تمهيد

تحدثنا في الجزء السابق من هذه الموسوعة عن أمجد عصر وصلت إليه البلاد المصرية في عهد ملوك البطالمة الأول؛ فقد بلغت أقصى مدى عزها وسلطانها في عهد «بطليموس الثاني» واستمرت تدرج في معارج السؤدد في الشرق حتى نهاية حكم العاهل العظيم «بطليموس الثالث» الذي كاد يسيطر على كل بلاد الشرق في باكورة حكمه لولا هبوب ثورة في أرض الكنانة أوقفت زحفه المظفر على أملاك السليوكيين؛ ومن أجل ذلك عاد إلى مصر فجأة ليطفئ نار هذه الثورة التي لم يكن يتوقع هبوبها، وعلى الرغم من الحروب المظفرة التي قام بها هذا العاهل على «أنتيوكوس الثالث» وما أظهره من نشاط علمي واجتماعي وديني في كل أنحاء البلاد؛ فإن بوادر الانحلال والانحدار والانقسام قد بدت تظهر في البلاد بسبب ما كان يكنه المصريون أهل البلاد من حقد وكراهية لأولئك الأجانب الذين سلطهم عليهم ملوك البطالمة فساموهم سوء العذاب بابتزاز الأموال وأعمال السخرة حتى طفح الكيل، ولم يبق في القوس منزع. وقد كان المصريون يتحينون الفرص للتخلص مما حاق بهم من ظلم وإجحاف.

والظاهر مما سبق أن نهاية عهد «بطليموس الثالث» كان بداية انحدار سلطان البطالمة نحو الهاوية التي أخذوا يتردون فيها رويدًا رويدًا حتى جاء يومهم الموعود، ولولا صلابة عود «بطليموس الثالث» وما أُوتيه من قوة شكيمةٍ وحسن سياسة لاشتدت المقاومة، وساءت الأحوال إلى أقبح مما كانت عليه؛ ومن أجل ذلك فإنه لم يَكَدْ يواري التراب رفات «بطليموس الثالث» هذا، حتى أخذت علامات الوهن والضعف تظهر في داخل مصر وخارجها، وبخاصة أنه قد تولى عرش البلاد بعده طفل صغير لا حول له ولا قوة وهو «بطليموس الرابع»، فطمع في ملكه ملوك البلاد الهيلانستيكية المجاورة، وفي نفس تلك الفترة برزت روما في عالم سياسة الشرق، وادعت الوصاية على ملك مصر؛ فكانت حربًا على أعدائه، وحامية له.

ولقد كان من حسن حظ مصر وقتئذٍ أن ساعدتها الأحوال السياسية فصدت غزو «أنتيوكوس الثالث» عن مصر وهزمته هزيمة منكرة في موقعة «رفح» التي تُعتبر من المواقع الحاسمة في تاريخ الشرق القديم عامة وفي تاريخ مصر خاصة؛ فقد قضت على آمال «أنتيوكوس» وأطماعه في مصر، وأصبحت معرة له في كل الشرق، أما في مصر فقد جاءت نتيجة هذه الموقعة ذات حدين؛ وذلك لأنها قضت على خطر الغزو الأجنبي الذي كان يهدد كيان مصر كدولة مستقلة من جهة، ولكن من جهة أخرى أتاحت لأبناء البلاد المصريين الذين اشتركوا للمرة الأولى في عهد البطالمة في حروب مصر الخارجية أن يخرجوا من غمار هذه الموقعة ولواء النصر معقود فوق رءوسهم؛ ومن ثم أخذوا يحسون بمكانتهم في جيش البطالمة الذي كان يتألف حتى ذلك الوقت من جنود أجانب مرتزقة من الإغريق والمقدونيين، أضف إلى ذلك ما كان يقاسيه هؤلاء الجنود هم وأبناء جلدتهم من ظلم وخسف وسوء معاملة وامتهان في كل مرافق الحياة على أيدي الحكام الأجانب الذين كانوا يسيطرون على زمام الأمور في البلاد جميعًا.

وبهذه الأحاسيس والمشاعر أخذ الجنود المصريون الذين أسهموا في إحراز النصر في معركة «رفح» يقلبون ظهر المجن لحكام البلاد الأجانب، وبدأوا يدبرون الفتنة للتخلص من نير الحكم الأجنبي، وبخاصة عندما علموا أثناء موقعة «رفح» أن الجنود الإغريق قد برهنوا على خيانتهم وتخاذلهم. ومن الغريب أن رجال بلاط البطالمة كانوا يعرفون تمام المعرفة أن المواطنين المصريين كان لا يؤمن لهم جانب، ولا يمكن الاعتماد على إخلاصهم، غير أن مقتضيات الأحوال كانت قد اضطرتهم إلى أن يجندوهم في جيشهم العامل للمرة الأولى في تاريخ البطالمة، وكان في ذلك الطامة الكبرى على حكم البطالمة؛ فقد اندلعت نار الفتنة بين رجال الجيش المصري العائدين من ميدان القتال على الحكم البطلمي، وامتد لهيبها بين كل طبقات المصريين الذين كانوا ينتظرون هذه الفرصة ليخلصوا أنفسهم من ويلات الحكم الأجنبي ومَظَالِمِه التي أصبحت تزداد على مر الأيام، وكانت الأحوال مُهَيَّأَة لهم وقتئذ في الداخل والخارج؛ وذلك أن «بطليموس الرابع» في آخر أيامه كان قد أصبح رجلًا مسلوب الإرادة يعيش في عالمٍ سداهُ الفسق ولحمته الفجور، وتحيط به حاشية سلبته كل قوة وسلطان، وفي النهاية نسمع فجأة أن «بطليموس الرابع» وزوجه «أرسنوي» قد أُعْلِنَتْ وفاتهما، وأن «بطليموس الخامس» ابنهما قد تولى عرش البلاد وهو لا يزال في طفولته عام ٢٠٥ق.م، وكان الوصي عليه أسرة «أجاتوكليس» التي ضربت المثل الأعلى في الفجور والظلم والخلاعة، وبخاصة أنها اتُّهمت بقتل الملكة «أرسنوي» زوج «بطليموس الرابع» مما أحفظ الشعب الإسكندري عليها، وكان أول عمل قام به الإسكندريون هو القضاء على هذه الأسرة بأبشع صورة تدل على منتهى التفنن في التنكيل والتعذيب.

ولما كانت البلاد المصرية وقتئذ مهددة بخطر غزو ملك سوريا «أنتيوكوس الثالث» فإن الإسكندريين نَصَّبُوا وصيًّا كانوا يثقون فيه يُدعى «تليبوليموس» وكانوا يظنون أنه كان رجل حرب وسياسة، غير أنه لم يلبث أن فُضح أمره، وتكشفت الأحوال عن أنه رجل فسق وخلاعة، وأنه ليس بالرجل الكفء لمواجهة الأحداث والمخاطر التي كانت تهدد البلاد في الداخل والخارج؛ ففي الداخل قام المصريون الوطنيون بثورة عارمة كانوا قد بدأوا بإشعالها في نهاية حكم «بطليموس الرابع» واستمروا في تغذيتها وتنظيم صفوفها حتى أصبحت شرًّا مستطيرًا على حكم البطالمة، وبخاصة عندما نعلم أن الثوار قد أقاموا لأنفسهم حكومة، ونصبوا عليها ملكًا يقودهم في ساحة القتال للقضاء على الاستعمار البطلمي الذي نزف دماء الأهلين.

وفي الخارج نجد أن «أنتيوكوس الثالث» ملك سوريا و«فيليب» ملك مقدونيا قد تآمرا سويًّا على تقسيم مصر وأملاكها، وفعلًا انقض «فيليب» على ممتلكات مصر المجاورة له؛ فاستولى على «تراقيا»، ثم توالت فتوحاته في بحر «إيجا» و«آسيا الصغرى»، وعلى أية حال كانت خسارة مصر عظيمة؛ إذ لم يَبْقَ تحت سلطانها في تلك اللحظة من أملاكها في «آسيا الصغرى» إلا «أفيسوس». أما «أنتيوكوس الثالث» فإنه بسبب سوء الأحوال في مصر كان في حلٍّ من مهاجمة «سوريا الجوفاء» والاستيلاء عليها، وفعلًا سار في زحفه حتى أصبح على أبواب أرض الكنانة، وقد عُزيت سرعة تقدمه إلى عدم كفاءة «تليبوليموس» ومجونه، فعزله أهل الإسكندرية، وولوا مكانه وصيين هما «أريستومين» قائد الحرس و«سكوبوس» رئيس القرصان الأتولي المنبت، وقد نجح الأخير في الاستيلاء على «سوريا الجوفاء» ثانية، غير أن «أنتيوكوس» لم يلبث أن استردها ثانية.

وكان من جراء ذلك أن قامت العداوة والبغضاء بين الوصيين، وانتهى الأمر بقتل «سكوبوس» الذي كان قد جمع ثروة طائلة مما أدى إلى إفلاس خزينة الدولة. وعلى أية حال نجد أن السلام قد خيم على ربوع الإسكندرية، وعندئذ انتهز «أريستومنيس» هذه الفرصة وأعلن بلوغ الملك سن الرشد، وكان قصده الأول تخليص «بطليموس الخامس» من نير الوصاية الرومانية.

وبعد ذلك تُوِّج «بطليموس الخامس» للمرة الأولى في العهد البطلمي فرعونًا على مصر على الطريقة المصرية القديمة، وكان الغرض الأول من هذا التتويج الفرعوني الصبغة هو إرضاء الشعب المصري الذي كان يتمسك بمصريته وقوميته طوال عهود تاريخية. وقد كان في تنفيذ هذا العمل الجليل إرضاء لرجال الدين بوجه خاص؛ لأنهم كانوا دائمًا المسيطرين على مشاعر الشعب وتوجيهه من الوجهة الدينية، وقد كان رجال بلاط الإسكندرية يبتغون من وراء ذلك إخماد نار الثورة التي كانت قد بدأت فعلًا في عهد «بطليموس الرابع»، غير أنه في هذه اللحظة تحدثنا الوثائق عن ظهور بطل مصري يُدعى «خرمخيس» في إقليم طيبة، أخذ يقود الثورة التي كانت من قبل قاصرة على الوجه البحري، وفي هذه الأثناء أخذ رجال البلاط الإسكندري يلعبون الدور الميكاڨيللي المشهور وهو فرق تسد بين كهنة الوجه القبلي وبين كهنة طيبة. وعلى أية حال تحدثنا الأخبار أن الملك حاصر الثوار في الوجه البحري في بلدة «ليكوبوليس» وقضى عليهم، وبعد ذلك أرسل جنودًا لقمع الثورة في الوجه القبلي، غير أن الملك لما رأى الأمور أخذت تتحرج في البلاد بدأ يستميل رجال الدين بوجه خاص؛ فأصدر المرسوم الشهير الآن بحجر رشيد في ٢٧ مارس عام ١٩٦ق.م، ونقرأ فيه أن الملك أغدق على الكهنة من الإنعامات والهبات وحبس الأوقاف على المعابد مما جعلهم ينحازون إلى جانبه؛ بل ويساعدونه عينًا جهارًا على الثوار. وهذا المرسوم فضلًا عما جاء فيه لإرضاء رجال الدين نجد فيه ما ينم عن ميل الملك وبلاطه لإرضاء الشعب؛ بتخفيف الضرائب، والعفو عن المذنبين، والنزول عن الضرائب المتأخرة، والاهتمام بالحيوانات المقدسة، وعبادة الآلهة، وإحياء الشعائر الدينية المصرية القديمة. وقد نُشر هذا المرسوم بلغات ثلاث، وهي: الهيروغليفية والديموطيقية واليونانية؛ لتكون فائدته وأخباره عامة بين الناس.

على أنه في الوقت الذي كانت تدور فيه رحى الحروب الداخلية في البلاد كانت علاقات مصر مع الممالك المجاورة لها على أسوأ ما يكون، وبخاصة مع «أنتيوكوس الثالث» فإنه كان يرغب في السيطرة على مصر لولا تدخل روما وقتئذٍ بعد انتصارها على «فيليب» ملك مقدونيا عدوها العتيد، وقد استسلم «أنتيوكوس» لإرادة «روما» التي كانت تريد وقتئذ من جانبها فرض وصايتها على مصر، وبخاصة عندما نعلم أنه قد حدثت فتنة في جيش «أنتيوكوس»، غير أن الأخير لم يلبث أن استرد ثقته بنفسه وتحالف مع «هنيبال» عدو روما اللدود، وأخذ يعمل على التحالف مع مصر من جديد عن طريق المصاهرة، وفعلًا زوج ابنته «كليوباترا» من «بطليموس الخامس» وبذلك زعم أن السلام سيسود بين الأسرتين، ويقصي نفوذ روما عن مصر.

وقد قدم «أنتيوكوس» مهرًا لابنته «سوريا الجوفاء» غير أن هذا المهر كان مثارًا للمناقشات والمخاصمات بين البلدين بسبب غموض الوثيقة الخاصة بهذا المهر، وقد تم هذا الزواج في شتاء عام ١٩٣-١٩٢ق.م في بلدة «رفح»، وقد دلت الحوادث على أن هذه المصاهرة لم تكن في صالح «أنتيوكوس» وأسرته، بل كانت على عكس المطلوب، وبخاصة عندما أرادت مصر الاستيلاء على «سوريا الجوفاء» مهر «كليوباترا» ابنة «أنتيوكوس». وفي تلك الفترة مات «أنتيوكوس الثالث» وتولى بعده ابنه «أنتيوكوس الرابع»، كما تُوفي «بطليموس الخامس» وتولى بعده «بطليموس السادس» وهو لا يزال طفلًا تحت وصاية الملكة «كليوباترا» عام ١٨٠ق.م، وقد آثرت الأخيرة مهادنة روما ومحالفتها والبقاء على الولاء لها؛ للمحافظة على ملك ابنها، مما برهن على بعد نظرها، وقد ظلت كذلك حتى حضرها الموت وهي لا تزال غضة الإهاب، وعلى أثر وفاة هذه الملكة وقع ابنها «بطليموس الصغير» في قبضة وصيين هما: الخصي «يولاوس» وعبد آخر يُدعى «لناوس» وهو من أصل سوري.

ومما يؤسف له أن هذين الوصيين قد عملا على تدريب الملك الصغير على أنواع الخلاعة والفجور، وبذلك خلا لهما الجو في حكم البلاد، وعلى أثر بلوغ «بطليموس السادس» السن القانونية أعلن الوصيان تقليده حكم البلاد كما أعلنا زواجه من أخته «كليوباترا» التي لُقِّبَت «كليوباترا الثانية»، وقد اتخذ هذان الوصيان هذه الخطوة تخلصًا من الوصاية الرومانية، وعلى أية حال لم يمض طويل زمن على هذا الزواج حتى قامت منازعات بين «بطليموس السادس» و«أنتيوكوس الرابع» على «سوريا الجوفاء» التي كانت مصر تعتبرها مهرًا ﻟ «كليوباترا الأولى»، وقد انتهى الأمر بقيام حرب انتهت بهزيمة مصر، واستيلاء «أنتيوكوس» عليها، وأعلن نفسه ملكًا عليها. غير أن أهالي الإسكندرية لم يرضوا بذلك، فولوا أخ الملك المخلوع وهو «بطليموس السابع» عرش الملك، وأعلنوا خلع «بطليموس السادس» وعدم الاعتراف ﺑ «أنتيوكوس»، ولما علم «أنتيوكوس الرابع» الذي كان وقتئذ في «منف» بالأحداث التي وقعت في الإسكندرية ثار ثائره، وأخذ يسير على حسب سياسة جديدة؛ فقد أعلن أنه يريد إعادة «بطليموس السادس» إلى عرشه؛ فحاصر مدينة الإسكندرية، وقد انتهى هذا الحصار بإعادة «بطليموس السادس» إلى عرش الملك، ثم غادر «أنتيوكوس» البلاد المصرية تاركًا حامية قوية في «بلوز»؛ ليبقى الباب مفتوحًا أمامه إذا حدثت أحداث جديدة تدعو إلى عودته.

وقد رأى «فيلومتور» أن من الخير له ولبلاده أن يتفق مع أخيه «بطليموس السابع»، وانتهى الأمر بأن حكما البلاد معًا، غير أن هذا الاتفاق الذي حدث بين الأخوين لم يُرضِ «أنتيوكوس الرابع» فزحف بجيشه على مصر، وفرض شروطًا مجحفةً حدد لها موعدًا؛ ومن ثم استجارت مصر بجيرانها وبروما خاصة؛ فخضع «أنتيوكوس» لتهديدات مجلس الشيوخ.

غير أن دوام الوئام بين الأخوين لم يدم طويلًا، ومن ثم قامت الحروب والفتن بينهما، وامتد أجلها مدة طويلة إلى أن مات «بطليموس السادس» بعد أن ضم سوريا إلى مصر، وأصبحت مملكة واحدة لمدة من الزمن، وقد لعبت «روما» في خلال ذلك دورًا مشينًا بين الأخوين كان الغرض منه تمهيد السبيل للاستيلاء على مصر.

وعلى أية حال فإن عهد انفراد «بطليموس السابع إيرجيتيس» بالحكم بعد وفاة «بطليموس السادس» قد تميز بطابع جديد في حكم البلاد؛ إذ نجده بعد زواجه من أخته «كليوباترا الثانية» أشركها معه في حكم البلاد فعلًا، ولم يَمْضِ طويل زمن حتى تزوج من ابنة «كليوباترا الثانية» بعد أن افترعها غصبًا، وهي التي تُعْرَف باسم «كليوباترا الثالثة» وأشركها كذلك معه في الحكم، وقد قامت منازعات وخلافات في طول البلاد وعرضها بسبب ذلك، مما أدى إلى انقسام البلاد شطرين؛ أحدهما يدين بحكم «كليوباترا الثانية» والآخر يدين بحكم «بطليموس السابع» و«كليوباترا الثالثة». وقد انتهى الأمر بعد وقوع مآسٍ عدة بالصلح بين الطرفين، وأصبح كل من «بطليموس السابع» و«كليوباترا الثالثة» و«كليوباترا الثانية» يحكم البلاد ثانية بوصفه ملكًا، وقد كانت هذه أول ظاهرة نرى فيها المرأة تحكم جنبًا لجنب مع ملك البلاد في أرض الكنانة بصورة فعلية، وسنرى فيما بعد أن هذه الحالة قد استمرت حتى نهاية العهد البطلمي؛ أي في عهد «كليوباترا العظيمة».

على أن أبرز ما يُشَاهَد في عهد كل من «بطليموس» الخامس والسادس والسابع الذي انتهى عام ١١٦ق.م هو سير البلاد نحو الهاوية، ويرجع السبب في ذلك إلى تدخل الرومان في شئون مصر والعمل على السيطرة عليها، ويُعزى ذلك إلى ضعف ملوكها وانحلال أخلاقهم واستسلامهم، يُضاف إلى ذلك استيقاظ الشعور القومي في البلاد، وقيام الثورات على حكام البطالمة؛ مما أدى إلى تمزيق أوصال البلاد حتى أصبحت الفوضى ضاربة أطنابها في كل المدن والقرى على السواء.

وعلى الرغم من سوء أحوال مصر في الداخل وفي الخارج نجد أنه في عهد هؤلاء الملوك الثلاثة كانت تُقام المباني الدينية العظيمة التي لا تزال باقية حتى الآن، وبخاصة معبد إدفو ومعبد كوم أمبو ومعبد الفيلة … وغيرها من روائع الآثار المصرية، وقد امتدت الإصلاحات الدينية في عهد هؤلاء الملوك فضلًا عن ذلك إلى بلاد النوبة؛ غير أن الفضل في ذلك يرجع إلى ما كان للكهنة المصريين من نفوذ وسلطان في البلاد وإلى ما كان يبذله هؤلاء الملوك من هبات عظيمةٍ لإرضاء هؤلاء الكهنة بأية وسيلة؛ لما لهم من قوة ونفوذ في كل أنحاء البلاد، وهكذا نجد أن المصري حتى في أقسى حالات الاستعمار كان يثبت وجوده، وقد ظل كذلك حتى الفتح العربي.

ومن الظواهر الملموسة في هذا العهد أنه على الرغم من محاولة إرضاء المصريين بإصلاح القوانين وسن التشريعات الجديدة نرى أن الأحوال كانت تسير من سيئ إلى أسوأ، ويرجع السبب في ذلك إلى كراهية أهل مصر ونفورهم من الحكام الأجانب الذين كان قد دبَّ في أخلاقهم الفساد من كل الوجوه حتى أصبح كل إصلاح لا قيمةَ له، وحتى بين المصريين أنفسهم نجد أنه على الرغم من روح المقاومة أخذ دبيب الانحطاط يتفشى بين طبقات الشعب، وانحطت القيم الأخلاقية والدينية، وأخذت الخرافات والأساطير تحل محل الدين، وأبرز شيء يدل على ذلك أن القوم أخذوا يغالون في عبادة الحيوان لدرجة السخف حتى إنه قد أصبح في كل بيت حيوان يُعبد أو يُقدس، ومن ثمَّ خرجت عبادة الحيوان عن مغزاها الأصلي، ومن أجل ذلك أفردنا بابًا خاصًّا عن عبادة الحيوان في العهد المتأخر عامة، وبخاصة عبادة العجل «أبيس» والعجل «منفيس» والعجل «بوخيس»، وعلى الرغم مما جاء من غموض في عبادة الحيوان في تلك الفترة فقد حاولنا وضع بعض النظريات إلى أن تكشف لنا أعمال الحفر ما يميط اللثام عن النقاط المبهمة في هذا الموضوع العويص.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤