في العلوم
واشتغلوا بالحساب، والجبر، والهندسة، بعدما نقلوا عن اليونانية بعض كتبها، واشتهرت كتب الخوارزمي في الجبر والمقابلة، حتى يظن بعضهم كلمة «اللوغارتم» محرَّفة عن الخوارزمي، وألَّف أبو حنيفة الدينوري كتابًا عظيمًا في النباتات، وصفها وصفًا دقيقًا — ولكن والحق يقال — كان اشتغالهم بالعلوم أقل من اشتغالهم بالآداب، كما سنفصل ذلك في الخاتمة — إن شاء الله.
فأما ابن الهيثم فهو نموذج للعالم الإسلامي في القرون الوسطى، كما أنه نموذج لما زاد فلاسفة المسلمين على اليونانيين، وهو الحسن أبو علي بن الحسن بن الهيثم، ولد حوالي سنة ٣٥٤ﻫ، وكان أول أمره بالبصرة، وعني بتحصيل العلم والفلسفة في عصره من هندسة، ومخروطات، وجبر، وحساب مثلثات، وأرتماطيقا، وما يتصل بها من نظريات هندسية، وميكانيكا، ومراكز الأثقال، ورفع الأثقال، وأخذ يدرس كل ما وقعت عليه يداه من كتب متقدمة، ولم يكتف بقراءة الكتب الفلسفية، بل عني بتلخيصها، والتصنيف فيها، ويقول: «أنا ما مدت لي الحياة باذلًا جهدي، فمستفرغًا قوتي، إلا متوخيًا أمورًا ثلاثة: إفادة من يطلب الحق، ويؤثره في حياتي، وبعد مماتي، والارتياض بهذه الأمور، وجعله ذخيرة وعدة لزمان الشيخوخة، وأوان الهرم». وقد ألَّف في هذه المواضيع العلمية عشرات من الكتب، بلغ ما يتعلق منها بموضوعات الفلسفة، والعلم الطبيعي ثلاثة وأربعين كتابًا، وما يتعلق منها بالرياضة والعلم التعليمي خمسة وعشرين، أورد أسماءها ابن أبي أصيبعة في كتابه «طبقات الأطباء».
ولم يكتف بالتلخيص، بل تحرر من التقيد بآراء السابقين، فأدلى بآرائه الشخصية، فألَّف مثلًا كتابًا في الرد على يحيى النحوي، واستقل أيضًا في الرياضة، وزاد في برهانها وتصحيحها، ورد الخطأ فيها، واستخدم علمه في أمور إسلامية في كتابه «في سمت القبلة».
وابن الهيثم يبحث في مسائل قد نظن أنها لم تبحث في عصره، مثل وصوله إلى نتائج باهرة في علم الضوء، وامتداد الضوء على السماوات المستقيمة، وفي الأضواء العرضية والمنعكسة، وامتزاج الألوان، وانعكاس الضوء وانعطافه إلخ.
وأمَّا البوزجاني فقد اشتهر بالرياضة، وله فضل في تقدم العلوم الرياضية، وهو محمد بن محمد بن يحيى بن إسماعيل، ولد في بوزجان سنة ٣٢٨ﻫ، وانتقل إلى بغداد في سن العشرين، وتوفي سنة ٣٧٦ﻫ، وقد اشتهر كثيرًا في علمي الفلك والرياضيات، وله فيها مؤلفات، يقول بعض الإفرنج: «إن له في الهندسة استخراجات غريبة، لم يسبق إليها، وله كذلك مبتكرات في الأوتار». وكُتب في الجبر، وزاد على بحوث الخوارزمي، وكتب في العلاقة بين الهندسة والجبر، وله بحوث قيمة في المثلثات، وأدخل تجديدات على القطاع، وعلى يده تقدمت نظريات المثلثات.
ويظهر لي أنه هو الذي أورده أبو حيان التوحيدي في كتابه «الإمتاع والمؤانسة»، وأن أبا الوفاء طلب منه أن يؤلف له كتابًا يذكر له فيه ما دار بينه وبين ابن سعدون من أحاديث وسمر؛ فألَّفه له.
واشتهر في أوائل القرن الرابع أيضًا الخازن، وهو محمد بن حسن أبو جعفر. ويقولون: إنه أول من حوَّل المعادلات التكعيبية بواسطة قطوع المخروط، وله بحوث كثيرة في المثلثات.
وأما الخازن، فقد غمر، ولم يعرف كثيرًا؛ لأنه اختلط اسمه بابن الهيثم لقرب التشابه بين اسميهما بالحروف اللاتينية، فاسم الأول: الهازم، واسم الثاني: الكازن.
واشتهر أيضًا في العلم أمية بن أبي الصلت، كما اشتهر بالشعر، وقد حكى عنه ابن أبي أصيبعة في «طبقات الأطباء» شيئًا كنا نظنه من أفكار العصر الحديث، وهي فكرة رفع المراكب الغارقة من قعر البحار، فقد حكى عنه أن مركبًا مملوءًا بالنحاس غرق قريبًا من الإسكندرية، فعزم أبو الصلت على رفعه، فاجتمع بالأفضل أمير الجيوش — ملك الإسكندرية — وباحثه بما جال في خاطره، وطلب منه أن يهيئ له ما أراد، فأحضر الأفضل لأبي الصلت الآلات اللازمة، ولما تهيأت وضعها في مركب عظيم، هي موازاة المركب الذي غرق، وأرسى إليه حبالًا مبرومة من الإبريسم؛ إذ لم تكن الحبال القوية المصنوعة من الأسلاك المعدنية معروفة، فأمر قومًا لهم خبرة في البحر أن يغوصوا، ويوثقوا ربط الحبال بالمركب الغارق، وكان قد صنع آلات بأشكال هندسية؛ لرفع الأثقال في المركب الذي هم فيه، وأمر الجماعة بما يفعلونه في تلك الآلات، ولم يزل شأنهم ذلك، والحبال ترتفع إليهم أوَّلًا فأوَّلًا، وتنطوي على دواليب بين أيديهم، حتى بان لهم المركب الذي كان قد غرق، وارتفع إلى قريب من سطح الماء، ثم عند ذلك انقطعت الحبال، وهبط راجعًا إلى قعر البحر، ولقد تلطف أبو الصلت جدًّا فيما صنعه، وفي التحيل لرفع المركب، إلا أن القدر لم يساعده، وحنق عليه الملك لما غرقه من الآلات، وأمر بحبسه، وبقي في الاعتقال إلى أن شفع فيه بعض الأعيان، فأطلق، وكان إلى علمه شاعرًا رقيقًا، شعر في الهيئة التي مهر فيها.
كذلك اشتهر في الرياضيات عمر الخيَّام الأديب المعروف، وقد انعزل عن الناس، وانعكف على البحث بالدراسة، وألَّف في الجبر والفلك، واستعمل كثيرًا من المعادلات التي لم تكن معروفة من قبل، وربط بين الجبر والهندسة، وقسم المعادلات إلى أقسام متنوعة، وحصرها.
ووجد في كتب الخيام قانون لحل المعادلة ذات الدرجة الثانية، وله براعة أيضًا في الفلك، حتى إن السلطان ملك شاه دعاه لمساعدته في تعديل التقويم السنوي.
ومما ساعد العرب على التوسع في العلوم أنهم حينما فتحوا بلاد فارس والشام، رأوا فيها خزائن من العلوم اليونانية، قد نقلت إلى اللغة السريانية، فنقلوها إلى اللغة العربية، وخاصة ما لم يكن نقل من قبل، ثم أخذوا يدرسونها، وساروا بها إلى الأمام، بل لم يكتفوا بالنقل عن السريانية، فتعلم بعضهم اللغة اليونانية، والدليل على ذلك المعاجم للغة اليونانية والعربية.
وكانوا في كل مدينة كبيرة يحلونها ينشئون فيها المكتبات والمختبرات والآلات، وزادوا على العلوم اليونانية تجاربهم الشخصية من استخراج المجهول من المعلوم، والعلل من المعلول، وعدم التسليم لما لا يثبت من غير تجربة، كما نجد ذلك من قديم في كتاب «الحيوان» للجاحظ، فهو يخطئ أرسطو في مسائل كثيرة، وربما فضل عليه عربيًّا بدويًّا.
وعرف العرب تركيب النار اليونانية واستخدموها، وقذفوا بها في شتى الطرق، وألقوا بها الرعب في قلوب الصليبيين، وربما كانوا هم مخترعي البارود، كما قال ذلك كثير من المستشرقين.
فقد ذكر بعض المؤرخين أن أول معركة استعمل فيها البارود كانت على يد الأمير يعقوب حين حاصر مدينة المهدية سنة ١٢٠٥م. قالوا: «فضرب أسوارها بمختلف الآلات والقنابل، وضربها بآلات لم يرها الناس من قبل، فكانت كل واحدة منها ترمي قذائف كبيرة من الحجارة، وقنابل من الحديد، وتسقط في وسط المدينة»، وقد روي أن بعض الإنجليز شاهد ذلك، فنقل هذا الاختراع إلى بلادهم فورًا.
هذا إلى كتب العرب الكثيرة في النباتات، وفي المعادن، واستخدموا النباتات في الطب، وزرعوا النباتات الطبية، وترجمت اكثر كتب الرازي إلى اللغة اللاتينية، وكانت كتبه مع كتب ابن سينا أساسًا للتدريس في الجامعات الأوروبية، واشتهر أبو القاسم القرطبي بالجراحة، ووصف عملية سحق الحصاة في المثانة وإخراجها.
وأنشأ العرب في ذلك العصر وقبله كثيرًا من المارستانات، واكتشف الأطباء كثيرًا من النباتات التي في بلادهم لم يكن يعرفها اليونان، وعرفوا الكاويات والفتائل، والبنج الذي سموه «المرقد»، وقالوا: «إن هناك عمليات جراحية، تحتاج لتنويم المريض؛ حتى يفقد وعيه وحواسه».
وعلى الجملة، فقد مهر العرب في العلوم من حساب وجبر وهندسة، وفلك، وميكانيكا، وأخذوا علوم اليونان والهنود، ودلتهم تجربة حياتهم الخاصة على اكتشاف أشياء لم تكن معروفة عند اليونان، وقد اعترف كثير من المستشرقين العدول بابتكاراتهم أشياء كثيرة، لم يعرفها اليونان ولا الهنود؛ أمَّا الذين غمطوهم حقهم فقد حملهم على ذلك تعصبهم ضدهم.
ثم أصاب العلماء من بعدُ، ما أصاب الأدب، فلم ينبغ بعد هذا القرن إلا القليل النادر، مثل: الطوسي الذي مهر في الفلك، وشهر بالرصد، وإدخاله بعض الأعمال الهندسية التي لم تعرف من قبله، وأوضح الطوسي كثيرًا من النظريات الفلكية، وأصلح كتاب المجسطي، وحرره، وكتاب «الأكر»، ومثل ابن الهائم الذي اشتهر بالرياضيات، وشاع اسمه في مصر والشام، وألف في الجبر، وفي ضرب أعداد خاصة في أعداد أخرى، من غير إجراء عمليات الضرب، كقوله: «إن كل عدد يضرب في خمسة عشر أو مائة وخمسين، أو ألف وخمسمائة، يضاف عليه مثل نصفه، ويضرب حاصل الجمع في عشرة في الأول، ومائة في الثاني، وألف في الثالث». وقد بعثهم على المهارة في الرياضة حل مسائل معقدة في الميراث، ومهارتهم في الفلك حاجة الامراء إلى الرصد، عدا ما يجد الرياضي والفلكي من اللذة الذاتية، فالقول بأن العرب لم يخرجوا عما رسمه لهم اليونان والهنود والفرس قول جائر، والله لم يُعقم العقل العربي، ولم يقصر الإنتاج على العقل اليوناني أو الهندي؛ بل جعل الأمر مشتركا كخيرات البلاد، وجمال أهلها، وحسن مقدرتها.
غاية الأمر، أن الخلف لم يحسن استخدام ما تركه السلف؛ إنما أحسنه الغربيون فكانوا يُنقِّبون عن كتب العرب، ويترجمها من أتقن العربية، ويبنون عليها كما اعترف بذلك كثير ممن استفاد منهم، ولما جاءت النهضة الحديثة، اقتبسنا منها على أنها من صنع الأوروبيين، وأن آباءنا لا دخل لهم فيها، وهكذا الشأن في كل نوع من الثقافة.