أسلوب شو

ليس له أسلوب …

يكتب شو كما يتكلم، وهو يتكلم في صراحة ودقة، ولكنه يفكر كثيرًا؛ ولذلك أسلوبه صريح، دقيق، حافل بالأفكار التي تستهوينا فلا نلتفت أقل الالتفات إلى أسلوب الكتابة وترتيب الكلمات، وحين نتوقف ونلتفت نجد أنه يكتب الأدب كما لو كان يكتب موضوعًا علميًّا كله دقة ورصانة وترتيب، والقيمة الأولى في كل ذلك للأفكار.

وليس في أسلوبه ما نسميه قوة التعبير، أو حلاوة التعبير، كما ليس فيه مبالغة أو إسراف في استعمال كلمة زائدة أو جملة رائعة، وإنما نحن نتأثر بقوة المنطق في أفكاره، ونرتاح إلى اقتناعنا به، وإلى أننا نتعلم منه أصول التفكير الناضج، وأكثر من هذا نحس أننا في تعلمنا منه نعالج الموضوعات والمشكلات الرئيسية في هذه الدنيا: الدين، العلم، السياسة، الزواج، التربية، الضمير، الحرب، الإجرام، وسائر ما يتصل بهذه الموضوعات، وأكثر ما يهتم له برنارد شو هو موضوع التطور والفقر.

هذا هو أسلوبه، أسلوب الأفكار الذي ينسينا ما تعوَّدناه من غيره من الأدباء؛ أي أسلوب الألفاظ والعبارات والزينات والبهارج.

الكاتب المفكر يأنَف من الزينات والبهارج.

ذلك أنه يَجِدُ في أفكاره قيمة تعلو على الزخارف والزينات، فهو يتحدث في بساطة، وقد يغلو أحيانًا فتحس فيه بلاغة، ولكنها بلاغة الأفكار المتدفقة، وقد تجد في تدفقها غلواء، كما لو كان واعظًا يَعِظُ فيرتفع صوته عندما يخلص ويتحدث عن إيمانه بالشرف والحق والعدل.

وليذكر القارئ أننا إنما نلجأ إلى الزخارف والزينات حين تكون المادة التي نزخرفها ونزينها رخيصة مبتذلة، فإذا صنع لي الفخار إبريقًا من الطين فإني أؤثر أن يكون مُزَيَّنًا مُزَخْرَفًا كي يُخفي عني مادته الخسيسة وهي الطين، ولكن إذا صنع لي الصائغ إبريقًا من الذهب الخالص فإني أؤثر أن يكون ساذجًا ليست به زخارف أو زينات؛ لأن مادته ثمينة، مادة الذهب التي لا أشبع من الإعجاب بها حين أتأملها.

وهكذا الشأن في الكاتب المفكر؛ فإنه يقدم لك الذهب لا الصلصال، وأسلوب أفكاره يشغلك عن أسلوب كتابته، ومن هنا السذاجة في أساليب الكُتَّاب العظماء مثل داروين، أو قاسم أمين، أو جان جاك روسو، أو أناطول فرانس؛ فإنهم جميعهم كُتَّابُ أفكار تُحِسُّ أنهم يشبعونك، وأنك تكبر بقراءتهم، وتنضج بأفكارهم، وتزداد إنسانية وشرفًا ببسط ضميرهم لك.

نقرأ برنارد شو فلا نجد كلمة مهجورة، أو كلمة منفوخة، وإنما نجد الكلمات المألوفة المأنوسة، وله كتاب يُدْعَى «المرشد للمرأة الذكية عن الاشتراكية» لو نُقِلَ إلى العربية لبلغ أكثر من ألف صفحة، وتكاد لغته تتألَّف من كلمات البيت.

وأعظم ما يغمرك به برنارد شو وأنت تقرأه هو الإحساس بأنك تتحرر، وأنك تستعمل عقلك في موضوعات لم تكن تستعمل فيها عقلك من قبل، وإنما كنت تستعمل عقيدتك التي نشأت عليها.

والعقيدة هي انتحار العقل.

وأنت تحيي عقلك لذلك بما تقرأ من الأفكار المرتَّبة المتدفقة من برنارد شو، وتحس إخصابًا لعقلك كأنك لم تتعلَّم منه معارف جديدة فقط بل مناهج جديدة للتفكير: التفكير الاجتماعي، التفكير البيولوجي، التفكير الديني، التفكير الاقتصادي، وأنت تستيقظ بهذا الأسلوب ولا تنعس أو تنتشي.

فهو يقول مثلًا: الصحة حكمة، الأخلاق من الذكاء، من لا يعرف كيف يصنع نفسه لا يعرف كيف يصنع شيئًا آخر.

كلمات للتأمل، كأن كلًّا منها مشكلة، ولكن بلا زينات أو زخارف، بل الحق لو أنه كان قد زخرف أو زين هذه الكلمات لكان قد ضللنا بعض الشيء عن الفهم والتعقل لما قاله.

وأسلوب التعبير، أي أسلوب التفكير، عند برنارد شو يمكن أن نصفه بعد كل الذي ذكرنا عنه، أنه علمي، موضوعي، غير عاطفي، وهو يمتاز على الدوام بالنظرة البِكر، كأنه يعالج الموضوع كما لو لم يكن قد عالجه أحد غيره من قبل، وهو يعالجه في هدوء، ولكن مع إحساس المسئولية التي ترتفع أحيانًا إلى إحساس الرسالة، بل الحق أن إحساس الرسالة يغمره، حتى إنك لتحس أنه يكتب كما لو كان نبيًّا أو كاهنًا، ولكنه يسترشد بالعقل وليس بالعقيدة.

انظر في هذه الكلمات الحكيمة التي كتبها عن النقود، أي علاقة الثراء والفاقة بالفضائل، واعتبر أسلوبها المواجه الصريح:

أهم الأشياء في هذه الدنيا هو النقود؛ إذ هي تمثل الصحة والقوة والشرف والسخاء والجمال، تمثلها جميعها في وضوح بارز، كما أن الحاجة إلى النقود تمثل أيضًا في مثل هذا الوضوح البارز؛ المرض والضعف والفضيحة والدناءة والقبح، ومن فضائلها التي لا تُعَدُّ صغيرة أنها تدمر الأدنياء من الناس كما أنها تُقَوِّي وتعظم النبلاء … وحاجتنا العظمى ليست هي الأخلاق الحسنى، أو الخبز الأرخص، أو الاعتدال في الشراب، أو الحرية أو الثقافة، أو إنقاذ إخواتنا الساقطات أو إخواننا الخطاة … وإنما هي الكفاية من النقود.

أو انظر في كلماته التالية في الموضوع نفسه:

ما معنى أن يكون الإنسان فقيرًا؟ معناه أن يكون ضعيفًا وأن يكون جاهلًا، وأن يكون بؤرة للأمراض، وأن يكون معرضًا دائمًا للقبح والقذر، وأن يكون أطفاله مرضى بالكُساح، وأن يكون رخيصًا في أجره عندما يعمل، فَيَجُرُّ — بانخفاض أجره — زُمَلَاءه إلى حضيضه، ومعناه أن تستحيل مدننا بؤرًا سامَّة بسبب المساكن التي يعيش فيها الفقير، ومعناه أن تنقل بناته عدوى الأمراض التناسيلة إلى شبابنا، وأن ينتقم أبناؤه لشرف أخواتهم منا بأن يفشوا بيننا الجبن والقسوة والنفاق والبهيمية السياسية والإسخربوط وسائر ثمرات الظلم وسوء الغذاء.

هكذا يتكلم برنارد شو عن الفقر وآثاره في الشعب، وهذه لغته التي تفحم بسذاجتها وصراحتها وإيجازها، لأنها أفكار صريحة وليست ألفاظًا مزينة، والآن اقرأ ما يقوله عن الأسباب التي تدعوه إلى تأليف دراماته، وكأنه هنا يعترف، وهو يعترف في شجاعة وصراحة معًا؛ إذ يقول:

لست أنا من الكُتاب العاديين المألوفين؛ إذ أنا اختصاصي في تأليف الدرامات التي تتصل بالأخلاق والزندقة، وقد كسبت شهرتي بمثابرتي على الكفاح كي أحمل الجمهور على أن يعيد النظر في أخلاقه، وأنا حين أؤلف دراماتي إنما أقصد منها إلى هدف هو حمل الشعب على أن يأخذ بآرائي في شئونه الجنسية والاجتماعية، وليس في نفسي باعث آخر للكتابة إذ إني أستطيع أن أحصل على لقمتي بدونها.

ولبرنارد شو درامة اسمها «منازل الأرامل» ألَّفها في فضح النظام الاقتصادي الانفرادي الذي يقوم على المباراة وجمع المال والتفوق والثراء، وما يجلبه كل هذا من رذائل وجرائم، وهذه الدرامة تجري على أسلوب درامة «وظيفة المسز وارين» من حيث الأسلوب والهدف. قال في مقدمة «منازل الأرامل» ينتقد نفسه ويبرر موقفه:

إني أتقدم بنقدي لمؤلف «منازل الأرامل» وأقول إن ما كان يجعل عظماء المؤلفين المسرحيين يؤلفون المأساة إنما يجعلني أنا مستهزئًا، والاستهزاء هو جو أقل صفاء من جو المأساة، وقد كنت أحب أن أؤلِّف مسرحية جميلة مثل «الليلة الثانية عشرة» لشكسبير أو مسرحية رائعة تتمثل فيها المأساة، ولكني أصرح بأني عاجز عن ذلك؛ وذلك لأنَّ نظامنا الاجتماعي التجاري هو مدرسة سيئة لتعليم الفنون، ولا يمكنه — أي هذا النظام — مع ما فيه من اللصوصية وسفك الدم والبغاء، أن يحرك في نفوسنا النزعات السامية في الحسرة والرهبة؛ إذ هو نظام قبيح دميم، كما هو عقيم سافل، يحفل بالأخطاء ويبعث على السخرية مع زعمه على الدوام بأنه يدعو إلى سعة العقل والإنسانية والإقدام، مع أن هذه صفات أبعد ما تكون منه، وليس أخطائي أنا — أيها القارئ — أن أتناول بفنِّي التعبير الصادق عن الخسة الذهنية الأخلاقية بدلًا من أن أعبِّر به عن الإحساس بالجمال؛ فقد أمضيت معظم حياتي في المدن الكبرى العصرية حيث لم أشبع في نفسي الإحساس بالجمال، وهذا في الوقت الذي حشي فيه ذهني بمشكلات المنازل البالية القذرة كتلك التي عالجتها في هذه الدرامة، وبقيت على هذه الحال إلى أن أصبحت أتذوق هذه الموضوعات في فظاعة وأن أجعل منها مادة لفني.

وهو يصف المجتمع الإنجليزي بهذه الكلمات الناطقة:

إن أقدر رجالنا من الحكام يموتون — من حيث مقدرتهم السياسية — في طفولتهم، يلعبون الجولف والتنس والبردج، ويدخنون التبغ، ويشربون الخمر كما لو كانت جزءًا من غذائهم اليومي، ويمارسون الصيد والطراد، ويقرأون قصص القتل والزنى وأخبار البوليس، ويلبسون قمصانًا لأكمامها ورقباتها زوائد سخيفة، وتلبس نساؤهم أحذية عالية الكعوب، ويلطخن أظافرهن وشفاههن ووجوههن. وبكلمة موجزة، يلعب الرجال والنساء لعب الأطفال بدلًا من أن يسلكوا في رياضتهم سلوك الساسة والشيوخ، حتى عندما يقرأون أفلاطون، والإنجيل، وكارل ماركس، ويعرفون ما يجب عليهم أن يعلموا، حتى هنا لا يعرفون «كيف» يعملون، بل يبقون على ما نشأوا عليه لقلة ما حذِقوا من الفنون السياسية التي تنشأ وتتطور الآن في روسيا بضغط الحوادث، ومحاولاتهم في التربية والتعليم تنتهي عادة بوضع الصبيان في مدارس هي «مراكز اعتقال» حيث يُجلدون، وعندما يبلغ الصبيان سن الشباب يُخرجون من هذه المراكز متوحشين، يبغضون التعليم والنظام، ويبقون في جهل كثيف لشئون الحياة عند تسعة أعشار الشعب الذي يتولَّوْنَ حكمه.

وهذا ما يقول عن الإمبراطورية البريطانية والمجتمع الإنجليزي:

أيما إنسان يستطيع أن يرى … أن نظامنا الحاضر في العدوان الإمبراطوري، هذا النظام الذي يتخذ معاذير الاستكشاف والاستعمار، والذي يسير خلف المغامرين، يتبعهم رجال المال والتجارة، ويشرف عليهم العلم البريطاني، سوف ينهار عندما تنتقل الرقابة على القوات الحربية من طبقات الرأسمالية إلى الشعب، وأيما إنسان يستطيع أن يرى أيضًا أن زوال الطبقات، مع ما نسميه الآن «الرأي العام»، هذا الزوال سيرافقه اتحاد المجتمع في طبقة موحَّدة لها رأي عام موحَّد له قوته التي لا تحد، وأن هذا الرأي العام سيجعل الرقابة لأول مرة فعالة، وأن استقلال النساء الاقتصادي، واستبدال الفرد — باعتباره الوحدة التي تعترف بها الدولة — برئيس العائلة، سوف يغير مركز الأطفال ومنفعة العائلة، وأنه سيعيد بناء الكنيسة في الدولة على أسس ديمقراطية جديدة بحيث يمكن أن ينتخب رئيسًا لها — للكنسية — رجل ملحد معلن لإلحاده مثل مورلي أو برادلف.

هذه هي لغة الأديب برنارد شو، وهذه هي أفكاره التي لا أشك في أن كثيرًا من الشرقيين يحسبونها هدَّامة، كما كان إسماعيل صدقي يحسب الاشتراكية والجمهورية أفكارًا هدَّامة.

ولكن أوربا تتغير وترتقي بهذه الأفكار الحرة، والشرق يلتزم تقاليده ويأسن في عاداته وينهزم أمام أوربا في «تنازع البقاء».

•••

يقارن بعض النقاد برنارد شو بشكسبير ويزعمون أنهما عمودا الأدب الإنجليزي، وقد يكون هذا حقًّا إذا اعتبرنا الزمان والمكان لكل منها، أما المقارنة المطلقة فتبدي لنا فروقًا كبيرة.

كان شكسبير شاعرًا ملوكيًّا جميع أبطاله ملوك ولُوردات أو ما يشبه ذلك، ومع أن أسلوبه — بالمقارنة إلى من عاصروه — كان شعبيًّا إلى حد كبير، فإنه كان يحتقر الشعب ويصفه بأنه رعاع وغوغاء، وقد أحدث نهضة لا شك في ذلك، ولكن هذه النهضة كانت مسرحية فنية ولم تكن قَطُّ أخلاقية أو سياسية.

أما برنارد شو فقد كان أديبًا شعبيًّا ديمقراطيًّا، استعمل لغة الشعب، وجميع أبطاله تقريبًا من أبناء الشعب أو زعماء الشعب، وإن يكن في أواخر سنيه قد انزلق نحو الفاشية سأمًا من طرق الإصلاح الفابية البطيئة، ولم تكن النهضة التي بعثها مسرحية فقط، إذ كانت أخلاقية واجتماعية وسياسية أيضًا.

كان المسرح قمة الأهداف عند شكسبير، ولكن المسرح عند شو وسيلة لتعليم الأخلاق.

وكانت الألفاظ الرنانة عند شكسبير كبيرة القيمة، وهي عند شو غش يجب تجنبها.

ويقول شو عن شكسبير في استصغار شأنه:

لماذا ننفق وقتنا، نحن الذين ورثنا تراث العصور العظيمة، وعرفنا الأشعار المسرحية لجوتيه وإبسن، ووقفنا على الألحان الموسيقية لأسرة الموسيقيين العظماء من باخ إلى فاجنر، لماذا ننفق وقتنا على دراسة الكُتَّابِ العاديين في عصر الملكة إليزابيث أو نشجع المؤلفين الأغنياء في أيامنا على تقليدهم، أو نتحدث عن شكسبير كأن تفاهاته بشأن الأخلاق أو فصاحته المزيفة بشأن الحروب، أو ما تنطوي عليه بعض دراماته من أحاديث الحانات، أو سائر حشوه وثرثرته، أو عجزه عن دراسة قشور الفلسفة التي سرقها بلباقة تستحق الدرس …

وقد قال تولستوي مثل هذه الآراء في شكسبير، بل زاد عليها استصغارًا لشأنه واستقباحًا لأفكاره وأسلوبه، ولكن شو مع ذلك لا ينكر بعض الميزات التي امتاز بها شكسبير.

إن أدب القرن العشرين هو أدب الثورة على شكسبير الرومانسي، أدب القعقعة والصلصلة ومجد الحروب والشعوذة، وقد أدت عبادة شكسبير من القرن السابع عشر إلى القرن التاسع عشر إلى حرمان المسرح الأصالة والابتكار، ليس في إنجلترا وحدها بل في فرنسا وألمانيا أيضًا.

وقد كان «زولا» الواقعي المؤكد يجد في شكسبير خصمًا للواقعية حتى قال فيه: «ليس لمن ينتمون إلى شكسبير، انتماء الزنا، أن يسخروا من الأبناء الشرعيين لبلزاك.»

بلزاك واقعي، ناقد، اجتماعي، أما شكسبير فرومانسي لم ينتقد المجتمع.

وزولا الذي فهم الواقعية بدراسته لطبيعة الإنسان في غرائزه يكره شكسبير الذي فهم الإنسان في زيناته وبهارجه.

وبرنارد شو يستصغر شأن شكسبير حتى في فنه، فيصف أشعاره المرسَلة بأنها عبث سهل يمكن أي أديب ناشئ أن يؤلِّف مثلها في سهولة تامة، ولا يجد شو في شكسبير من الدرامات التي تستحق الاحترام سوى درامة «هامليت»، ويصفها بأنها تكاد تكون «غير شكسبيرية» لأنها تحوي مواقف التردد والبحث عن الضمير والتساؤل الفلسفي.

إلى هذا الحد يزدري شو بشكسبير.

كان شو للشعب، يقرأ ويكتب من أجل الشعب، ومن أجل الشعب أيضًا أوصى بثروته كلها تقريبًا لإصلاح الهجاء الإنجليزي، بزيادة بعض الحروف، حتى يمكن التفادي من الأخطاء، وأيضًا التعبير عن جميع الأصوات حتى ينطق الصبي الكلمة الإنجليزية وفق حروفها وليس وفق السماع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤