الفصل التاسع

الأدب الصوفي

للصوفية أدب غزير، له خصائص تخالف الأدب الآخر، وقد بدأ من أوائل القرن الثاني الهجري، واستمر في العصور بعده، ومن خصائصه: السموّ الروحي، والمعاني النفسية العميقة، والخضوع التام لإرادة الله القوية، وبُعْد الخيال والشطحات، كما يتصف بالغموض والمعاني الرمزية.

وقد كان الأدب الصوفي نتاجًا لجنسين مختلفين: الجنس السامي، ويمثله الأدب الصوفي العربي، والجنس الآري، ويمثله الأدب الصوفي الفارسي، وبين الجنسين اختلاف كبير في التصوف، والإنتاج، والمزاج. ومع كراهيتنا لإرجاع الخصائص إلى الجنس، فإننا نقر إلى حدٍّ ما أن الساميين بحكم نشأتهم أقوياء الحس في الغالب، ضعاف الخيال، بينما الآريون واسعو الخيال، كبر في أذهانهم جلال القوى الطبيعية؛ لأنهم نشئوا في أقطار ذات مناظر طبيعية جميلة، جلية، فخمة، غريبة، وهم أقدر على وصف خلجات النفوس، والساميون أقدر على تشبيه ظواهر الأشياء.

والتصوف السامي كله وَلَهٌ، وحنين، وإخلاصٌ، وحيرة مصدرها الإعجاب والحب والعاطفة، والسامي يحب فيحس عذاب الحب أو نعيمه إلى درجة بعيدة، وقد يبالغ في هذا وذاك، ثم يخرج عذاب نفسه، أو نعيمها شعرًا سلسًا، دافقًا، مملوءًا بالسخط والضجر، والألم، والأنين، والاطمئنان إلى هذا الألم والحنين:

أشكو وأشكر فعله
فاعجب لشاك منه شاكر

فهذه عاطفة صادقة امتلأت بالحب، وأورثت الشكوى والألم، ثم إن النفس عن كل هذا راضية، بل هي تسمو إلى أرفع منازل التضحية، وتجود بالحياة في سبيل هذا الغرام، وحرصًا عليه.

إن الغرام هو الحياة فمت به
صبًّا فحقك أن تموت وتعذرا
وفي هذا يختلف الأدب في التصوف السامي عن الأدب في التصوف الآري، فليس من طبيعة العربي أن يندمج في الطبيعة، ويفنى فيها كغيره من أبناء الهند وفارس، وهو كغيره من الساميين تعوزه القدرة على استخراج الكليات من الجزئيات، فأدبه يدرك الأشياء تفصيلًا، ولكن لا يدركها إدراكًا كليًّا موحّدًا، ينظر إلى كل شيء على حدة تقريبًا، فهو ينظر إلى كل شجرة جزئية في البستان، ولكن يصعب عليه أن ينظر إلى البستان ككل، ووحدة قصيدته البيت، وكل بيت مستقل بنفسه تقريبًا، وليس للقصيدة وحدة، وشعره يعبّر عن نفسه تعبيرًا موسيقيًّا صحيحًا بأساليب موزونة برَّاقة كله حياة، ولكنها حياة يحدُّها الزمان والمكان، ولا طاقة له أن يسمو بفكرة فوق الزمان والمكان.١

أما الأدب في التصوف الآري فكله غرام وحب، ولكنه حب مزج فيه العاطفة بالفلسفة، يبدأ التصوف عندهم بالفهم والإدراك، ثم التفلسف، أما السامي فيبدأ بالشعور، ولا يلزم أن يكون هناك شيء آخر.

ومن أجل ذلك كان التصوف مجالًا لفهم الفرق بين الطبيعتين والمزاجين، والأدب الصوفي يسلك طريق المكاشفة في إدراك الحقائق، ولما كان الأدب الصوفي يتنازعه القلب والعقل، وكلاهما له طريقة خاصة به، فأحدهما يسير في طريق المنطق، والآخر يحاول أن يتجنبه، وقع الأدب الصوفي في الغموض، وهو على العموم أدب عبوس شديد مرير، وأدب عاطفة حارة، وشعور حاد، وقد أضفى عليه جمال الموضوع جمالًا في الوزن، وحسنًا في التوقيع، والنغم الموسيقي، والخيال فيه بعيد، واسع كله روعة وجلال، سجعه لطيف، وموسيقاه رنَّانة، وكثيرًا ما يعتمد على المحسنات البديعية، والتزويق اللفظي استعانة بذلك على تسهيل المعاني العميقة، والأفكار المعقدة، يتعب غموضه، فما وضح منه كان غاية في الرقة والجمال، وهو غني في ألفاظه وأساليبه، هائم مع الروح في عالم اللانهاية، وحائر على الدوام، لا يستقر حتى يفنى في هيامه.

ومن الأسف أن الأدب العربي لم يوله الاهتمام الكافي بعرض نماذج منه على الناس، واكتفوا بالأدب المادي إن صحَّ هذا التعبير، والمستشرقون في عرضهم للأدب عنوا بسلسلة تاريخية أكثر مما عنوا بموضوعه وفنه، وفضلًا عن ذلك فالكتب التي ألِّفت في التصوف نفسه تحتاج إلى غربلة، وغرقت فيه حبَّات الدر في بحار من الكرامات والمعجزات.

هوامش

(١) انظر براون في كاتبه «الأدب الفارسي».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤