الفصل الأول

المنهج التكاملي وتصنيف الوقائع النفسية

(١) التعليل العلمي والتصنيف

لا يهتم العلم بالوقائع من حيث هي وقائع فحسب، بل من حيث هي وقائع منظمة تربطها علاقات معينة ثابتة، ولا يتم التفسير العلمي لمجموعة من الوقائع إلا بإدخالها في نظام من العلاقات أو من الشروط المتلازمة، أو بعبارة أخرى في نظام من المراجع، وموقف العالم شبيه بموقف المستكشف الجغرافي الذي يعين على الخريطة موضع البحيرة التي اكتشفها مبيِّنًا أبعادها من مواقع أخرى معلومة، وموضِّحًا طبيعة البحيرة وخصائصها في ضوء معلوماته السابقة لخصائص المنطقة التي توجد فيها البحيرة.

ولا يكون العالم أبدًا بصدد واقعة واحدة منعزلة، بل بصدد شبكة من الوقائع، وليس وجود الواقعة المنعزلة سوى وجود افتراضي مجرد. وكذلك يكون الإنسان في حياته العملية بصدد مجموعات من الظواهر والوقائع تختلف درجة تنظيمها باختلاف الأغراض التي يُرْمى إليها، فهناك تنظيم عملي يقتضيه التطبيق المباشر للمعلومات العملية التي يكتسبها المرء خلال تجاربه اليومية الاتفاقية، ويكون هذا التنظيم في أبسط صوره بمثابة تصنيف للأشياء التي يستخدمها، والتي تدخل في نطاق ما يعالجه من أمور في نواحي نشاطه المختلفة، ويكون مبدأ التصنيف في العادة التمييز بين النافع والضار؛ ليكون العمل سريعًا منتجًا. وتتمثل مختلف التصانيف التي ينشئها المرء لتنظيم حياته العملية في اللغة التي يستخدمها، فكل لغة تتضمن تصنيفًا للموجودات والحوادث، وكل تصنيف لفئة من الموجودات أو من الحوادث ينطوي على نوع من التفسير والتعليل، فالعلاقات التي تتضمنها الجُمَل ليست سوى تعبير عن العلاقات التي تبدو للمتكلم أنها موجودة فيما يلاحظه من وقائع أو فيما يتصوَّره من حوادث.

غير أن التصانيف التي تنطوي عليها التعبيرات اللغوية الجارية، وبالتالي التفسيرات التي تتضمنها تلك التصانيف، ينقصها الشمول الذي يمتاز به التصنيف العلمي القائم على مبادئ موضوعية بعيدة عن المقاييس الذاتية المرتبطة بوجهة النظر النفعية، كما تنقصها أيضًا الدقة التي يرمي إليها التفسير العلمي المستند إلى قوانين قابلة لأنْ تصاغ صيغة كَمِّية رياضية، والحاجة إلى التصنيف واضحة، خاصة في علوم الموجودات الحية كعلم النبات وعلم الحيوان؛ لأن الكائنات الحية تمتاز بتعقُّد بنائها إذا قيس ببناء الأجسام الجامدة، ويكاد يكون التصنيف في علم الكيمياء عامًّا شاملًا، وهذا دليل كافٍ على تقدُّم هذا العلم أو على إمكان تقدُّمه بطريقة مطَّردة ثابتة، أما التصنيفات البيولوجية فهي — وإن كانت قد وصلت إلى درجة كبيرة من الدقة والنظام — لا تزال قابلة للتعديل؛ نظرًا للتضارب القائم بين النظريات الكبرى التي تتناول مشكلة طبيعة الحياة وطبيعة الصلات التي تربط بين مختلف الأجناس والأنواع، ويرجع التفاوت الملاحَظ بين تصنيف الأجسام الجامدة وتصنيف الأجسام الحية من حيث الدقة إلى أن خصائص الجوامد أبسط من خصائص الأحياء وأكثر ثباتًا، فالجامد لا ينمو في حين أن الحي ينمو، الجامد قابل للزيادة والنقصان عن طريق الجمع والطرح دون تقيُّد بقوانين بنائية، في حين أن الحي لا يزداد إلا عن طريق التمثيل مع الاحتفاظ بشكله وبنائه، وفي حدود خاصة تعيِّنها القوانين البنائية، وإلا اختلَّ النظام الحي وظهر المرض،١ وما يقال عن صعوبة التصنيف في العلوم البيولوجية يقال بالأحرى عن تصنيف الوقائع النفسية، فالحياة النفسية هي أيضًا نظام؛ أي أنها خاضعة لقوانين بنائية توضِّح تركيب الذهن وبنائه، وهي قبل كل شيء نشاط، أي أنها خاضعة لقوانين وظيفية تعيِّن مراحل النمو والتقدُّم، مشيرة إلى تآزر العمليات المختلفة التي تقوِّم الوحدة النفسية الجسمية التي تكوِّن الإنسان، وإضافة إلى ذلك تُعِين معرفة القوانين البنائية والقوانين الوظيفية على كشف المراحل التي يقطعها النشاط السيكولوجي مع تحديد صلة كل مرحلة بما يسبقها وما يتبعها من مراحل.

فالتصنيف في علم النفس خطوة أولى نحو التفسير العلمي الصحيح، ولكن التصنيف مرهون بمدى الحقائق التي وصل إليها العلم، كما أن اطِّراد التقدم العلمي في الكشف عن الحقائق مرهون بدوره بقيمة التصنيف الذي يعيِّن للباحث معالم المجال الذي يبحث فيه، يجب ألا ننظر إلى هذا الأمر نظر المنطقي الذي لا يتناول في تفكيره سوى المجردات، فيقول: إن مثل هذا الموقف ينطوي على دور عقيم لا يمكن الخروج منه. الواقع أن هناك تعاونًا متبادلًا بين التصنيف وبين تقدُّم المعرفة، فازدياد الحقائق يؤدي إلى تحطيم الإطار القديم، وبالتالي إلى توسيع الآفاق وإعادة بناء المعلومات القديمة في ضوء الحقائق الجديدة، وسيتضح لنا هذا فيما يلي عند عرضنا للمنهج التكاملي في علم النفس تمهيدًا لتوضيح التصنيف الجديد المقترح.

(٢) التصنيف واللغة

يوجد تضامن وثيق بين المعرفة والعمل، فالمعرفة تتسع باطِّراد العمل وتقويمه، كما أن العمل يزداد إتقانًا ونفاذًا باتساع المعرفة. ويلخص الإنسان تجاربه المختلفة وما يختبره في نفسه من حالات وما يشاهده في الآخرين من سلوك وتصرفات في اللغة التي يستخدمها، واللغة على اختلاف طرق تعبيرها هي الوسيلة الوحيدة للتفاهم، ولا بد من أن تتخذ اللغة نظامًا يطابق إلى حد كبير نظام العقل نفسه، ومن المعلوم أن قواعد اللغة أو قواعد التعبير اللغوي تشبه كثيرًا قواعد المنطق، ووجه الفرق الأساسي يرجع إلى أن قواعد اللغة أكثر مرونة من قواعد المنطق؛ لأنها أكثر خضوعًا لتأثيرات الحياة والنشاط العملي، قابلة للتطور أكثر من قواعد المنطق التي تمثِّل نواحي العقل المجرد عن العوامل الانفعالية، ومما هو جدير بالملاحظة أن عدد الألفاظ التي تدل على العمليات العقلية العليا التي تمتاز بدرجة كبرى من التجريد والتعميم قليلة بالقياس إلى الألفاظ التي تدل على الحالات الوجدانية المختلفة وعلى الفوارق الدقيقة الموجودة بين حالتين متقاربتين، وهذه المعاني التي تدل على شتى الحالات الوجدانية والانفعالية مرتبطة عادةً بالمعاني التي تدل على أشكال مختلفة من الحركات والأفعال، كما أنها مرتبطة بالظروف الخارجية التي تحيط بالحالة النفسية وما يصحبها من حركات وأفعال، ويتضح هذا في جلاء إذا تصفَّحنا بعض كتب اللغة التي تصنِّف الألفاظ حسب المعاني، أو كتب الفروق اللغوية ككتاب أبي الهلال العسكري، وَلْنُشِرْ على سبيل المثال إلى ما جاء في الباب الثالث والعشرين من هذا الكتاب في الفرق بين البِشْر والبشاشة وبين طلاقة الوجه، ثم بين السرور والفرح والجذل والحبور، ثم بين الهم والغم، وبين الحزن والكرب والكآبة والبث، وبين الغم والحسرة والأسف، ويبدو لنا أن اللغة فيما يختص بوصف الحالات النفسية ودقائقها اللطيفة قد ذهبت إلى أبعد ما يمكن أن يذهب إليه التحليل العلمي، وهذا أمر يسهل تعليله؛ لأن العلم يرمي إلى أحكام كلية عامة، فهو مضطر بحكم أساليب بحثه ومنهجه إلى أن يعزل ويفصل، حيث لا يوجد في الواقع عزل ولا فصل، وأن يضم من جهة أخرى أمورًا إلى غيرها مراعيًا فقط أوجُه الشبه الجوهرية، مهملًا الفوارق الدقيقة التي سيكون من شأن الشاعر أو الأديب إبرازها ووصفها؛ ولهذا يبدو علم النفس العلمي بعيدًا كل البعد عن التحليلات الأدبية للحالات النفسية؛ فلغة العلم جافة غريبة لا يستسيغها الذوق؛ لأنها مجردة من الشُّحْنَة الوجدانية التي تضفيها الحياة على أساليب الشاعر والأديب، ولكن لغة العلم تمتاز بالدقة، كما أنها تمتاز بالوضوح لمن تعلمها، غير أن معظم مصطلحات علم النفس لا تزال مستمدَّة من اللغة العامة، ولكن العالِم يحاول تحديد دلالة الألفاظ العادية بحيث يزول اللبس، وبحيث يصبح اللفظ رمزًا لمعنى معيَّن أو لوظيفة معينة، ولنأخذ مثلًا الألفاظ الثلاثة الآتية: شعر وأحس وأدرك، فهي تعتبر في اللغة من المترادفات، والدليل على ذلك ما تُعرَّف به هذه الألفاظ في قواميس اللغة؛ فنجد أنَّ شعر به معناه علم أو أحس به، وحسَّ وأحسَّ الشيء وبالشيء علمه وشعر به وأدركه، وأدرك المسألة علمها، أدرك الشيء ببصره رآه، وتُعرَّف المدارك بأنها الحواس، والمشاعر بأنها الحواس أيضًا.

أما إذا رجعنا إلى كتب علم النفس فإننا نرى أن كل معنى من هذه المعاني الثلاثة يُمثِّل مسألة من مسائل علم النفس الكبرى، فيُعْقَد فصل في الشعور consciousness ودرجاته، ثم فصل آخر في الإحساس sensation، وفصل ثالث في الإدراك preception، وفي الكتب الحديثة يُقْصَد بالإدراك إدراك العالم الخارجي.٢

ولا شك في أن كل إدراك يستلزم إحساسًا، وأن كل إحساس لا بد أن يكون مصحوبًا بشعور؛ ولهذا السبب جمعت اللغة بين المعاني الثلاثة، ومما لا شك فيه أيضًا أن العلم لا ينكر هذه الصلة القائمة بين هذه الوظائف الثلاث، غير أنه ينظر إلى كل منها من وجهة خاصة، فالشعور شرط ضروري لكي يكون هناك حالات نفسية — وإن لم تكن جميع الوقائع النفسية شعورية يمكن الشخص أن يختبرها مباشرة — وترمي دراسة الإحساس إلى معرفة الشروط الفسيولوجية والنفسية للتأثر شعوريًّا بالخصائص الحسية، أما دراسة الإدراك فإنها مقصورة على دراسة الشروط اللازمة لإدراك موضوعات العالم الخارجي في المكان.

وهناك حقائق نفسية أعم مما ذكرنا كان من اليسير تمييز بعضها من بعض، فلدينا أولًا التفرقة بين الظاهر والباطن، ثم التمييز بين الباطن المادي والباطن اللامادي، وتتمثَّل التفرقة بين الظاهر الملموس والباطن غير الملموس في التمييز بين الجسد والعقل، أو بين الجسم والنفس، فيُقال مثلًا: ضُعف الجسد أو ضَعفه، ولكن يجب أن يُقال فقط: ضَعف الرأي والعقل،٣ كأن هناك اشتراكًا بين الجسد والعقل على الرغم من تمايز الواحد عن الآخر، وميَّزت اللغة بين الحركة التي تنطلق بذاتها ولذاتها دون أن تكون موجَّهة والحركة التي تنطلق موجَّهة وحاملة في ثناياها دلالة خاصة، فقد مُيِّز بين الصياح وهو رفع الصوت بما لا معنى له والنداء وهو رفع الصوت بما له معنى.٤
وميَّزت اللغة أيضًا بين الحالة النفسية التي يختبرها الشخص وبين آثارها الحركية كالتعبير الذي يقوِّي ملامح الوجه، فالفرق بين الحزن والكآبة مثلًا أن الكآبة أثر الحزن البادي على الوجه،٥ ومثل هذه الأمثلة كثيرة في لغتنا، ولعل اللغة العربية أكثر اللغات تحليلًا لأوجه الحالات النفسية المختلفة وما يصاحبها من تعبيرات.

(٣) التصنيف التقليدي للظواهر النفسية

يرجع التصنيف التقليدي للوظائف النفسية إلى تصنيف قوى النفس، أو كما نقول ملكات النفس facultés de l’âme، وكان يُربَط عادة بين القوى ومركزها في الجسم، فيقسم أفلاطون النفس إلى ثلاثة أقسام: العقل nous ومركزه في الدماغ، القوة الغضبية thumos ومركزها في الصدر وبالأخص في القلب، والقوة الشهوانية épithumia ومركزها في البطن.

وقد ذكر الغزالي نفس هذا التقسيم ولكن بألفاظ أخرى، فذكر القوة الربانية (العقل) والقوة السبعية (الغضب) والقوة البهيمية (الشهوة).

غير أن أفلاطون لم يدرس النفس الإنسانية دراسة منظمة مستقلة، بل ضمن دراسته للكون بأجمعه، وليست دراسة النفس سوى فرع من علم الطبيعة، وبين عالم المحسوسات كما يتراءى لنا وعالم المثل الذي يكتشفه التذكر توجد صلة هي صلة النفس العالمية التي هي مبدأ كل نظام وكل حركة وكل حياة وكل معرفة، ومن هذه النفس الكونية تنسلخ النفوس الفردية.

فلا تجد في فلسفة أفلاطون علمًا للنفس مميزًا من غيره مقصورًا على دراسة الظواهر الداخلية.٦

أما مؤسس علم النفس فهو أرسطو، غير أنه اعتبره جزءًا من علم الحياة، ويميل العلم الحديث إلى إدخال علم النفس من جديد في دائرة علم الحياة.

ونجد عند أرسطو تصنيفًا منظَّمًا لملكات النفس ووظائفها، ويقوم هذا التصنيف على التمييز بين وظائف المعرفة والعلم من جهة، وبين وظائف الحركة والفعل من جهة أخرى.

وظائف المعرفة وهي قسمان: حسية وتشمل الإحساس والتذكر والتخيُّل وتداعي المعاني، وعقلية وتشمل المعنى الكلي والحكم والاستدلال.

وظائف الفعل وهي قسمان: حسية وتشمل الميول والانفعالات والأهواء، عقلية وهي الإرادة الحرة.

ظل هذا التصنيف متبعًا في القرون الوسطى حتى جاء ديكارت فاستبدل به تقسيمًا آخر قائمًا على دراسة أحوال النفس أو ظواهرها، فميَّز بين الأحوال المنفعلة modes passifs وهي العقل، وبين الأحوال الفاعلة modes actifs وهي الإرادة الحرة.
وينقسم العقل إلى قسمين:
  • (١)

    المعاني، وهي إما فطرية أو حسية أو خيالية.

  • (٢)

    الانفعالات، وهي بمثابة معانٍ غامضة.

أما الإرادة الحرة فتنقسم إلى قسمين أيضًا:
  • (١)

    الحكم.

  • (٢)

    الأفعال.

ويلاحَظ في هذا التقسيم الثنائي أن الحالات الوجدانية والانفعالية لا تكوِّن فئة مستقلة، بل اعتُبرت جنبًا من العقل entendement.
ولم يظهر التقسيم الثلاثي الذي يميز بطريقة واضحة بين العمليات العقلية المؤدية إلى المعرفة وبين الحالات الوجدانية والانفعالية، ثم بينهما وبين وظائف الحركة والفعل إلا في القرن الثامن عشر تحت تأثير جان جاك روسو Rousseau في الأدب وكنت Kant في الفلسفة، ولا يزال هذا التقسيم الثلاثي في بعض الكتب المدرسية بمثابة الإطار العام لترتيب الموضوعات والفصول، فتبعًا لهذا التقسيم تشمل الحياة النفسية أولًا: الحياة العقلية vie intellectuelle، ثانيًا: الحياة الوجدانية vie effective٧ وثالثًا النشاط الحركي والفعل vie active،٨ ويتمثل هذا التقسيم الثلاثي في العنوان الذي أطلقه العالم الأمريكي سكريبتشر E. W. Scripture على كتاب في علم النفس أصدره عام ١٨٩٥م: Thinking, feeling, doing أي التفكير والوجدان والفعل.

(٤) التصنيف الثلاثي في كتب علم النفس العربية الحديثة وأوجُه الاعتراض عليه

لا شك في أن لهذا التصنيف الثلاثي مزايا عملية لتبسيط دراسة الحياة النفسية، غير أنه تبسيط مُخِلٌّ بالواقع؛ لأن مثل هذا التصنيف جامد يُغْفِل ديناميكية الحياة النفسية ويجرِّدها من أخص مزاياها، وهي تواصل مراحلها في الزمان والترابط الوظيفي الذي يربط بين الوقائع الوجدانية والتصورية والفعلية، فلا توجد حالة نفسية تكون وجدانية أو تصورية أو فعلية فحسب، فلكل حالة نفسية — مهما كانت مقصورة على الناحية التصورية — بطانة وجدانية تأثرية، فضلًا عن أن الفكرة تميل إلى أن تتحقق في الخارج في صورة حركية.

وقد عدل كثير من مؤلفي كتب علم النفس المدرسية عن ذكر هذا التقسيم وعن اتخاذه إطارًا لتنظيم الوقائع النفسية، وهم يؤثرون المنهج التكويني الذي يتتبع مراحل النمو منذ الطفولة حتى اكتمال الحياة النفسية، ثم دراسة تفكُّكها وانحلالها بتأثير المرض والشيخوخة، وأحسن مثال لهذا التصنيف كتاب فلورنس جودينف.٩
غير أن كتب علم النفس المدرسية المنشورة باللغة العربية لا تزال متمسكة بهذا التصنيف الثلاثي على الرغم من جموده ومن الاعتراضات التي وُجِّهت إليه،١٠ أضف إلى ذلك أنه يبدو أن المعرِّب الأول الذي أخذ عنه الآخرون لم يوفَّق في نقل المصطلحات الأجنبية إلى اللغة العربية، فيقال لنا: إن الظواهر النفسية تنقسم إلى إدراك ووجدان ونزوع،١١ ويُقْصَد بالإدراك العمليات المؤدِّية إلى التصور والمعرفة، وبالنزوع الظواهر التي تمتاز بالنشاط والحركة.

ويمكن الاعتراض على هذا التصنيف بالوجه الآتي:

من المعلوم أن الشرط الأساسي لكل تصنيف صحيح وافٍ أن تكون عناصره مميَّزة بعضها عن بعض تمام التمييز، وهذا التمييز محقَّق بين الإدراك والوجدان من جهة، وبين الإدراك والنزوع من جهة أخرى، ولكنه معدوم إلى حد كبير بين الوجدان والنزوع، وربما يرجع هذا اللبس إلى غموض معنى الوجدان ومعنى النزوع، فللوجدان معنيان على الأقل: الأول هو النفس وقواها الباطنة، وبهذا المعنى تكون الوجدانيات ما يجده كل أحد في نفسه من حالات شعورية، أو ما يدركه مباشرةً بالقوى الباطنة أو بالحواس الباطنة données immédiates de la conscience، أما الثاني فهو الشعور بالألم واللذة والحزن والفرح والشوق … إلخ، أي الشعور بالوجد، ومعناه في كتب اللغة الحزن والفرح أو الخوف أو الوَلَه أو العشق أو الدلع، وبهذا المعنى ينطبق الوجدان على ما يسمى بالفرنسية affectivité، وبالأخص على الميول والانفعالات والأهواء، ويطابق هذا المعنى أيضًا ما اصطلح عليه الصوفية، وبالأخص ابن عربي إذ عرَّف الوجد: ما يصادف القلب من الأحوال المضنية له من شهوده.

أما النزوع فمعناه في اللغة الميل والرغبة والشوق وأيضًا التشبُّه والمحاكاة، فإذا اعتبرنا هذا المعنى اللغوي المباشر يتضح لنا أن النزوع يدخل في دائرة الحالات الوجدانية، وكلنا نعلم مدى الصلة الموجودة بين اللذة والألم وبين الميول والنزعات.

وللنزوع معنى فلسفي يمكن استخلاصه مما كتبه ابن سينا في هذا الصدد،١٢ نلاحظ بادئ ذي بدء أن ابن سينا يجمع بين النزوع والشوق ولا يميز بينهما، إذ يقول: القوة النزوعية والشوقية هي القوة المحرِّكة على أنها باعثة، والقوة النزوعية والشوقية هي القوة التي إذا ارتسم في التخيل صورة مطلوبة أو مهروب عنها حملت القوة التي نذكرها على التحريك، ولها شعبتان: شعبة تسمى قوة شهوانية وهي قوة تبعث على تحريك يقرب به من الأشياء المتخيلة ضرورية أو نافعة طلبًا للذة، وشعبة تسمى قوة غضبية وهي قوة تبعث على تحريك يدفع به الشيء المتخيل ضارًّا أو مفسدًا طلبًا للغلبة.

فيما سبق يعتبر ابن سينا القوة المحرِّكة من حيث هي باعثة، وهناك اعتبار آخر من حيث هي فاعلة، والقوة المحركة الفاعلة هي قوة تنبعث في الأعصاب والعضلات من شأنها أن تشنج العضلات فتجذب الأوتار والرباطات إلى جهة المبدأ أو تُرخيها وتمدها طولًا فتصير الأوتار والرباطات إلى خلاف جهة المبدأ.

ويقول أيضًا في عيون الحكمة (ص٢٩): القوة المتحركة هي مبدأ انتقال الأعضاء بتوسط العصب والعضل والإرادة، والمقصود من القوة المحرِّكة في هذا النص الأخير القوة المحركة على أنها فاعلة.

يتضح لنا — في ضوء النصوص السابقة — أن النزوع أقرب إلى الوجدان منه إلى الحركة من حيث هي فعل وتنفيذ، وإذا أردنا أن نقسم الظواهر النفسية إلى وجوه ثلاثة بحيث يكون كل وجه جامعًا ومانعًا في آن واحد كما يقول المناطقة، فلتكن القسمة كالآتي: علم «لا إدراك فقط»، وجدان بما فيه النزوع والشوق، وأخيرًا نشاط وفعل. ولكن على الرغم من ذلك فإنه لا يزال ناقصًا بعيدًا عن الواقع، فالعمليات العقلية المؤدية إلى المعرفة والعلم هي نشاط، كما أنه لا بد من بواعث، سواء للتفكير أو العمل، كما أنه أيضًا لا يمكن أن توجد حالة وجدانية دون أن تكون مصاحبة بحكم عليها كأن نحكم ولو حكمًا ضمنيًّا أن هذا الألم شديد وذاك ضعيف … إلخ، وكذلك يمكن القول: إن النزوع — أي الباعث على حد تعبير ابن سينا — لا يكفي لاستكمال الحركة، خاصة إذا راعينا الحياة النفسية في الإنسان وما يجب أن نفهم عليه الإرادة الإنسانية التي لا تتم إلا بتوسط الفكر والعقل، فالنزوع لا يعبر إلا عن الإرادة الحيوانية، إرادة جذب النافع طلبًا للذة، ودفع الضار والمؤذي طلبًا للغلبة.١٣

وفي إمكاننا أن نعود إلى نصوص ابن سينا لنلتمس تقسيمًا أوفى وأدق من التقسيم الشائع، فابن سينا يميِّز بين النفس الحيوانية المشتركة بين الحيوان والإنسان، وبين النفس الناطقة الخاصة بالإنسان، فيقول إن للنفس الحيوانية قوتين: مدركة، ومحرِّكة، وللنفس الناطقة أيضًا قوتين: عالمة، وعاملة. والمدركة في الحيوان تناسبها العالمة في الإنسان، والمحركة في الحيوان تناسبها العاملة في الإنسان، فيكون لدينا قسمان رئيسيان: إدراك وعلم من جهة، وحركة وعمل من جهة أخرى، وينطوي القسم الثاني على الناحية الوجدانية، إذ إن القوة المحركة من حيث هي باعثة تؤدي — تبعًا لابن سينا — إلى النزوع والشوق والشهوة والغضب.

(٥) المنهج التكاملي

يرجع نقص التصنيف التقليدي إلى نقص المنهج الذي اتُّبِع في الكشف عن الحالات النفسية وتحليل مظاهرها.

وهذا المنهج هو الاستبطان الذي لا يدرك إلا ما يبدو للشعور في لحظة ما دون الوصول إلى ما وراء الحالات الشعورية من عوامل وشروط ترجع إلى تركيب الطبيعة الإنسانية وإلى خبرات الماضي التي تمتد آثارها إلى الحاضر.

فنتائج الاستبطان محدودة للغاية — صناعية وتجريدية — تغلب عليها الصبغة الاستاتيكية الجامدة، فقد يذهب الاستبطان إلى تجاوز الحدود التي تحتِّمها طبيعة الموضوع لعملية التحليل لكي لا تشوه هذا الموضوع بردِّه إلى عناصر مجردة افتراضية وإلى حالات بسيطة مفكَّكة، فلا بد إذن من البحث عن منهج يلائم طبيعة الحياة النفسية ويراعي تعقُّدها وتواصُل مراحلها واتجاه تطورها، مع الإشارة دائمًا إلى هذه الحركة الحية التي تربط بين مختلف المراحل التي تؤدي بالفردية البيولوجية إلى الشخصية الفاعلة المتكاملة، وهذا المنهج هو المنهج التكاملي الذي يتخذ من الشخصية المحور المركزي لجميع الدراسات السيكولوجية.

وليس معنى التكامل بالمعنى الجديد في علوم الأحياء، فإنه يمكن تتبُّع فكرة التكامل منذ أرسطو حتى عصرنا هذا في مصنفات الفلاسفة والعلماء الذين نظروا إلى الإنسان كوحدة نفسية جسمية لا تتجزأ، وقد ساهَمَ علماء الفسيولوجيا — وخاصة علماء تكوين الأجنة — في توضيح عملية التكامل في الكائن الحي، ونخص منهم بالذكر شرنجتون وفون موناكوف ودريش وكوجيل وسبيمان وجولدشتين.١٤
كما أنَّا نجد الروح التكاملية توجه بعض المدارس السيكولوجية التي تركِّز دراستها حول الشخصية رافضة الأخذ بالتفسير الميكانيكي، كما تصنع مثلًا المدرسة السلوكية البحتة، ومراعية ما تمتاز به الحياة النفسية من نشاط ذاتي وغائية، ونلمس هذه الروح التكاملية في بحوث أدولف ماير A. Meyer وتلامذته وفي المدرسة السيكوسوماتية في الطب Psychosomatic medicine.
وقد وصلنا إلى استخلاص معالم المنهج التكاملي في أثناء دراستنا المقارنة للسلوك الحيواني وسلوك الطفل في السنتين الأولى والثانية من عمره، وقد نشرنا هذا البحث عام ١٩٣٩م بعنوان بزوغ الذكاء،١٥ ثم عملنا على توضيح هذا المنهج في أثناء تدريس علم النفس بكلية الآداب بجامعة القاهرة منذ عام ١٩٤٠م. وقد وصلنا نهائيًّا إلى التصنيف الذي سنعرضه بإيجاز في الفقرة السادسة في خلال عام ١٩٤٢م، ولم تُتَح لنا فرصة نشره قبل اليوم.١٦

وقبل ذكر التصنيف التكاملي للوظائف والوقائع النفسية يجدر بنا أن نعرض بشيء من التفصيل لأهم قضايا المنهج التكاملي نفسه، مبيِّنين كيف أن طبيعة الحياة النفسية تتطلب — لكي تُفْهَم فهمًا شاملًا — مثل هذا المنهج دون سواه.

•••

تختلف العلوم باختلاف موضوعاتها، فمنها البسيطة ومنها المعقَّدة تبعًا لطبيعة الموضوع، وبما أن كل علم هو معرفة منظمة لموضوع معين بواسطة مبادئ وقوانين تفسيرية، فلا بد في كل علم خاص من انتهاج منهج خاص يلائم موضوع العلم ويؤدي تطبيقه إلى كشف أكبر عدد ممكن من الحقائق، وتنظيم هذه الحقائق في صورة قوانين عامة شاملة، وكلما ازدادت القوانين شمولًا وتفسيرًا لعدد كبير من الحقائق قلَّ عددها وازداد العلم تنظيمًا ووضوحًا، فالعلوم الرياضية والفلكية مثلًا أقل تعقُّدًا من العلوم الطبيعية التجريبية، فالمنهج في العلوم الرياضية قياسي عقلي لا يعتمد على التجربة إلا عرضًا، في حين أن التجربة والاستقراء يقومان بالدور الأول في العلوم الطبيعية، غير أن المجرِّب لا بد له من اصطناع القياس والاستنتاج الرياضي بجانب ما يقوم به من عمليات التجريب.

وإذا انتقلنا إلى علم الأحياء شعرنا بضرورة توسيع المنهج التجريبي لمراعاة الخصائص الجديدة التي تمتاز بها الكائنات الحية كظاهرة الوظيفة البيولوجية وما تتصف به العمليات الفسيولوجية من اتجاه معين وغائية،١٧ وبالانتقال إلى علم النفس وعلم الاجتماع نشاهد ازدياد تعقُّد موضوعات هذين العلمين؛ لتدخل العناصر النفسية والعقلية كما هي ممثَّلة في الإنسان، وتفاعلها في الجماعات، وفي مثل هذه العلوم الإنسانية يصبح المنهج التجريبي كما هو مطبَّق في العلوم الطبيعية ناقصًا، والقوانين الطبيعية عاجزة عن تفسير الظواهر الإنسانية وبيان ما تمتاز به من صفات جديدة، فكما أنه من الخطأ تشبيه الجسم الحي بالآلة الخاضعة لقوانين ميكانيكية بحتة، يكون كذلك من الخطأ تشبيه النفس الإنسانية أو الجماعية بالجسم الحي دون مراعاة ما تمتازان به من فوارق جوهرية.

ولكن كما أن العلوم المعقَّدة تستند إلى ما هو أبسط منها، فلا شك أن هناك أوجه شبه بين نمو الكائن الحي ونمو النفس الإنسانية أو الجماعة، فيجب الاستفادة بما وصلت إليه علوم الأحياء من حقائق وقوانين للاستعانة على سبيل المماثلة لكشف القوانين الخاصة بالوقائع النفسية والاجتماعية، وهناك خاصية مشتركة بين الكائن الحي والنفس الإنسانية والجماعات، وهي الناحية التكوينية التطورية، أي أنه لا بد من اعتبار المراحل التي يمر بها النمو والترقِّي من نقطة البدء حتى الاكتمال ثم الزوال، أو بعبارة أخرى يؤدي الزمن دورًا هامًّا في تفسيرنا لظواهر الكائنات الحية والظواهر الإنسانية، فالحاضر لا يُفْهَم تمامًا إلا في ضوء الماضي، كما أن معرفة الحاضر تعيننا على التنبؤ بالمستقبل إلى حد كبير.

وإذا اتخذنا الحياة بأوسع معانيها بحيث تشمل الحياة النفسية والحياة الاجتماعية قلنا: إن الحياة حركة ولكنها موجَّهة ترمي إلى غاية معينة، تقوم كل خطوة جديدة على الخطوات السابقة، ولكنها مبدية في كل خطوة جديدة مظاهر وخصائص جديدة على الرغم من قيامها على الماضي.

وبما أن ميزة الحياة هي الحركة والتطور فلا بد أن يكون المنهج ديناميكيًّا تطوُّريًّا لكي يراعي الصلة بين الماضي والحاضر والمستقبل، ولكن ما هي طبيعة هذه الحركة؟ هل هي حركة مطَّردة تسير دائمًا إلى الأمام وفي خط مستقيم كالحركة الميكانيكية؟ أم هي حركة دائرية تعود بالمتحرك إلى نقطة البدء؟ حركة الحياة ليست هذه ولا تلك، فالأولى عمياء في حين أن حركة الحياة موجَّهة تقف عند غاية، والثانية تفيد في نهاية الأمر الجمود والثبات في حين أن الحياة تجديد وتطوُّر.

ولا يمكن كشف طبيعة هذه الحركة — ومن ثم توضيح المنهج الملائم لدراستها وفهمها بطريقة شاملة — إلا بدراسة نظام من الأنظمة الحية كالشخصية أو تكوين مجتمع مثلًا، ولكن هناك اعتراضًا لا بد من الإشارة إليه والرد عليه قبل مواصلة الحديث في طبيعة الحركة المميزة للحياة. كيف يمكن معرفة طبيعة هذه الحركة قبل تحديد المنهج الملائم لدراستها؟ وكيف يمكن تحديد المنهج الملائم بدون معرفة سابقة لطبيعة الموضوع؟ فهنا دور بدون شك لا يمكن الخروج منه، والواقع أن الدور لا يبدو إلا للنظرة السطحية، وقليل من التفكير في طبيعة البحث العلمي كفيل بإزالته.

لنأخذ مثلًا دراسة الشخصية، فإن علم النفس لم يصل إلى ما يعرفه اليوم عن نشوئها وترقِّيها كما يُبْنَى الحائط بوضع صف من الحجر فوق الآخر، لم يصل إلى معرفة الشخصية بطريقة تدريجية بل بطريقة تقريبية، ففي العهد الأول من دراسة الشخصية كان علماء النفس يصطنعون منهج العلوم الطبيعية، فكانوا يحلِّلون الشخصية إلى عناصرها، ثم يركِّبونها من جديد بضمِّ العناصر بعضها إلى بعض كما يصنع عامل الفسيفساء، فكان ينظر إلى الشخصية كأنها مجموعة من السمات دون كشف تنظيم هذه السمات والإشارة إلى عوامل التنظيم التي هي غير هذه السمات المنظمة.

ثم عندما أُريدَ تطبيق هذه النظرة في حالات فردية واقعية اتضح نقصها، فاضطر العلماء إلى إعادة النظر في صلاحية المنهج المتبع ومحاولة تعديله في ضوء البحوث المختلفة التي كثيرًا ما كانت متناقضة. فالمنهج في الواقع هو كالآلة التي تكون في بادئ الأمر غليظة غير دقيقة، ثم يجد الصانع الذي يستعملها فرصًا لتحسينها وصقلها كلما واصل عمله، فالآلة تؤدي إلى نتيجة ما، ثم تساعد هذه النتيجة على تحسين الآلة، وهكذا حتى الوصول إلى الكمال. فإذا كان لدينا مثلًا ثلاث نظريات رئيسية في الشخصية تعاقبت في بحر نصف قرن، فإن كل نظرية ترمي إلى تفسير مظاهر الشخصية بأكملها، ولكن النظرية الثانية التي تحلُّ محلَّ الأولى ليست مجرد إضافة إلى النظرية الأولى، والثالثة إلى الثانية، وهكذا، بل كل نظرية جديدة تكون تعديلًا للنظرية السابقة، هذا التعديل هو بمثابة إعادة نظام النظرية الأولى في ضوء البحوث الجديدة مع الاحتفاظ بالحقائق الجزئية التي تتفق معها ونبذ ما هو مخالف، وهكذا تقرب كل نظرية جديدة من الحقيقة دون الادعاء أنها ألمَّت بها تمامًا.

فمن الخطأ اليوم أن نتصور الشخصية كمجموعة عناصر أضيفت بعضها إلى بعض، كما أنها ليست تأليفًا بين عناصر، بل هي بمثابة نظام كلي يبدأ كنظام، غير أن التمايز الذي يحدث داخل هذا النظام الكلي يتجه في نموِّه من الغموض إلى الوضوح، من اللاتعيُّن إلى التعيُّن، فالشكل الأصلي يزداد تفصيلًا، ولكن التفاصيل والأجزاء التي تزداد تمايزًا بعضها عن بعض تحدث وتنتظم طبقًا لقانون الشكل الأصلي، والاتجاهات التي تشاهَد داخل هذا النظام تكون مزدوجة ومقابلة وفي نفس الوقت متعاقبة: فغموض ثم وضوح، ثم غموض من جديد يعقبه وضوح أكبر، أو اتجاه نحو العالم النفسي الداخلي ثم اتجاه نحو العالم الواقعي الخارجي، ثم عودة إلى الداخل قبل مواجهة الخارج من جديد بأسلوب يزيد الأول ثراءً وقوةً وانسجامًا، أو حالة خضوع تعقبها حالة عصيان ممهِّدة لحالة خضوع جديدة يكون فيها الشخص أكثير اقتناعًا وأعمق تبصُّرًا.

والتيارات المختلفة التي يكشفها التحليل داخل نظام الشخصية في أثناء نموها وترقيها تظهر في أوقات معينة فتُنظَّم بطرق شتى: تآزر من جهة ومقاومة من جهة أخرى، ثم خضوع البعض للبعض الآخر، أو كما في حالات الانحراف والاختلال والأمراض النفسية انفصال أو توقُّف أو زوال أو تضخُّم أو نقص في بعض التيارات دون غيرها، ومن بين هذه التيارات ما يرجع إلى العوامل البيولوجية كالجهاز العصبي وإفرازات الغدد الصمَّاء، أو إلى العوامل النفسية كالانفعالات والعواطف والعمليات الإدراكية والعقلية المختلفة، أو إلى العوامل الاجتماعية من بيئة وما يصدر عنها من إيحاءات وآثار، فتتفاعل هذه العوامل بعضها مع بعض بدرجات متفاوتة تبعًا لطبيعة كل عامل وتغيُّر ظروفه، وهذه العمليات ا لمختلفة من تآزر وخضوع واندماج ومقاومة تؤدي عندما تسير سيرها السوي إلى حالة انسجام واتزان تُعْرَف بحالة التكامل.

فإذا أردنا أن نصف هذه الحركة التي تتقدَّم وترتقي خلال فترات من التراجع والكمون مع الازدياد في التعقُد والثراء وَسَمْناها بالحركة الدائرة اللولبية التي تفيد في نفس الآنِ عمليتي التقدُّم والتراجع النسبي الممهِّد لتقدم جديد. ونلمس هنا حقيقة هامة فيما يختص بجوهر الوجود بوجه عام، فالوجود المتزمن بزمان هو في جوهره صراع وتوفيق في آنٍ واحد، وهذه الفكرة متمثِّلة بدرجات متفاوتة من الوضوح في الأساطير والأديان والفلسفات المختلفة، فيمكن القول: إن كل وجود لا يتم إلا بفضل عامل من العوامل وعلى الرغم منه، فحياة بفضل الموت وعلى الرغم منه، جديد بفضل القديم وعلى الرغم منه، توحيد بفضل الكثرة وعلى الرغم منها، ذاتية بفضل التغير وعلى الرغم منه، سعادة بفضل الشقاء وعلى الرغم منه، حرية بفضل العبودية وعلى الرغم منها، هذا هو لبُّ الوجود وسر التقدم الحقيقي، فالمنهج التكاملي هو الذي يسترشد في بحوثه بهذه الحركة الدائرية اللولبية، فيحاول حصر جميع التيارات التي تساهم في تكوين ظاهرة من الظواهر الإنسانية، سواء كانت نفسية أو تاريخية أو اجتماعية أو خُلُقية أو فلسفية، مع كشف تنظيم هذه التيارات وصلتها بعضها ببعض، ففي دراسته للشخصية مثلًا يرمي إلى الربط بين الماضي والحاضر مع مراعاة مصير الشخصية المحتمل، إذ إن الشخصية تخضع في نموها وترقِّيها لقوانين ديناميكية توجيهية.

ويرمي المنهج التكاملي إلى إعادة تنظيم المنهجين الرئيسين المستخدمين اليوم في علم النفس لتفسير سلوك الإنسان، ولكن على أساس أوسع، وفي ضوء هذه الوظيفة الهامة التي أشرنا إليها باسم الوظيفة الدائرية اللولبية، والتي هي بمثابة العمود الفقري للمنهج، وهذان المنهجان يعتمدان الأول على التفسير التاريخي أو التكويني، والثاني على ما يمكن تسميته بالتفسير الشبكي.

فالتفسير التاريخي أو التكويني يحاول الربط بين الحاضر والماضي، أي بين السلوك كما هو مشاهَد الآن وبين الدوافع والميول وكل ما اكتسبه الفرد في تجاربه السابقة، سواء كانت التجارب من رغبات وذكريات — مشعورًا بها أو لا — ماثلة في الشعور أو منسيَّة.

أما التفسير الشبكي فإنه يتناول الحالة الراهنة أو المظهر السلوكي الراهن كتجربة نفسية من حيث هي تجربة شعورية يصفها الشخص، ذاكرًا بقدر الإمكان كل الخصائص والصفات التي تجعل من هذه التجربة أمرًا فرديًّا وفريدًا في نفس الوقت، هو صورة وافية لحياة الشخص كما يعيشها ويعانيها في اللحظة التي يتأمل فيها.

لا شك في أن الاعتماد على تفسير دون الآخر عاجز عن أن يجعلنا ندرك حقيقة الحالة التي ندرسها، فالتفسير التاريخي يحاول التعليل بربط المعلولات بعللها، ولكنه تفسير ناقص؛ لأن العلم في الواقع عاجز عن أن يقدِّم تعليلًا وافيًا لعدم إمكان حصر جميع الحلقات التي تكوِّن سلسلة العلل والمعلولات.

ثم إذا اقتصرنا على هذا التفسير التاريخي ألفينا أنفسنا أمام تفسير يجرِّد الحياة النفسية من كل حرية، ويخرج من دائرة علم النفس عاملًا أساسيًّا من عوامل تكوين الخلق وهو الإرادة، فهو تفسير يفرض حتمية تسلسل العلل والمعلولات كما يُظهره لنا التحليل العلمي.

والتفسير الشبكي بدوره ناقص؛ لأن مضمون الشعور كما هو الآن وكما أصفه تبعًا لشعوري به هو في الواقع جزء من حياتي النفسية، وإن كان لهذا الجزء أهمية كبرى لأنه يعبر عن الشخصية كما هي في صميمها من حيث اتجاهاتها وأساليبها، غير أن ميزة التفسير الشبكي هي أنه يعتبر من بين العوامل التي يكشفها تأمُّل الشخص لنفسه، أو شعور الشخص بنفسه عامل الحرية والإرادة، سواء في صورة سلبية أو إيجابية كأن يشعر الشخص بأنه مسيَّر ومجبور أو حر ومسيِّر لنفسه إلى حدٍّ ما، سواء كان هذا الشعور بالحرية وبالإرادة الذاتية مجرد وهم — كما يزعم مذهب حتمية الظواهر النفسية — أو حقيقة، فهذا الشعور بالحرية هو أمر واقعي من حيث هو مشعور به، وهو عامل من أهم العوامل التي تساهم في تكوين الخلق وتوجيه الشخصية.

فالتفسيران: التاريخي والشبكي متمِّمان بعضهما للآخر، ولكن المشكلة في التوفيق بينهما، هل يكون التوفيق عن طريق إضافة نتائج التفسير الأول إلى الثاني دون الربط بينهما ربطًا حيًّا، أي دون مزجهما، أو بعبارة أصبح: تنظيمهما داخل تفسير أوسع وأعمق وأشمل؟

يتحقق التوفيق بين المنهجين بفضل المنهج التكاملي الذي يضم الاثنين مع كونه أكثر من الاثنين مجتمعين، فإنهما يتكاملان داخل المنهج التكاملي، ولكن ما هو عامل التكامل؟ للرد على هذا السؤال الهام نُجْمِل ما قلناه عن التفسيرين التاريخي والشبكي:

التاريخي يربط بين الحاضر والماضي، والشبكي يتناول الحاضر، ولكنا نعلم أن لكل كائن حي نموذجًا يتطور لكي ينتهي عند حالة معينة هي حالة البلوغ والاكتمال الجسمي في الكائنات الحية عامة، كأن ما سيصير عليه الكائن الحي يعيِّن المراحل التي سيمر بها لكي يصل إلى غايته البيولوجية، وكذلك للشخصية مصير أو نموذج قابل للتحقيق في المستقبل أو غاية ترمي إليها، غير أن هذه الغاية أصعب تحديدًا من الغاية البيولوجية التي سيحققها كل كائن حي في دائرة فروعه. هناك إذن فكرة موجِّهة كما يقول كلود برنار يُعِيننا كشفها على فهم طبيعة الحياة، وبالأولى طبيعة النفس التي هي أقرب إلى عالم الفكر منه إلى الحياة في أعم مظاهرها من نموٍّ وتكاثر، وتكون إذن معرفة المصير كما يوصلنا إليها العلم والفلسفة مما يعيننا على فهم طبيعة كل فرد من الأفراد وفهم مراحل نموه وترقيه المتعاقبة المتجهة نحو غاية أو هدف، فالمنهج التكاملي هو الذي يراعي في محاولة تفسيره السلوك الإنساني ماضي الشخص وحاضره، وكذلك ما يحتمل أن يئول إليه في المستقبل، وهذا الاحتمال كبير جدًّا إذ إنه مستند إلى دراسة سابقة للطبيعة الإنسانية، وكلما تقدمت هذه الدراسة زاد هذا الاحتمال قربًا من اليقين.

وفي دراسته للمراحل المتعاقبة لا يعتبر المنهج التكاملي كل مرحلة أساسًا للمرحلة التالية فحسب، بل رمزًا لها.

ومن الوظائف الأساسية التي يعتبر المنهج التكاملي أكثر عمومية من غيرها وأشمل تفسيرًا الوظيفة الدائرية اللولبية التي سبق ذكرها، والمقصود من هذه التسمية أن الرقي لا يسير طبقًا لخط مستقيم مطَّرد، كما أن النمو ليس تقدُّمًا إلى الأمام ثم نكوصًا إلى الوراء بحيث يعود الأمر إلى نقطة البدء، بل إن النمو أكثر تعقُّدًا من التصوير البسيط الأول الذي يمثله بخط مستقيم، كما أنه شيء آخر غير وجود عابر بين عدمين: العدم السابق للوجود والعدم اللاحق له. الواقع أن في كل نمو نكوص إلى حد ما، ولكنه ليس بالنكوص الكامل الذي يعود إلى نقطة البدء، هو بتعبير آخر رجوع قليل إلى الوراء استعدادًا للوثبة القادمة، النمو هو إضافة الجديد إلى القديم، لا إضافة عددية أو حسابية، بل إعادة تنظيم القديم تحت تأثير الجديد، وبتمثيل هذا الجديد وطبعه بطابع النظام الكلي الذي يسعى لتحقيق غايته ونموذجه السامي، فرجوع إلى الوراء قليلًا ثم وثبة إلى الأمام تحمل الكائن النامي إلى أبعد مما وصل إليه في المرحلة السابقة، وهكذا تتعاقب الطفرات حتى تحقيق التكامل النموذجي، فالنمو حركة دائرية ولكنها لولبية، إذ إن النمو تقدمًا وتجديدًا وفيه ترقٍّ وصعود، وفي ضوء هذه الحركة الدائرية اللولبية ندرك تمامًا معنى الانسجام الذي عبَّرنا عنه بأنه في نفس الوقت تآزر وائتمار أي تعاوُن وخضوع.

ويمكن القول بأن النمو — بحكم كونه موجَّهًا — لا يتم إلا عن طريق التكوين المزدوج المتبادل، أي أن المرحلة الجديدة تعيِّن بشكل ما المرحلة القديمة، كما أن المرحلة القديمة تعيِّن بدورها ما يلحقها من مراحل.

ومما هو جدير بالملاحظة هو عمومية هذه الوظيفة الدائرية اللولبية وشمول تفسيرها، إذ توضِّح لنا دراساتنا في ميدان علم الأحياء وعلم النفس وعلم الاجتماع وفي ضوئها يمكننا تحديد ما نسميه بالمدنية أو الحضارة.

وهناك ملحوظة أخرى لا بد من إثباتها هنا، وهي أن الحركة الدائرية اللولبية التي نشاهدها في نمو الأفراد والجماعات — سواء كان هذا النمو ماديًّا اقتصاديًّا أم ثقافيًّا روحيًّا — لا تكون مطردة لا تقف عند حد، وهذا واضح فيما يختص بالنمو البيولوجي، ولكن هذه القضية الهامة في نظرنا تنطبق أيضًا على النمو السيكولوجي والترقي الاجتماعي والثقافي، فهناك قانون آخر مغروز في صُلْب الطبيعة الحية، هو قانون الاعتدال أو قانون التوازن بين طرفين، وقد عبَّرنا عن هذا القانون ضمنًا عندما تحدَّثنا عن الصورة أو النموذج أو الغاية، فكل تجاوُز لحدود الصورة أو الغاية ينقلب فورًا إلى نقص، بل إلى اضطراب واختلال، إلى مرض وموت، ولا يوجد في الطبيعة سوى مظهر واحد لا يخضع لقانون النمو كما وصفنا، وهو الحركة الميكانيكية العمياء التي تسير دائمًا مماثلة لنفسها طالما يظل المحرِّك مماثلًا لنفسه من حيث قوة الدفع، وأقوى شاهد على ما نقول، إذا نظرنا إلى حضارتنا الحاضرة، هو وجود التعاسة والخوف والمرض والدمار جنبًا إلى جنب مع تغلُّب النزعة الميكانيكية التي لا تعرف الهوادة والراحة.

وفي دراسة هذا التطور الموجِّه الذي يسير نحو تحقيق الصورة المُثْلى لكل كائن حي أو لكل نظام شبيه بالكائن الحي — فردًا كان أو جماعة — لا بد من مراعاة جميع المقومات، كلٌّ في مرتبته الخاصة وبالقياس إلى سائر المقومات التي تتجه نحو التكامل والاتزان.

(٦) التصنيف التكاملي للوقائع النفسية

يتبين لنا مما سبق أن التصنيف الحقيقي للوقائع النفسية لا بد له من أن يسترشد بخصائص الحياة النفسية، وأن يتبع في سيره المراحل التي تجتازها هذه الحياة في سعيها نحو تحقيق الغاية التي تنطوي عليها كل خطوة من خطواتها، بحيث يصبح التصنيف صورة صادقة للمصنَّف، يلخص في حركته الصاعدة سير الحياة النفسية في أثناء نموِّها وترقِّيها في كنف الزمن الحي الذي يربط بين اللحظات المتعاقبة داخل نظام كلي موحد.

ويكون غرض علم النفس التكاملي أن يفسر لنا كيف يتم الترقِّي الذي يحوِّل الفردية البيولوجية إلى شخصية متكاملة، وأن يعطينا صورة صادقة لمراحل التكوين والنمو مع بيان شتى العوامل والشروط البيولوجية والسيكولوجية والاجتماعية.

يبدو لنا أن الطفل المولود حديثًا لا يختلف عن سائر الحيوانات، وأنه لن يتجه نحو النموذج الإنساني إلا بفضل تأثير المجتمع، والواقع أنه ليس في مقدور المجتمع أن يخلق شيئًا، فلا بد من أن تكون جميع الإمكانيات الإنسانية موجودة في هذا الكائن الذي يبدو لنا شبيهًا بسائر الحيوانات، ولكن يجب القول أيضًا: إنه ليس في مقدور هذه الإمكانيات أن تظهر وتنمو بدون تأثير المجتمع، فإذا كان المجتمع لا يخلق شيئًا، فلا شيء ينمو ويكتمل بدونه؛ ولهذا السبب يجب أن يكون علم النفس علمًا نفسيًّا اجتماعيًّا في آنٍ واحد، كما أنه لا بد من أن يكون أيضًا بيولوجيًّا، إذ لا يدرس علم النفس نفسًا مجردة بل نفسًا لها جسم أي الإنسان.

ويترتب على ذلك أن التصنيف الحقيقي للوقائع النفسية — وهو تصنيف تفسيري للحياة النفسية لأنه يتتبع مراحل التكوين والنشء — سيشير بالضرورة إلى العوامل البيولوجية والاجتماعية التي تشترك في توليد المراحل بعضها من بعض وإظهار الوظائف الجديدة وتنميتها وتفاعلها.

فلدينا من جهة العوامل النفسية والاجتماعية، ومن جهة أخرى العوامل البيولوجية والنفسية، والقطبان الأولان يعيِّنان من جهة طرفي الحركة التي ستظهر خلالها الوظائف النفسية الأساسية في أثناء تحوُّل الفردية البيولوجية بما تحمل في طيَّاتها من حوافز وميول إلى شخصية اجتماعية موحَّدة متكاملة شاعرة بذاتها وبقدرتها على العمل الحرِّ.

ويعيِّن القطبان الثانيان الطرفين اللذين ستظهر حول كل منهما الأبنية structures أو الأشكال التي ستتضح خلال عمل الوظائف في أثناء عملية بناء الحياة النفسية، وهذان الطرفان هما المجال الحركي من جهة والمجال الذهني من جهة أخرى.
ولكل زوج من هذين الزوجين («فردية بيولوجية – شخصية اجتماعية أو ذات شاعرة حرة» و«مجال حركي – مجال ذهني») قانونان توجيهيان، يعين كل منهما الاتجاه المؤدي إلى رُقي الحياة النفسية وتكامل جميع مقوماتها:
  • القانون الأول: يتجه الترقِّي في مجال الحوافز والميول من اللاشعور إلى الشعور.
  • القانون الثاني: يتجه الترقي في مجال الشخصية من الأفعال الآلية إلى الأفعال الإرادية.
  • القانون الثالث: يتجه الترقي في مجال النشاط الحركي من استخدام الأشياء إلى استخدام رموزها.
  • القانون الرابع: يتجه الترقي في مجال النشاط الذهني من الإحساس إلى التصوُّر الذهني.١٨

يمكن الكشف عن أهم المراحل التي تقطعها الحياة النفسية في أثناء نموِّها بدراسة سلوك الطفل الحركي النفسي منذ الولادة حتى اكتساب اللغة وظهور القدرة على التصور الذهني والتفكير.

يكون السلوك في أول مظهره آليًّا، أي أنه يتم بتأثير المنبِّه الخارجي مباشرةً، بشرط توافر الشروط الداخلية التي تهيئ جسم الطفل للقيام بالاستجابة التي يثيرها المؤثر الخارجي، وهو سلوك آلي غير مسبوق بروية وتفكير، كما أنه سلوك فطري أي غير مكتسب، ولكنه سلوك مكيَّف أي أنه يؤدي إلى إرضاء الحافز الداخلي كالجوع مثلًا؛ ونظرًا لأنه مكيف وملائم لا يصح أن نعتبره ميكانيكيًّا، إذ إن الميكانيكية لا تتضمن بذاتها السعي نحو تحقيق غاية ما.

والتكيُّف الذي يبديه الفعل الآلي صورة من صور الذكاء؛ ولهذا السبب يعتبر سلوكًا نفسيًّا ضمنيًّا، ولا تتضح صفة «النفسية» في السلوك الآلي إلا عندما تكون الاستجابة للمنبه، لا من حيث هو مؤثر فيزيقي فحسب، بل من حيث هو دلالة أو إشارة أو رمز، وستظهر القدرة على إدراك الدلالة بفضل ظاهرة جديدة هي الانفعال.

ولا نقصد بالانفعال مجرد التأثر الوجداني باللذة أو الألم، بل تغيُّر فجائي يعتري السلوك الهادئ المنظم المتواصل، والانفعال ينتج دائمًا عن عجز السلوك الآلي عن إرضاء الحافز، أو بعبارة أعم: عن التفاوُت بين قدرة الآليات وصعوبة المشكلة، أو بعبارة أخرى: إن الانفعال ينطوي دائمًا على معنى الخيبة والفشل.

وللانفعال شكلان، أو بعبارة أدق وظيفتان: وظيفة أولية فطرية ووظيفة ثانوية مكتسبة، فالانفعال في شكله الأول البدائي لا يزال سلوكًا آليًّا غير أنه سلوك مضطرب غير مكيَّف، هو سلوك محصور في جسم المولود الحديث، هو ارتداد الاستجابة إلى الجسم بعد انفصالها عن موضوعها الخارجي، فالانفعال في شكله الأول هو مجرد الأوضاع التي تتخذها أجزاء الجسم مع ما يصاحبها من تغيرات فسيولوجية مختلفة، أي أن الوظيفة الأولية للانفعال هي تشكيل جسم الطفل بشكل معين. ولهذا الشكل الخاص — انقباض العضلات، تغير ملامح الوجه، احتقان الوجه بالدم، الصراخ … إلخ — تأثير في الآخرين يؤدي بهم إلى القيام بسلوك معيَّن نحو الطفل، غير أن هذا التأثير غير مقصود، أي أن الحركات لا تزال مجرد حركات، ثم لا تلبث هذه الحركات أن تتحوَّل إلى تعبيرات تحت تأثير البيئة الاجتماعية ومختلف أساليب التربية، أي أن الطفل سيتعلَّم أن يستخدم هذه الحركات كأداة تعبيرية للتأثير فيمن يحيط به من أشخاص، أو بعبارة أخرى: سيتعلم الطفل أن ينتظر أثر هذه الحركات، وأن يتوقع الاستجابات التي سيقوم بها الآخرون لمعالجة الموقف، بحيث يزول ما أثار الانفعال، وتلك هي الوظيفة الثانوية للانفعال التي ترمي إلى التأثير في العالم الخارجي عن طريق التعبير الانفعالي.

تلك هي المرحلة الثانية في نمو الحياة النفسية، وسيؤدي التعبير الانفعالي إلى المرحلة الثالثة أو إلى الوظيفة الثالثة، وهي التصور الذهني والتفكير، وفي هذه المرحلة تظهر قدرة الطفل على استخدام الرموز بدلًا من استخدام الأشياء نفسها، وعلى استخدام المعاني لوضع خطة عمله في المجال الذهني قبل تنفيذها في المجال الحركي.

سبق أن عرَّفنا السلوك الآلي بأنه غير مسبوق برويَّة وتفكير، فيوجد إذن نوع من التضاد بين الآلية والتفكير، ويوجد أيضًا تضاد بين الآلية والانفعال، إذ إن الانفعال هو اضطراب الآلية، كما أنه يوجد تضاد بين الانفعال والتفكير، إذ إن الاضطراب الانفعالي يعوق التفكير، كما أن تصوُّر الحالة الانفعالية والتفكير فيها يؤديان إلى إخماد الانفعال.

ولكن يوجد ما يربط بين هذه المراحل الثلاث على الرغم مما يوجد بينها من تضاد، فقد ذكرنا أن الانفعال في شكله الأولي ضرب من الآلية، ولكنها آلية غير ناجحة، وبيَّنا من جهة أخرى كيف أن الانفعال في شكله الثانوي وبفضل وظيفته التعبيرية يمهد الطريق إلى التصور الذهني، ونلمس هنا كيف يمكن تطبيق الوظيفة الدائرية اللولبية على هذه الحركة التي تبدأ عند الآلية وتنتهي عند التصور الذهني، مع العلم بأن الآلية تظل الأساس الأول الذي ستقام عليه الحياة النفسية كلها، أي أن الفطري هو الأساس الأول لكل ما هو مكتَسَب.

وبناءً على ما سبق تكون الوظائف النفسية الأساسية هي تبعًا لترتيب ظهورها في الزمان: الآلية، والانفعال، والتصور الذهني.

أما الذاكرة التي يعتبرها بعضهم١٩ مستوًى خاصًّا من مستويات نمو الحياة النفسية، فهي في الواقع وظيفة عامة تعمل في كل مظهر من مظاهر الحياة وهي في نظر علم النفس التكاملي عامل التكامل النفسي من حيث هي تمثيل الزمن كخبرة حية، وهي التي تربط بين جميع المراحل كما تربط بين لحظات الزمن، هي عامل التكامل لأنها عامل ثبات، كما أن الجهاز العصبي هو عامل التكامل البيولوجي واللغة عامل التكامل الاجتماعي.

والآن يمكننا أن نرى كيف ستترتب جميع الوقائع النفسية وفقًا لهذا النظام الطبيعي الذي يتمثل في المراحل الثلاث الأساسية، وسنبيِّن فيما يلي ترتيب هذه الوقائع وتسلسلها بادئين عند الفردية البيولوجية للوصول إلى غاية الحركة التكاملية كما تتمثَّل في الشخصية.

وكما تحمل الجرثومة الملقَّحة في طيَّات دقائقها عوامل الوراثة البيولوجية الخفية — وراثة الأجيال السابقة بل وراثة الجنس بأسره — تلك العوامل التي ستشرف على نمو الكائن الحي في اتجاه معين حتى يحقق في فرده كمال جنسه، كذلك يحمل الإنسان في ثنايا طبيعته عوامل الوراثة السيكولوجية التي لا تقل خفاءً عن الأولى بل تفوقها غموضًا، فالإنسان في مبدئه وفي جبلته الأولى مجموعة من العوامل الديناميكية التي تنشأ بفضلها الحركة وتتوجَّه، وتسمى هذه العوامل — اصطلاحًا في علم النفس — بالغرائز والميول والنزعات.

ويظل دافع السلوك في حالة كمون إن لم يُثِره منبِّه داخلي هو في العادة فقدان التوازن العضوي الداخلي، كما أنه يظل ناقص التنفيذ إن لم يغذِّ حركته ويوجهها منبه خارجي.

فإذا انتقل الفعل النفساني من عالم الكمون إلى عالم التنفيذ بفضل التنبيهات الداخلية والخارجية كانت الاستجابة لإرضاء الدافع الداخلي والمطالب الخارجية استجابة مباشرة أو غير مباشرة.

والاستجابة المباشرة تكون في مظاهرها البسيطة إقدام أو إحجام، ولسلوك الإقدام بطانة وجدانية هي الإحساس بالسار، ولسلوك الإحجام بطانة وجدانية مضادة للأولى في مضمونها الكيفي هي الإحساس بالمكدر.

فإذا كان ما لدى الفرد من استعدادات ومعلومات كافيًا لمواجهة الموقف بنجاح، أي إذا كانت الآلية كاملة كانت الاستجابة مباشرة، وهي تتخذ أشكالًا مختلفة حسب طبيعة المنبه إذا كان بسيطًا أو مركَّبًا، موضعيًّا أو شاملًا، وهذه الأشكال هي الأفعال المنعكسة والانتحاءات والأفعال الغريزية والأفعال التعوُّدية.٢٠

أما إذا كانت الآلية ناقصة غير صالحة لمواجهة الموقف لأسباب طارئة أو بتأثير التعب اضطرب السلوك وانفجر الانفعال.

غير أن الانفعال وإن كان في بعض الظروف منشطًا فإنه استجابة فاشلة لا تلائم غرض النشاط ولا تحقق نهايته، هو استجابة استبدالية مستواها دون مستوى الأفعال الناجحة التوافقية.

وفي هذه الحالة تُرْجَأ الاستجابة حتى يستعدَّ المرء من جديد لمواجهة الموقف، وحتى يكتسب آليات جديدة عن طريق التعلم، وهذه الآليات الجديدة عبارة عن إعادة تنظيم الآليات السابقة بعد إنمائها، وعمليات الاكتساب والتعلم طويلة شاقَّة تمر بعدة مراحل، وأول مرحلة من المراحل هي سلوك الانتظار والتوقع والبحث؛ ولهذا السلوك سداته الوجدانية الخاصة هي الإحساس بالطريف والمرغِّب، وهذا الإحساس بالرغم من بساطته أكثر تعقُّدًا من الإحساس بالسارِّ أو الإحساس بالمكدِّر، وهو من قبيل ما يسمى بالعواطف.

وللعواطف على العموم وظيفة هامة تشبه وظيفة الدوافع الفطرية، هي تغذية السلوك وتعديله وتوجيهه، هذا إلا أن العواطف نفسها تقوى وتتشعَّب بتفاعلها مع السلوك.

أما عملية اكتساب المعلومات وتنظيمها واستخدامها في المجال الذهني والمجال الحركي، أي في مجال الفكر ومجال العمل المسبوق بالرويَّة، فتستلزم نشاط بعض الوظائف السيكولوجية مثل الإدراك والذاكرة والتعلم.

وللانتباه أو للنشاط الذهني بوجه عام مستويات تختلف قوةً وتوترًا وتنظيمًا، وينجم عن هذه الاختلافات نوعان من الاستجابات: الاستجابات التي تنفَّذ في عالم الوهم والخيال، والاستجابات التي تنفَّذ في عالم الواقع والعمل، فالأولى استبدالية والثانية حقيقية، وتكون كل منهما إما ذهنية أو حركية، فمن الاستجابات الاستبدالية الذهنية أحلام اليقظة وأحلام النوم والأمراض النفسية،٢١ أما اللعب فهو ضرب من ضروب الاستجابات الاستبدالية الحركية، وقد يكون الفن لونًا من ألوان اللعب.

ومن الاستجابات الحقيقية الذهنية نذكر الاستدلال والتفكير الإبداعي، أما الاستجابات الحقيقية الحركية فهي إما مصحوبة بتفكير ضمني وهو الذكاء العملي أو مصحوبة بتفكير صريح مشعور به وهو التعبير اللغوي، وأخيرًا الأفعال الموجهة المقصودة أي الأفعال الإرادية.

بهذا رأينا كيف تنوَّعت المسالك التي اتخذتها الدوافع للظهور والنشاط والتنفيذ فاستعرضنا مراحل الفعل النفساني، وأشرنا إلى الوظائف الهامة التي تحقق نمو هذه المراحل وتصل بينها، على أنه قد بقي أن نشير إلى المرحلة الأخيرة التي سوف تتحقق خلالها الوحدة التي اضطررنا إلى تحليلها، وهذه الوحدة الجديدة التي تفوق في ثرائها وغزارة موادها وتكامل تنظيمها الوحدة الفطرية الأولى هي الشخصية بشتى نواحيها الفردية والاجتماعية.

١  Youssef Mourad: Structure fondamentale de l’organisme vivant. مجلة كلية الآداب – جامعة القاهرة، المجلد السابع، يوليو ١٩٤٤م.
٢  راجع تعريف «شعور» و«إحساس» و«إدراك» في ذيل هذا الكتاب.
٣  أبو الهلال العسكري، ص٩٤.
٤  نفس المرجع، ص٩٤.
٥  نفس المرجع، ص٢٢١.
٦  هناك بعض الدراسات الفرعية كالتمييز بين الجسم والنفس وتغلُّب الثانية على الأول، التمييز بين قوى النفس الثلاث، نظرية درجات المعرفة، نظرية اللذة، التقابل بين المعقول والمحسوس.
٧  يستعمل أحيانًا لفظ sensibilité باللغة الفرنسية للإشارة إلى حالات اللذة والألم، أما دراسة الإحساسات sensations فإنها تدخل في دائرة الحياة العقلية، راجع مثلًا كتاب هانكان Hannequin: مدخل إلى علم النفس المنشور عام ١٨٩٠م Introduction à la psychologie فيقسم هانكان الوقائع النفسية إلى ثلاث فئات: الوقائع الوجدانية أو «الحسية» faits affectifs ou sensibles، الوقائع «المعرفية» أو العقلية faits cognitifs ou intellctuels والوقائع الإرادية faïts volitionnels ou volontaires.
يلاحظ هنا عدم التمييز بين المعنى العام والمعنى العلمي للفظ sensibles حسي، حساس، كما يلاحظ أن الوقائع الإرادية لا تستغرق جميع أنواع الأفعال الحركية.
٨  يستعمل أحيانًا في تسمية الجانب الثالث من الحياة النفسية، وهو جانب الحركة والفعل، كلمة vie conative, conation غير أن لفظ conation الذي يفيد معنى الجهد conatus effort أضيق دلالة من لفظ «فعل» action فهو يفيد الفعل الذي يواجه مقاومة، في حين أن الفعل قد يكون تلقائيًّا أو مصحوبًا بجهد conation semble désigner l’action en tant qu’elle a à triompher d’une résistance ou réaction pour se poser elle-même progressivement et in fieri. M. Blondel in vocabulaire de philosophie de A. Lalande. T.1 p, 117.
٩  F. L. Goodenough: Developmental psychology 2d. ed 1945 D. Appleon-Century Co, New york.
١٠  راجع بهذا الصدد كتب علم النفس الفرنسية لملابير Malapert وري Rey وكوفيليه Cuvillier.
١١  هذا التقسيم ينطبق على تحليل مراحل الفعل الغريزي كما وضَّحها مكدوجل McDougall ولكنه لا ينطبق على جميع الظواهر، فكلمة Perception إدراك لا تفيد إلا جانبًا من عملية المعرفة cognition.
١٢  راجع كتاب النجاة، ص٢٥٩.
١٣  هذا الاتجاه واضح في بعض الكتب العربية الحديثة المتداولة، فلا يخرج القارئ لفصل الإرادة إلا بفكرة عن الإرادة في مظهرها الحيواني فحسب، على الرغم مما يُذكر بعد تعريف الإرادة بمحض الشهوة أو الميل من العمليات الفكرية المصاحِبة للفعل الإرادي، فالكلام عن الإرادة مجرد ذكر أجزاء لا يربط بينها مبدأ واحد واضح.
١٤  C. S. Sherrington: The integratïve action of the nervous system. 1906. 6th. ed. 1920. C. v. Monakow & R. Mourgue: Introduction biologique à l’étude de la neurologie et de la psychopathologie. 1928. Hans Driesch: The science and philosophy of the organism. 1908. G. E. Coghill: Anatomy and the problem of behavior 1929. Hans Spemann: Embryonic development and induction 1938. K. Goldstein: Der Aufbau des Organismus 1934.
١٥  Y. Mourad: L’éveil de l’intelligence. Etude de psychologie génétique et comparée. pp. XV- 406 Alcan, Paris 1939.
١٦  اطَّلعنا بعد الانتهاء من وضع منهجنا ووضع كتاب مبادئ علم النفس العام القائم عليه على كتاب مارستون Marston «علم النفس التكاملي Integrative psychology» المنشور عام ١٩٣١م، ولا يختلف هذا الكتاب عن بقية الكتب في طريقة تصنيف موضوعاته، إذ لا ينتهج مبدأً واضحًا للتصنيف والتعليل.
١٧  راجع كتاب «مدخل إلى دراسة الطب التجريبي» تأليف كلود برنار، وترجمة يوسف مراد وحمد الله سلطان، المطبعة الأميرية ١٩٤٤م.
١٨  لا يتسع المقام لتوضيح هذه القوانين، ويمكن الرجوع إلى كتابنا «شفاء النفس» ص١٢٥–١٢٨، دار المعارف للطباعة والنشر، ١٩٤٣م، آثرنا في نص القانون الثاني أن نستبدل بالأفعال المنعكسة، كما جاء ذكرها في كتاب شفاء النفس، الأفعال الآلية، والمقصود بالفعل الآلي ما لا يكون مسبوقًا برويَّة وتفكير.
١٩  في كتاب حديث في علم النفس لموريس برادين ظهر عام ١٩٤٣م Maurice Pradines: Traité de psychologie générale, T. I, Paris 1943. يرى المؤلف أن لنمو العقل esprit ثلاثة مستويات: مستوى الآلية automatisme ومستوى الذاكرة mémorie ثم مستوى العقل أو الفكر l’esprit ou la pensée، وهي مستويات متفاوتة من حيث قيمة المعرفة، وأوجه الاعتراض على هذا التقسيم هي الآتية: استعمال لفظ esprit بمعناه العام وهو الحياة النفسية عامة، ثم استعماله بمعنى العقل الذي يجرد ويحكم ويستدل بناءً على مبادئ عقلية كلية، لا يوجد فاصل مميز بين الآلية والذاكرة، إذ إن الأفعال التعودية التي تتطلب الذاكرة هي نوع من الأفعال الآلية، وفعلًا يتحدث المؤلف عن العادة في باب الآلية، ثم إن لفظ فكر pensée غير محدد في دلالته، ولا يوجد فاصل مميز بينه وبين الذاكرة؛ لأن الذاكرة ليست مجرد إعادة الماضي كما هو بل تقتضي اختيارًا ونشاطًا فكريًّا، وإذا سلَّمنا بوجود تقابل بين الذاكرة وبين الفكر بأن الأول أساس المعرفة الحسية والثاني أساس المعرفة العقلية القائمة على مبادئ العقل raison، فهذا التقابل معدوم بين الآلية والذاكرة، وأخيرًا يلاحظ أن هذا التقسيم يُغفل الناحية الوجدانية للحياة النفسية فضلًا عن كونه استاتيكيًّا جامدًا لا يشير إلى الحركة التي تسير بنمو الحياة النفسية من بدايتها إلى غايتها، وهذا على الرغم مما قرره المؤلف في مقدمة كتابه عن أهمية المنهج التكويني génétique.
٢٠  انظر في باب التعريفات في ذيل هذا الكتاب تعريف الفعل المنعكس والانتحاء.
٢١  هذا التصنيف بفضل اعتماده على الحركة الطبيعية التي يتبعها الترقي في مراتبه الثلاث (البيولوجية والنفسية والاجتماعية)، وبفضل توضيحه القوانين التوجيهية التي يسير الترقي بمقتضاها يُلقي ضوءًا على تصنيف انحرافات السلوك والأمراض النفسية والعقلية وتفسير نشوئها وتطورها الشاذ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤