الفصل العاشر

في عالم الجمال

عاشق الجمال

إذا لحقت السيرة بعالم المثال الذي يتطلع إليه خيال الشعراء، وتتغنى به قرائح أهل الفن، فقد تنزهت عن ربقة الجسد، وأصبحت صورة من الصور المثلى في عالم الجمال.

ومن آيات الجمال أنه يتحدى المنفعة، ويؤثِر البطولة على السلامة.

فإذا تعلقت القريحة بالجمال، فلا جرَم تزن الأمور بغير ميزان الحساب والصفقات، فتعرض عن النعمة وهي بين يديها، وتُقبل على الألم وهي ناظرة إليه، وتلزمها سجية العشق الآخذ بالأَعِنَّة، فتنقاد له ولا تنقاد لنصيحة ناصح أو عذل عاذل؛ لأن المشغوف بالجمال ينشده، ولا يبالي ما يلقاه في سبيله.

وقد تمثلت سجية عاشق الجمال في كل شعر نظمه شعراء الحسين وذويه تعظيمًا لهم وثناء عليهم؛ فلم يتوجهوا إليهم ممدوحين، وإنما اتجهوا إليهم صورًا مُثلى يهيمون بها كما يهيم المحب بصورة حبيبه، ويستعذبون من أجلها ما يصيبهم من ملام وإيلام.

وفي معنى كهذا المعنى يقول الكميت شاعر أهل البيت:

طربتُ وما شوقًا إلى البيض أطربُ
ولا لعبًا منِّي، وذو الشيب يلعبُ
ولم يُلهِني دارٌ ولا رسم منزلٍ
ولم يتطربني بَنانٌ مخضَّبُ
ولا أنا ممن يزجر الطير همه
أصاحَ غرابٌ أم تعرَّض ثعلبُ
ولا السانحات البارحات عشية
أَمَرَّ سليمُ القرنِ أم مَرَّ أعضبُ١
ولكن إلى أهل الفضائل والنهى
وخير بني حواء، والخير يطلبُ
إلى النفر البيضِ الذين بحبهم
إلى الله فيما نالني أتقربُ
بني هاشم، رهط النبي، فإنني
بهم ولهم أرضى مرارًا وأغضبُ
خفضتُ لهم مني جناحَيْ مودة
إلى كنفٍ عطفاه أهلٌ ومرحبُ
يشيرون بالأيدي إليَّ وقولهم
ألا خابَ هذا، والمشيرون أَخْيَبُ
فطائفة قد كفرتني بحبكم
وطائفة قالوا: مسيء ومذنبُ
فما ساءني تكفير هاتيك منهم
ولا عيب هاتيك التي هي أَعيبُ
يعيبونني من خبهم وضلالهم
على حبكم، بل يسخرون وأعجبُ
وقالوا: ترابِيٌّ٢ هواه ورأيه
بذلك أدعى فيهمُ وألقَّبُ
على ذاك إِجْرِيَايَ فيكم ضريبتي
ولو جمَعوا طرًّا عليَّ وأجلبوا
وأحمل أحقادَ الأقارب فيكمُ
وينصب لي في الأبعدين فأنصبُ

وقد مرَّ بنا حديث زين العابدين — رضي الله عنه — وهو غلام عليل أوشك أن يتخطفه الموت بكلمة من عبيد الله بن زياد؛ لأنه استكبر «أن تكون به جرأة على جوابه».

فهذا الغلام العليل قد عاش حتى انعقد له ملك القلوب حيث انعقد ملك الأجسام لهشام بن عبد الملك سيد ابن زياد وآله.

وذهب هشام بين جنده وحشمه يحج البيت ويترضى الناس، فلم يخلص إلى الحجر الأسود؛ لتزاحم الحجيج عليه. وإنه لجالس على كرسيه ينتظر انفضاض الناس إذا بزين العابدين يقبل إلى الحجر الأسود في وقاره وهيبته، فيتنحى له الحجيج ويحفون به وهو يستلم الحجر مطمئنًّا غير معجل، ثم يعود من حيث أتى والناس مشيعوه بالتَّجِلَّة والدعاء.

وتهول رجلًا من حاشية هشام هذه المهابة التي لم يرها لمولاه فيسأل: «من هذا الذي هابه الناس هذه الهيبة؟!»

ويخشى هشام أن يطلع جنده على مكانة رجل لم يتطاول إلى مثل مكانته بسلطانه وعتاده فيقول: «لا أعرفه.» ويقتضب الجواب.

وهذا الذي تصدى له شاعر آخر قد غامر بحياته ونواله؛ ليقول بالقصيد المحفوظ ما ثقل على لسان هشام أن يقوله في كلمتين عابرتين.

وذلك هو الفرزدق حيث قال:

هذا الذي تعرفُ البطحاءُ وطأته
والبيت يعرفه والحل والحرمُ
هذا ابنُ خيرِ عبادِ الله كلهم
هذا التقي النقي الطاهر العلمُ
هذا ابن فاطمةٍ إن كنتَ جاهلَهُ
بجده أنبياءُ الله قد ختموا
وليس قولك مَنْ هذا بضائره
العُرْب تعرف من أنكرتَ والعجمُ
إذا رأته قريشٌ قال قائلها:
إلى مكارم هذا ينتهي الكرمُ
من معشر حبهم دين، وبغضهمُ
كفر، وقربهمُ منجى ومعتصمُ

•••

وتصدى عبيد الله بن كثير لأمير مكة — خالد بن عبيد الله — فلعنه، وهو قادر على قتله؛ لأنه يلعن عليًّا وحسينًا في خطبه، وأنشد:

لعن الله من يسب عليًّا
وحسينًا من سوقة وإمامِ
أيُسَبُّ المطهرونَ جدودًا
والكرام الآباء والأعمامِ
يأمن الطيرُ والحمام ولا يا
من آل الرسولِ عند المقامِ
طبت بيتًا وطاب أهلك أهلًا
أهل بيت النبي والإسلامِ
رحمة الله والسلام عليه
كلما قام قائمٌ بسلامِ

•••

وتنقضي السنون، وتتسامع العربية بشاعر فحل لم يسلم من لسانه أحد، ولم ينزِّه أحدًا من المجزلين له أو المقترين عليه من استحقاق الهجاء، فكان ينشد الأبيات المقذعة، ويُسأل عن صاحبها فيقول: «لم يستحقها أحد بعينه بعد، ولسوف يستحقها كثيرون.»

هذا الشاعر العجيب هو دعبل الخزاعي الذي يهز أوتار النفوس بأمثال هذه الأبيات في آل البيت:

مدارس آياتِ خلت من تلاوة
ومنزل وحي مقفر العرصاتِ!
لآل رسول الله بالخيف من منى
وبالركنِ والتعريف والحجراتِ
ديار عليٍّ والحسين وجعفر
وحمزة والسجادِ ذي الثفناتِ٣
ديارٌ عفاها كل جون مبادر
ولم تعف للأيام والسنواتِ

إلى أن يقول:

ملامك في أهل النبي فإنهم
أحبَّايَ ما عاشوا وأهلُ ثقاتي
فيا رب زدني من يقيني بصيرة
وزد حبهم يا رب في حسناتي
أحب قصي الرحم من أجل حبهم
وأهجرُ فيهم أسرتي وبناتي
لقد حفت الأيامُ حولي بشرها
وإني لأرجو الأمنَ بعد وفاتي
ألم ترَ أني من ثلاثين حجةً
أروح وأغدو دائمَ الحسراتِ
أرى فيئهم في غيرهم متقسمًا
وأيديَهم من فيئهم صفراتِ
فآل رسول الله نحفٌ جسومهم
وآل زياد حُفَّلُ القُصُرات٤
بناتُ زياد في القصور مصونة
وآل رسول الله في الفلواتِ!
إذا وتروا مدوا إلى أهل وترهم
أكفًّا عن الأوتار منقبضاتِ!

ووهب علي بن موسى الرضا للشاعر جائزة من دراهمه المضروبة باسمه وخلع عليه من ثيابه، فبذل له أهل «قم» ثلاثين ألف درهم ليبيعهم الخلعة فضَنَّ بها. ثم ترصدوا له في الطريق ليأخذوها منه عنوة تبركًا وذكرى؛ فسمح بالمال ولم يسمح بالخلعة، واسترضوه فلم يرض إلا أن يعطوه كمًّا من أكمامها؛ ليدفن معه في كفنه، وتقسموا الخلعة بينهم فخورين بها غير مبالين ما بذلوه في ثمنها.

وانقضت فترة لم تطُل، وتسامعت العربية بشاعر آخر أفحل من دعبل، وأقدر منه على التصرف بالهجاء والمديح.

ذلك هو العباس علي بن الرومي الذي نسي ممدوحيه من آل طاهر وبني العباس؛ ليذكر حق حفيد الحسين يحيى بن عمر الشهيد. ولو كلفه ذكره القتل والحرمان.

وفي بعض ما ساقه من النذر لأمراء زمانه مهلكة له قلما يفلت منها قائل بحياته، وذلك حيث يقول من قصيدته الجيمية:

غررتم لئن صدقتمُ أن حالةً
تدوم لكم، والدهر لونانِ، أخرجُ
لعل لهم في منطوى الغيب ثائرًا
سيسمو لكم والصبح في الليل مولجُ
بمُجرٍ تضيق الأرضُ من زفراته
له زجل ينفى الوحوشَ وهِزْمجُ٥
يود الذي لاقوه أن سلاحه
هنالك خلخالُ عليه ودُملجُ
فيدرك ثأر الله أنصار دينه
ولله أوسٌ آخرون وخزرجُ
ويقضي إمام الحق فيكم قضاءه
مبينًا، وما كل الحوامل تخدجُ

وكل أولئك شاعر ينسى التقوى في مواطن شتى من عمله وقوله، ولا ينساها في حق الشهداء من آل الحسين وصحبه؛ لأنه يحس الجمال إحساس الشعراء ويهتز «للصورة المثلى» اهتزاز الأريحية التي يحلم بها رواد الخيال. فهم هنا بمربأة من قيود العيش، ووساوس الحاجة، وأعباء النوازع الأرضية، يستوحون سليقة القول فيما ينبغي أن يقال؛ فيجري على لسانهم كأنهم مسوقون إليه.

بل كل أولئك شاعر لا يسخو بالمدح وهو موصول بالعطاء الجزيل، ثم هو يسخو به للشهداء وآلهم على غير أمل في نوال، وعلى خوف شديد من الحرمان والوبال.

•••

وشاعر آخر لم يكن يهجو من الناس هذا أو ذاك، ولكنه كان سيئ الظن بالناس أجمعين، وكان يقول ما بدا له في الدنيا والدين، ولكنه يجامل مع المجاملين فلا يقصر عن شأوهم في السابقين أو اللاحقين.

ذلك هو أبو العلاء المعري حيث قال في الفجر والشفق:

وعلى الدهرِ من دماء الشهيديـ
ـنِ عليٍّ ونجلِهِ شاهدانِ
فهما في أواخرِ الليلِ فجرا
ن وفي أولياتِهِ شفقانِ
ثبتا في قميصه ليجيء الـ
ـحشر مستعديًا إلى الرحمنِ

وإن وحي الشعر من سرائر النفوس لأصدق حكمًا من لسان التاريخ إذا اختلف الحكمان.

ولكنهما قد توافيا معًا على مقال واحد، فجلوا لنا من سيرة الحسين — رضي الله عنه — صورة الجمال في عالم المثال، وكذلك يعيش ما عاش في أخلاد الناس.

١  السانح: الطير الذي يمر من اليسار إلى اليمين وعكسه البارح، والأعضب: المكسور القرن.
٢  من كنى عليِّ بن أبي طالب «أبو تراب» وترابي نسبة إليه.
٣  كان عليُّ بن الحسين يلقب بذي الثفنات؛ لأن جبهته أصبحت كثفنة البعير — أي ركبته — من كثرة السجود.
٤  القصرة: الرقبة، وحفل القصرات: أي غلاظ الرقاب من السمن.
٥  الهزمجة: اختلاط الصوت، والمجر: الجيش الكبير.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤