويب امرأة من أولئك النسوة الجديدات في عصرنا، يمكن أن نقول بأنها كانت وجودية من حيث لم تكن تدري، فقد استقلت منذ شبابها وأصرت على أن تحيا حياتها كما تريد وترغب، وتعلمت بوحي عقلها، وجرَّبت.

عرفت — وهي فتاة في بداية العقد الثالث من عمرها — أن العاملات من الفتيات والزوجات الفقيرات، اللائي يعملن في الخياطة في الحي الفقير في شرق لندن، يجهدهن ويستغلهن تجار عتاة لا رحمة عندهم، فاندمجت بينهن، وعملت معهن، وتناولت أجورًا مثلهن، مع أنها كانت تنتمي إلى عائلة غنية، وبقيت على ذلك تدرس أحوالهن في السلوك والطعام والمأوى، وكتبت عن حياتهن فصولًا حفزت المفكرين بعد ذلك على ضرورة الإصلاح.

وتزوجت بياتريس زوجًا عجيبًا، من أولئك الأفذاذ الذين يحبون الدنيا أكثر مما يحبون أنفسهم؛ ولذلك تحبهم الدنيا بعد ذلك وترفعهم إلى القمم، وقد صار سدني ويب بعد ذلك وزيرًا في حكومة العمال.

وكان بيت ويب — زوجًا وزوجة — مكتبة من أوله إلى آخره، من دهليزه إلى مطبخة، وكانت مائدة الطعام منضدة العمل، يتناولان طعامهما، ثم يفرشان المنضدة ويضعان الكتب والأوراق لدراسة الإنسانية.

درسا الاشتراكية وآمنَا بها، وكان لكل منهما مجهود احتاج إلى عرق وتعب في تنشئة الجمعية الفابية التي علمت الأغنياء مبادئ هذا المذهب، وبحث كلاهما البؤس والإجرام ونظم الحكم وتعليم الشعب ونحو ذلك ما استغرق كل حياتهما.

وعرفهما برنارد شو، وتعلَّم منهما كثيرًا، كما تعلما منه، وتوثقت الصداقة بين الثلاثة، وكانت صداقتهم تنهض على وحدة الهدف، وهي الاشتراكية لإنجلترا.

•••

لقد ذكرت هنا بعض الأصدقاء الذين اختارهم برنارد شو أو اختاروه، فكانوا زملاء العمر، يجد كل منهم الوفاء من صاحبه له، ويستمتع بحبه، والأديب بطبيعته قليل الأصدقاء، يتألق في اختيارهم؛ لأن عمله انفرادي يحتاج إلى الخلوة أكثر مما يحتاج إلى الاجتماع.

ولكن هناك أصدقاء نُؤْثِرهم على هذه الخلوة المقدسة؛ لأنهم ممتازون في القلب والعقل، نأتنس بقلبهم ونستنير بعقلهم، ونحن بؤساء حين لا يكون لنا أصدقاء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤