خاتمة

فتح العرب الأندلس وظلوا فيها ثمانية قرون، وهم من يوم حلولهم بها قد بذروا بذور قوتهم وضعفهم، فمن يوم أن حلوا فيها ظهرت العصبية اليمنية والمضرية، ووقع النزاع بين الفريقين، حتى جاء عبد الرحمن الداخل، فاتخذت العصبية لونًا آخر، فقد تعصب لفريق دون فريق، ووجد في الأندلس من يعمل لحساب الدولة العباسية في بغداد ضد الأمويين في الأندلس، وثارت من أجل ذلك فتن أضعفت خلفاء الأندلس، ثم جاءت الدولة العامرية، فعملت على إسقاط الدولة الأموية، وانقسم مسلمو الأندلس إلى متعصب للأمويين، ومتعصب للعامريين، ثم انفرط عقد الأندلس وحكمها ملوك الطوائف، فكل من كان قادرًا قفز إلى بلد وتغلب عليها، وأصبح أميرًا.

كل هذا أثَّر في الأندلس من الداخل وحَلَّ عراها، والإسبانيون الذين في شمالي الأندلس لم يَنْسَوْا أبدًا منذ عهد الفتح أنَّ بينهم وبين المسلمين ثأر، وأنه لا بد أن يتغلبوا عليهم، وكلٌّ يدَّعي أنهم المؤمنون، وأن عدوهم هم الكافرون، وطوبى للمؤمن إذا جاهد ضد الكافر، فكانت الحرب بين الفريقين سلسلة لا تنتهي، وكانت سجالًا، يوم لهؤلاء ويوم لهؤلاء، ونصارى الإسبان يعتمدون من الخارج على كل المسيحيين في أوربا وعلى رأسهم البابا، ومسلمو الأندلس يعتمدون أيضًا من الخارج على المرابطين والموحدين في المغرب، بل وعلى صلاح الدين وبايَزِيد. ولكن كانت نجدة أوربا المسيحية للإسبانيين أشد وأبقى، فما لبثوا أن تغلَّبوا. وزاد الأمر سوءًا أن ولاة المسلمين كانوا ينقسمون على أنفسهم، فوالي قرطبة يعادي والي إشبيلية وهكذا. بل إن بيت الإمارة الواحد كان منشقًّا على نفسه، بحكم انحلال البيت باختلاف الأمهات بين حرائر وسراري، واختلاف السراري إلى أصول متعددة، فكان من نتيجة ذلك أن البيت إذا انشق التجأ بعض المسلمين إلى أمراء النصارى — كما ذكرنا — يستنجدونهم على عدوهم من أقاربهم، والعدو ينتفع بنصرة هذا على ذاك، أو ذاك على هذا. وفي تاريخ الأندلس أمثلة كثيرة من هذا القبيل.

نعم إن بعض النصارى وقع في مثل هذه المحنة، فالتجأ بعضهم إلى أمراء المسلمين يستعينون بهم ضد أهلهم وذويهم، ولكن ذلك لم يكن بالكثرة ولا بالقسوة التي نشاهدها في العداء بين المسلمين بعضهم وبعض.

قلنا: إن المسلمين منذ الفتح كانوا يحملون أسباب قوتهم وضعفهم، فهم أمجاد أذكياء، شمُّ الأنوف، كرام شجعان ولكنهم فرديون لا اجتماعيون، عنجهيون لا مطيعون، تغلب فيهم الفخفخة وحب اللذائذ، على الجد والصرامة، فلما اختلطت هذه المزايا بتلك المعايب، أنتج هذا الامتزاج حضارة رائعة، وسقوطًا شنيعًا. وكان سقوط الأندلس أول حادثِ فشلٍ من نوعه للمسلمين، فبكوا كثيرًا ورثوا بلادهم كثيرًا، وذلُّوا كثيرًا، واشرأبوا إلى أن يعيدوا مملكتهم إلى حوزتهم طويلًا، ولكن هيهات!

لقد كان بكاء أبي عبد الله آخر ملوك غرناطة بكاءً حارًّا شديدًا، وقد صدق إذ قال: «دعوا دمًا ضيَّعه أهله».

لقد توقع كثير من العلماء والفقهاء والحكماء هذه النتيجة البائسة، فكانوا تارة يحاولون أن يوفقوا بين المتخاصمين، وتارة يحاولون أن يستنجدوا بما وراء الأندلس، وتارة بنقل بعض الخارجين من الإسبانيين من الإسبان إلى المغرب اتقاءً لشَرِّهم. ولكن ذلك كله لم ينجح؛ لأن عوامل السقوط داخليًّا وخارجيًّا كانت أشد من عوامل الالتئام، فسقطت تَنْعِي مَنْ بناها، وخلفت ثروة كبيرة ذابت فيما بعد، ولم ينفع البكاء والعويل، إذ ماذا تنفع العواطف أمام السيف والنار.

وسنَّة الله في خلقه أن الضعيف على أي شكل كان، يذهب هباءً أمام القوة كائنة ما كانت، والشاعر العربي كان حكيمًا إذ يقول:

تعوي الذئاب على من لا كلاب له
وتتَّقي صولة المستأسد الضاري

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤