الفصل الثالث والعشرون

العجمان

من الأغلاط السائرة بين عامَّة العرب أن العجمان من العجم. وفي بلاد فارس أيضًا، على شاطئ الخليج الجنوبي، مَن يقولون هذا القول، أما الحقيقة فهي أنهم من قبائل اليمن، من عرب قحطان، وهم ينتسبون إلى همدان.١

كان العُجمان في الماضي يسكنون نجران، ثم ارتحلوا شرقًا فوصلوا في أيام الإمام تركي إلى الأحساء، فأحسن إليهم وأنزلهم «ديرة» بني خالد هناك. وعندما تولَّى فيصل الإمارة عاملهم مثل معاملة أبيه لهم، فأبطرتهم النعمة واستفحل أمرهم، فصاروا يقطعون الطرق على السابلة والحجَّاج. هم موصوفون بالمكر والغدر، ولكنهم شديدو الشكيمة وذوو عصبية يندُر مثلها في العشائر. عصوا الدولة العثمانية فتركتهم وشأنهم، وكثيرًا ما كان عمَّالها في الحساء يشاركون رؤساءَهم الغنائم، ومع ذلك فقد كان العجماني يسلب جنديَّ الدولة فرسَه ويدخل بها الحساء لينعلها.

عصَوا كذلك الشيخ مبارك الصباح، فحاربهم، واسترضاهم، ولم يتمكَّن من كبْحِ جماحهم ولا من كسب ولائهم، ولكنهم والَوا ابن سعود، ثم حالفوا أبناءَ عمِّه العرائف عليه. خانوه وحاربوه، وغلبوه في بادئِ الأمر. ومع أنهم أصغر القبائل عدًّا، فلا يبلغ المقاتلة فيهم أكثر من خمسة آلاف، فقد تفوَّقوا عليها كلها ونازعوا حتى بني خالد السيادة، قال الشاعر:

وقد قسموا الأحساءَ جهلًا بزعمهم
لعجمانهم شطرٌ وللخالدي شطر

ألمان العرب! هم يُدعَون بهذا الاسم لشدَّة عصبيتهم وبأسهم وتفانيهم بعضهم في سبيل بعض. إذا سُئل الواحد منهم: أتقبل الخير من الله بروحك، يجيب قائلًا: «لا أقبل خيرًا لا يكون للْعُجمان كافة.»

وقد جاءهم ابن سعود، عدو البادية وصديق العرب، بالخير العميم، فرفضوه مرارًا في بادئ أمرهم، بل امتشقوا الحسام عليه كما قلت، ثم زرعوا ذاك الخير فأثمر في الصَّرَّار قطبِ ديرتهم الآن، ولكنهم قبل ذلك زرعوا المكر والخيانة والعصيان. والتاريخ شاهدٌ عليهم خصوصًا في وقعة جراب وفي الحساء.

بعد تلك الوقعة التي لم يَفُز فيها غير البدو من الجيشين عاد ابن سعود إلى القصيم، وابن الرشيد إلى جبل شمر، وكان من الاثنين أن أدَّب الواحد منهما عربان الآخر، فغزَا ابن سعود قبائل من شمر وحرب، وغزَا ابن الرشيد قبائل من مطير، وكان التوفيق حليف الغزوتين.

على أن عبد العزيز لم يقنع بما ناله من البادية، فراحَ يطلب خصمه الذي كان قد رحل مع رجال شمر إلى العراق ثم عاد منه، لكن العجمان أثناء ذلك اعتدَوا على عشائر ابن الصباح فنهبوا مواشيهم، فكتب الشيخ مبارك إلى عبد العزيز يطلب منه تأديبَ المذنبين ورد المنهوبات، فأدركه النجاب في شقرا. وإليها أيضًا جاء رسول من ابن الرشيد يطلب الصلح فجُدِّدت المعاهدة السابقة، ثم أرسل عبد العزيز ابن عمِّه ناصرًا إلى الشيخ مبارك بكتاب هذا فحواه:

لست يا مبارك بصديق صدوق. قد أنالني من العجمان أكثر ممَّا أنالك، فصبرت وتجمَّلت. ونحن الآن في وقت القَيظ، ولا نتمكن من شدته أن نسير بجيش إلى ديرة العجمان. والأمر الثاني هو أني في رَيب من صلح ابن الرشيد، فأخشى نكْثَ العهد إذا أنا غادرت نجدًا ودخلت في حرب والعجمان. والأمر الثالث نفقات هذه الحروب وقد تكاثرت عليَّ فضاقت في سبيلها الأسباب. والأمر الرابع يا حضرة الوالد هو أني أخشى أن يلجأ العجمان بعد الحرب إليك فتنقلب عليَّ كما فعلت يوم سعدون والظفير. ومن رأيي في كلِّ حال أن نؤجِّل المسألة إلى فصل الصيف.

فكتب مبارك إلى «ولده» أن الأمر لا يُؤجَّل، وأصرَّ على استرجاع المنهوبات، فأجابه عبد العزيز أن العجمان لا يُرجِعون ما ينهبون إلَّا مكرهين — إلا بحرب — خصوصًا وأنه، أي مبارك، مسلفهم الإساءة، ثم قال:

فإذا عزمت على محاربتهم تعطيني عهد الله وميثاقه أن تُعينَني بالمال والرجال، وألا تسلك في سياستك معهم مسلكًا غير مسلكي، ولا تستقبلهم إذا لجئوا إليك، ولا تتوسط بالصلح بيني وبينهم.

عاهده الشيخ مبارك على ذلك — عهد الله! فمشى عبد العزيز إلى الحساء بفرقة صغيرة من الحضر والبدو في صيف هذا العام (١٣٣٣ﻫ / ١٩١٥م)، وكان العجمان عندما علموا بقدومه قد رحلوا تجاه قطر، فحشد جيشًا من أهل الحساء وزحف جنوبًا متقفِّيًا أثرَهم.

قد كان الحرُّ شديدًا فلا يُستطاع المشي ناهيك بالقتال نهارًا، ولم يكن لديهم رواحل، فأسروا ماشين فوصلوا إلى مكانٍ يُسمَّى كنزان كان العدو معسكرًا فيه. وكانت أشجار النخل في الليل تبدو كأنها بيوت من الشعر، فشرعوا يُطلقون عليها الرصاص. سكت العجمان وراء ذاك النخيل حتى أسرف أهل الحساء ذخيرتهم على الأشجار، ثم خرجوا من مكامنهم فلفُّوا بهم وهاجموهم من وراء، فتلاحموا واستمروا طيلة ذاك الليل في عراك كانت العماوة فيه شجاعة، وكانت الفوضى أخت الهول وسيدة الظلام.

جُرِح عبد العزيز في تلك الليلة، وقُتِل أخوه سعد، ودارت الدائرة على رجاله، فعادوا منهزمين إلى الحساء، فتقفَّاهم العجمان ونزلوا قُرْب الهفوف فحاصروها ثلاثة أشهر.

كتب عبد العزيز إلى أبيه ليستنفر أهل نجد، وإلى الشيخ مبارك يستنجده، فسارع أهل نجد للنجدة بقيادة محمد بن عبد الرحمن ومعه أحد العرافة سعود بن عبد العزيز الذي فرَّ سابقًا من الخرج وانضم إلى ابن الرشيد وحارب معه في وقعة جراب. فلما رأى ابن عمِّه عبد العزيز في تلك المحنة استفزَّتْه الحميَّة فعاد إليه تائبًا مناصرًا.

ولكن أعداء ابن سعود الآخرين تحفَّزوا للوثوب عندما سمعوا بحرب العجمان، فنكث ابن الرشيد عهد الصلح، ومشى إلى بُريدَة يريد احتلالها، أما الشريف حسين، الذي كان قد أمعن في مفاوضاته والإنكليز ليدخل الحرب العظمى مع الأحلاف، فلم يسرَّه هذه المرة عملُ ابن الرشيد، فأرسل عليه ابنه الأمير عبد الله.

زحف الأمير إلى نجد ولكنه علم وهو في الطريق برجوع ابن الرشيد من بُريدَة مدحورًا، فتوقَّف في سيره وعاد مطمئنَّ البال إلى الحجاز.

أما الشيخ مبارك فقد أبطأ في إرسال النجدة التي طلبها عبد العزيز، فكتب إليه ثانية يُذكِّره بالعهد، فجهَّز إذ ذاك ابنَه سالمًا واثنين آخرَين من أولاده بقوة صغيرة — مائة وخمسين رجلًا من الحضر ومائتين من البدو — فجاءوا إلى الحساء وانضموا إلى جيش ابن سعود.

قلت إن العجمان حاصروا الهفوف ثلاثة أشهر؛ أي مدة الصيف. والحقيقة أنهم نزلوا في أماكن تكثر فيها وتتعرج مجاري المياه، فلا يستطيع المهاجمون الوصول إليهم، ولكنهم في آخر ذي القعدة رحلوا منها، فشدَّ إذ ذاك عبد العزيز عليهم.

أمر أخاه محمدًا وسالم الصباح وجنودهما أن يبقوا في مراكزهم، وزحف ليلًا بفرقة من رجاله ومعهم بضعة مدافع. أَسْرَوا ماشين لأن أكثر الإبل كانت قد أُرسِلت إلى نجد لقلَّة المرعى في الحساء، فأدركوا العُجمان في الصباح، وأطلقوا المدافع عليهم، ثم همُّوا بالهجوم، فسارع أولئك العربان إلى ركائبهم وفرُّوا هاربين تجاه الكويت، فلم يتمكن رجال ابن سعود، ولا ركائب لديهم، من اللحاق بهم.

عاد عبد العزيز إلى مقرِّه فأمر أخاه وسالمًا حليفَه بمطاردة العجمان. فجمع الاثنان رجالهما ومشوا كلهم طائعين متآلفين، ولكنهم ما لبثوا أن تفرَّقوا.

أدركوا العُجمان — نعم أدركوهم، فكان الانقلاب وكانت الخيانة. اتفق ابن الصباح وأولئك العشائر العاصية، وهجر حليفه ابن سعود.

لله درُّك يا مبارك! قلتُ إن أعماله آية في التعرُّج والغموض؛ نصفها سرٌّ ونصفها خداع. فقد أرسل يستنجد ابن سعود على العُجمان وقصده أن يزرع العداء بينهما فيتمكن هو من الاستيلاء على الأحساء. هذا هو السر. وقد جاء ابن سعود منجدًا فغلبه العُجمان، فاستنجد بأبيه مبارك فأرسل إليه سالمًا وبقية أولاده، العائلة كلها، وهو يقول في نفسه: جاءت الساعة، ستُحقَّق الآمال.

تصادم ابن سعود والعجمان وشارك حلفاؤه المباركون في القتال، ثم انقلب سالم فجأة فصالح العجمان وأعلن حمايته عليهم. هذه هي الخدعة. وكان مبارك قد كتب إلى ابنه عندما علم أنه اشترك في القتال مع ابن سعود يؤنِّبه ويقول: «أرسلتُك مراقِبًا لا مقاتلًا … إذا غلبَهم ابنُ سعود فنحن معهم يا وْلِدي، وإذا هم غلبوه فلا تردَّهم عنه، ولا تساعدهم عليه.» وقع هذا الكتاب بيد العجمان فكتموه. بانت الخدعة ولكن السرَّ ظلَّ سرًّا.

عندما انقلب ابن الصباح على ابن سعود أرسل محمد بن عبد الرحمن يُخبر أخاه عبد العزيز ويستأذنه بالهجوم على العدوَّين العجمان والمباركين، فأجابه قائلًا: «لا تفعل، كيف نكون حلفاء في أول النهار وأعداء في آخره والناس لا يعرفون حقيقة الحال.»

ثم كتب إلى مبارك يشكو إليه خيانة سالم ويقول: «لم أُقدِم إكرامًا لك على تأديبه.» فكتب الشيخ المريد يذكِّره بأن بينه وبين العجمان صداقة قديمة، ثم قال: «طلبت منك أن تسترجع منهوباتي من العجمان ولم أَقُل لك حاربهم واطردهم من ديارهم.»

قرأ عبد العزيز كتاب مبارك وهو يحتدم غيظًا، فهتف مردِّدًا تلك الكلمة التي يأخذها من فاتحة القرآن إذا هو أعلن الحرب: «إياك نعبد وإياك نستعين! صبرنا على مبارك صبرًا جميلًا، واحتملنا منه شيئًا كثيرًا، وفادينا من أجله بالمال والرجال، وما نحن والله بصابرين إلى الأبد. إياك نعبد وإياك نستعين!»

شدَّ عبد العزيز الرحال وزحف مسرعًا يريد مهاجمة العجمان وابن الصباح، وكان ذلك في محرم ١٣٣٤ /نوفمبر ١٩١٥.

ولكنه حين وصوله إلى معسكر أخيه محمد واستماعه الكلمة الأولى التي فاه بها النجاب الذي كان قد وصل من الكويت، وقف مدهوشًا محزونًا: إِنَّا لله وَإِنَّا إليه راجعون، مات الشيخ مبارك!

١  جدُّهم مذكر بن يام بن أصا بن رافع بن مالك بن جشم بن خيوان بن همدان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤