الأدب أو البلاغة

الأدب١ عند العرب يشمل كل شيء، أو هو مجموع معلومات الإنسان التي اكتسبها بالقراءة والدرس من علوم عربية كالنحو والصرف، وعلوم البلاغة، والشعر والأمثال، والحِكَم والتاريخ، وغيرها من فلسفة، وسياسة، واجتماع؛ وحتى جعل ابن قتيبة في كتابه «أدب الكاتب» من شروط الأديب أن يعرف جملة من الرياضيات والصناعات. وقالوا: الأدب كل ما تأدَّب به الإنسان، يقصدون بذلك كل ما صَحَّ أن يُعرَف فهو من الألفاظ التي ليست لها معانٍ محدودة؛ يُطْلَقُ على دعوة الطعام، وعلى العادات والأخلاق الكريمة، وعلى التربية والتعليم. قال صاحب تاج العروس: «وإطلاقه على العلوم العربية مُولَّد حدث في الإسلام.» وقد توسع المسلمون في هذا اللفظ بسبب اختلاطهم بالعجم، حتى أصبح معنى الأدب جامعًا للعلم والأخلاق والفنون والصنائع وغيرها، فأطلقوه على ضرب العود ولعب الشِّطْرنج، وعلى الطب والهندسة والفروسية، وعلى مجموع علوم العرب، وعلى مقتطفات الحديث والسمر، وما يتلقَّاه الناس في المجالس.
هذا التوسع العظيم في استعمال هذا اللفظ يدل على خفاء مدلوله، وخصوصًا أن هذا الاستعمال لم يخصص في معنًى من هذه المعاني.٢

وقد رأيْنا بعد مراجعة آراء الأدباء أن إطلاق هذا اللفظ على المعنى الذي نستعمله الآن، إطلاق ناقص لا يؤدي المعنى الذي نريده نحن؛ لأننا نطلقه على الشعر والنثر فحسب. وذلك لا يطابق تعريف الأدب عند العرب؛ لأننا نريد أن ندرس ضروب الكلام وأنواع البلاغة، والمؤثرات التي أثرت فيها. ومن رأينا أنه مهما صح من العموم والخصوص والتأويلات الكثيرة، فإنه من الغامض أو من النقص في التعبير أن نخص الأدب بهذا المعنى الذي نريد، ونسلخ عنه معانيَه الأخرى، أو نستعمله استعمالًا مشتركًا. ولم يجلب علينا ذلك إلا خطأ مشهور لم نتداركه، وعندنا من الألفاظ ما هو أولى وأوفق.

وقد حدَّ ابن خلدون الأدب، ورأى «ألَّا موضوع له ينظر في إثبات عوارضه أو نفيها» قال: «وإنما المقصود منه عند أهل اللسان ثمرته.» وفهم الأدب كما فهمه أهل زمانه، صناعة من الصناعات تُتعلم ويُتوصل إليها بالتمرين، لا أثرًا من آثار الكُتَّاب والشعراء. فقال: «هو الإجادة في فنَّيِ المنظوم والمنثور على أساليب العرب ومناحيهم.» وجعل من تمام هذه الصناعة «أن يجمعوا لذلك من كلام العرب ما عساه أن تحصل به المَلَكة من شعرٍ عالي الطبقة، وسجعٍ متساوٍ في الإجادة، ومسائل من اللغة والنحو مبثوثة أثناء ذلك متفرقة، يُستقرَى منها في الغالب معظم القوانين العربية، مع ذكْر بعضٍ من أيام العرب، يفهم به ما يقع في أشعارهم منها، وكذلك ذكر المهم من الأنساب الشهيرة والأخبار العامة.» قال: «والمقصود بذلك كله ألَّا يخفى على الناظر فيه شيء من كلام العرب وأساليبهم، ومناحي بلاغتهم إذا تصفَّحه؛ لأنه لا تحصل المَلَكة مِن حفظه إلا بعد فهمه …» واختصر التعريف فقال بعد ذلك: «ثم إنهم إذا أرادوا حدَّ هذا الفن قالوا: الأدب هو حفظ أشعار العرب وأخبارها والأخذ من كل علم بطرف …»

نحن لا نفهم الأدب بهذا المعنى العام، ولن يكون تدريسنا على هذه الطريقة العامة. ولكنا نريد أن يكون للأدب موضوع، وأن نحدَّه حدًّا إيجابيًّا؛ لذلك رأينا أن نطلق على الشعر والنثر البليغ — وهو ما نقصده من الأدب، وما يُراد من دراسته في مدارسنا — كلمة «بلاغة»، وتُعَرَّفُ البلاغة (الأدب) حينئذٍ: «بأنها الكلام الذي يدعو إلى الإعجاب من حيث الافتنان في الصناعة.» إذ لا يمكن أن نجري على التعريف القديم، وندخل في الأدب ما كان يقصده القدماء من جميع فروع اللغة العربية؛ لأننا ليس من غرضنا أن ندرس ذلك، وليس من غرض إنسان يريد أن يقرأ كلام العرب أن يصرف وقته في قراءة النحو والصرف، وعلم العروض وعلوم البيان، والجغرافيا والتاريخ وغيرها، وإنما يريد أن يقرأ النثر والشعر لا غير؛ ليقف على أسرار اللغة، وليهذب نفسه بما في ذلك من المعاني، وليعرف أغراض الكتَّاب والشعراء؛ وبالجملة ليعرف سر اللغة العربية وقيمتها؛ وذلك بقراءة الكلام البليغ نفسه من شعر ونثر، ويكفي أن يكون اللفظ متينًا، والعبارة واضحة؛ لتصل من نفس المتكلم إلى نفس السامع. كما روى الجاحظ «أن الكلمة إذا خرجت من القلب وقعت في القلب، وإذا خرجت من اللسان لم تتجاوز الآذان.» معنى ذلك أن الكاتب إذا كان مخلصًا متأثرًا بما يقول، نال من نفس القارئ وبلغ منه المراد. هذه هي البلاغة، وهكذا يجب أن تُفهم. فليس ما ندرسه هو الأدب إذا دققنا النظر في التعريف المعروف؛ لأننا نريد أن ندرس أنواع كلام العرب الذي هو الغرض من دراسة الأدب.

قال صاحب كشف الظنون: «الأدب علم يُحترَزُ به عن الخلل في كلام العرب لفظًا وكتابة.» وواضح بعد ذلك أن الأدب ليس هو المنظوم والمنثور، بل هو مجموع العلوم العربية، كما قال المؤلف نفسه: «اعلم أن فائدة التخاطب والمحاورات في إفادة العلوم واستفادتها، لمَّا لم تتبين للطالبين إلا بالألفاظ وأحوالها، كان ضبط أحوالها ممَّا اعتنى به العلماء، فدعت معرفة أحوالها إلى علوم انقسم أنواعها إلى اثني عشر قسمًا، سمَّوْها العلوم الأدبية؛ لتوقف أدب الدرس عليها بالذات، وأدب النفس بالواسطة، وبالعلوم العربية أيضًا لبحثهم عن الألفاظ العربية» (طبعة أوروبا، صفحة ٢١٧).

وما دام الأدب هو ما يُحترز به عن الخلل في كلام العرب لفظًا وكتابة كما رأينا، أو هو كما قال الجرجاني في تعريفاته: «عبارة عن معرفة ما يُحترز به عن جميع أنواع الخطأ.» فلا يصح بعد هذا أن نريد منه النظم والنثر؛ لأن الأدب — كما قالوا — وسيلة لفهم الشعر والنثر اللذين هما أنواع كلام العرب، والوسيلة غير الغاية فلا بد أن نخص ما نفهمه الآن أدبًا بالشعر والنثر البليغ، ونطلق عليه «بلاغة» لتكون تسمية حقيقية لا تمس الاصطلاح القديم، بل تنطبق على تعريف البلاغة، فنقول: «بلاغة العرب» ونريد ما يريده الناس الآن من «أدب العرب».

وعلى هذا تكون البلاغة كل قول الغرض منه — قبل كل شيء — الاستيلاء على نفس السامع أو القارئ بفصاحة العبارة وحسن التركيب، وبراعة الكاتب أو الشاعر، أو بعبارة أخصر «هي الكلام الفني الممتع»، والكلام الفني يملأ نفس السامع وعواطفه في أي موضوع كان، وعلى أي معنًى دلَّ، وذلك يطابق معنى البلاغة عند العرب كما قال الجاحظ: «وأحسن الكلام ما كان قليلُه يُغنيك عن كثيره، ومعناه في ظاهر لفظه … فإذا كان المعنى شريفًا واللفظ بليغًا، وكان صحيح الطبع، بعيدًا عن الاستكراه، ومنزهًا عن الاختلال، ومصونًا عن التكلف، صنع في القلب صنيع الغيث في التربة الكريمة. ومتى فَصَلَتِ الكلمة على هذه الشريطة، ونَفَذَت من قائلها على هذه الصفة، أَصْحَبها الله من التوفيق، ومنحها من التأييد، ما لا يمتنع عن تعظيمه صدور الجبابرة، ولا يذهل عن فهمه عقول الجهلاء.»٣

ويمكن رفع اللبس بين البلاغة وعلوم البلاغة المصطلح عليها الآن، بالرجوع إلى قول عبد القاهر الجرجاني وأشياعه، الذين كانوا يطلقون علوم البيان على علوم البلاغة. على أن الفرق واضح بين البلاغة وعلوم البلاغة.

ويؤيد قولنا: إنه يصح إطلاق البلاغة على ما نسميه «أدب اللغة» أن البلاغة هي تحبير اللفظ وإتقانه؛ ليبلغ المعنى قلب السامع أو القارئ بلا حجاز، ولينال الكاتب أو الشاعر من الأفئدة ما يريد، وهي المقصودة بقوله — عليه السلام: «إن من البيان لسحرًا.» وأنها إبلاغ المتكلم حاجته بحسن إفهام السامع؛ ولذلك سميت بلاغة، وأنها حسن العبارة مع صحة الدلالة،٤ وأنها إهداء المعنى إلى القلب في أحسن صورة من اللفظ.
وأوضحُ مِن هذا قولُ ابن المُقفَّع — كما رواه ابن رشيق وأبو هلال العسكري والجاحظ. قالوا: «لم يفسر أحدٌ البلاغة تفسير ابن المقفع؛ إذ قال: البلاغة اسم لمعانٍ تجري في صور كثيرة؛ فمنها ما يكون في السكون، ومنها ما يكون في الاستماع، ومنها ما يكون شعرًا، ومنها ما يكون سجعًا، ومنها ما يكون خُطَبًا»، إلى آخر ما ذكر.٥

وقد أطلقوا على الكلام البليغ بلاغة، وقالوا: «بلاغات النساء»، وإذا قالوا: فلان بليغ، أرادوا به شاعرًا أو كاتبًا فصيح العبارة، واضح المعنى، بقلمه وبلسانه ضرب من سحر الكلام، وشيء من معرفة امتلاك الأفهام، بخلاف الأديب فإنه ليس من الضروريِّ أن يكون شاعرًا أو ناثرًا. وفي الكلام الآتي عن البلاغة ما يدل أيضًا على صحة ذلك، ممَّا رواه الجاحظ في البيان والتبيين عن بعض الأدباء: «أنذركم حسن الألفاظ، وحلاوة مخارج الكلام؛ فإن المعنى إذا اكتسى لفظًا حسنًا، وأعاره البليغ مخرجًا سهلًا، ومنحه المتكلم قولًا متعشقًا، صار في قلبك أحلى، ولصدرك أملأ. والمعاني إذا اكتسبتِ الألفاظَ الكريمة، وأُلبستِ الأوصافَ الرفيعة، تحولت في العيون عن مقادير صورها، وأربت على حقائق أقدارها بقدر ما بُيِّنَت، وعلى حسب ما زُخْرِفَت …»

وليست كل كتابة تعد من البلاغة؛ فلن يكون الطبيب بليغًا في كتبه، ولا الرياضي أو العالِم أو النباتي بليغًا في نظرياته العلمية. ولكنهم قد يكونون بُلَغاء في قطع مخصوصة، إذا تكلموا وكتبوا كتابات بليغة، يقصدون منها أن ينالوا من نفس القارئ أو السامع، بخلاف ما إذا قصدوا أن يُفيدوا إفادة علمية، أو أن يشرحوا نظرية من نظرياتهم، أو قاعدة من قواعدهم؛ لأن هذا ليس من البلاغة في شيء؛ إذ غرض البلاغة غير غرض التعليم كما قلنا.

والأوروبيون إذا ذكروا من بين الكُتَّاب عالِمًا، مثل ديكارت Descartes، أو مشرِّعًا أو اجتماعيًّا مثل روسو Rousseau ومنتسكيو Montesquieu، أو فيلسوفًا مثل رنان Renan وتين Taine وفولتير Voltaire، فإنما يذكرونهم من حيث أثرهم في البلاغة، أو لاقتفاء الحركة الكتابية أثر الحركة الفلسفية والاجتماعية، لا من حيث إنهم علماء أو فلاسفة.
ولا بد من الفرق بين البلاغة وتاريخها،٦ فتاريخ البلاغة هو البحث في مجموع ما تُنتجه قرائح الأمة من علوم وفنون، أو هو مجموع الحركة الفكرية في الأمة؛ ولذلك يكتب مؤرخ البلاغة عن الشاعر والناثر، كما يكتب عن الفيلسوف والعالِم، ليجمع صورة كاملة من الحياة العقلية للأمة، فهو لذلك مضطر لأن يكتب عن كل مَن له أثر في هذه الحركة، وكان الأَوْلى أن يُسَمَّى ذلك تاريخ العلوم والفنون. ولكنهم أدخلوه في تاريخ البلاغة من باب التوسع؛ لأنهم لم يكتبوا عن كل علم على حِدَة، ولم يتوسعوا في ذلك، ولأنهم كتبوا عن ذلك عرضًا لإثبات أثر ذلك في تاريخ حركة اللغة. أما مَن يريد التمكن من شيء فعليه بكتبه الخاصة به، وعلى كل حال فتاريخ البلاغة بالطريقة المعروفة الآن لا يوجد في كتب العرب بهذا التسلسل كما هو عند الأوروبيين. وكتب الأدب الخاصة بأمة من الأمم مثل: نفح الطيب مثلًا، عبارة عن دائرة معارف؛ لأن بها من كل شيء طرفًا؛ ففيها: نبذ من التاريخ العام، وشذرات من التاريخ الخاص، وشيء من تراجم الأشخاص، من شعراء وملوك ونوكى وسوقة، وفيها شيء من الفكاهات والمُلَح، وشيء عن وصف البلدان، وغير ذلك من الأمور التي لا تدخل في فن واحد. أما البلاغة فهي أخص من ذلك بكثير.
وقد ظن جماعة من العلماء والأدباء أن الغرض من البلاغة نشر المعلومات الصحيحة بأسلوب يلذ للنفس، وقالوا: إنه لا يصح أن يقول الشاعر ما لا معنى له، أو يكتب الناثر صحيفة أو صحيفتين بدون أن تحتوي على معلومات مفيدة؛ وحتى قال تين Taine في مقدمة كتابه تاريخ البلاغة الإنجليزية:٧ «إن البلاغة صورة كاملة صحيحة من الزمن والأشخاص الذين يعيشون فيه.» وقال: إن الغرض من البلاغة التوصل إلى معرفة نفس الإنسان؛ لأنها ظرف لأفكاره، كما أن الصدف وعاء لما فيه، والرأي الصحيح السائد هو أن الغرض من البلاغة إعجاب القارئ أو السامع ببراعة الكاتب أو المتكلم، وأنه لا يطلب من البليغ أن يملأ كلامه بشيء من المعلومات الصحيحة، وليس الشاعر مضطرًّا لأن يأتي بالفلسفة والحكمة في شعره، كما أن الغرض من التصوير هو إعجاب الناظر، والاستيلاء على حواسه الظاهرة بما في الصورة من الإبداع والإتقان. ولكن ليس معنى ذلك أن الكاتب أو الشاعر يتصيد الألفاظ والجمل الجميلة، ويرصفها رصفًا بدون أن تحتوي على معانٍ، كما أنه لا يقصد من المصور أن يأتي بالألوان المختلفة بعضها بجوار بعض، بدون أن يكون هناك رسم خاص أو صورة معينة؛ وإلا كان الإعجاب إعجابًا ظاهرًا لا يلمس القلب ولا يحرك العواطف، كذلك البلاغة سواء بسواء، وإذا كان الغرض الإعجاب ببلاغة الكاتب أو الشاعر، فذلك لن يكون ذا أثر فعَّال في النفس إلا إذا كانت ذات معانٍ دقيقة حقيقية أو تدل على الحقيقة، والأدباء العصريون الآن يرون أن البلاغة فن من الفنون الجميلة مثل: التصوير، والموسيقى، الغرض منها تهذيب النفس وترقيق العواطف، وتقوية الملاحظة، فهو مسلاة النفوس وأنيس الجليس؛ فعلى هذا هي ضرب من الكمال. أما من جهة أنها معرض عام للحياة، وجعبة لأفكار الإنسان، ومسرح الآراء والفلسفة، فهي شيء من الضروريات لتربية الأفكار وتهذيبها، وإن جاء ذلك عرضًا لا قصدًا.
وظن جماعة من الأدباء أيضًا أنه يكفي الاطلاع على تاريخ البلاغة وتصفحه؛ ليقف الإنسان وقفة إجمالية على سير الحركة الفكرية، وليكتفي بذلك من عناء قراءة كل كاتب أو شاعر أو مؤلف، ومن بين هؤلاء رنان Renan فقد قال: «إن دراسة تاريخ البلاغة يمكنها أن تُغني عن دراسة الكتب نفسها.» وردَّ عليه في ذلك الأستاذ لنسون Lanson في مقدمة كتابه تاريخ البلاغة الفرنسية،٨ وقال: إن ذلك معنًى سلبي للبلاغة؛ لأنه يجعلها أشبه بتاريخ للأفكار أو الأخلاق … قال: «ولا مناص من الرجوع إلى المؤلفات نفسها، لا إلى الملخصات والمختصرات؛ إذ لا يكفي معرفة فن التصوير بقراءة تاريخية، بدون أن ينظر الإنسان إلى الصور نفسها، والبلاغة كالفنون لا يمكن التفرقة بينها وبين شخصية الكاتب.» إذ إنها تحتوي على معانٍ ودقائق تتجدد كلما أنعم الإنسان النظر فيها، كما أن القصيدة الواحدة كلما قرأها القارئ تأثرت نفسه بأثر جديد، وفهم منها شيئًا جديدًا، بل هي عبارة عن تمرين فكري، ونوع من ترقية الذوق، وضرب من السرور. وقال الأستاذ لنسون M. Lanson: «والبلاغة لا تُتعلَّم ولا تُحْفَظُ. ولكن يتعهدها الإنسان بالتنمية، ويميل إليها ويحبها.» فمن خواصها أنها توجِد للنفس لذَّةً عقلية وسرورًا نفسيًّا، وذلك يساعد على تربية الذوق واستعداد الفكر لقبول الجمال، كما أنها وسيلة من وسائل تربية النفوس تربية فنية.
وإذا كان من غرض المشرِّع الأمر والنهي، ليعمل الناس الخير ويتجنبوا الشر، فليس من غرض البليغ — أي الكاتب أو الشاعر — عرض حقيقة من الحقائق، ولا أمر ولا نهي. ولكن غرضه الأول أن ينال من قلب السامعين والقارئين، ويؤثِّر فيهم ويحرِّك من نفوسهم، سواء قرُب من الحقيقة أم بعُد عنها. ومن هذه الوجهة ربما يصح أن نلتمس عذرًا لأدباء العرب الذين قالوا في الشعر: «إن أكذبه أعذبه.» ولكنَّ تهذيب الإنسان وتعلمه العلوم والفنون المختلفة في هذه الأيام، حمله على ألَّا يقبل شيئًا خاليًا من معنًى، أو محتويًا على فكر غير صحيح؛ ولذلك ظهرتِ الحركة العلمية الأدبية الآن، وغرض العلماء منها أن يمزجوا أنواع البلاغة بأنواع العلوم، وألَّا تكون البلاغة عبارة عن خيالات محضة، أو تصورات بعيدة عن الحقائق، وزجُّوا بها من مكانها إلى موضع آخر أقرب إلى العلوم، وظهرتِ القصص العديدة المملوءة بالمعلومات المفيدة والفنون المتعدِّدة. ولكن لا يزال هناك حدٌّ فاصل بين البلاغة والعلم؛ لأن البلاغة دراسة العقول وحالة الاجتماع، فهي عبارة عن معلومات عامة، وملاحظات للكاتب، وتأثرات اكتسبها من الخارج، دخلت في نفسه وخرجت للناس لابسة شخصيته. ولم تغير حركة الإيجابيين Les Positivistes العلمية من البلاغة إلا طريقة التصور والخيال. أما البلاغة من حيث إنها فنٌّ سرُّه في تركيب اللفظ، ووحي النفس، فلم تتغير بحالٍ ما، وكل ما تغير هو موضوعاتها التي أصبحت مبنية على التعقل والتدبر، وعلى عرض الحياة عرضًا مملوءًا بالحكمة والعبرة. وهذا أثر العلوم الحديثة وأثر تعلم الإنسان وتربيته تربية علمية.
١  كانت دراسة الأدب العربي في مصر جارية على الأساليب القديمة؛ أي على طريقة الكامل للمبرد، وأمالي أبي علي القالي، والبيان والتبيين للجاحظ، وأدب الكاتب لابن قتيبة، وغيرها من كتب الأدب الجامعة لكل شيء من شعر، ونثر، وأخبار، وفكاهات، وملح. واستمرت الحال على ذلك زمنًا إلى هذه الأيام الأخيرة، فكانت دراسة الأدب أشبه بمختار من المنظوم والمنثور مع شرحها، وكان أكثر تدريس الآداب في الجامع الأزهر وغيره من المعاهد الدينية يأتي عرضًا لمناسبة شاهد نحوي أو لإثبات قاعدة بلاغية، فجُمعت الكتب في ذلك، وبعضها احتوى على فوائد كثيرة مثل معاهد التنصيص وخزانة الأدب وغيرهما. وكان المدرسون أنفسهم يشرحون ذلك بدون فهم لروح الأدب؛ لأن غرضهم إثبات الشاهد وروايته. فكان إذا حفظ أحدهم شعرًا حفظه لإثبات قاعدة أو للاستدلال بلغته، وظهر كثير من الأدباء الذين كان همهم حفظ الأشعار وأنساب الشعراء عن ظهر قلب، أو رواية الحوادث والأمثال، مثل المغفور لهما: الشيخ الشنقيطي، والشيخ حمزه فتح الله.
قالوا: ولما اطلع المرحوم علي مبارك باشا على طريقة الإفرنج في آدابهم، أفصح بعض الإفصاح عمَّا يريد إلى الشيخ حمزه فتح الله، وطلب منه تدريس ذلك في مدرسة دار العلوم، فابتدأ الشيخ حمزه يؤلف ويدرس كتابه «المواهب الفتحية»، وكان يُسمِّي ذلك علوم اللغة؛ غير أنه لم يخرج عمَّا كان في الكتب القديمة، ولم يتعدَّ طرقها. وفعل مثل الشيخ حمزه فتح الله أو ما يقرب منه الشيخ حسين المرصفي، أثناء تدريسه الآداب في المدرسة نفسها. ولما عاد المرحوم الشيخ حسن توفيق من أوروبا عُهِدَ إليه بتدريس الآداب بمدرسة دار العلوم، وكان — رحمه الله — ذكيًّا أديبًا، اكتسب شيئًا من الأساليب الجديدة في دراسة الآداب أثناء وجوده في ألمانيا، فبدأ يدرس الأدب على الطرق الحديثة منذ عشرين عامًا فيما نعلم، فهو أول مَن فعل ذلك في مصر، بل أول مَن سنَّ هذه الطريقة الجديدة، وجمع في كتاب لطيف له طائفة من الشعراء مع تراجمهم بنوع خاص من الترتيب.
وانتقلت دراسة الأدب العربي من قراءة كتاب جامع لكل فنون اللغة، من نحو، وصرف، وبلاغة، وسِيَر، إلى ترجمة شعراء عصر واحد بتسلسل خاص، مع شيء من مختارات شعرهم. واتجهتِ الأفكار إلى هذا النوع من البحث والتأليف إلى اليوم، وظهر بعد ذلك كتب وملخصات لأساتذة الأدب في المدارس الأميرية، ولبعض الأدباء. ولكن لا يزال الأدب إلى الآن غير ناضج في عقول كثير منا، ولا نزال نتبع الطرق القديمة في فهم الأدب، ولم تصل بعدُ حالة تعليم الآداب العربية إلى طريقة نافعة. أما في المعاهد الكبرى فالآداب عبارة عن تراجم الشعراء مع شيء من مختار نظمهم، بدون تعرض لنقد أو تحقيق. وأما في المدارس النظامية فهو عبارة عن ملخص ذلك، ولنا العذر في هذا؛ لأن تعليم الأدب في مدارسنا لا يزال حديث العهد، فهو في حاجة إلى زمن طويل لتمحيص الطرق وتهذيبها؛ ولا غرابة في ذلك، فقد كانت مثل هذه الطرق منتشرة في أوروبا إلى عهد قريب. فإذا نحن بدأنا بها فإنما نبدأ بشيء طبعي.
٢  وكان يمكن المقارنة بين كلمة أدب وبين اللفظ الإفرنجي Lettres. ولكن العرب أو المتكلمين بالعربية توسعوا في معنى الأدب حتى أطلقوه على كل شيء ما عدا العلوم الشرعية. أما الفرنجة فخصوا كلمة Lettres بغير العلوم، التي هي: الرياضيات، والطبعيات، وعلم الحيوان والإنسان، وفرقوا بين Lettres وLittérature، وقالوا: Faculté des Lettres أي كلية الآداب التي تدرس فيها الفلسفة والتاريخ بأنواعه، والجغرافيا وعلوم الاجتماع والموسيقى والشعر والنثر؛ أي الكلام البليغ الذي يطلقون عليه Littérature وهو ما نقصده نحن من كلمة أدب.
٣  البيان والتبيين، ج١، ص٤٧.
٤  كتاب العمدة، جزء أول، ص١٦٥.
٥  الصناعتين، ص١٠.
٦  أو الأدب وتاريخ الأدب على حسب ما هو معروف الآن.
٧  Histoire de la litérature anglaise وسيأتي مذهب تين بشيء من الإيضاح.
٨  Histoire de la Littérature Française.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤