أول القيود

لَمَّا شرع الإنسان يخرج من الغابة، ويزاول الزراعة؛ أخذ يعتقد العقائد عن الأرض والسماء، وأصل الناس ومصيرهم، ودواعي الشؤم واليُمن، وجلب السعادة لنفسه والأذى لغيره، وكانت عقائده الأولى بعيدة عما نفهمه الآن من الدين؛ فنحن نفهم الآن من الدين أن الماء يطهر، وأنه لذلك سبيل الوضوء للمتدين، ولكنه كان يفهم أن الماء أصل النبات، وأنه غسول يغتسل به الجسم من الأقذار؛ أي أنه بدأ ينظر نظرًا علميًّا للأشياء، نظر الحس والمشاهدة.

فلما تقادم الزمن أخذ يتصوف في نظره، وينسب للأشياء المحسوسة أغراضًا أُخرى، فكان مثلًا يعتقد أنه إذا أكل الخنزير صار لحمُ هذا الخنزير في لحمه هو، فمن البديهيات أنه يصير هو نفسه خنزيرًا؛ فامتنع لذلك عن أكل الخنزير، وكان في نظره هذا عالمًا وإن كانت وسائل التحقيق لديه غاية في الضعف. ولكن جاء الخلف فتصوَّفوا، وحرَّموا الخنزير، وبنَوا تحريمهم على آراء دينية صوفية.

وكان عند الإنسان الأول — كما لا يزال للآن عند المتوحشين — جملة محرمات كلها «طَبُو Tabu»، فالخنزير «طبو» يجب ألا يُمس، وبعض الحيوان أو الطيور «طبو» يحرم قتلها وصيدها، وزوجة الرجل أو زوجاته حلال له «طبو» لغيره، أي حرام على هذا الغير أن يمسهن، وما زلنا نسمي النساء «حريمًا» أي يحرم على غير زوجهن أن ينظر إليهن؛ لأنهن «طبو» له.

والطبو أصنافٌ عديدة، ذكرنا منها مثال الخنزير الذي يجب ألا نأكله؛ لئلا يتجسم في جسمنا، فهو لذلك نجس، وقد يكون طائرًا تتوهم القبيلة أنه أبوها، فيجب ألا يُقْتَل؛ رعاية لأُبوَّته، فعندئذ يسمى «طوطمًا»، وقد يكون ملكًا للغير كالنساء يحرمن على غير زوجهن.

فالطبو هو أصل الآداب الأخلاقية، وهو أيضًا أول قيود الحرية الفكرية، وقد كان في الأصل يعبر عن نظر علميٍّ فج، لم ينضج، استحال لقلة وسائل التحقيق والعلم إلى عقيدة دينية، فلما ارتقت الأمم بعض الارتقاء، وصارت إلى طبقات؛ نشأت فيها طبقةُ الكهنة السحرة، الذين يعرفون الناس بأنواع الطبو، فزادت أنواع الطبو بذلك جمودًا وتعدُّدًا؛ لأنه انضاف إلى قوتها قوةُ مصالح الكهنة، ولا يزال في العقائد الدينية الفاشية الآن أنواعٌ جديدة من الطبو: فالبقرةُ في الهند لا تؤكل عند الهندوكيين، والخنزير كذلك عند اليهود.

وأول أنواع الطبو هو «الطوطم»؛ أي طائر أو حيوان أو شجرة يحرم على أفراد القبيلة أن يَمَسُّوها، أو أن ينظروها، أو أن يأكلوا شيئًا منها، وتعتقدُ القبيلةُ أن الطوطم هو أصلها الذي تنتمي إليه؛ فله لذلك حرمة. ثم يرتقي الطبو من ذلك إلى أن يصير نواهيَ أدبية، تنهى الناس عن بعض الأفعال، فوصايا موسى الصحية مثلًا هي أنواع من الطبو.

وقد يظن البعض أن المتوحش أكثر حرية منا، ولكن الواقع أنه مَحُوطٌ بأنواع مختلفة من الطبو تقيِّد فكرَه، وتمنعه من أن يصيد هذا الحيوان، ومن أن ينطق بهذه الكلمة، ومن أن ينظر إلى هذه الشجرة، وهلم جرَّا؛ وذلك لأنها كلها تقريبًا طبو.

وعند ظهور الآلهة وانتظام العبادة؛ ازداد الكهنة قوة، وجمدت نواهي الطبو، فتقيد فكر الإنسان. إنما يجب أن نذكر أن الآلهة القديمة لم تكن في قوة آلهة الأديان الحاضرة؛ لأنها لم تكن قادرة على كل شيء كما يعتقد الآن المسيحيُّ أو المسلم في إلهه، فكان بين الإنسان وبين ربه مجال للفكر في جملة موضوعات، لا يستطيع أهلُ الأديان الحاضرة أن يفكروا فيها ما لم يتناقضوا مع ما ذكرتْه الآلهة.

وخلاصة كلامنا هو:
  • (١)

    أن الإنسان القديم كالمتوحش الحديث، لم يكن حر الفكر؛ لأن نواهي الطبو كانت كثيرة.

  • (٢)

    أن الإنسان بدأ ينظر للأشياء التي حوله نظرًا علميًّا ساذجًا، ولكنه؛ لقلة وسائل التحقيق كان نظره فجًّا، فلَمَّا تقادم الزمن جمدت آراؤه العلمية فصارت عقائدَ دينية، فالماء في الأصل غسول يغسل به، فلما تَقادَم الزمن صار يُستعمل للطهور والوضوء.

  • (٣)

    كانت الآلهة القديمة غير قادرة على كل شيء، فكان في عجزها هذا بعض التيسير للحرية الفكرية، وعجزها هذا يرجع إلى نظر الإنسان العلمي؛ لأن كل إله قديم كان في الأصل شخصًا حيًّا، فلما مات بقي من حوله من الأحياء يعتقدون أنه حيٌّ غائب؛ لأنهم لم يفهموا طبيعة الموت، فلم ينسبوا إليه القدرة على كل شيء؛ لأن هذه الصفة التي لا يمكن أن تُنْسَب إلى الأحياء لا يمكن أيضًا أن تُنْسَب إليهم بعد غيابهم فيما نفهمه الآن بأنه موت.

  • (٤)

    لَمَّا ارتقى الإنسان بعض الرقي خَفَّت سلطة الطبو، واستأثر الآلهة بالسلطة، واندمج ما تبقى من نواهي الطبو في الديانات الإلهية، فاتسعت بذلك الحرية الفكرية بعض الاتساع.

وقبل أن نختم هذا الفصل ينبغي أن نؤكد شيئين للقارئ، يجب عليه ملاحظتُهما في هذا الكتاب: أولهما أن النظر الديني كان في الأصل نظرًا علميًّا، لا شائبة فيه، يقبل الجدل والتمحيص، وأنه صار بعد ذلك نظرًا دينيًّا قائمًا على الجزم؛ لقلة وسائل التحقيق عند الإنسان الأول، ولأن طبقة من الناس رأتْ من مصلحتها أن تروِّج العقائد الدينية وتعيش منها؛ ولذلك كانت المعابدُ — قديمًا — أمكنةً لدراسة العلم، وكان الكاهن عالمًا.

والملاحظة الثانية: أن الدين في نفسه لا يُمكنه أن يضطهد العلم، وإنما الاضطهاد يرجع إلى الكهنة، ولكن الكهنة أنفسهم لا يمكنهم أن يضطهدوا أحدًا ما لم تكن السلطة في أيديهم، فالذي يقيِّد حرية الفكر، والذي اضطهد الناس؛ هي السلطة الحكومية، وما دام الدين بعيدًا عن الحكومة فإنه لا هو ولا كهنته يمكنهم أن يضطهدوا أحدًا.

أما إذا صارت الدولة والدين جسمًا واحدًا أمكن رجال الدين أن يضطهدوا من يشاءون، وأن يقيدوا الفكر كما يشاءون؛ فالاضطهاد الذي كابده الناس في الماضي من رجال الدين إنما كابدوه لأن هؤلاء الرجال كانوا قابضين على أَزِمَّة السلطة في الدولة، ونحن فيما يلي من فصولِ الكتاب إذا ذكرنا الاضطهاداتِ الدينيةَ لا نذكرها عيبًا على الدين عن ذاته، بل تقريرًا لِمَا يفعله الحاكمُ — متسلِّحًا بالدين.

ورجال الحكم أشغفُ بالدين، وأكثر استعمالًا له سلاحًا يرهب به الناس من رجال الدين بالحكم، بل ربما نزع رجل الدين إلى الزهد، ولكن رجل الدولة والحكومة يحتاج إلى الدين لكي يستطيع أن يخيف به العامة؛ لأن الدين يزيد سلطانه، فلا يُقصر على هذا العالم، بل يمتد إلى العالم الثاني؛ ولذلك نجد أن رجلًا مثل ميكافيلي يقول: إنه يجب على الأمير — أي: الحاكم — حماية الدين، ولو كان هو نفسه لا يؤمن به؛ لأن الدين يعاونه على حكم الجماهير، وعلى تثبيت سلطانه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤