النحو والصرف والبلاغة
شهد القرن الثاني معركة كبيرة في النحو والصرف بين مذهب البصريين والكوفيين. ويرجع أكثر الخلاف إلى البيئة التي كانت حول البصرة والكوفة، ثم شهد القرن الثالث الهجري امتزاج المذهب البصري بالمذهب الكوفي، وظهور منتخب من المذهبين، وشهد القرن الرابع تمام هذا الامتزاج.
والحقُّ أن كتاب سيبويه في النحو والصرف كان من القوة بحيث كان المرجع في العالم الإسلامي من تاريخ تأليفه إلى اليوم، وكل ما فعله الناس أنهم شرحوا غامضًا أو اختصروا مطولًا، أو بسطوا معضلًا، أمَّا الأسس التي بني عليها الكتاب فبقيت كما هي في النحو والصرف إلى اليوم، من عهد شرح الصيرافي لكتاب سيبويه، إلى النحو الواضح للمرحوم الجارم بك، فمثلًا: ظل النحو طول حياته متأثرًا بنظرية العامل، فالفاعل مرفوع بالفعل، والمفعول به منصوب بالفعل، وإذا لم يكن هناك عامل ظاهر قُدِّر هناك عامل مستتر، مثل: «إذا السماء انشقت»، وألجأهم إلى ذلك ادعاؤهم أن الفاعل لا يتقدم الفعل، فلا يمكن أن يكون السماء فاعلًا لانشقت الآتية، وادعاؤهم أيضًا أن إذا لا تدخل إلا على جملة فعلية.
ولم يشذ عن ذلك فيما نعلم إلا ابن مضاء الأندلسي الذي أنكر نظرية العامل.
وكان من أوائل النحويين الذين لهم أثر كبير في النحو بمعنى الشرح والتفسير الزجَّاج، وكانت حياته صورة مصغرة لعصره؛ فمثلًا: كان يخرط الزجاج، ومن أجل ذلك سُمي بالزجَّاج، وكان يكسب في اليوم دينارًا، وكسرًا من دينار، فحُبب إليه النحو، واتصل بالمبرد؛ وكان المبرد هذا لا يعلم النحو إلا بأجر، ولا يعلم بالأجر إلا بمقداره؛ فمن أعطاه درهمًا علَّمه بدرهم، ومن اعطاه درهمين علَّمه بهما، وهكذا.
فاتصل به الزجاج، وقاوله على أن يعلمه كل يوم بدرهم، ووفَّى له بذلك، فكل يوم يعطيه درهمًا، وكل يووم يتعلم منه بمقداره، فلما شدا في ذلك طُلب هو أن يعلم أيضًا، فأراد أن يحصل ما صرف. وكان المبرد يرشحه لذلك أيضًا، وشاء القدر أن يعلم شابًّا اسمه القاسم ابن عبيد الله، فرأى فيه مخايل الأرستقراطية، فقال له: أتنذر إن أصبحت وزيرًا أن تعطيني عشرين ألف دينار؟ فوعده بذلك.
ثم شاء القدر أن يصبح وزيرًا للمعتضد؛ ولكن عزَّ عليه أن يعطيه المبلغ من جيبه، فعينه آخذًا لعرائض الناس، وعرضها عليه، ومعنى ذلك: أن العرائض التي تقدم للوزير يأخذها الزجاج، وهو الذي يعرضها على الوزير، وجعل له من الطالبين أو مقدمي العرائض مبلغًا بنسبة ما يكسبه صاحب الشأن من كل عريضة؛ فهذا يدفع مائة، وهذا يدفع ألفًا، ومعنى ذلك: أن القاسم بن عبيد الله أباح له الرشوة الرسمية، وعُرف من أجل ذلك بالجاه، وقربه من الوزير؛ فأخذ الناس يقبلون عليه لقضاء حوائجهم في نظير «جُعل»، حتى حصل بذلك أكثر من العشرين ألفًا، ولما امتنع بعد ذلك طلب منه أن يستمر في عمله، ولا بأس أن يكسب أكثر مما كسب، وهي حادثة تدل على فساد العصر.
وإلى ذلك العصر لم تكن العلوم — وخصوصًا اللغوية — متميزة التميز الدقيق على النحو الذي نراه في كتاب «الكامل» للمبرد؛ فنحو وصرف بجانب بلاغة، بجانب كلام في إعجاز القرآن إلخ، ولذلك نراهم يؤلفون في معاني القرآن، والاشتقاق ككتاب «فَعَلْتُ وأفعلتُ»، وكتاب «خلق الإنسان»، و«خلق الفرس»، و«شرح أبيات سيبويه»، و«كتاب النوادر».
ومن أكبر حسنات الزجاج أنه أنجب العالم المشهور أبا علي الفارسي، وهو من علمت في التوسع في القياس، والتوسع في الاشتقاق.
وأبو علي الفارسي هو الذي أنجب ابن جني الذي سار على مذهب أستاذه، وتوسع فيه، وكان له ولأستاذه الفضل الكبير في علم الصرف، وفيما يعرف بفقه اللغة.
ومن لفتات ابن جني الجليلة فهمه أن النحو القديم مؤسس على العامل كما ذكرنا، فإذا قلت: ضرب زيد عمرًا، فالرفع في زيد، والنصب في عمرو، إنما أحدثه ضرب. وقد جرَّهم ذلك إلى تأويلات كثيرة متكلفة، فقالوا مثلًا في «إذا السماء انشقت»: إن تقديرها: إذا انشقت السماء انشقت، ونحو ذلك في مواطن كثيرة تكلفوا فيها تكلفًا سخيفًا، فهدم ابن جني هذه القضية، وقال في خصائصه: «وأما في الحقيقة، ومحصول الحديث، فالحركات من الرفع والنصب والجر والجزم، إنما هي للمتكلم نفسه، لا لشيء غيره، وعلَّل ذلك تعليلًا فلسفيًّا يشبه تعليل النحويين، إذ يقول: إن ضرب انتهت بمجرد النطق بها، فلا يمكن أن تكون عاملًا في زيد أو عمرو، فليس الفعل عاملًا في الفاعل، ولا المفعول، وليست إن تنصب المبتدأ وترفع الخبر، ولا كان ترفع المبتدأ وتنصب الخبر، وليس المبتدأ مرفوعًا بالابتداء، فهذا كلام لا معنى له، وليس الخبر مرفوعًا بالمبتدأ كذلك».
والناظر في نحو الخليل وسيبويه يرى أنه موضوع على أساس العامل، وظلَّ كذلك إلى عصرنا الذي نؤرخه، وجاء ابن جني يريد تأسيس نحو آخر، ولكن مع الأسف لم يجد سميعًا، فظل النحو معتمدًا على العامل، فإذا لم يجدوه تأولوه، واستمر النحاة لا يزيدون شيئًا إلا نادرًا، وكان نحاة عصرنا الذي نؤرخه سائرين على هذا المنوال. وأخيرًا، جاء ابن مضاء — كما أشرنا — من قبل قاضي القضاة في قرطبة في عصر المؤرخين، فألَّف كتابًا سماه «الردُّ على النحاة» أسسه على الجملة التي رويناها عن ابن جني في الخصائص، وقد نُشر حديثًا.
وكان ابن مضاء هذا ظاهري المذهب، لا يؤمن بالتأويل والقياس، فجرى في النحو مجراه في الفقه، فلا تأويل لعامل، ولا عمل له.
ولكن ذهبت دعوته أدراج الرياح، كما ذهبت دعوة ابن جني من قبل، وكما ذهبت دعوة أبي نواس في الشعر إلى التجديد، وظلَّ النحاة في القرون المختلفة إلى اليوم يؤمنون بالعامل.
ومن مظاهر هذا العصر أيضًا ما ابتدعه الثعالبي في تأليفه كتاب «فقه اللغة»، جمع فيه الألفاظ المتقاربة في موضوع واحد، كالمائدة والخوان، مع بيان الفرق بينهما، كما تعمد أن يؤلف كتابًا في أسرار اللغة، يتعمق فيه في معاني الأسلوب. وقد توسع فيه ابن سيده في «الخصائص»، فجعله في سبعة عشر جزءًا، أسسه على المعاني لا على الألفاظ، فكان هذا فتحًا جديدًا في بابه.
وقد تركت هذه المدرسة — وهي المدرسة المتسلسلة من المبرد إلى الزجاج إلى أبي علي الفارسي إلى ابن جني — أثرًا كبيرًا في اللغة والنحو والصرف، ومن قديم وعلماء اللغة والنحو والصرف ينقسمون إلى ثلاثة أقسام: محافظين لا يرون الخروج عن القديم بحالٍ من الأحوال، حتى في الأدب لا يريدون أن ينشئوا أدبًا إلا ما كان على نمط الشعر الجاهلي، فإن تسامحوا في شيء فإنهم يقلدون الشعر الأموي، ومن هؤلاء كان ابن الأعرابي الذي لم يشأ أن يعترف بشعر أبي تمام لحداثته، حتى كان يُعرض عليه الشعر من غير أن يذكر قائله، فيستحسنه، فإذا قيل له: إنه لأبي تمام، أو لأبي نواس؛ استبرده.
وأحرار في الأدب يرون أن القدماء والمحدثين خاضعون لمقاييس واحدة، فقد يسمج المتقدم، ويأتي المحدث بالروائع، والعكس، وقد رأى هذا الرأي قديمًا ابن قتيبة في «طبقات الشعراء»، وسار على هذا النمط كثيرون من أبرزهم أبو نواس إذ عاب العرب الأولين في البكاء على الأطلال، وبكاء الدِّمن، ودعا إلى التجديد في الغزل في المذكر، والغزل في الخمر، ولكنه مع الأسف لم يستمر طويلًا على مذهبه.
وفي اللغة والنحو والصرف كان أبو علي الفارسي، وتلميذه ابن جني من هذا الصنف، وربما عد ابن فارس من الذين وقفوا موقفًا وسطًا بين القديم والجديد، يدل على ذلك كتابه المسمى ﺑ «الصاحبي» نسبة إلى الصاحب بن عباد، وكان الصاحب هذا تلميذًا لابن فارس، فهو في هذا الكتاب يعرض آراء متحفظة متزمتة حينًا، وآراء حرة حينًا، فمن تزمتاته جعله علم العروض أفضل من الفلسفة، فيقول: «علم العروض الذي يربي بحسنه ودقته واستقامته على كل ما بتبجح به الناسبون أنفسهم إلى التي يقال لها الفلسفة».
ومعنى هذا التعبير — كما ترى — سخيف، وهو يرى أن الفلاسفة لا يستطيعون أن يؤلفوا في النحو والصرف، فإن ألفوا فيهما فشيء تافه، وما عيب الفيلسوف إذا لم يكن يُحسن إلا الفلسفة؟
ثم من مظاهر تزمته اعتقاده أن اللغة العربية لا وضعية، وقد كان المعتزلة الأحرار يرون أنها وضعية لا توقيفية، وعلى ذلك جرى أبو علي الفارسي، وابن جني، وبينما كان ابن فارس رجعيًَّا في هذه المسائل إذا هو تقدمي في مسائل أخرى؛ من ذلك رسالته إلى صاحب له هو محمد بن سعيد، يعتب عليه تحريمه على بعض المعاصرين تأليف كتاب في مختارات بعد كتاب أبي تمام، وهو «الحماسة»، فيقول له: «لعله يستدرك من جيد الشعر، ونقيه، ومختاره، ورضيه كثيرًا مما فات الأول، فما هذا الإنكار، ولم الاعتراض؟ ومن ذا حظر على المتأخر سبق المتقدم؟ ولم تأخذ بقول من قال: ما ترك الأول للآخر شيئًا، وتدع قول القائل: كم ترك الأول للآخر؛ وهل الدنيا إلا أزمان؟ فلكل زمان رجال، وهل العلوم بعد الأصول المحفوظة إلا خطرات الأفهام، ونتائج العقول؟ ومن قصر الآداب على زمان معلوم، ووقفها على وقت محدود؟!»، فهذه نظرة تقدمية من غير شك.
ثم هو يفيدنا من ناحية أخرى، وهي شكواه من غلبة اللحن حتى على الفقهاء والمتعلمين، ويقول: «أمَّا الآن، فنرى المحدِّث يُحدِّث فيلحن، والفقيه يؤلف فيلحن، فإذا نُبِّها قالا: ما ندري ما الإعراب؛ وإنما نحن محدثون وفقهاء».
ونلاحظ في هذا العصر ظاهرة أخرى، وهي العناية بما يُسمى فقه اللغة، فنرى ابن فارس هذا يملأ كتابه «الصاحبي» بمسائل يسميها فقه اللغة، والثعالبي يؤلف كتابًا في فقه اللغة، وهو يذكر في صدر كتابه هذا أنه إنما سَمَّى هذا العلم بهذا الاسم وفقًا لاختيار الأمير الذي أهداه إليه؛ وهذا يدل على أن هذا الاسم مخترع في هذا العصر، ويقصدون به بيان الفروق الدقيقة بين الكلمات التي يظن أنها مترادفة، وليست في الحقيقة مترادفة؛ ومن اللغويين من سمى هذا النوع بالفروق كأبي هلال العسكري.
وفي العصور الحديثة نراهم قد سَمَّوا ما يسمى عند الإفرنج بالفيلولوجي «فقه اللغة»، مع أن مدلوله عند الإفرنج — فيما يظهر — مخالف لمفهومه عندنا؛ فمفهومه عند أكثر اللغويين من الإفرنج مقابلة الكلمات في اللغات المختلفة، وتاريخ اللغات، وغير ذلك. ولعلهم أخذوا هذا الاسم مما كان شائعًا في تسميتهم «علم الفقه»، فربما رأوا أن ذلك الفقه فقه الأحكام، فسموا هذا فقه اللغة؛ والفيلولوجي عند الإفرنج أوسع مدلولًا من فقه اللغة عند العرب.
وقد قال ابن فارس: إن هذا الكتاب وهو «الصاحبي» في فقه اللغة العربية، وفي سنن العرب في كلامهم؛ ولا أدري هل سبق الثعالبي، وابن فارس في هذا الاسم أحد أو هما واضعاه! والغالب في نظرنا هو الأول؛ لأن الثعالبي يذكر أن هذا الاسم ابتكره من ألَّف له الكتاب؛ ولعله أبو الفضل الميكالي.
ومما يؤسف له أن ابن فارس في كتابه هذا زعم أن اللغة العربية أغنى اللغات في تعبيراتها، وأساليبها، وأمثالها، وهي مسألة نرى العلماء في هذا العصر يتباحثون فيها، وربما كان ذلك أثرًا من آثار الشعوبية، فنرى سائلًا يسأل أبا سليمان المنطقي هذا السؤال، ولكن أبا سليمان كان أعقل من ابن فارس، فقد أجاب بأن الإجابة عنه تقتضي معرفة بلغات العالم، ومقارنات عديدة بينها مما لا يتيسر الآن، وهي إجابة تدل على سعة نظر، وبُعد تفكير، وشعور بتبعة الجواب على مثل هذا السؤال، وذلك خير مما قال ابن فارس.
فمهاجمة الشعوبية للعرب جعلت العرب يتعصبون للعربية، ويبالغون في تقديس لغتهم.
على كل حال، كان علماء اللغة والنحو والصرف في ذلك العصر يحملون تبعات كثيرة، فيعتقدون أن في عنقهم رد اللغات العامية إلى أوكارها، ونزعات الشعوبية إلى مكامنها، وإحياء اللغة الفصحى، وتوسيعها في أكثر ما يمكنهم من ميادين.
وكان من أكبر من خدم اللغة والأدب في ذلك العصر الثعالبي؛ فقد ألف كُتبًا كثيرة في نواح كثيرة: في فقه اللغة، وفي شعراء القرن الرابع عرض نماذج من شعرهم، وقد سلك في ذلك مسلكًا لطيفًا، وهو جعلُ باب معين لشعراء كل قطر، كما ألَّف في طرف لطيفة ككتاب «من غاب عنه المطرب»، ونحو ذلك من كُتب لا عداد لها، وإن أُخذ عليه شيء في أعظم كتبه وهو «اليتيمة»، فهو عنايته في ترجمة الشعراء بالعبارات الرنانة أكثر من عنايته بالتحليل النفسي للشاعر، وتحليل شعره، حتى إن ترجمة الشاعر يمكن رفعها من مكانها، ووضعها في ترجمة شاعر آخر، ومع ذلك فله فضل التعريف بشعراء يمكن رفعها من مكانها ووضعها في ترجمة شاعر آخر. ومع ذلك فله فضل التعريف بشعراء كثيرين لولاه ما عُرف عنهم شيء، وكانت العادة المتبعة أن ترسل البعثات من جميع الأقطار الإسلامية إلى العراق — وخاصة إلى بغداد — كما نرسلها اليوم إلى أوروبا، فحدث أن أرسلت مصر شابين مصريين ليتعلما النحو واللغة، وما إليهما في بغداد، فلما وصلا وجدا أن ألمع اسم في بغداد هو الزجَّاج الذي أشرنا إليه من قبل.
كان هذان الشابان هما ابن ولَّاد، وابن النَّحاس، فدرسا عليه وعلى غيره ما شاء الله أن يدرسا، ثم عادا إلى مصر، فملآها نحوًا وصرفًا؛ ولكن من غير ابتكار، وإنما علمهما اقتباس من على البغداديين، وكان ابن ولاد أحبَّ إلى قلب الزجاج من ابن النحاس، فكان يسأل عنه من قدم بغداد من المصريين، وكوَّنا مدرسة في القاهرة تشبه مدرسة الزجاج في بغداد فيها تفسير، وفيها نحو وصرف إلى غير ذلك، ولكن كان بينها من التنافس ما بين المتعاصرين عادة، كل منهما يرمي صاحبه بالجهل، فجمع بينهما بعضُ أمراء مصر، وأمرهما أن يتناظرا أمامه، فعلى طريقة البغداديين قال ابنُ النحاس: كيف تبني مثال افعلوتُ من رمى. قال له ابن ولاد: ارمييتُ، فخطأه ابن النحاس في ذلك، وقال: ليس في كلام العرب افعلوت. فقال: إني أجبتُ على السؤال، وإن لم يكن له أصل صحيح، ولم أقل ارمويت؛ لأنَّ الفعل يائي، وهكذا كان التهريج من ابن النحاس على عادة البغداديين، ولا يقال: إن ذلك شبيه بارعويت؛ لأنَّ ارعويت على وزن افعللت، لا افعلوت، وكان ابن ولاد أحبَّ إلى المصريين؛ لأنه كان نبيلًا كريمًا سمحًا؛ على العكس من ابن النحاس، وألَّف ابن ولاد كتاب «الانتصار لسيبوبه»، و«المقصود والممدود»، و«معاني القرآن»، وألَّف ابن النحاس «تفسير أبيات كتاب سيبويه»، و«كتاب الكُتَّاب»، و«الكافي في النحو» إلخ، فكلاهما ملأ مصر عِلمًا وتأليفًا على نمط علم العراق وتأليفه.
ويذكرون لنا أن الرماني في هذا العصر أول من مزج النحو بالمنطق، يعنون بذلك أنه راعى في النحو التقسيمات المنطقية، وعلل الأحكام تعليلًا منطقيًّا، وسبب ذلك أن الفلسفة اليونانية كانت قد انتشرت في هذه البقاع، وعرف حتى النحو اليوناني، وتناقش العلماء أيهما أفضل: النحو العربي، أو النحو اليوناني؟ كما حكى لنا أبو حيان التوحيدي في «المقابسات».
علم البلاغة
فإذا نحن وصلنا إلى علم البلاغة وجدناه قد تكوَّن حول البحث في أسباب إعجاز القرآن، بدأ نتفًا قصيرة، وما زال يزيد على توالي الأزمان، حتى وصل إلى أبي هلال العسكري المتوفَّى سنة ٣٩٥ﻫ، فجعله أحقَّ العلوم بالتعلم؛ إذ بدونه لا تفهم أسباب إعجاز القرآن.
وملأ كتابه بمباحث تدور حول النواحي التي ترفع قدر الكلام، وتكسوه جمالًا وجلالًا، والعيوب التي تحط من قدر القول، وتكسبه قبحًا وسخافة.
وكانت علوم البلاغة تسمى علم البيان، حتى جاء عبد القاهر الجرجاني في العصر الذي يلي عصرنا، فأخرج للناس علمًا دقيقًا ذا قواعد وأصول، في كتابين جليلين، اسم أحدهما «دلائل الإعجاز»، واسم الثاني «أسرار البلاغة».
بحث الأول عن الوجوه التي تكسب القول شرفًا، وتكسوه جلالًا من حيث اشتماله على استعارة مستحسنة، أو كناية لطيفة، أو تمثيل جليل، أو تشبيه طريف، وتعرض في كثير من المواضع إلى ما عد بعد من علم المعاني، وما عد من علم البيان.
وأمَّا الذي قسم هذه المباحث إلى شطرين، علم يتعلق بالنظم، وسماه علم المعاني، وعلم يتعلق بالمجاز، والتشبيه، والاستعارة، والكناية، وسماه علم البيان، فهو السكاكي المتوفى سنة ٦٢٦ﻫ.
وكان ممن له فضل كبير في علم البلاغة الزمخشري في كتابه «الكشَّاف»، ولكنها كانت مباحث متفرقة هنا وهناك، فلم يُعد من ضمن مؤلفي البلاغة.
وحدث أن أفرد بعض الأدباء أنواع البديع بالتأليف، وكان أول من فعل ذلك عبد الله بن المعتز في كتاب له سماه «علم البديع»، جمع فيه سبعة عشر نوعًا من أنواع البديع، فجاء بعده قدامة بن جعفر، وأوصلها إلى عشرين، ثم جاء أبو هلال العسكري — الذي ذكرناه سابقًا — وأوصلها إلى سبعة وعشرين. ولا زال يزيد من يأتي بعد، حتى أوصلها زكي الدين بن أبي الإصبع في كتاب له اسمه «التحرير» إلى تسعين.
ولم تزد البلاغة كثيرًا، ولا النحو، ولا الصرف، ولا اللغة عما تكوَّن في هذا العصر الذي نؤرخه، وكل ما فعله المتأخرون إنما هو جمع لمتفرق، أو تفريق لمجموع، أو شرح لغامض، أو تحديد لمتشتت، وفي آخر الأمر فقدت هذه العلوم روحها، وأصبحت أدوات جافة لا طعم لها.
وعلى الجملة، فإن العلماء جدوا في هذه الفروع كلها، وتحمسوا لها، بداعي خدمة القرآن، وتبيين ما فيه؛ فالنحويون — مثلًا — اجتهدوا في إعراب القرآن، ومن هؤلاء الكسائي، والفراء، والزجاج، وكان نحوهم مشتملًا على أشياء بيانية، كأسباب الذكر والحذف، والتقديم والتأخير، وبعضهم اشتغل بمجاز القرآن، ككتاب أبي عبيدة المسمى «مجاز القرآن»، وقد أخذ منه البخاري كثيرًا في صحيحه في باب التفسير، والبيانيون جدوا في معرفة أساليبه التي سببت الإعجاز، حتى إن عبد القاهر الجرجاني سمى كتابه «دلائل الإعجاز»، وألَّف أبو بكر الباقلاني كتابه المشهور في أسباب الإعجاز، فإن قلنا: إن هذه العلوم كلها كانت لخدمة القرآن، ومن أجله نمت وترعرعت لم نكن بعيدين عن الصواب.