تمهيد

«هو مثل الحمص الذي يدخل في كل طبيخ عندنا» هذا ما وصف به الدكتور علي الوردي علم الاجتماع، لكنه نعتٌ ينطبق على علم النفس، كونه يبحث في شتَّى المجالات أيضًا، فهو يدرس السياسة والاقتصاد، فضلًا عن الأدب ومجالات أخرى، فمثلما نجد علم الاجتماع السياسي، وعلم الاجتماع الاقتصادي، نجد أيضًا علم النفس السياسي والاقتصادي …

لكنَّ المتخصِّصين في هذين العِلمَين عندما يتدخَّلان في علم مُعيَّن، ولنفترض علم الاقتصاد مثلًا، لا يؤدِّيان عمل الباحث الاقتصادي نفسه؛ فالاختصاصي النفسي أو الاجتماعي لا تعنيه دراسة معدلات التضخُّم أو الكساد أو تغيُّر أسعار السوق، وإنما يحاول فَهْم تأثير تلك الظواهر الاقتصادية على الفرد والمجتمع، والمشكلات النفسية والاجتماعية التي يمكن أن تتسبب بها، وكذلك تأثير الاضطرابات النفسية والاجتماعية والسلوكية لدى المنتج والمستهلك على واقع ومستقبل الظاهرة الاقتصادية.

من هنا نستطيع التعرُّف إلى الفرق بين الناقد الأدبي والاختصاصي النفسي من حيث نظرتهما إلى الظاهرة الأدبية بشكل عام، والشعر على وجه الخصوص، فالأول ينظر إليها باعتبارها ظاهرة لغوية-فنية تحتوي أساليب ينبغي دراستها بدقة، فيحاول تحديدها بما تتضمَّنه من بلاغة ونحو وصرف، والإشارة إلى مواطن القوة والضعف في البناء الفني للقصيدة، أما الأخير — الاختصاصي النفسي — فهو ينظر إلى الشعر باعتباره ظاهرة نفسية تنشأ نتيجة تراكُم انفعالات مُحدَّدة في الجهاز النفسي للفرد، وبالتالي يبحث في الدوافع والبواعث التي دفعت الشاعر لكتابة هذه القصيدة أو تلك، وللاختصاصي النفسي أدواته في البحث التي تختلف كثيرًا عن تلك التي يستخدمها الناقد.

كما أنه يدرس الظاهرة الأدبية من جوانب متعددة، فقد يعمد إلى تحليل العمل الإبداعي كونه الأثر الذي يكشف عن الظواهر النفسية التي يخفيها الأديب في خلده، على نحو ما فعل فرويد في تحليله لروايات ديستوفيسكي ولوحات دافنشي، أو يلجأ لدراسة الأديب نفسه؛ ليتعرَّف إلى سماته العقلية والنفسية والسلوكية التي جعلته يُنتج نمطًا أدبيًّا مُعيَّنًا بمضامين مُعيَّنة، ولربما يتجه لدراسة طبيعة الجمهور، باحثًا في مدى تأثيره وتأثره بالنص الأدبي، وأسباب تذوُّقه للون مُعيَّن.

إن الأدب كظاهرة نفسية لم تبدأ دراسته بأسلوب علمي إلا في وقت متأخر؛ إذ كان يبدو للناس لأول وهلة أن مَن يُجيب عن الأسئلة التي تتعلق بهذه العملية الغامضة لا بد أن يكون هو نفسه مبدعًا حتى يصف لنا ما عاناه وخَبَرَه بنفسه، لكن المبدعين ليس لديهم الوقت للقيام بهذه الدراسة التي تتطلب الغوص في الأعماق والتأمُّل الباطني لكي يسترجعوا ويستعيدوا خبرة الإبداع وأَوْلى بهم أن يصرفوا هذا الوقت في فعل الإبداع ذاته، بل إن بعضهم يرفض ويقاوم بشدة فكرة أن يكون إبداعهم موضوعًا للدراسة، وعلى الأخص ذلك النوع من الدراسة العلمية، التي يشعرون في ظِلِّها أنهم مثل سائر الأشياء التي تدرسها العلوم الطبيعية (انظر: عيسى، ١٩٧٩، ١٥).

فظلَّ الناس لفترة طويلة ينظرون إلى المبدعين من شعراء وغيرهم على أنهم يتمتعون بقدرات خارقة لا يملكها بقية البشر وهذا ما عطَّل الدراسة العلمية لهذه الظاهرة؛ فقد تصوَّرَ كثيرون أن هناك اختلافًا كيفيًّا بين قدرات المبدعين وغيرهم من سائر الناس.

ولم تتقدم الدراسة العلمية للإبداع إلا بعد أن طرح علماء النفس نظريتهم القائلة: «إن الاختلاف بين المبدعين وسائر الناس من حيث القدرات هو اختلاف في الدرجة وليس في النوع؛ فالقدرات الموجودة عند المبدعين هي نفسها عند سائر الناس، لكنها بقَدْر أقل من تلك التي حبا الله بها المبدعين» (عیسى، ۱۹۷۹، ١٦).

لكن نظريات علم النفس اختلفت في تفسيره — الإبداع — فمُؤسِّس المدرسة التحليلية «فرويد» الذي يرى سلوك الفرد محكومًا بعوامل لاشعورية أبرزها الغرائز الجنسية والعدوانية، يُفسِّر الإبداع على أساس التسامي بهذه الغرائز واستخدام الطاقة التي توفرها بأعمال وسلوكيات مقبولة اجتماعيًّا، ويرى أيضًا أن الإبداع ينشأ من صراع نفسي لدى الفرد منذ طفولته الأولى بين الغرائز من جهة وضوابط المجتمع ومطالبه من جهة أخرى، فالشاعر برأيه: فرد لا يستطيع أن يتخلى عن إشباع غرائزه التي تتطلب الإشباع، فيستفيد من المواهب الخاصة لديه في تحويل تخيُّلاته إلى حقائق من نوع جديد يتم تقويمها بواسطة الآخَرين على أنها انعكاسات ثرية للواقع.

وهكذا فإنه يصبح بطريقة مُعيَّنة ما يريد أن يكون عليه دون أن يسلك الطريق الطويل الذي يستلزم منه إحداث تغييرات كبيرة في الواقع الخارجي، وتوجه أعماله من أجل استثارة اهتمام وتعاطُف الآخَرين، كما أنها تكون قادرة على إثارة وإشباع نفس الدوافع الغريزية لديهم.

كلُّ ما في الأمر أن المُبدِع يبتعد عن الواقع إلى حياة وهمية تسمح له بالتعبير عن الدوافع اللاشعورية التي لم يستطع إشباعها في حياته الواقعية المُنحدِرة من استمرار اللعب الخيالي الذي بدأه في طفولته، وهكذا يصبح الإبداع تعبيرًا عن دوافع لاشعورية مرفوضة اجتماعيًّا في صورة يَقبلها المجتمع.

فالمُبدِع في نظر فرويد هو إنسان مُحبَط في الواقع، تنقصه الوسائل لتحقيق رغباته ومطالبه، فيلجأ إلى التسامي لتحقيق رغبات في عالَم من خياله، وأعماله الفنية الإبداعية ما هي إلا إشباعات خيالية لرغبات لاشعورية يلجأ إليها كتعويض عن الواقع الذي ينشده ولا يستطيع الوصول إليه.

وعالَم الخيال هذا أشبَه بالمستودع الذي يتم تكوينه أثناء عملية اللذة إلى الواقع، وهو يملك القدرة على الرجوع إلى عالَمه.

ويقرِّر بأن التسامي شرط للإبداع، لأن الشخص يستطيع أن يعلو فوق رغباته ومكبوتاته ويتسامى عليها بالإبداع، ويؤكِّد أن اللاشعور الشخصي هو مَنْبع الإبداع الفني والأدبي، ومن ثَمَّ كانت دعواته ودعوات طلابه للتخلِّي عن الدوافع الخارجية في تفسير الإبداع والتركيز على الواقع الباطني للفرد، والحد من تدخُّل ورقابة العقل الواعي؛ فالعقل الباطن هو موطن الصدق ومنبع الحقيقة (انظر: عیسی، ۱۹۷۹، ٦٣؛ ونویل، ۱۹۹۷م؛ وسويف، ١٩٦٩، ۱۹۹).

أما «كارل يونج» فيرى أن هناك لاشعور فردي وآخَر جَمْعي، الذي يُعَد مصدر الأعمال الإبداعية، ويرى أن العامل الحاسم في الإبداع هو انسحاب اللبيدو من رموزه الاجتماعية التي كان مُتعلِّقًا بها في الخارج، وهذه العملية ناتجة من كَوْن الرموز المذكورة لم تعُد تصلح لأداء مهمتها بسبب التغيرات المستمرة في الثقافة الإنسانية.

فينجم عنه أن يتجه اللبيدو إلى داخل الشخصية ويُثير أعمق مناطقها، فتبرز هنا كوامن اللاشعور الجَمْعي التي يشهدها العباقرة في اليقظة ويتعلَّق بعدها بهذا البعض الذي يُبرزه ویزیده ظهورًا بأنْ يُمليه على الشاعر ليُخرجه في عمل أدبيٍّ بمثابة رمز يبدو أمامنا في وضح الشعور ونتعلَّق به بدلًا من الرمز المُنهار.

فإذا تَصوَّرنا اللاشعور جبلًا ثلجيًّا عائمًا في الماء، فإن الجزء الظاهر منه (اللاشعور الفردي) أقل بكثير من الجزء المغمور الذي يُمثِّل اللاشعور الجَمْعي مَنْبع الإبداع الفني.

ولكنه — يونج — يرى أن الأعمال الفنية لا تنبع كلها من هذا المَعين، وفي هذا الصدد يميز بين نوعين منها، هما:
  • (أ)
    الأعمال السيكولوجية: ولا يزيد عمل المبدع فيها على توضيح المضمون الشعوري، ويندرج تحت هذا المضمون كل ما يتناول شئون الحب والبيئة والأسرة والجريمة والمجتمع والشِّعر التعليمي ومعظم الشعر الغنائي والدراما والتراجيديا والكوميديا.
  • (ب)
    الأعمال الكشفية: وهي تستمد وجودها من اللاشعور الجَمْعي؛ حيث تكمن بقايا الخبرة والتجربة الأولى للأسلاف، ويُوضَع في هذا الصنف الجزء الثاني من «فاوست» لجيته، و«راعي هرمس» لدانتي، و«هي أو عائشة» لريدار هاجارد.

ولا يهتم يونج إلَّا بهذا النوع الأخير الذي لا يُنتجه إلا المُبدِع الحق، بينما يهمل الأدب السيكولوجي ويرفض النظر في تعليله بحُجَّة أنه تافِه لا يستمد أصوله من اللاشعور الجَمْعي، بل من عالَم الواقع الخارجي، أما مضمون اللاشعور الجَمْعي الذي يستقي منه المُبدِع رموزه فهو عبارة عن رواسب باقية في النفس الإنسانية ترجع إلى آلاف السنين، ويُطلِق عليها يونج «النماذج البدائية» وتنعكس في الأساطير والحكايات بعد أن تكون خضعت لبعض التغيير نتيجةً إلى أنها ارتفعت لمستوى الشعور وأصبحت تراثًا شعبيًّا يُحكى ويعيش في نفوسنا (انظر: عیسی، ۱۹۷۹، ٦٨–٧٢؛ وسويف، ١٩٦٩، ۲۰۳؛ وفضل الله، ٥٦–٦٤).

أما «أدلر» وهو معارض لوجهة نظر «فرويد» فيرى أن الإبداع ينتج عن شعور بالنقص، عن طريق عملية التعويض الذي يدفع بصاحبه إلى التفوُّق، وهذا ما يُميِّزه عن العصابي الذي يتخذ من هذا النقص حُجَّة لعدم بذل الجهد ويضخِّم لنفسه وللآخرين ما يمكن أن يقوم به لو لم يلحق به ما أصابه من مرض (انظر: عیسی، ۱۹۷۹، ٦٨؛ وفضل الله، ٥٤–٥٥).

في حين يفسِّر أصحاب النظرية الوظيفية في الشخصية الإبداع بأنه ينتج عن دافع أساسي لدى المبدعين هو الدافع لتحقيق الذات، فالمبدعون يتميزون بحاجتهم للارتباط بالعالم المحيط بهم، والإنتاج هو وسيلتهم إلى ذلك لأنه الرابطة التي تربط بين المبدع وبين العالَم المُحيط به، وهكذا نجد المبدعين يمارسون أنفسهم ويحقِّقون ذواتهم في الفعل الإبداعي.

ويعد «جولدشتاين» أول مَن أطلق مصطلح «تحقيق الذات» على هذا الدافع، إذ يراه الدافع الوحيد لكل الإنجازات الإنسانية وليس في الشعر فقط، فهو لا يراها تحدث بسبب القلق والحاجة إلى خفضه كما ترى الاتجاهات التحليلية.

ومن الذين ينادون أيضًا باعتبار «تحقيق الذات» مصدرًا للإبداع «ماسلو» في نظريته في «الحاجات» التي حلَّت في علم النفس المعاصر محل نظريات الغرائز، إذ يتصور «ماسلو» وجود عدد من الحاجات التي تحرك سلوك الإنسان على شكل هرم تكون قاعدته هي الحاجات العضوية والبيولوجية مثل المأكل والمشرب والمَلْبس، تليها مجموعة من الحاجات الاجتماعية التي تجعله ينشد العيش ضمن مجتمعٍ ما، ثم مجموعة من الحاجات النفسية كالحاجة إلى الشعور بالحب المتبادل، بعدها تأتي «الحاجة إلى تحقيق الذات» في قمة الهرم، ولا يستطيع الفرد إشباع حاجة أعلى ما لم يشبع الحاجة الأدنى (انظر: عیسی، ۱۹۷۹، ۷۷–۷۹).

فيما افترض «مصطفى سويف» في دراسته «الأسس النفسية للإبداع في الشعر خاصة» أن الشرط الأول لقيام الشاعر هو ظهور علاقة مُعيَّنة بينه وبين مجتمعه؛ أي أنه طبق القاعدة السيكولوجية العامة التي تقضي بأنه لا يمكن تفسير أية ظاهرة بمعزل عن مجالها، أما تلك العلاقة المعينة بين المبدع ومجتمعه، فتتضمَّن إحساسه بنقص في هذه البيئة فيدفعه شعوره بهذا النقص إلى البحث عن الحل الذي يُرضيه من خلال إبداعه للقصيدة أو اللحن أو الصورة، إلى غير ذلك من خلال الأعمال الفنية التي يبدو وكأن الفنان يريد بها إيقاظ استجابات معينة من الذين يشهدون فنَّه، فالفنان يمارس عملية بالنسبة للأفراد المحيطين به وتتبع هذه العملية بشكل أساس فهم الإبداع سواء أكان علميًّا أم فنيًّا، فالعالم يقصد إلى التغيير في العالم المادي المحسوس، بينما الفنان يقصد التغيير في وجدان مجتمعه (سويف، ١٩٥٩) (انظر: عیسی، ۱۹۷۹، ۱۱۷–۱۱۸).

أما الإلهام فظلَّ يُعد أمرًا خفيًّا ذا طبيعة سحرية يحدث فجأةً، وفي ظروف لم يكن الفكر فيها مشغولًا بمشكلة ما، بل قد تكون في الحلم أثناء النوم، وبشكل عام، فهناك ثلاثة مواقف، أو ثلاثة آراء بخصوص دور الإلهام في عملية الإبداع كان الأول منها قد نسب الإبداع كله إلى الإلهام، ونفى أي دور للمطالعة والخبرة والجهد، فهم يصفون سلوكهم بالسلبية لحظة الإبداع، يقول الشاعر «جون ماسفيلد» إن قصيدته «المرأة تتكلم» ظهرت له في الحلم منقوشة على صفحة مستطيلة من المعدن وما كان عليه إلَّا نَسْخها، ومثله قال كثيرون.

وعلى النقيض من هؤلاء الذين يضخمون دور لحظة الإلهام أو الإشراق ويوحدون بينها وبين الإبداع نجد فريقًا آخَر يقلِّل من أهميتها ويؤكد دور الإرادة والجهد في الانتاج الإبداعي الشعري وغيره؛ لكنه لا ينفي دور الإلهام وأهميته بل يراه غير كاف لتفسير العملية الإبداعية، ولعل «ديلاكروا» هو أهم القائلين بهذا الرأي.

فيما اتجه البعض الآخَر إلى تفسير الإبداع بالإرادة، وربط الإبداع كله بالإرادة ونفى عنه الإلهام، فيزعم الشاعر والقاصُّ الأمريكي «إدجار آلان بو» أن عملية الإبداع كلها إرادية وموجهة تمامًا من قبل الشاعر الذي يشعر بما يريد أن يبدعه، فيضع حسابًا لكلِّ صغيرة وكبيرة ويرتب لخطواته القريبة والبعيدة خطوة خطوة، فيقرِّر منذ البداية أنه سوف يكتب مائة بيت من الشعر وأنه يريد لها أن تكون أبياتًا حزينةً بحيث تشع الحزن في نفس قارئها ثم يفكِّر بالقافية والصور الشعرية، وبالتالي تسير كل الأمور حسب إرادته، لكن هذا رأي مُتطرِّف لا يمكن الأخذ به، كونه يبتعد كثيرًا عن جميع الآراء والتفسيرات، ويبتعد عن النظريات العلمية أيضًا، سيما إذا نظرنا إلى كثير من الذين بذلوا جهودًا مضاعفة في سبيل تعلُّم الشعر لكنهم فشلوا، أو ظلوا ضعفاء يكتبون القليل والتافه منه (انظر: سويف، ١٩٥٩، ۱۹۰؛ وعیسی، ۱۹۷۹، ۲۱–۳۰).

انطلاقًا من المواقف الثلاثة السابقة أدلى الدكتور حسن أحمد عيسى في كتابه «الإبداع في الفن والعلم» برأيه إذ اعتقد أن المبدعين الذين حدَّثونا عن إلهاماتهم الخاطفة ينسون عادةً أن يذكروا لنا المرحلة الشاقة التي سبقت إعدادهم وتحضيرهم، وكل ما قاموا به من مطالعات وتأمُّلات حول موضوع إبداعهم بل ربما كانوا يتناسون الإشارة إلى هذه المحاولات الشاقة لكَيْلا يطَّلع عامة الناس على ما يلجئون إليه من وسائل عادية وجهود مُضنية تشبه ما يقوم به هؤلاء في شئونهم، وربما كان حرصًا منهم على ألَّا يعرف هؤلاء العامة أن المبدعين ليسوا صِنفًا مُتميِّزًا من الناس، وإنما هم يشبهونهم بدرجةٍ ما وبذلك ينخفض قدرهم بنظر عامة الناس، لكن هناك من الشعراء مَن يشير بوضوح إلى الجهد المبذول في الحصول على الأفكار وينصحون الناس بطريقة الوصول إليها (عيسى، ١٩٧٩، ٢٥).

وفيما يخص تذوق الأدب فقد أكَّد «فرويد» أن مصادر المتعة التي يحصل عليها المتلقِّي للعمل إنما تكمن في اللاشعور، فالأدب في رأيه يقدِّم للمتلقِّي حافزًا إضافيًّا، بمعنى أنه يسمح لمتلقِّيه بالاستمتاع بمادةٍ قد تكون مُهدِّدة للأنا أو ضارة بها، لو قدمت بشكل آخر أكثر مباشرة، وأن المرء يكون غير واعٍ بمصادر المتعة وأسبابها التي يحصل عليها من تلقِّيه، أو تأمله العمل الإبداعي، الجدير بالذكر أن «فرويد» تعاملَ مع الإبداع وتلقِّي الإبداع كما لو كانا موضوعًا واحدًا، أو جانبين لعملية واحدة، لأنه اعتقد أن متعة التلقِّي للعمل الفني هي متعةٌ تُماثل متعة الإبداع؛ لأنها تُستمَد في العادة من عملية التحرُّر من تلك القيود الخاصة بالكَبْت اللاشعوري.

لكنَّ هناك فروقًا بين الإبداع والتلقِّي حسب رأي «حميد» فالإبداع عملية فجائية تتم على نحوٍ مباشر، بينما التلقِّي تدريجي يتم على خطوات، الإبداع حركة اختراقية مفاجئة للخيال، فيما التلقِّي هو تغيُّر تدريجي في الاتجاه الخاص بالإدراك أو التذوق.

أما «ميز كريس» فقد بيَّن ثلاث مراحل للاستجابة الجمالية وذلك على النحو التالي: أولًا يتم التعرُّف على موضوع العمل الفني، إنه يبدو مألوفًا نوعًا ما ومن ثَمَّ يدمج نسبيًّا داخل الإطار المعرفي للفرد، وفي المرحلة الثانية يصبح موضوع العمل الفني جزءًا من الفرد المتلقِّي، وهنا يقترب «كريس» بدرجة كبيرة من نظرية التقمُّص لدى «بوالو»، أما عند المرحلة الثالثة فيتقدم المتلقي من التقمُّص (أو التوحُّد) إلى المحاكاة؛ أي إلى الشعور الواعي نسبيًّا بكيفية حدوث هذه التأثيرات عليه، إنه يتوحَّد هنا مع الفنان لا مع العمل الفني مع فقط، كما كان الأمر في المرحلة الثانية، ومن ثَمَّ يصبح نشاط التلقِّي بمثابة الإعادة لنشاط الإبداع ذاته.

بينما النظرية المعرفية أشاعت مصطلح «المخططات المعرفية» وما يرتبط به من مفاهيم في عديد من الدراسات الجمالية الحديثة والتي أجريت من وجهة نظر معرفية، والمخططات هي «أُطُر تصوُّرية موجودة مسبقًا، أو هي تهيُّؤات أو استعدادات معرفية يتمكَّن المرء من خلالها من الاستجابة بطريقة متميزة» إنها أُطُر يتمكَّن الفرد من خلالها من إضفاء المعنى على الأحداث والموضوعات والأشخاص، وهي ليست أُطُرًا ثابتة أو ساكنة، فمن خلال عمليات المواءمة والتمثُّل التي اقترحها «بياجيه» تُعدَّل هذه المخططات العقلية، ومن ثَمَّ تصبح أكثر تفصيلًا وتبلورًا، إن شكل التنظيم الخاص للمعلومات في الذاكرة طويلة المدى، وكذلك القواعد التي تتحكَّم في استخدام هذه المعلومات وعمليات الدمج بينهما بطرائق مختلفة، هو ما يسميه العلماء الآن بالمخططات المعرفية.

وتُعتبر المخططات المعرفية بمنزلة البنية العامة الخاصة بموضوع مُعيَّن، أو بفكرة مُعيَّنة أو بمشهد مُعيَّن، فعندما ننظر إلى المشهد الخاص بأحد الشوارع نحن نقوم بالتنشيط العقلي للمُخطَّط الخاص بهذا الشارع في الذاكرة، ويقوم هذا المُخطَّط بتزويدنا بالمعلومات المناسبة حول هذا الشارع، وعندما تكون الخصائص المميزة للشارع كلها معروفة بالنسبة لنا فإننا نقوم بعملية «تمثل» لها في المخطط المعرفي المناسب له (ويحدث الشيء نفسه بالنسبة للأعمال الإبداعية: الأدب وغيره)، أما إذا غبنا عن هذا الشارع بعض الوقت، ثم عُدنا لنجد فيه بعض التفاصيل والتغيُّرات الجديدة إضافةً إلى الخصائص والتفاصيل القديمة، فإننا نقوم بعملية «مواءمة» للمُخطَّط العقلي الخاص بهذا الشارع؛ أي نقوم بتعديل هذا المخطط المعرفي العقلي حوله كي يتناسب مع التغيرات الجديدة فيه، بينما نقوم في الوقت نفسه أو على نحو متعاقب ﺑ «تمثل» التفاصيل القديمة.

تأسيسًا على ما سبق: إننا عندما نرى لوحة فنية أو نستمع إلى مقطوعة موسيقية، أو نقرأ قصيدة، نقوم بتنشيط المخططات المعرفية الخاصة بهذا العمل، وعندما تكون كل عناصر العمل الإبداعي مألوفة بالنسبة لنا، نقوم ﺑ «تمثلها» داخل البنية المعرفية أو المخطط الخاص بها في الذاكرة طويلة المدى، وعندما تكون مألوفةً تمامًا، وليس فيها أي جديد قد نشعر بالملل، ولا نواصل الرؤية أو الاستماع أو القراءة، أما عندما تكون اللوحة غامضة تمامًا، فإننا قد نحاول مواءمة «تعديل» المخططات الموجودة لدينا المتعلقة بها بشكل مناسب، أو قد نقوم بتكوين مخططات معرفية جديدة حولها، فإذا فشلنا في هذا وذاك فقد نبتعد عن العمل ولا نواصل عملية التذوق أو الإدراك الفني، فالتذوق يحدث إذَن عندما يتم تنشيط المخططات المعرفية الخاصة بفعل الإبداع أو المبدع أو البيئة التي عاش فيها المبدع والمرحلة التاريخية التي ينتمي إليها … إلى غير ذلك من المخططات والأُطُر (انظر: عبد الحميد، ٢٠٠١).

الجدير بالذكر أن التذوُّق الفني يتأثر ليس فقط بنوع مزاج الفرد بل وبحالته الانفعالية لحظة متابعته موضوع الجمال كالاستماع للحن موسيقي أو قراءة نص أدبي أو غير ذلك، ما يعني أن موضوع الجمال يكشف عن نفسه عندما يكون مزاج المتلقي رائقًا، فيما تغطي العتمة والضبابية ذلك الجمال عندما يكون المزاج كدرًا.

وبتعبير أدق تكون مستقبلات الأجهزة الحسية في الجهاز العصبي المركزي نشطة فتنقل ما في موضوع الجمال من تكوينات وعلاقات إلى المراكز الدماغية المتخصِّصة، وهناك يبدأ الإدراك بتحليل راقٍ لها، بوصفه عملية دماغية لتنظيم وتفسير المعلومات الحسية وإعطاء معنى لها فيما تكون هذه المستقبلات خاملة في حالة المزاج الكدر، فلا تتحسس الجمال ولا تنقل إلى المراكز الدماغية المتخصِّصة ما يستحثها على اكتشاف التكوينات والعلاقات والتنبيهات والمعلومات التي يتضمنها الموضوع الجمالي (صالح، ۲۰۰۳).

كما أن عملية التذوق الفني تتأثر بالتنشئة الاجتماعية وخبرات التعلُّم في مراحل العمر المختلفة، وكذلك بطبيعة المجتمع وأعرافه وتقاليده والقيم السائدة فيه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤