الفصل الحادي والأربعون

الشريف حسين

إن لسقوط الشريف حسين أسبابًا سياسية وإدارية وخلقية. أما السياسية فأهم ما فيها إغضابه الإنكليز في رفضه المعاهدة الإنكليزية الحجازية التي استمرت المفاوضات بشأنها ثلاث سنوات، ثم إغضابه أمراء العرب وفي مقدمتهم ابن سعود. فقد كان في سياسته العربية يُظهِر غير ما يُبطِن، فيقول مثلًا: إنه مستعدٌّ للتنازل عن عرشه، ولتسليم زمام الأمور إلى مَن يستطيع أن ينهض بالعرب، وهو في أعمالِه غيرُه في أقواله، بل لم يكن ليرى في أمراء العرب الحاكمين غير مَن هو في الدرجة الثالثة أو الرابعة. ولم يكن ليرى في كلِّ البلاد منقِذًا سواه. هذي هي الحقيقة الناصعة، وإن في هذا التاريخ من الأدلَّة عليها ما يُقنِع أشدَّ الهاشميين نزعةً وإخلاصًا.

لنَعُد إذن إلى تلك المعاهدة المشئومة. ما تغاضى الإنكليز عن الحسين بل عن الحجاز لغاية في النفس كما كان يظنُّ بعض السياسيين في الشام وفي مصر والهند. وما اتخذت الحكومة البريطانية بعد مؤتمر الكويت موقف الحياد إلَّا مضطرة؛ لأن سياستها العربية خلال الحرب العظمى وبعدها كانت تستوجب ذلك، بل كانت تحول دون كلِّ عمل سوى الحِياد.

ومع ذلك فقد قال بعض السياسيين هناك، وقالت جريدة التيمس الرسمية: إن الحكومة البريطانية أحسنت صنْعًا بالوقوف موقف المتفرِّج بعد أن رفض الحسين أن يوافق على اقتراحاتها. فلو فعل ذلك لكان في الإمكان إيجاد الوسائل اللازمة لتجنُّب الحالة الحاضرة؛ أي لإنقاذ الحسين.

وقد فاتَهم أنَّ يوم الطائف هو غير يوم تربة، وأنه بعد مؤتمر العقير الذي تسدد فيه الحساب بين حكومة بريطانية العظمى وابن سعود، وبعد مؤتمر الكويت الذي بدَا فيه عجْزُها عن التأليف بين ابن سعود والحسين، لم يَعُد لكلمتها في البلاط السعودي ذاك النفوذ المعروف. لم يَعُد في إمكانها أن تقول لعاهل نجد: افعل هذا أو امتنع عن هذا إكرامًا لي. وليس في إمكانها أو في إرادتها أن تُرسِل الطيارات والسيارات المصفَّحة على الإخوان في الحجاز — كما تفعل في العراق — وكما فعلت في الشرق العربي، وهَبْ أنها أمدَّت الحسين بالسلاح والذخيرة فهو لا يجد في البلاد مَن يلبُّون دعوته للدفاع.

وإليك بعد هذا وذاك بالبرهان القاطع. قد قبل الحسين في الساعة الأخيرة؛ أي في الأيام التي تخلَّلت الاستيلاء على الطائف ووقعة الهدى، أن يفاوض الحكومة البريطانية في تعديل مطالبه، فجاء وفدٌ من مكة إلى دار الوكالة البريطانية بجدة يعرض ذلك على الوكيل، وعاد خائب الأمل يقول: سبق السيفُ العَذَل. هذي هي الحقيقة في موقف بريطانية العظمى تجاه الحسين وتجاه الحجاز بعده، فهي لو شاءت أن تُنقذ «المنقذ الأكبر» بعد سقوط الطائف لما استطاعت، فاتخذت لذلك خطَّة الحِياد تحفظ بها كرامتها في مدة الملك علي القصيرة.

نجيء بعد هذا على ذِكْر أسباب السقوط الخلقيَّة والإدارية. كان الشريف حسين الكل في الكل، حتى في تحرير جريدة القبلة. فقد كان يظن أن مقالاته الافتتاحية تُترجَم إلى اللغات الأوروبية فيطالعها ويهتم بها الوزراء، وأن آراءه في سياسة العالم وسياسة الحياة، من أصغر الجزئيات إلى أكبر النظريات، هي وَحْيٌ مُنزل، وأن تفسيره لبعض آيات القرآن هو أصح من تفاسير الأئمة الكبار، وأنه في الفصاحة والبيان، مثله في العلم، أمير أقرانه، وفريد زمانه، وأنه إذا استصرخ العرب يجيئونه من أقصى الجزيرة سامعين لامعين، وأنه يستطيع، وهو في «المخلوان»١ أن ينقذ البلاد ويؤسِّس الدولة العربية، بل كان يظن أن العالم الإسلامي بأجمعه يبتسم لابتسامه، ويغضب لغضبه، وأن الذين يخدمونه يخدمون العرب والإسلام، ولا يبغون أجرًا غير رضاه.

على أن الذنب في كلِّ ذلك لم يكن ذنبه وحده، كان الحسين صُلْب العود، قويَّ الشكيمة. وقد وُلِد في ظل الكعبة وفي أصفى فروع السليلة النبوية. بيدَ أن غيره ممن سعِدوا بهذه التلائد كانوا معها حكماء، أو أنهم في حياتهم سعدوا كذلك بمن يُخلِص لهم النصيحة، فكانوا يسمعون وينتفعون. أما الحسين فقد كان في عنجهيته فريدًا، لا يسمع غير صوت نفسه وصداها، ولا يقرِّب منه إلَّا مَن كان صدًى لصداه، وصورةً شمسية لما يبغيه ولما يأباه.

إن التبعة والحال هذه في جزءٍ كبير من غرور الحسين هي على أولئك الذين كانوا نظَّارًا وقضاة وكتَّابًا وضبَّاطًا في حكومته، أولئك الذين زانوا الديوان الهاشمي بصُوَرهم البهية — الناطقة بالتسبيح — فكانوا لصاحب الجلالة أعداءً مُدرَّعين، مُدرَّعين بالمداهنة والمداجاة، يسبِّحون ويمجِّدون كلما فاه بكلمة مهما كانت تافهة، وكلما جاء بعمل مهما كان سخيفًا: إي نعم سيدي، من أحسن ما يكون سيدي، وحيٌ منزل سيدي!

وكان كلُّ مَن في الديوان و«المخلوان» يعرف الحقيقةَ إلَّا جلالة الملك الذي كان يعرف ما فوق الحقيقة، ولا يشاء أن يعرف سواها. أدرك الديوان حقيقة البدو مثلًا، ولم يُدرك مثل جلالته حقيقة السيادة المرتكزة على نسب نبويٍّ، وما ضر هذه السيادة إذا نُكِبت وقتيًّا في الحجاز؟

قد اجتمعت في الحسين الأضداد، فكان خياليًّا وكان عمليًّا، بل كان روحيًّا وكان ماليًّا، يتعشق تارةً ما فوق الحقيقة، يسترسل إلى الأوهام، وطورًا يتمسك تمسُّك البخيل بحطام الدنيا. أجل قد كان محبًّا للمال حريصًا جدًّا عليه، فجاء الذهب يوازن ما تراكم من أوهامه، وما اختل من أحكامه وما اسودَّ من أيامه. ولا غرو، فقد كان هذا العربي — في صفته شريف مكة — من أكبر التجار. وقد كان في صفته ملكًا من أكبر الظالمين. ظلم الرعية وظلم نفسه، وظلم كلَّ مَن في حكومته إلَّا المنافقين، المختلسين أمواله وأموال الأمَّة.

في اللغة التركية مثَلٌ يقول: كلُّ مَن له فم يأكل. وقد كان هذا المثل قاعدة الملك حسين في حكومته. إن الذي «يأكل» يشبع، فيحسن عمله.

figure
مكة المكرمة، والحرم الشريف.

والذي لا «يأكل» يظلُّ جائعًا، والجائع لا يستطيع أن يفيد أحدًا من الناس. إنها لقاعدة في الأحكام تدهش حتى «مكيافلي» إمام المتفلسفين بالسياسة والرياء.

إن الرجل الصادق رجل مزعج، فهو يقترح اقتراحات لا يرتاح إليها الملوك، وهو لا يسهِّل الأعمال في كلِّ حال، ولا يقول دائمًا: إي نعم سِيدي. بُعْدًا للصادقين، فإنهم للملوك دواءٌ مرٌّ جدًّا، وهم فوق ذلك يُورِثون صاحب الجلالة الصداع.

أما الذين يتكتفون، ويطأطئون الرءوس، ويقولون دائمًا: إي نعم سيدي، و«يأكلون» ثم «يأكلون» — على شرط أن يكون أكلُهم من فضلات الأسد — فهؤلاء من خير الناس، ومن أقدر الموظفين، ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

قد امتازت حكومة الحسين بعدد من هؤلاء «الأكولين»، الذين خرجوا من جدة قبل خروجه وبعده وفي حقائبهم، أو في المصارف خارج الحجاز، ما أعدُّوه من الأبيض والأصفر للأيام السود.

ومن هؤلاء عبقري في الاختلاس أرسله الحسين إلى أوروبة، عندما قرُب المتدينة من مكة، ومعه عشرة آلاف ليرة ليشتري بها طيارات ودبابات. فراح حضرتُه إلى مصر واشترى بالقيمة عقارات لنفسه.

ومن هؤلاء حامل ختم الوكالة الحجازية، وتاجر الغنم، وقيِّم المطوفين، وسماسرة الجمال والشقاديف. كان تاجر الغنم رجلًا في مكة مُحترَمًا معزَّزًا، ولكنه في البادية ملعون مذموم. فقد كان يُرهق البدو ليُغنيَ السيد الأكبر ويُريش نفسه. يشتري من البدو أغنامهم بأرخص الأثمان ويبيعها للحجاج بأغلاها: «ألف رأس بثلاثة آلاف مجيدي. بِعْناها اليوم يا مولانا بعشرة آلاف. هذه ثلاثة آلاف لأصحاب المال وهذا يا مولانا الباقي.»

ومن هذا الباقي يأخذ الأسد خمسة آلاف أو أكثر، ويعطي الجقَل ألفين أو أقل. إن أمر هذا الجقل لغريب عجيب. فقد كان في رأس المقربين من الديوان الهاشمي، لا لعبقريته بتجارة الغنم و«بالأكل» فقط، بل لتفنُّنه بأخبار السوء عن نجدٍ وابن سعود، تلك الأخبار التي كان يُتحِف الملكَ بها.

– «السنة سنةُ جدْب في نجد، قد جفَّت الآبار وهلك ألوف من البُل (الإبل).»

– «صحيح! سبحان الله، أنت يا ابني أعلم الناس بأحوال نجد.»

– «ابن سعود «مصخن» سيدي، مضروب بالرئة. يقولون: السل، وهذا الداء لا يعيش صاحبه.»

– «صحيح؟ صحيح؟ سبحان الله! لا يصدقني الخبر غيرك.»

– «وقد خرجتْ عليه قبائل الحساء، وهم يقولون إنهم لا يبغون غير الملك حسين.»

– «هذا الذي أقوله دائمًا يا ابني، ستخرج عليه القبائل كلُّها. وكلُّها تجيئنا إن شاء الله.»

ولم تكن تجارة الغنم بتجارة الشريف الوحيدة، فقد كان يتقاضى المطوفين والخبازين والجمالة قسمًا من أرباحهم. إن هناك رسومًا للحكومة يدفعها الحجَّاج، وفوق تلك الرسوم كان الحسين يتقاضى المطوفين نصف ليرة عن كلِّ حاج. جاءه أحدُ أولئك المطوفين ذات يوم يقول: «حجَّاجي كلُّهم فقراء لا يبذلون … ما في فلوس.» وقصد المطوف أن يُعفَى من الضريبة الشريفية. فأجابه الشريف: «إي يا ابني، كلهم أولادنا، والفقراء نساعدهم. لا تأخذ شيئًا منهم، ولا تطالبهم بشيء. كلُّهم أولادنا ويجب أن نساعدهم.»

عمل المطوف بأمر مولاه فأعفى حجَّاجه من الزيادات، ولكنه بعدئذٍ أمر بدفع الرسم نصف ليرة عن كلِّ حاج، فدفع المال من كيسه.

وهناك بابٌ آخر من أبواب هذه التجارة العجيبة. قد كان الحجاج الذين يبغون الزيارة يدفعون خمس عشرة ليرة أجرة الجمل من مكة إلى المدينة المنورة، يدفعونها لعمَّال الملك، فيدفع جلالته للجمال خمس أو ست ليرات، أما ما تبقَّى فمعظمه للأسد ويَسيرُه للأجقال.

كثيرة هي القصص التي تُروَى في الحجاز، دليل حبِّ الحسين للمال، ودليل حرصه الشديد عليه. سألت مرة أحد عبيد القصر عن الأجرة التي يتناولها، فقال: «قلَّما نقبض شيئًا من المال ونخشى أن نطلب؛ لأن جلالة الملك لا يُجِيب الطلب ويوبِّخنا. قد ردَّني مرة بلطف ونصحني ألَّا أحمل المال. وهو يقول: المال يفسد الرجال … الحسين؟ هذا الحسين!»

أفصح العبد عن فكره بقبضة يده، ثم قال: «ولكنه صاحب عقل والله، عقل كبير. هو يكتب في الجريدة أشياء عجيبة، وكلها من رأسه والله، هو من الدواهي وصاحب فراسة، لا يمكنك أن تُخفيَ شيئًا عنه، يُلقي عليك نظرَه فتعطيه سرَّك حالًا. وإذا ما أخذ شيئًا من لسانك، يستنطق أهداب عينيك والله، ولكنه — أعاد العبد تلك الإشارة وهو يهزُّ قبضة يده — ومع ذلك هو يقول: المال يفسد الرجال.»

إني خاتم هذا الفصل بقصة أخرى قصَّها عليَّ أحدُ عمَّاله الكبار. مما هو معروف أن الحكومة البريطانية كانت في الحرب العظمى تمدُّ الحسين بالمال، ويرجِّح العالمون بشئون الحجاز والثورة العربية أن مجمل ما أرسلته إليه هو مليون ومائتَا ألف ليرة. على أن الدفعات الأولى، التي كانت الواحدة منها تبلغ مائة وخمسة وعشرين ألف ليرة لم تكن حسب ادعائه كافيةً للتجنيد. فأوفد أحد وزرائه إلى مصر ليقابل العميد البريطاني هناك، يومئذٍ السر روجينلد ونغيت، فيُعلمه بالأمر ويطلب ضعف القيمة.

جاء الوزير، وكان في طلبه بليغًا، فأبرق العميد إلى حكومته بلندن فسمعت الحكومة، وأجابت بعض الطلب، فأضافت خمسة وسبعين ألف ليرة إلى القيمة التي كانت تُرسَل إلى جدة.

أبرق الوزير إلى صاحب الجلالة الهاشمية، وهو مسرور بهذا الفوز؛ لأنه كان يرجو منه زيادةً في راتبه القليل، وبعد أيام عاد إلى جدة على ظهر مُدرَّعة إنكليزية، هي أبهة الحرب، يا لها من أبهة!

وعندما وصل إلى جدة استقبلتْه الحكومة استقبالًا فخمًا، وسار في موكب عظيم إلى مكة، فوصلها قبل غروب الشمس، فأمره صاحب الجلالة أن يبقى خارج البلد، لتتمكَّن الحكومة في صباح اليوم التالي من استقباله استقبالًا يليق بمقامه.

وكان صاحب الإقبال الوزير المحترم يفكِّر دائمًا بما ستكون قسمته من الخمسة والسبعين ألف ليرة. واحد بالمائة فقط؟ أو زيادة قليلة في راتبه؟ إنه لراضٍ بذلك.

دخل مكة دخول الفاتحين، وبعد أن قابل مولاه، واستراح من أتعاب السفر، جاء إلى زميله وزير المالية يسأله إذا كان جلالة الملك أمرَ بشيء، فأجابه الوزير: «قد أمر بأن نخصم من حسابك راتب شهرين مدة غيابك.»

١  ديوان الملك الخاص.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤